بيان
تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أن للإنسان سيرا إلى ربه حتى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير.
و سياق آياتها سياق مكي.
قوله تعالى: «إذا السماء انشقت» شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه» و التقدير: لاقى الإنسان ربه فحاسبه و جازاه على ما عمل.
و انشقاق السماء و هو تصدعه و انفراجه من أشراط الساعة كمد الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.
قوله تعالى: «و أذنت لربها و حقت» الإذن الاستماع و منه الأذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و «حقت» أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.
قوله تعالى: «و إذا الأرض مدت» الظاهر أن المراد به اتساع الأرض، و قد قال تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض»: إبراهيم: 48.
قوله تعالى: «و ألقت ما فيها و تخلت» أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلو مما فيها منهم.
و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى: «و أخرجت الأرض أثقالها»: الزلزال: 2 و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلت مما على ظهرها من الجبال و البحار، و لعل أول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: «و أذنت لربها و حقت» ضمائر التأنيث للأرض كما أنها في نظيرتها المتقدمة للسماء، و قد تقدم معنى الآية.
قوله تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه» قال الراغب،: الكدح السعي و العناء.
انتهى.
ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها انتهى.
و على هذا فهو مضمن معنى السير بدليل تعديه بإلى ففي الكدح معنى السير على أي حال.
و قوله: «فملاقيه» عطف على «كادح» و قد بين به أن غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبية أي إن الإنسان بما أنه عبد مربوب و مملوك مدبر ساع إلى الله سبحانه بما أنه ربه و مالكه المدبر لأمره فإن العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملا فعليه أن يريد و لا يعمل إلا ما أراده ربه و مولاه و أمره به فهو مسئول عن إرادته و عمله.
و من هنا يظهر أولا أن قوله: «إنك كادح إلى ربك» يتضمن حجة على المعاد لما عرفت أن الربوبية لا تتم إلا مع عبودية و لا تتم العبودية إلا مع مسئولية و لا تتم مسئولية إلا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتم حساب إلا بجزاء.
و ثانيا: أن المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلا حكمه من غير أن يحجبه عن ربه حاجب.
و ثالثا: أن المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أن الربوبية عامة لكل إنسان.
قوله تعالى: «فأما من أوتي كتابه بيمينه» تفصيل مترتب على ما يلوح إليه قوله: «إنك كادح إلى ربك» أن هناك رجوعا و سؤالا عن الأعمال و حسابا، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقة.
قوله تعالى: «فسوف يحاسب حسابا يسيرا» الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.
قوله تعالى: «و ينقلب إلى أهله مسرورا» المراد بالأهل من أعده الله له في الجنة من الحور و الغلمان و غيرهم و هذا هو الذي يفيده السياق، و قيل: المراد به عشيرته المؤمنون ممن يدخل الجنة، و قيل المراد فريق المؤمنين و إن لم يكونوا من عشيرته فالمؤمنون إخوة.
و الوجهان لا يخلوان من بعد.
قوله تعالى: «و أما من أوتي كتابه وراء ظهره» الظرف منصوب بنزع الخافض و التقدير من وراء ظهره، و لعلهم إنما يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لرد وجوههم على أدبارهم كما قال تعالى: «من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها»: النساء: 47.
و لا منافاة بين إيتاء كتابهم من وراء ظهورهم و بين إيتائهم بشمالهم كما وقع في قوله تعالى: «و أما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه»: الحاقة: 25 و سيأتي في البحث الروائي التالي ما ورد في الروايات من معنى إيتاء الكتاب من وراء ظهورهم.
قوله تعالى: «فسوف يدعوا ثبورا» الثبور كالويل الهلاك و دعاؤهم الثبور قولهم: وا ثبوراه.
قوله تعالى: «و يصلى سعيرا» أي يدخل نارا مؤججة لا يوصف عذابها، أو يقاسي حرها.
قوله تعالى: «إنه كان في أهله مسرورا» يسره ما يناله من متاع الدنيا و تنجذب نفسه إلى زينتها و ينسيه ذلك أمر الآخرة و قد ذم تعالى فرح الإنسان بما يناله من خير الدنيا و سماه فرحا بغير حق قال تعالى بعد ذكر النار و عذابها: «ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون»: المؤمن: 75.
قوله تعالى: «إنه ظن أن لن يحور» أي لن يرجع و المراد الرجوع إلى ربه للحساب و الجزاء، و لا سبب يوجبه عليهم إلا التوغل في الذنوب و الآثام الصارفة عن الآخرة الداعية إلى استبعاد البعث.
