بيان
تعود الآيات إلى أصل السياق و هو الحضور فتلتفت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب فتذكر له مظالم المشركين في أصول العقائد الطاهرة و هي التوحيد و الاعتقاد بالنبوة و المعاد، و ذلك قوله تعالى: «و من أظلم» إلخ، و قوله: «و منهم من يستمع إليك» إلخ، و قوله: «و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا» إلخ.
ثم تبين أن ذلك منهم أشد الظلم و إهلاك لأنفسهم و خسران لها، و تبين كيف تنعكس إليهم و توافيهم هذه المظالم يوم القيامة فيكذبون على أنفسهم بإنكار ما قالوا في الدنيا و يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا الصالحات، و يبدون التحسر على ما فرطوا في جنب الله سبحانه.
قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته» الظلم من أشنع الذنوب بل التحليل الدقيق يقضي أن سائر الذنوب إنما هي شنيعة مذمومة بمقدار ما فيها من معنى الظلم، و هو الانحراف و الخروج عن الوسط العدل.
و الظلم كما يكبر و يصغر من جهة خصوصيات من صدر عنه الظلم كذلك يختلف حاله بالكبر و الصغر من جهة من وقع عليه الظلم أو أريد إيقاعه عليه فكلما جل موقعه و عظم شأنه كان الظلم أكبر و أعظم، و لا أعز قدرا و أكرم ساحة من الله سبحانه و لا من آياته الدالة عليه، فلا أظلم ممن ظلم هذه الساحة المنزهة أو ما ينتسب إليها بوجه، و لا يظلم إلا نفسه.
و قد صدق الله سبحانه هذه النظرة العقلية بقوله: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته» أما افتراء الكذب عليه تعالى فبإثبات الشريك له، و لا شريك له، أو دعوى النبوة أو نسبة حكم إليه كذبا و ابتداعا، و أما تكذيب آياته الدالة عليه فكتكذيب النبي الصادق في دعواه المقارنة للآيات الإلهية أو إنكار الدين الحق، و منه إنكار الصانع أصلا.
و الآية تنطبق على المشركين، و هم أهل الأوثان الذين إليهم وجه الاحتجاج من جهة أنهم أثبتوا لله سبحانه شركاء بعنوان أنهم شفعاء مصادر أمور في الكون، و إليهم ينتهي تدبير شئون العالم مستقلين بذلك، و من جهة أنهم أنكروا آياته تعالى الدالة على النبوة و المعاد.
و ربما ألحق بعضهم بذلك القائلين بجواز شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الطاهرين من ذريته أو الأولياء الكرام من أمته فقضى بكون الاستشفاع بهم في شيء من حوائج الدنيا أو الآخرة شركا تشمله الآية و ما يناظرها من الآيات الشريفة.
و كأنه خفي عليهم أنه تعالى أثبت الشفاعة إذا قارنت الإذن في كلامه من غير أن يقيده بدنيا أو آخرة، فقال عز من قائل: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة: 255.
على أنه تعالى قال: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف: 86 فأثبت الشفاعة حقا للعلماء الشهداء بالحق، و القدر المتيقن منهم الأنبياء و منهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد أثبت الله سبحانه شهادته بقوله: «و جئنا بك على هؤلاء شهيدا»: النساء: 41 و نص على علمه حيث قال: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل: 89، و قال: «نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء: 194 و هل يعقل نزول الكتاب الذي هو تبيان كل شيء على قلب من غير علم به، أو بعثه تعالى إياه شهيدا و ليس بشهيد بالحق؟ و قال الله تعالى: «لتكونوا شهداء على الناس»: البقرة: 143، و قال: «و يتخذ منكم شهداء»: آل عمران: 140، و قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون»: العنكبوت: 43 فأثبت في هذه الأمة شهداء علماء و لا يثبت إلا الحق.
و قال تعالى في أهل بيته (عليهم السلام): «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»: الأحزاب: 33 فبين أنهم مطهرون بتطهيره، ثم قال: «إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة: 79 فعدهم العلماء بالقرآن الذي هو تبيان كل شيء و المطهرون هم القدر المتيقن من هذه الأمة في الشهادة بالحق التي لا سبيل للغو و التأثيم إليها، و قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب فليراجع.
قوله تعالى: «إنه لا يفلح الظالمون» الفلاح و الفوز و النجاح و الظفر و السعادة ألفاظ قريبة المعنى، و لهذا فسر الراغب الفلاح بإدراك البغية الذي هو معنى السعادة تقريبا، قال في المفردات: الفلح: الشق، و قيل الحديد بالحديد يفلح أي يشق، و الفلاح الأكار لذلك و الفلاح الظفر و إدراك البغية، و ذلك ضربان دنيوي و أخروي: فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا و هو البقاء و الغنى و العز و إياه قصد الشاعر بقوله: أفلح بما شئت فقد يدرك.
