بيان
تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هفوات المشركين في أمر دعوته، و تطييب لنفسه بوعد النصر الحتمي، و بيان أن الدعوة الدينية إنما ظرفها الاختيار الإنساني فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر فالقدرة و المشية الإلهية الحاتمتان لا تداخلان ذلك حتى تجبراهم على القبول، و لو شاء الله لجمعهم على الهدى.
قوله تعالى: «قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون» إلى آخر الآية، «قد» حرف تحقيق في الماضي، و تفيد في المضارع التقليل و ربما استعملت فيه أيضا للتحقيق، و هو المراد في الآية، و حزنه كذا و أحزنه بمعنى واحد، و قد قرىء بكلا الوجهين.
و قوله: «فإنهم لا يكذبونك» قرىء بالتشديد من باب التفعيل، و بالتخفيف، و الظاهر أن الفاء في قوله: «فإنهم» للتفريع و كأن المعنى قد نعلم أن قولهم ليحزنك لكن لا ينبغي أن يحزنك ذلك فإنه ليس يعود تكذيبهم إليك لأنك لا تدعو إلا إلينا و ليس لك فيه إلا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها.
فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات: «ثم إليه يرجعون» في معنى قوله تعالى: «و من كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور»:» لقمان: 23 و قوله: «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون و ما يعلنون»: يس: 76 و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليته (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا على قراءة التشديد.
و أما على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجتك بحجة و إنما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم.
و قوله: «و لكن الظالمين بآيات الله يجحدون» كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أن الجحد منهم إنما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلا عتوا و بغيا و طغيانا و سيبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلم إلى الغيبة فقيل: «بآيات الله» و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أن ذلك منهم معارضة مع مقام الألوهية و استعلاء عليه و هو المقام الذي لا يقوم له شيء.
و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه أخرى: أحدها: ما عن الأكثر أن المعنى: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، و إنما يظهرون التكذيب بأفواههم عنادا.
و ثانيها: أنهم لا يكذبونك و إنما يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي و لست مختصا به، و هذا الوجه غير ما قدمناه من الوجه و إن كان قريبا منه، و الوجهان جميعا على قراءة التشديد.
و ثالثها: أنهم لا يصادفونك كاذبا تقول العرب: قاتلناهم فما أجبناهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدم.
قوله تعالى: «و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا» إلى آخر الآية.
هداية له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سبيل من تقدمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله، و قد قال تعالى: «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده»: الأنعام: 90.
و قوله: «حتى أتاهم نصرنا» بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهي بالنصر، و في قوله: «و لا مبدل لكلمات الله» تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة: 21، و قوله: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون»: الصافات: 172.
و وقوع المبدل في قوله: «و لا مبدل لكلمات الله» في سياق النفي ينفي أي مبدل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدل مشيته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدل ما أحكم و يغيره بوجه من الوجوه.
و من هنا يظهر أن هذه الكلمات التي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل أمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى: «قال فالحق و الحق أقول»: ص: 84 و قال تعالى: «و الله يقول الحق»: الأحزاب: 4، و قال تعالى: «ألا إن وعد الله حق»: يونس: 55 و قال تعالى: «لا يخلف الله الميعاد»: الزمر: 20 و قد مر البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى: «منهم من كلم الله»: البقرة: 253.
و قوله في ذيل الآية: «و لقد جاءك من نبإ المرسلين» تثبيت و استشهاد لقوله: «و لقد كذبت رسل من قبلك» إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أن هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكية التي تقص قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدثر قطعا فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكة قبل الهجرة، و الله أعلم.
قوله تعالى: «و إن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله - فتأتيهم بآية» قال الراغب: النفق الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبه بقوله: إن المنافقين هم الفاسقون أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرا من الكافرين فقال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، و نيفق السراويل معروف، انتهى.
و قال: السلم ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب قال تعالى: أم لهم سلم يستمعون فيه، و قال: أو سلما في السماء، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلم،.
انتهى.
و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل.
