بيان
تحد السورة يوم القيامة ببعض أشراطه الملازمة له المتصلة به و تصفه بما يقع فيه و هو ذكر الإنسان ما قدم و ما أخر من أعماله الحسنة و السيئة - على أنها محفوظة عليه بواسطة حفظة الملائكة الموكلين عليه - و جزاؤه بعمله إن كان برا فبنعيم و إن كان فاجرا مكذبا بيوم الدين فبجحيم يصلاها مخلدا فيها.
ثم يستأنف وصف اليوم بأنه يوم لا يملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله، و هي من غرر الآيات، و السورة مكية بلا كلام.
قوله تعالى: «إذا السماء انفطرت» الفطر الشق و الانفطار الانشقاق و الآية كقوله: «و انشقت السماء فهي يومئذ واهية»: الحاقة: 16.
قوله تعالى: «و إذا الكواكب انتثرت» أي تفرقت بتركها مواضعها التي ركزت فيها شبهت الكواكب بلآلي منظومة قطع سلكها فانتثرت و تفرقت.
قوله تعالى: «و إذا البحار فجرت» قال في المجمع،: التفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض التكثير، و منه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب، و منه الفجر لانفجاره بالضياء، انتهى.
و إليه يرجع تفسيرهم لتفجير البحار بفتح بعضها في بعض حتى يزول الحائل و يختلط العذب منها و المالح و يعود بحرا واحدا، و هذا المعنى يناسب تفسير قوله: «و إذا البحار سجرت»: التكوير: 6 بامتلاء البحار.
قوله تعالى: «و إذا القبور بعثرت» قال في المجمع، بعثرت الحوض و بحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه، و البعثرة و البحثرة إثارة الشيء بقلب باطنه إلى ظاهره، انتهى.
فالمعنى و إذا قلب تراب القبور و أثير باطنها إلى ظاهرها لإخراج الموتى و بعثهم للجزاء.
قوله تعالى: «علمت نفس ما قدمت و أخرت» المراد بالعلم علمها التفصيلي بأعمالها التي عملتها في الدنيا، و هذا غير ما يحصل لها من العلم بنشر كتاب أعمالها لظاهر قوله تعالى: «بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره»: القيامة: 15 و قوله: «يوم يتذكر الإنسان ما سعى»: النازعات: 35، و قوله: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران: 30.
و المراد بالنفس جنسها فتفيد الشمول، و المراد بما قدمت و ما أخرت هو ما قدمته مما عملته في حياتها، و بما أخرت ما سنته من سنة حسنة أو سيئة فعملت بها بعد موتها فتكتب صحيفة عملها قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم»: يس: 12.
و قيل: المراد بما قدمت و أخرت ما عملته في أول العمر و ما عملته في آخره فيكون كناية عن الاستقصاء.
و قيل في معنى التقديم و التأخير وجوه أخر لا يعبأ بها مذكورة في مطولات التفاسير من أراد الوقوف عليها فليراجعها.
و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب»: الأنفال: 37، كلام لا يخلو من نفع هاهنا.
قوله تعالى: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم - إلى قوله - ركبك» عتاب و توبيخ للإنسان، و المراد بهذا الإنسان المكذب ليوم الدين - على ما يفيده السياق المشتمل على قوله: «بل تكذبون بالدين» و في تكذيب يوم الدين كفر و إنكار لتشريع الدين و في إنكاره إنكار لربوبية الرب تعالى، و إنما وجه الخطاب إليه بما أنه إنسان ليكون حجة أو كالحجة لثبوت الخصال التي يذكرها من نعمه عليه المختصة من حيث المجموع بالإنسان.