بالضعف و قد يخدع الأريب.
و فلاح أخروي، و ذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل.
انتهى، فمن الممكن أن يقال: إن الفلاح هو السعادة سميت به لأن فيها الظفر و إدراك البغية بشق الموانع الحائلة دون المطلوب.
و هذا معنى جامع ينطبق على موارد الاستعمال كقوله: «قد أفلح المؤمنون»: المؤمنون: 1، و قوله: «قد أفلح من زكاها»: الشمس: 9، و قوله: «إنه لا يفلح الكافرون»: المؤمنون: 117 إلى غير ذلك من الموارد.
فقوله: «إنه لا يفلح الظالمون» - و قد أخذ الظلم وصفا - معناه أن الظالمين لا يدركون بغيتهم التي تشبثوا لأجل إدراكها بما تشبثوا به فإن الظلم لا يهدي الظالم إلى ما يبتغيه من السعادة و الظفر بواسطة ظلمه.
و ذلك أن السعادة لن تكون سعادة إلا إذا كانت بغية و مطلوبا بحسب واقع الأمر و خارج الوجود، و يكون حينئذ الشيء الذي يطلب هذه البغية و السعادة بحسب وجوده طبيعة كونه مجهزا بما يناسب هذه السعادة المطلوبة من الأسباب و الأدوات كالإنسان الذي من سعادته المطلوبة أن يبقى بقاء بوضع البدل مكان ما تحلل من بنيته ثم هو مجهز بجهاز التغذي الدقيق الذي يناسب ذلك، و الأدوات و الأسباب الملائمة له، ثم في المادة الخارجية ما يوافق مزاج بنيته فيأخذها بالأسباب و الأدوات المهيأة لذلك، ثم يصفيه و يبدل صورته إلى ما يشابه صورة المتحلل من بدنه ثم يلصقه ببدنه فيعود البدن تاما بعد نقصانه، و هذا حكم عام جار في جميع الأنواع الخارجية التي تناله حواسنا و يسعه استقراؤنا من غير تخلف و اختلاف البتة.
و على هذا يجري نظام الكون في مسيره فلكل غاية مطلوبة و سعادة مقصودة طريق خاص لا يسلك إليها إلا منه، و لو توصل إليها من غير سببه الذي يألفها النظام أوجب ذلك العطل في السبب و بطلان الطريق، و في عطله و بطلانه فساد جميع ما يرتبط و يتعلق به من الأسباب و العلائق كالإنسان الذي فرض توصله إلى إبقاء الوجود من غير طريق التناول و الالتقام و الهضم فإن ذلك يفضي إلى عطل قوته الغاذية، و في عطله انحراف قوتيه المنمية و المولدة مثلا جميعا.
و قد اقتضت العناية الإلهية في هذه الأنواع التي تعيش بالشعور و الإرادة أن تعيش بتطبيق أعمالها على ما حصلته من العلم بالخارج فلو انحرفت عن الخارج لعارض ما كان في ذلك بطلان العمل، و لو تكرر ذلك بطلت الذات كالإنسان المريد للأكل إذا غلط و حسب السم غذاء أو الطين خبزا و نحو ذلك.
و للإنسان عقائد و آراء عامة متولدة من نظام الكون الخارجي يضعها أصلا و يطبق عمله عليها كالعائد الراجعة إلى المبدإ و المعاد، و الأحكام العملية التي يجعلها مقاييس لأعماله من العبادات و المعاملات.
و هذه طرق إلى السعادات الإنسانية بحسب طبعها لا طريق إليها دونها إذا سلكها الإنسان أدرك بغيته و ظفر بسعادته، و لو انحرف عنها إلى غيرها - و هو الظلم - لم يوصله إلى بغيته و لئن أوصله إليه لم يثبت عليه، و لم يدم له ذلك فإن سائر الطرق و السبل مربوطة به فتنازعه في ذلك، و تخالفه و تضاده بجميع ما لها من الوسع و الطاقة، ثم أجزاء الكون الخارجي الذي هو السبب لانتشاء هذه الآراء و الأحكام لا توافقه في عمله، و لا تزال على هذا الحال حتى تقلب له الأمر، و تفسد عليه سعادته، و تنغص عليه عيشته.
