بيان
بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنة، و أنهم على كونهم يستهزىء بهم الكفار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.
قوله تعالى: «إن الأبرار لفي نعيم» النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى أن الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.
قوله تعالى: «على الأرائك ينظرون» الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير في الجملة و هي البيت المزين للعروس و إطلاق قوله: «ينظرون» من غير تقييد يؤيد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفار و ليس بذاك.
قوله تعالى: «تعرف في وجوههم نضرة النعيم» النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتبار أن له أن ينظر فيعرف فالحكم عام و المعنى كل من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الذي هم فيه.
قوله تعالى: «يسقون من رحيق مختوم» الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغش، و يناسبه وصفه بأنه مختوم فإنه إنما يختم على الشيء النفيس الخالص ليسلم من الغش و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.
قوله تعالى: «ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون» قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إن الذي يختم به مسك بدلا من الطين و نحوه الذي يختم به في الدنيا، و قيل: أي آخر طعمه الذي يجده شاربه رائحة المسك.
و قوله: «و في ذلك فليتنافس المتنافسون» التنافس التغالب على الشيء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى: «سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة»: الحديد: 21، و قال: «فاستبقوا الخيرات»: المائدة: 48، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.
و استشكل في الآية بأن فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ و أجيب بأن الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدم الظرف ليكون عوضا عن الشرط و التقدير و إن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.
و يمكن أن يقال: إن قوله: «و في ذلك» معطوف على ظرف آخر محذوف متعلق بقوله: «فليتنافس» يدل عليه المقام فإن الكلام في وصف نعيم الجنة فيفيد قوله: «و في ذلك» ترغيبا مؤكدا بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس المتنافسون في نعيم الجنة عامة و في الرحيق المختوم الذي يسقونه خاصة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصة، و لا تكن عيابا و للعلماء خاصة.
قوله تعالى: «و مزاجه من تسنيم» المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسره الآية التالية عين في الجنة سماه الله تسنيما و في لفظه معنى الرفع و الملء يقال: سنمه أي رفعه و منه سنام الإبل، و يقال: سنم الإناء أي ملأه.
قوله تعالى: «عينا يشرب بها المقربون» يقال: شربه و شرب به بمعنى و «عينا» منصوب على المدح أو الاختصاص و «يشرب بها المقربون» وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.
و مفاد الآية أن المقربين يشربون التسنيم صرفا كما أن مفاد قوله: «و مزاجه من تسنيم» أنه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدل ذلك أولا على أن التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الذي يزيد لذة بمزجها، و ثانيا أن المقربين أعلى درجة من الأبرار الذين يصفهم الآيات.
قوله تعالى: «إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون» يعطي السياق أن المراد بالذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنما عبر عنهم بالذين آمنوا لأن سبب ضحك الكفار منهم و استهزائهم بهم إنما هو إيمانهم كما أن التعبير عن الكفار بالذين أجرموا للدلالة على أنهم بذلك من المجرمين.
قوله تعالى: «و إذا مروا بهم يتغامزون» عطف على قوله: «يضحكون» أي كانوا إذا مروا بالذين آمنوا يغمز بعضهم بعضا و يشيرون بأعينهم استهزاء بهم.
قوله تعالى: «و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين» الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الإنس و المعنى انقلبوا و هم يحدثون بما فعلوا تفكها.
قوله تعالى: «و إذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون» على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.
قوله تعالى: «و ما أرسلوا عليهم حافظين» أي و ما أرسل هؤلاء الذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقهم بما شاءوا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكم بالمستهزئين.
قوله تعالى: «فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون» المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الذين أجرموا بالكفار رجوع إلى حقيقة صفتهم.
قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني «من الكفار» على «يضحكون «لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الذين آمنوا يضحكون من الكفار لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.
قوله تعالى: «على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون» الثواب في الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله «على الأرائك» خبر بعد خبر للذين آمنوا و «ينظرون» خبر آخر، و قوله: «هل ثوب» إلخ متعلق بقوله: «ينظرون «قائم مقام المفعول.
و المعنى: الذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفار بأفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الأجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مروا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إن هؤلاء لضالون.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و في ذلك فليتنافس المتنافسون» قال: فيما ذكرناه من الثواب الذي يطلبه المؤمن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و إذا مروا بهم يتغامزون» قيل نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) و ذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل علي و أصحابه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عن مقاتل و الكلبي.
أقول: و قد أورده في الكشاف،. و فيه ذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «إن الذين أجرموا» منافقو قريش و «الذين آمنوا» علي بن أبي طالب و أصحابه.
و في تفسير القمي،: «أن الذين أجرموا إلى قوله فكهين» قال: يسخرون.
|