و قد علق الغرور بصفتي ربوبيته و كرمه تعالى ليكون ذلك حجة في توجه العتاب و التوبيخ فإن تمرد المربوب و توغله في معصية ربه الذي يدبر أمره و يغشيه نعمه ظاهرة و باطنة كفران لا ترتاب الفطرة السليمة في قبحه و لا في استحقاق العقاب عليه و خاصة إذا كان الرب المنعم كريما لا يريد في نعمه و عطاياه نفعا ينتفع به و لا عضوا يقابله به المنعم عليه، و يسامح في إحسانه و يصفح عما يأتي به المربوب من الخطيئة و الإثم بجهالة فإن الكفران حينئذ أقبح و أقبح و توجه الذم و اللائمة أشد و أوضح.
فقوله تعالى: «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم» استفهام توبيخي يوبخ الإنسان بكفران خاص لا عذر له يعتذر به عنه و هو كفران نعمة رب كريم.
و ليس للإنسان أن يجيب فيقول: أي رب غرني كرمك فقد قضى الله سبحانه فيما قضى و بلغه بلسان أنبيائه: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7، و قال: «فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى»: النازعات: 39، إلى غير ذلك من الآيات الناصة في أن لا مخلص للمعاندين من العذاب و أن الكرم لا يشملهم يوم القيامة قال: «و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون»: الأعراف: 156 و لو كفى الإنسان العاصي قوله: «غرني كرمك» لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، و لا عذر بعد البيان.
و من هنا يظهر أن لا محل لقول بعضهم: إن توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة و هو من الكرم أيضا.
كيف؟ و السياق سياق الوعيد و الكلام ينتهي إلى مثل قوله: «و إن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين و ما هم عنها بغائبين».
و قوله: «الذي خلقك فسواك فعدلك» بيان لربوبيته المتلبسة بالكرم فإن من تدبيره خلق الإنسان بجمع أجزاء وجوده ثم تسويته بوضع كل عضو فيما يناسبه من الموضع على ما يقتضيه الحكمة ثم عدله بعدل بعض أعضائه و قواه ببعض بجعل التوازن و التعادل بينها فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو فيتم به فعله كما أن الأكل مثلا بالالتقام و هو للفم، و يضعف الفم عن قطع اللقمة و نهشها و طحنها فيتم ذلك بمختلف الأسنان، و يحتاج ذلك إلى نقل اللقمة من جانب من الفم إلى آخر و قلبها من حال إلى حال فجعل ذلك للسان ثم الفم يحتاج في فعل الأكل إلى وضع الغذاء فيه فتوصل إلى ذلك باليد و تمم عملها بالكف و عملها بالأصابع على اختلاف منافعها و عملها بالأنامل، و تحتاج اليد في الأخذ و الوضع إلى الانتقال المكاني نحو الغذاء و عدل ذلك بالرجل.
و على هذا القياس في أعمال سائر الجوارح و القوى و هي ألوف و ألوف لا يحصيها العد، و الكل من تدبيره تعالى و هو المفيض لها من غير أن يريد بذلك انتفاعا لنفسه و من غير أن يمنعه من إفاضتها ما يقابله به الإنسان من نسيان الشكر و كفران النعمة فهو تعالى ربه الكريم.
و قوله: «في أي صورة ما شاء ركبك» بيان لقوله: «عدلك» و لذا لم يعطف على ما تقدمه و الصورة ما ينتقش به الأعيان و يتميز به الشيء من غيره و «ما» زائدة للتأكيد.
و المعنى: في أي صورة شاء أن يركبك - و لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة - ركبك من ذكر و أنثى و أبيض و أسود و طويل و قصير و وسيم و دميم و قوي و ضعيف إلى غير ذلك و كذا الأعضاء المشتركة بين أفراد الإنسان المميزة لها من غيرها كاليدين و الرجلين و العينين و الرأس و البدن و استواء القامة و نحوها فكل ذلك من عدل بعض الأجزاء ببعض في التركيب قال تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»: التين: 4 و الجميع ينتهي إلى تدبير الرب الكريم لا صنع للإنسان في شيء من ذلك.
قوله تعالى: «كلا بل تكذبون بالدين» «كلا» ردع عن اغترار الإنسان بكرم الله و جعل ذلك ذريعة إلى الكفر و المعصية أي لا تغتروا فلا ينفعكم الاغترار.