فالظالم ربما دعته طاغية الشره إلى أن يستعمل ما له من العزة بالإثم و القدرة الكاذبة في الحصول على بغية و سعادة من غير طريقه المشروع، فيخالف الاعتقاد الحق لتوحيد الله سبحانه، أو ينازع الحقوق المشروعة فيتعدى إلى أموال الناس فيغصبها ظلما، أو إلى أعراض الناس فيهتك أستارهم عنوة، أو إلى دمائهم و نفوسهم فيتصرف فيها من غير حق أو يعصي في شيء من نواميس العبودية لله سبحانه بصلاة أو صوم أو حج أو غيرها، أو يقترف شيئا من الذنوب المتعلقة بذلك، كالكذب و الفرية و الخدعة و نحوها.
يأتي بشيء من ذلك و ربما أدرك ما قصده، و هو طيب النفس بما ظفر به من مطلوبه بحسب زعمه، و قد ذهب عن خسران صفقته و خيبة مسعاه في دنياه و آخرته.
أما في دنياه فلأن ما سلكه من الطريق إنما هو طريق الهرج و المرج و اختلال النظام إذ لو كان طريقا حقا لعم و لو عم أبطل النظام، و لو بطل النظام بطلت حياة المجتمع الإنساني فالنظام الذي يضمن بقاء النوع الإنساني كائنا ما كان ينازعه فيما حازه بعمله غير المشروع، و لا يزال على المنازعة حتى يفسد عليه مقتضى عمله و نتيجة سعيه المشئوم عاجلا أو على مهل و لن يدوم ظلمه البتة.
و أما في الآخرة فلأن ظلمه مكتوب في صحيفة عمله، و هو منقوش في لوح نفسه بما يورد عليها من الأثر ثم هو مجزي به عائش على وتيرته، و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله.
قال الله تعالى: «أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون»: البقرة: 85، و قال: «كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون»: الزمر: 26، و قال: «و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد»: الحج: 10 إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.
و الآيات - كما ترى - تشمل المظالم الاجتماعية و الفردية فهي تصدق ما تقدم من البحث، و أشملها مضمونا الآية المبحوث عنها: «إنه لا يفلح الظالمون».
قوله تعالى: «و يوم نحشرهم جميعا» إلى آخر الآيتين، الظرف متعلق بمقدر و التقدير: و اذكر يوم «إلخ»، و قد تعلقت العناية في الكلام بقوله «جميعا» للدلالة على أن العلم و القدرة لا يتخلفان عن أحد منهم، فالله سبحانه محيط بجميعهم علما و قدرة سيحصيهم و يحشرهم و لا يغادر منهم أحدا.
و الجملة في مقام بيان قوله: «إنه لا يفلح الظالمون» كأنه لما قيل: «إنه لا يفلح الظالمون» سئل فقيل: و كيف ذلك؟ فقيل: لأن الله سيحشرهم و يسألهم عن شركائهم فيضلون عنهم و يفقدونهم فينكرون شركهم و يقسمون لذلك بالله كذبا، و لو أفلح هؤلاء الظالمون في اتخاذهم لله شركاء لم يضل عنهم شركاؤهم، و لم يكذبوا على أنفسهم بل وجدوهم على ما ادعوا من الشركة و الشفاعة و نالوا شفاعتهم.
و قوله: «ثم لم تكن فتنتهم» إلخ، قيل: المراد بالفتنة الجواب أي لم يكن جوابهم إلا أن أقسموا بالله على أنهم ما كانوا مشركين، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و المراد: لم تكن عاقبة افتتانهم بالأوثان إلا أن قالوا «إلخ»، و قيل: المراد بالفتنة المعذرة، و لكل من الوجوه وجه.
قوله تعالى: «انظر كيف كذبوا على أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون» بيان لمحل الاستشهاد فيما قص من حالهم يوم القيامة، و المراد أنهم سيكذبون على أنفسهم و يفقدون ما افتروا به، و لو أفلحوا في ظلمهم و سعدوا فيما طلبوا لم ينجر أمرهم إلى فقد ذلك و إنكاره على أنفسهم.
أما كذبهم على أنفسهم فلأنهم لما أقسموا بالله أنهم ما كانوا مشركين أنكروا ما ادعوه في الدنيا من أن لله سبحانه شركاء، و هم كانوا يصرون عليه و يعرضون فيه عن كل حجة واضحة و آية بينة ظلما و عتوا، و هذا كذب منهم على أنفسهم.
و أما ضلال ما كانوا يفترونه عنهم فلأن اليوم يوم ينجلي فيه عيانا أن الأمر و الملك و القوة لله جميعا ليس لغيره من شيء إلا ذلة العبودية، و الفقر و الحاجة من غير أي استقلال قال تعالى: «و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العذاب»: البقرة: 165، و قال: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن: 16 و قال: «يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، و الأمر يومئذ لله»: الانفطار: 19.