و المراد بالآية في قوله تعالى: «فتأتيهم بآية» الآية التي تضطرهم إلى الإيمان فإن الخطاب عنى قوله: «و إن كان كبر عليك إعراضهم» إلخ، إنما ألقي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق القرآن الذي هو أفضل آية إلهية تدل على حقية دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنه لا ينبغي أن يكبر و يشق عليك إعراضهم فإن الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحق و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و أنك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإن الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعا فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهية.
و أما ما احتمله بعضهم: أن المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية التي أرسلناك بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصة قوله «و لو شاء الله لجمعهم على الهدى» فإنه ظاهر في الاضطرار.
و من هنا يظهر أن المراد بالمشية أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطروا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.
لكنه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها، و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين»: السجدة: 13 يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله: «قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85 فبين تعالى أن عدم تحقق مشيته لهداهم جميعا إنما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنه سيغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين.
و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصة آدم و إبليس: «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين، و إن جهنم لموعدهم أجمعين»: الحجر: 43 و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضا فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة: «و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم - إلى أن قال - إني كفرت بما أشركتمون من قبل»: إبراهيم: 22.
فالآيات تبين أن المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات أخر أن الإنسان ليس له أن يشاء إلا أن يشاء الله منه المشية كقوله تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، و ما تشاءون إلا أن يشاء الله»: الإنسان: 30، و قال تعالى: «إن هو إلا ذكر للعالمين، لمن شاء منكم أن يستقيم، و ما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين»: التكوير: 29.
فمشية الإنسان في تحققها و إن توقفت على مشية الله سبحانه إلا أن الله سبحانه لا يشاء منه المشية إلا إذا استعد لذلك بحسن سريرته، و تعرض منه لرحمته، قال تعالى: «و يهدي إليه من أناب»: الرعد: 27 أي انعطف و رجع إليه، و أما الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإن الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26 و قال: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف: 5 و قال: «و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه»: الأعراف: 176.
و بالجملة فالدعوة الدينية لا تسلك إلا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهية لا تنزل إلا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلا من تعرض لرحمته و استعد لهدايته من طريق الاختيار.
و بهذا تنحل شبهة أخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنا سلمنا أن إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرهم إلى قبول الدعوة الدينية ينافي أساس الاختيار الذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينية لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعا على حد مشيته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصة أن يشاءوا ثم ينزل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حريتهم في العمل.
و ذلك أنه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنه ينافي الناموس العام في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنما يفاض على من اتقى الله و زكى نفسه و قد أفلح من زكاها و لا يصيب الضلال إلا من أعرض من ذكر ربه و دس نفسه و قد خاب من دساها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا، كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء: 20 أي ممنوعا فالله سبحانه يمد كل نفس من عطائه بما يستحقه فإن أراد الخير أوتيه و إن أراد الشر أوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكل نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكب على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العام و إفساد أمر الأسباب.
و تؤيد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى: «إنما يستجيب الذين يسمعون» إلى آخر الآية على ما سيجيء من معناها.
قوله تعالى: «إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون» الآية كالبيان لقوله: «و إن كان كبر عليك إعراضهم» إلى آخر الآية فإن ملخصه أنك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبين في هذه الآية أنهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتى يشعروا بمعنى الدعوة الدينية و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهذه الهياكل المتراءات من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنما يستجيب الذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهرا في صور الأحياء و هؤلاء يتوقف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله: «و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون»: السجدة: 12 فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفار بالموت و الصمم كما قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122 و قال تعالى: إنك لا تسمع الموتى و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون»: النمل: 81 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و قد تكرر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف التي حملها الجمهور من المفسرين على الكناية و التشبيه، و أن لها معنى من الحقيقة فليراجع.
و في الآية دلالة على أن الكفار و المشركين سيفهمهم الله الحق و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمنا كان أو كافرا لا مناص له عن فهم الحق عاجلا أو آجلا.
بحث روائي
في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: «و إن كان كبر عليك إعراضهم - إلى قوله نفقا في الأرض»، يقول: سربا.
أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثم الإشارة بالآية إلى السبب المحقق بعنوان الانطباق
|