و قوله: «بل تكذبون بالدين» أي بالجزاء.
إضراب عما يفهم من قوله: «ما غرك بربك الكريم» من غرور الإنسان بربه الكريم على اعتراف منه و لو بالقوة بالجزاء لقضاء الفطرة السليمة به.
فإذ عاتب الإنسان و وبخه على غروره بربه الكريم و اجترائه على الكفران و المعصية من غير أن يخاف الجزاء أضرب عنه مخاطبا للإنسان و كل من يشاركه في كفره و معصيته فقال: بل أنت و من حاله حالك تكذبون بيوم الدين و الجزاء فتجحدونه ملحين عليه.
قوله تعالى: «و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون» إشارة إلى أن أعمال الإنسان حاضرة محفوظة يوم القيامة من طريق آخر غير حضورها للإنسان العامل لها من طريق الذكر و ذلك حفظها بكتابة كتاب الأعمال من الملائكة الموكلين بالإنسان فيحاسب عليها كما قال تعالى: «و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا»: إسراء: 14.
فقوله: «و إن عليكم لحافظين» أي إن عليكم من قبلنا حافظين يحفظون أعمالكم بالكتابة كما يفيده السياق.
و قوله: «كراما كاتبين» أي أولي كرامة و عزة عند الله تعالى و قد تكرر في القرآن الكريم وصف الملائكة بالكرامة و لا يبعد أن يكون المراد به بإعانة من السياق كونهم بحسب الخلقة مصونين عن الإثم و المعصية مفطورين على العصمة، و يؤيده قوله: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 26 حيث دل على أنهم لا يريدون إلا ما أراده الله و لا يفعلون إلا ما أمرهم به، و كذا قوله: «كرام بررة»: عبس 16.
و المراد بالكتابة في قوله: «كاتبين» كتابة الأعمال بقرينة قوله: «يعلمون ما تفعلون» و قد تقدم في تفسير قوله: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون»: الجاثية: 29 كلام في معنى كتابة الأعمال فليراجعه من شاء.
و قوله: «يعلمون ما تفعلون» نفي لخطئهم في تشخيص الخير و الشر و تمييز الحسنة و السيئة كما أن الآية السابقة متضمنة لتنزيههم عن الإثم و المعصية فهم محيطون بالأفعال على ما هي عليه من الصفة و حافظون لها على ما هي عليه.
و لا تعيين في هذه الآيات لعدة هؤلاء الملائكة الموكلين على كتابة أعمال الإنسان نعم المستفاد من قوله تعالى: «إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد»: ق: 17 إن على كل إنسان منهم اثنين عن يمينه و شماله، و قد ورد في الروايات المأثورة أن الذي على اليمين كاتب الحسنات و الذي على الشمال كاتب السيئات.
و ورد أيضا في تفسير قوله: «إن قرآن الفجر كان مشهودا»: إسراء: 78 أخبار مستفيضة من طرق الفريقين دالة على أن كتبة الأعمال بالنهار يصعدون بعد غروب الشمس و ينزل آخرون فيكتبون أعمال الليل حتى إذا طلع الفجر صعدوا و نزل ملائكة النهار و هكذا.
و في الآية أعني قوله: «يعلمون ما تفعلون» دلالة على أن الكتبة عالمون بالنيات إذ لا طريق إلى العلم بخصوصيات الأفعال و عناوينها و كونها خيرا أو شرا أو حسنة أو سيئة إلا العلم بالنيات فعلمهم بالأفعال لا يتم إلا عن العلم بالنيات.
قوله تعالى: «إن الأبرار لفي نعيم و إن الفجار لفي جحيم» استئناف مبين لنتيجة حفظ الأعمال بكتابة الكتبة و ظهورها يوم القيامة.