فيشاهدون عندئذ مشاهدة عيان أن الألوهية لله وحده لا شريك له، و يظهر لهم أوثانهم و شركاؤهم و هم لا يملكون ضرا و لا نفعا لأنفسهم و لا لغيرهم، و وجدوا الأوصاف التي أثبتوها لهم من الربوبية و الشفاعة و غيرهما إنما هي لله وحده، و قد كان اشتبه عليهم الأمر فتوهموها لغيره و ضل عنهم ما كانوا يفترون.
فإن استمدوا منهم ردوا عليهم ردا لا مطمع معه بعد قال تعالى: «و إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون، و ألقوا إلى الله يومئذ السلم و ضل عنهم ما كانوا يفترون»: النحل: 87 و قال تعالى: «ذلكم الله ربكم له الملك و الذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم و لو سمعوا ما استجابوا لكم و يوم القيامة يكفرون بشرككم»: الفاطر: 14 و قال تعالى: «و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون، فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين، هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون»: يونس: 30.
و بالتدبير في هذه الآيات يظهر أن المراد بضلال ما افتروا به هو ظهور حقيقة شركائهم فاقدة لوصف الشركة و الشفاعة و تبينهم أن ما ظهر لهم من ذلك في الدنيا لم يكن إلا ظهورا سرابيا كما قال تعالى: «و الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد الله عنده فوفاه حسابه»: النور: 39.
فإن قلت: إن الآيات المتعرضة لوصف يوم القيامة - كما تقدم - ظاهرة في بروز الحقائق و خروجها عن مكمن الخفاء و الالتباس الذي هو من لوازم النشأة الأولى الدنيوية كما قال تعالى: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء»: المؤمن: 16 فأي نفع حينئذ لكذبهم؟ و كيف يكذبون و ما أخبروا به من الكذب مشهود خلافه عيانا؟ و قد قال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران: 30.
قلت: كذبهم و حلفهم على الكذب يوم القيامة مما وقع في كلامه تعالى غير مرة، و مثل الآية قوله تعالى: «يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم»: المجادلة: 18 و ليس كذبهم و حلفهم عليه للتوصل به إلى الأغراض الفاسدة و ستر الحق كما يتوصل إليها بالكذب في الدنيا فإن الآخرة دار جزاء لا دار عمل و اكتساب.
لكنهم لكونهم اعتادوا أن يتفصوا من المخاطرات و المهالك و يجلبوا المنافع إليهم بالأيمان الكاذبة و الأخبار المزورة خدعة و غرورا رسخت في نفوسهم ملكة الكذب، و الملكة إذا رسخت في النفس اضطرت النفس إلى إجابتها إلى ما تدعو إليه، و ذلك كما أن البذي الفحاش إذا استقرت في نفسه ملكة السب لا يقدر على الكف عنه و إن عزم عليه و المستكبر اللجوج العنود لا يملك من نفسه أن يتواضع، و إن خضع في موقف المهلكة و الذلة أحيانا فإنما يخضع ظاهرا و بلسانه، و أما باطنا و في قلبه فهو على حاله لم يتغير و لن يتغير البتة.
و هذا هو السر في كذبهم يوم القيامة لأنه يوم تبلى فيه السرائر و السريرة المعقودة على الكذب ليس فيها إلا الكذب فيظهر ما استقر فيه كما قال تعالى: «و لا يكتمون الله حديثا»: النساء: 42 و نظيره التخاصم الدائر بين أهل الدنيا فإنه يظهر بعينه يوم القيامة بينهم، و قد قص الله سبحانه ذلك في مواضع كثيرة من كلامه، و أجمله في قوله: «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار»: ص: 64 هذا في أهل العذاب و أما أهل المغفرة و الجنة فيظهر منهم هناك ما كان في نفوسهم هاهنا من الصفا و السلامة، قال تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما»: الواقعة: 26 فافهم ذلك.
قوله تعالى: «و منهم من يستمع إليك» إلى آخر الآية، الأكنة جمع كن بكسر الكاف و هو الغطاء الذي يكن فيه الشيء و يغطى، و الوقر هو الثقل في السمع، و الأساطير جمع أسطورة بمعنى الكذب و المين على ما نقل عن المبرد، و كان أصله السطر و هو الصف من الكتابة أو الشجر أو الناس غلب استعماله فيما جمع و نظم و رتب من الأخبار الكاذبة.
و كان ظاهر السياق أن يقال: يقولون إن هذا إلا أساطير الأولين، و لعل الإظهار للإشعار بالسبب في هذا الرمي و هو الكفر.