قوله تعالى: «بلى إن ربه كان به بصيرا» رد لظنه أي ليس الأمر كما ظنه بل يحور و يرجع، و قوله: «إن ربه كان به بصيرا» تعليل للرد المذكور فإن الله سبحانه كان ربه المالك له المدبر لأمره و كان يحيط به علما و يرى ما كان من أعماله و قد كلفه بما كلف و لأعماله جزاء خيرا أو شرا فلا بد أن يرجع إليه و يجزي بما يستحقه بعمله.
و بذلك يظهر أن قوله: «إن ربه كان به بصيرا» من إعطاء الحجة على وجوب المعاد نظير ما تقدم في قوله: «إنك كادح إلى ربك» الآية.
و يظهر أيضا من مجموع هذه الآيات التسع أن إيتاء الكتب و نشر الصحف قبل الحساب كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا»: إسراء: 14.
ثم الآيات كما ترى تخص إيتاء الكتاب من وراء الظهر بالكفار فيقع الكلام في عصاة المؤمنين من أصحاب الكبائر ممن يدخل النار فيمكث فيها برهة ثم يخرج منها بالشفاعة على ما في الأخبار من طرق الفريقين فهؤلاء لا يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم لاختصاص ذلك بالكفار و لا بيمينهم لظهور الآيات في أن أصحاب اليمين يحاسبون حسابا يسيرا و يدخلون الجنة، و لا سبيل إلى القول بأنهم لا يؤتون كتابا لمكان قوله تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» الآية المفيد للعموم.
و قد تخلص بعضهم عن الإشكال بأنهم يؤتون كتابهم باليمين بعد الخروج من النار.
و فيه أن ظاهر الآيات إن لم يكن صريحها أن دخول النار أو الجنة فرع مترتب على القضاء المترتب على الحساب المترتب على إيتاء الكتب و نشر الصحف فلا معنى لإيتاء الكتاب بعد الخروج من النار.
و احتمل بعضهم أن يؤتوا كتابهم بشمالهم و يكون الإيتاء من وراء الظهر مخصوصا بالكفار كما تفيده الآيات.
و فيه أن الآيات التي تذكر إيتاء الكتاب بالشمال - و هي التي في سورة الواقعة و الحاقة و في معناها ما في سورة الإسراء أيضا - تخص إيتاء الكتاب بالشمال بالكفار و يظهر من مجموع الآيات أن الذين يؤتون كتابهم بشمالهم هم الذين يؤتونه من وراء ظهورهم.
و قال بعضهم من الممكن أن يؤتوا كتابهم من وراء ظهورهم و يكون قوله: «فسوف يحاسب حسابا يسيرا» من قبيل وصف الكل بصفة بعض أجزائه.
و فيه أن المقام لا يساعد على هذا التجوز فإن المقام مقام تمييز السعداء من الأشقياء و تشخيص كل بجزائه الخاص به فلا مجوز لإدغام جمع من أهل العذاب في أهل الجنة.
على أن قوله: «فسوف يحاسب» إلخ وعد جميل إلهي و لا معنى لشموله لغير مستحقيه و لو بظاهر من القول.
نعم يمكن أن يقال: إن اليسر و العسر معنيان إضافيان و حساب العصاة من أهل الإيمان يسير بالإضافة إلى حساب الكفار المخلدين في النار و لو كان عسيرا بالإضافة إلى حساب المتقين.
و يمكن أيضا أن يقال إن قسمة أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال غير حاصرة كما يدل عليه قوله تعالى: «و كنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة و السابقون السابقون أولئك المقربون»: الواقعة: 11 فمدلول الآيات خروج المقربين من الفريقين، و مثلهم المستضعفون كما ربما يستفاد من قوله تعالى: «و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم»: التوبة: 106.
فمن الجائز أن لا يكون تقسيم أهل الجمع إلى أصحاب اليمين و أصحاب الشمال تقسيما حاصرا لجميعهم بل تخصيصا لأهل الجنة من المتقين و أهل الخلود في النار بالذكر بتوصيفهم بإيتاء الكتاب باليمين و بالشمال لمكان الدعوة إلى الإيمان و التقوى و نظير ذلك ما في سورة المرسلات من ذكر يوم الفصل ثم بيان حال المتقين و المكذبين فحسب و ليس ينحصر الناس في القبيلين، و نظيره ما في سورة النبإ و النازعات و عبس و الانفطار، و المطففين و غيرها فالغرض فيها ذكر أنموذج من أهل الإيمان و الطاعة و أهل الكفر و التكذيب و السكوت عمن سواهم ليتذكر أن السعادة في جانب التقوى و الشقاء في جانب التمرد و الطغوى.
قوله تعالى: «فلا أقسم بالشفق» الشفق الحمرة ثم الصفرة ثم البياض التي تحدث بالمغرب أول الليل.