و الأبرار هم المحسنون عملا، و الفجار هم المنخرقون بالذنوب و الظاهر أن المراد بهم المتهتكون من الكفار إذ لا خلود لمؤمن في النار، و في تنكير «نعيم» و «جحيم» إشعار بالتفخيم و التهويل - كما قيل -.
قوله تعالى: «يصلونها يوم الدين» الضمير للجحيم أي يلزمون يعني الفجار الجحيم يوم الجزاء و لا يفارقونها.
قوله تعالى: «و ما هم عنها بغائبين» عطف تفسيري على قوله: «يصلونها» إلخ يؤكد معنى ملازمتهم للجحيم و خلودهم في النار، و المراد بغيبتهم عنها خروجهم منها فالآية في معنى قوله: «و ما هم بخارجين من النار»: البقرة: 167.
قوله تعالى: «و ما أدراك ما يوم الدين» تهويل و تفخيم لأمر يوم الدين، و المعنى لا تحيط علما بحقيقة يوم الدين و هذا التعبير كناية عن فخامة أمر الشيء و علوه من أن يناله وصف الواصف، و في إظهار اليوم - و المحل محل الضمير - تأكيد لأمر التفخيم.
قوله تعالى: «ثم ما أدراك ما يوم الدين» في تكرار الجملة تأكيد للتفخيم.
قوله تعالى: «يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله» الظرف منصوب بتقدير اذكر و نحوه، و في الآية بيان إجمالي لحقيقة يوم الدين بعد ما في قوله: «و ما أدراك ما يوم الدين» من الحث على معرفته.
و ذلك أن رابطة التأثير و التأثر بين الأسباب الظاهرية و مسبباتها منقطعة زائلة يومئذ كما يستفاد من أمثال قوله تعالى: «و تقطعت بهم الأسباب»: البقرة: 166، و قوله: «و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا»: البقرة: 165 فلا تملك نفس لنفس شيئا فلا تقدر على دفع شر عنها و لا جلب خير لها، و لا ينافي ذلك آيات الشفاعة لأنها بإذن الله فهو المالك لها لا غير.
و قوله: «و الأمر يومئذ لله» أي هو المالك للأمر ليس لغيره من الأمر شيء.
و المراد بالأمر كما قيل واحد الأوامر لقوله تعالى: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن: 16 و شأن الملك المطاع، الأمر بالمعنى المقابل للنهي، و الأمر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إذا القبور بعثرت» قال: تنشق فتخرج الناس منها.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه عن حذيفة قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من استن خيرا فاستن به فله أجره و مثل أجور من اتبعه غير منتقص من أجورهم و من استن شرا فاستن به فله وزره و مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم، و تلا حذيفة «علمت نفس ما قدمت و أخرت».
و فيه، أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم» ثم قال: جهله.
و في تفسير القمي،: «في أي صورة ما شاء ركبك» قال: لو شاء ركبك على غير هذه الصورة:. أقول: و رواه في المجمع، عن الصادق (عليه السلام) مرسلا.
و فيه،: «و إن عليكم لحافظين» قال: الملكان الموكلان بالإنسان.
و عن سعد السعود، و في رواية: إنهما يعني الملكين الموكلين يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكلان بالليل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكلان بكتابة الليل، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عز و جل. فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنا خيرا فكم من عمل صالح أريتناه، و كم من قول حسن أسمعتناه، و كم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبه و شفعاء إلى ربك، و إن كان عاصيا قالا له: جزاك الله من صاحب عنا شرا فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيء أريتناه، و كم من قول سيء أسمعتناه، و " كم " من مجلس سوء أحضرتناه و نحن اليوم لك على ما تكره، و شهيدان عند ربك.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الأمر يومئذ لله»: روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: الأمر يومئذ و اليوم كله لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكام فلم يبق حاكم إلا الله.
أقول: مراده (عليه السلام) أن كون الأمر لله لا يختص بيوم القيامة بل الأمر لله دائما، و تخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالذي يختص به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى و حكمه، و نظير الأمر سائر ما عد في كلامه تعالى من مختصات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات.
|