قوله تعالى: «و هم ينهون عنه و ينئون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون» ينهون عنه أي عن اتباعه، و النأي الابتعاد، و القصر في قوله: «و إن يهلكون إلا أنفسهم» من قصر القلب فإنهم كانوا يحسبون أن النهي عنه و النأي عنه إهلاك له و إبطال للدعوة الإلهية، و يأبى الله إلا أن يتم نوره فهم هم الهالكون من حيث لا يشعرون.
قوله تعالى: «و لو ترى إذ وقفوا على النار» إلى آخر الآيتين.
بيان لعاقبة جحودهم و إصرارهم على الكفر و الإعراض عن آيات الله تعالى.
و قوله: «يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا» إلخ، على قراءة النصب في «نكذب» و «نكون» تمن منهم للرجوع إلى الدنيا و الانسلاك في سلك المؤمنين ليخلصوا به من عذاب النار يوم القيامة، و هذا القول منهم نظير إنكارهم الشرك بالله و حلفهم بالله على ذلك كذبا من باب ظهور ملكاتهم النفسانية يوم القيامة فإنهم قد اعتادوا التمني فيما لا سبيل لهم إلى حيازته من الخيرات و المنافع الفائتة عنهم، و خاصة إذا كان فوتها مستندا إلى سوء اختيارهم و قصور تدبيرهم في العمل، و نظيره أيضا ما سيجيء من تحسرهم على ما فرطوا في أمر الساعة.
على أن التمني يصح في المحالات المتعذرة كما يصح في الممكنات المتعسرة كتمني رجوع الأيام الخالية و غير ذلك قال الشاعر: ليت و هل ينفع شيئا ليت.
ليت الشباب بوع فاشتريت.
و قوله: «بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل» إلخ، ظاهر الكلام أن مرجع الضمائر أعني ضمائر «لهم» و «كانوا» و «يخفون» واحد و هو المشركون السابق ذكرهم، و أن المراد بالقبل هو الدنيا فالمعنى أنه ظهر لهؤلاء المشركين حين وقفوا على النار ما كانوا هم أنفسهم يخفونه في الدنيا فبعثهم ظهور ذلك على أن تمنوا الرد إلى الدنيا، و الإيمان بآيات الله، و الدخول في جماعة المؤمنين.
و لم يبد لهم إلا النار التي وقفوا عليها يوم القيامة فقد كانوا أخفوها في الدنيا بالكفر و الستر للحق و التغطية عليه بعد ظهوره لهم كما يشير إليه نحو قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22.
و أما نفس الحق الذي كفروا به في الدنيا مع ظهوره لهم فهو كان بادئا لهم من قبل و السياق يأبى أن يكون مجرد ظهور الحق لهم مع الغض عن ظهور النار و هول يوم القيامة باعثا لهم على هذا التمني.
و يشعر بذلك بعض ما في نظير المقام من كلامه تعالى كقوله: «و إذا قيل إن وعد الله حق و الساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون»: الجاثية: 33، و قوله: «و لو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، و بدا لهم سيئات ما كسبوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون»: الزمر: 48.
و قد ذكروا في الآية أعني قوله: «بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل» وجوها كثيرة أنهاها في المنار إلى تسعة أوجه قال: و فيه أقوال الأول أنه أعمالهم السيئة و قبائحهم الشائنة ظهرت لهم في صحائفهم، و شهدت بها عليهم جوارحهم.
الثاني: أنه أعمالهم التي كانوا يفترون بها و يظنون أن سعادتهم فيها إذ يجعلها الله تعالى هباء منثورا.
الثالث: أنه كفرهم و تكذيبهم الذي أخفوه في الآخرة من قبل أن يوقفوا على النار كما تقدم حكايته عنهم في قوله تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين».
الرابع: أنه الحق أو الإيمان الذي كانوا يسرونه و يخفونه بإظهار الكفر و التكذيب عنادا للرسول و استكبارا عن الحق، و هذا إنما ينطبق على أشد الناس كفرا من المعاندين المتكبرين الذين قال في بعضهم: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم ظلما و علوا».
الخامس: أنه ما كان يخفيه الرؤساء عن أتباعهم من الحق الذي جاءت به الرسل بدا للأتباع الذين كانوا مقلدين لهم، و منه كتمان بعض أهل الكتاب لرسالة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) و صفاته و بشارة أنبيائهم به.
السادس: أنه ما كان يخفيه المنافقون في الدنيا من أسرار الكفر و إظهار الإيمان و الإسلام.