قوله تعالى: «و الليل و ما وسق» أي ضم و جمع ما تفرق و انتشر في النهار من الإنسان و الحيوان فإنها تتفرق و تنتشر بالطبع في النهار و ترجع إلى مأواها في الليل فتسكن.
و فسر بعضهم «وسق» بمعنى طرد أي طرد الكواكب من الخفاء إلى الظهور.
قوله تعالى: «و القمر إذا اتسق» أي اجتمع و انضم بعض نوره إلى بعض فاكتمل نوره و تبدر.
قوله تعالى: «لتركبن طبقا عن طبق» جواب القسم و الخطاب للناس و الطبق هو الشيء أو الحال الذي يطابق آخر سواء كان أحدهما فوق الآخر أم لا و المراد به كيف كان المرحلة بعد المرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ثم الحياة البرزخية ثم الانتقال إلى الآخرة ثم الحياة الآخرة ثم الحساب و الجزاء.
و في هذا الإقسام - كما ترى - تأكيد لما في قوله: «يا أيها الإنسان إنك كادح» الآية و ما بعده من نبإ البعث و توطئة و تمهيد لما في قوله: «فما لهم لا يؤمنون» من التعجيب و التوبيخ و ما في قوله: «فبشرهم بعذاب» إلخ من الإنذار و التبشير.
و في الآية إشارة إلى أن المراحل التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه مترتبة متطابقة.
قوله تعالى: «فما لهم لا يؤمنون و إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون» الاستفهام للتعجيب و التوبيخ و لذا ناسب الالتفات الذي فيه من الخطاب إلى الغيبة كأنه لما رأى أنهم لا يتذكرون بتذكيره و لا يتعظون بعظته أعرض عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخاطبه بقوله: «فما لهم لا يؤمنون» إلخ.
قوله تعالى: «بل الذين كفروا يكذبون و الله أعلم بما يوعون» «يكذبون» يفيد الاستمرار، و التعبير عنهم بالذين كفروا للدلالة على علة التكذيب، و الإيعاء كما قيل جعل الشيء في وعاء.
و المعنى: أنهم لم يتركوا الإيمان لقصور في البيان أو لانقطاع من البرهان لكنهم اتبعوا أسلافهم و رؤساءهم فرسخوا في الكفر و استمروا على التكذيب و الله يعلم بما جمعوا في صدورهم و أضمروا في قلوبهم من الكفر و الشرك.
و قيل: المراد بقوله: «و الله أعلم بما يوعون» أن لهم وراء التكذيب مضمرات في قلوبهم لا يحيط بها العبارة و لا يعلمها إلا الله، و هو بعيد من السياق.
قوله تعالى: «فبشرهم بعذاب أليم» التعبير عن الإخبار بالعذاب بالتبشير مبني على التهكم، و الجملة متفرعة على التكذيب.
قوله تعالى: «إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون» استثناء منقطع من ضمير «فبشرهم» و المراد بكون أجرهم غير ممنون خلوه من قول يثقل على المأجور.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إذا السماء انشقت» قال: يوم القيامة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال تنشق السماء من المجرة.
و في تفسير القمي،: في قوله: «و إذا الأرض مدت و ألقت ما فيها و تخلت» قال: تمد الأرض فتنشق فيخرج الناس منها.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث قال و الناس يومئذ على صفات و منازل فمنهم من يحاسب حسابا يسيرا و ينقلب إلى أهله مسرورا، و منهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب لأنهم لم يلبثوا من أمر الدنيا بشيء و إنما الحساب هناك على من يلبس بها هاهنا، و منهم من يحاسب على النقير و القطمير و يصير إلى عذاب السعير.
و في المعاني، بإسناده عن ابن سنان عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل محاسب معذب فقال له قائل: يا رسول الله فأين قول الله عز و جل: «فسوف يحاسب حسابا يسيرا» قال: ذلك العرض يعني التصفح.
أقول: و روي في الدر المنثور، عن البخاري و مسلم و الترمذي و غيرهم عن عائشة: مثله.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «فأما من أوتي كتابه بيمينه» فهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسود بن هلال المخزومي و هو من بني مخزوم، «و أما من أوتي كتابه وراء ظهره» فهو أخوه الأسود بن عبد الأسود المخزومي فقتله حمزة بن عبد المطلب يوم بدر.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «لتركبن طبقا عن طبق» و قيل: معناه شدة بعد شدة حياة ثم موت ثم بعث ثم جزاء: و روي ذلك مرفوعا.
و عن جوامع الجامع، في الآية عن أبي عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم من الأولين و أحوالهم: و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).
|