السابع: أنه البعث و الجزاء و منه عذاب جهنم، و أن إخفاءهم له عبارة عن تكذيبهم به، و هو المعنى الأصلي لمادة الكفر.
الثامن: أن في الكلام مضافا محذوفا أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه من الكفر و السيئات و نزل بهم عقابه فتبرموا و تضجروا و تمنوا التفصي منه بالرد إلى الدنيا، و ترك ما أفضي إليه من التكذيب بالآيات و عدم الإيمان كما يتمنى الموت من أمضه الداء العضال لأنه ينقذه من الآلام لا لأنه محبوب في نفسه، و نحن لا نرى رجحان قول من هذه الأقوال بل الصواب عندنا قول آخر، و هو: التاسع: أنه يظهر يومئذ لكل من أولئك الذين ورد الكلام فيهم و لأشباههم من الكفار ما كان يخفيه في الدنيا ما هو قبيح في نظره أو نظر من يخفيه عنهم، انتهى، ثم عمم الكلام لرؤساء الكفار و أتباعهم المقلدة و للمنافقين و الفساق ممن يقترف الفواحش و يخفيها عن الناس أو يترك الواجبات و يعتذر بأعذار كاذبة و يخفي حقيقة الحال في كلام طويل.
و بالرجوع إلى ما قدمناه من الوجه و التأمل فيه يظهر ما في كل واحد من هذه الأقوال من وجوه الخلل فلا نطيل.
و قوله: «و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه» تذكير لفعل ما تقرر في نفوسهم من الملكات الرذيلة في نشأة الدنيا فإن الذي بعثهم إلى تمني الرجوع إلى الدنيا و الإيمان فيها بآيات الله و الدخول في جماعة المؤمنين إنما هو ظهور الحق المتروك بجميع ما يستتبعه من العذاب يوم القيامة، و هو من مقتضيات نشأة الآخرة المستلزمة لظهور الحقائق الغيبية ظهور عيان.
و لو عادوا إلى الدنيا لزمهم حكم النشأة، و أسدلت عليهم حجب الغيب، و رجعوا إلى اختيارهم، و معه هوى النفس و وسوسة الشيطان و قرائح العباد و الاستكبار و الطغيان فعادوا إلى سابق شركهم و عنادهم مع الحق فإن الذي دعاهم و هم في الدنيا إلى مخالفة الحق و التكذيب بآيات الله تعالى هو على حاله مع فرض ردهم إلى الدنيا بعد البعث، فحكمه حكمه من غير فرق.
و قوله: «و إنهم لكاذبون» أي في قولهم: «يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا» إلخ، و التمني و إن كان إنشاء لا يقع فيه الصدق و الكذب إلا أنهم لما قالوا: «نرد و لا نكذب» أي ردنا الله إلى الدنيا و لو ردنا لم نكذب، و لم يقولوا: نعود و لا نكذب، كان كلامهم مضمنا للمسألة و الوعد أعني مسألة الرد و وعد الإيمان و العمل الصالح كما صرح بذلك في قوله: «و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون»: السجدة: 12 و قوله: «و هم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل»: الفاطر: 37.
و بالجملة قولهم: «يا ليتنا نرد و لا نكذب» إلخ، في معنى قولهم ربنا ردنا إلى الدنيا لا نكذب بآياتك و نكن من المؤمنين، و بهذا الاعتبار يحتمل الصدق و الكذب، و يصح عدهم كاذبين.
و ربما وجه نسبة الكذب إليهم في تمنيهم بأن المراد كذب الأمل و التمني و هو عدم تحققه خارجا كما يقال: كذبك أملك، لمن تمنى ما لا يدرك.
و ربما قيل: إن المراد كذبهم في سائر ما يخبرون به عن أنفسهم من إصابة الواقع و اعتقاد الحق، هو كما ترى.
قوله تعالى: «و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا» إلى آخر الآيتين.
ذكر لإنكارهم الصريح للحشر و ما يستتبعه يوم القيامة من الإشهاد و أخذ الاعتراف بما أنكروه، و الوثنية كانت تنكر المعاد كما حكى الله عنهم ذلك في كلامه غير مرة، و قولهم بشفاعة الشركاء إنما كان في الأمور الدنيوية من جلب المنافع إليهم و دفع المضار و المخاوف عنهم.
فقوله: «و قالوا إن هي» إلخ، حكاية لإنكارهم أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا لا حياة بعدها، و ما نحن بمبعوثين بعد الممات، و قوله: «و لو ترى إذ وقفوا» كالجواب و هو بيان ما يستتبعه قولهم: إن هي إلا، «إلخ» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة التمني لمكان قوله: «و لو ترى» و هو أنهم سيصدقون بما جحدوه، و يعترفون بما أنكروه بقولهم: «و ما نحن بمبعوثين» إذ يوقفون على ربهم فيشاهدون عيانا هذا الموقف الذي أخبروا به في الدنيا، و هو أنهم مبعوثون بعد الموت فيعترفون بذلك بعد ما أنكروه في الدنيا.
و من هنا يظهر أن الله سبحانه فسر البعث في قوله: «و لو ترى إذ وقفوا على ربهم» بلقاء الله، و يؤيده أيضا قوله في الآية التالية: «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة» إلخ، حيث بدل الحشر و البعث و القيامة المذكورات في سابق الكلام لقاء ثم ذكر الساعة أي ساعة اللقاء.
و قوله: «أ ليس هذا» أي أ ليس البعث الذي أنكرتموه في الدنيا و هو لقاء الله «بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون» به و تسترونه.
قوله تعالى: «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» إلى آخر الآية، قال في المجمع،: كل شيء أتى فجأة فقد بغت يقال: بغته الأمر يبغته بغتة انتهى، و قال الراغب في المفردات،: الحسر كشف الملبس عما عليه يقال: حسرت عن الذراع، و الحاسر من لا درع عليه و لا مغفر، و المحسرة المكنسة - إلى أن قال - و الحاسر المعيا لانكشاف قواه - إلى أن قال - و الحسرة الغم على ما فاته و الندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه.
انتهى موضع الحاجة.
و قال: الوزر بفتحتين الملجأ الذي يتلجأ إليه من الجبل، قال: «كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر» و الوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال «ليحملوا أوزارهم كاملة» الآية كقوله: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم»، انتهى.
و الآية تبين تبعة أخرى من تبعات إنكارهم البعث و هو أن الساعة سيفاجئهم فينادون بالحسرة على تفريطهم فيها و يتمثل لهم أوزارهم و ذنوبهم و هم يحملونها على ظهورهم و هو أشق أحوال الإنسان و أردؤها ألا ساء ما يزرون و يحملونه من الثقل أو من الذنب أو من وبال الذنب.
و الآية أعني قوله: «قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» بمنزلة النتيجة المأخوذة من قوله: «و قالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا» إلى آخر الآيتين، و هي أنهم بتعويضهم راحة الآخرة و روح لقاء الله من إنكار البعث و ما يستتبعه من أليم العذاب خسروا صفقة.
قوله تعالى: «و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو و للدار الآخرة خير» إلخ، تتمة للكلام فيه بيان حال الحياتين: الدنيا و الآخرة و المقايسة بينهما فالحياة الدنيا لعب و لهو ليس إلا فإنها تدور مدار سلسلة من العقائد الاعتبارية و المقاصد الوهمية كما يدور عليه اللعب فهي لعب، ثم هي شاغلة للإنسان عما يهمه من الحياة الأخرى الحقيقية الدائمة فهي لهو، و الحياة الآخرة لكونها حقيقية ثابتة فهي خير و لا ينالها إلا المتقون فهي خير لهم.
بحث روائي
و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله يعفو يوم القيامة عفوا لا يخطر على بال أحد حتى يقول أهل الشرك: «و الله ربنا ما كنا مشركين».
و في المجمع،: في قوله تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا» الآية: أن المراد: لم تكن معذرتهم إلا أن قالوا، إلخ:، قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و هم ينهون عنه و ينأون عنه» الآية، قال: قال: بنو هاشم كانوا ينصرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يمنعون قريشا، و ينأون أي يباعدون عنه و لا يؤمنون.
أقول: و الرواية تقرب مما روي عن عطاء و مقاتل: أن المراد أبو طالب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه كان ينهى قريشا عن النبي و ينأى عن النبي و لا يؤمن به.
و السياق يأبى ذلك فإن ظاهر الآية أن الضمير راجع إلى القرآن دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
على أن الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) متظافرة بإيمانه.
قال في المجمع،: قد ثبت إجماع أهل البيت (عليهم السلام) بإيمان أبي طالب، و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين الذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسك بهما بقوله: ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا.
و يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر: أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ لا تركت الشيخ فآتيه؟ و كان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، و الذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحا مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): صدقت.
و روى الطبري، بإسناده: أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمعوا عليه و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا و جودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا، و سفه أحلامنا فنقتله، فقال أبو طالب ما أنصفتموني تعطونني ابنكم فأغذوه، و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرىء منكم بولده فأقتله، و قال: منعنا الرسول رسول المليك. ببيض تلألأ كلمع البروق. أذود و أحمي رسول المليك. حماية حام عليه شفيق. و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله: أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا.
نبيا كموسى خط في أول الكتب.
أ ليس أبونا هاشم شد أزره.
و أوصى بنيه بالطعان و بالحرب.
و قوله من قصيدة: و قالوا لأحمد أنت امرؤ.
خلوف اللسان ضعيف السبب.
ألا إن أحمد قد جاءهم.
بحق و لم يأتهم بالكذب.
و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و قد كان في أمر الصحيفة عبرة.
متى ما يخبر غائب القوم يعجب.
محا الله منها كفرهم و عقوقهم.
و ما نقموا من ناطق الحق معرب.
و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا.
على سخط من قومنا غير معتب.
و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي و الصبر في طاعته: صبرا أبا يعلى على دين أحمد.
و كن مظهرا للدين وفقت صابرا.
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن.
فكن لرسول الله في الله ناصرا.
و قوله من قصيدة: أقيم على نصر النبي محمد.
أقاتل عنه بالقنا و القنابل.
و قوله يحض النجاشي على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تعلم مليك الحبش أن محمدا.
وزير لموسى و المسيح بن مريم.
أتى بهدى مثل الذي أتيا به.
و كل بأمر الله يهدي و يعصم.
و إنكم تتلونه في كتابكم.
بصدق حديث لا حديث المرجم.
فلا تجعلوا لله ندا و أسلموا.
و إن طريق الحق ليس بمظلم.
و قوله في وصيته و قد حضرته الوفاة: أوصى بنصر النبي الخير مشهده.
عليا ابني و شيخ القوم عباسا.
و حمزة الأسد الحامي حقيقته.
و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا.
كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت.
في نصر أحمد دون الناس أتراسا.
و أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه يطول بها الكتاب، انتهى.
و العمدة في مستند من قال بعدم إسلامه بعض روايات واردة من طريق الجمهور في ذلك، و في الجانب الآخر إجماع أهل البيت (عليهم السلام) و بعض الروايات من طريق الجمهور، و أشعاره المنقولة عنه، و لكل امرىء ما اختار.
و في تفسير العياشي، عن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل. و فيه، عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابه عنه (عليه السلام)، قال: إن الله قال للماء: كن عذبا فراتا أخلق منك جنتي و أهل طاعتي، و قال للماء: كن ملحا أجاجا أخلق منك ناري و أهل معصيتي فأجرى المائين على الطين ثم قبض قبضة بيده و هي يمين فخلقهم خلقا كالذر ثم أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم و عليكم طاعتي؟ قالوا: بلى، فقال للنار: كوني نارا فإذا نارا تأجج، و قال لهم: قعوا فيها فمنهم من أسرع، و منهم من أبطأ في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه فلما وجدوا حرها رجعوا فلم يدخلها منهم أحد. ثم قبض قبضة بيده فخلقهم خلقا مثل الذر مثل أولئك ثم أشهدهم على أنفسهم مثل ما أشهد الآخرين، ثم قال لهم: قعوا في هذه النار فمنهم من أبطأ، و منهم من أسرع و منهم من مر بطرف العين فوقعوا فيها كلها، فقال: اخرجوا منها سالمين فخرجوا لم يصبهم شيء. و قال الآخرون: يا ربنا أقلنا نفعل كما فعلوا، قال: قد أقلتكم فمنهم من أسرع في السعي، و منهم من لم يبرح مجلسه مثل ما صنعوا في المرة الأولى، فذلك قوله: «و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون».
أقول: هذه الرواية و التي قبلها من روايات الذر و سيأتي استيفاء البحث عنها في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم، قالوا بلى» الآية.
و محصلها أنه كما أن لنظام الثواب و العقاب في الآخرة ارتباطا تاما بنشأة أخرى قبلها و هي نشأة الدنيا من حيث الطاعة و المعصية كذلك للطاعة و المعصية في الدنيا ارتباط تام بنشأة أخرى قبلها رتبة، و هي عالم الذر.
فالمراد بقوله في الرواية: فذلك قوله تعالى: «و لو ردوا لعادوا إلخ، أن معنى الآية و لو ردوا من عرصات الحشر إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون من عالم الذر إذ كذبوا الله فيه، و هذا هو المراد بعينه بقوله (عليه السلام) في الرواية الأولى: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه إنهم ملعونون في الأصل أي في عالم الذر لكذبهم فيه.
و على هذا فالروايتان تشتملان على وجه رابع في تفسير الآية غير الوجوه الثلاثة المتقدمة في البيان السابق.
و في المجمع، عن الأعمش عن أبي صالح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «يا حسرتنا على ما فرطنا فيها» الآية، قال: يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا، اه.
|