بيان
احتجاجات متنوعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوة.
قوله تعالى: «و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر» إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لما صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حينا بعد حين تعين أن الآية التي كانوا يقترحونها بقولهم: «لو لا نزل عليه آية من ربه» هي آية غير القرآن، و أنهم كانوا لا يعدونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوسات.
و قد حملهم التعصب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنه ليس بربهم، فقالوا: «لو لا نزل عليه آية من ربه» و لم يقولوا: من ربنا أو من الله و نحوهما إزراء بأمره و تأكيدا في تعجيزه أي لو كان ما يدعيه و يدعو إليه حقا فليغر له ربه الذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدل على حقية دعواه.
و الذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أن الوثنية يرون لآلهتهم استقلالا في الأمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبره من الأمر من غير أن يختل تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البر و إله البحر و إله الحب و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرف فيه فقد قسم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو رب الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدل على نفي ألوهيتها.
و كان يحضهم على هذه المزعمة و يؤيد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقونه من يهود الحجاز أن يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شيء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.
و ثانيهما: أن الآيات النازلة من عند الله سبحانه إذا كانت مما خص الله به رسولا من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنما هي بينات تدل على صحة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذورا للناس المدعوين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكن الآية لو كانت مما اقترحها الناس فإن سنة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، كقوله تعالى: «و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون»: الأنعام: 8، و قوله: و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها»: الإسراء: 59.
و قد أشير في الآية الكريمة أعني قوله: «و قالوا لو لا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية و لكن أكثرهم لا يعلمون»، إلى الجهتين جميعا.
فذكر أن الله قادر على أن ينزل أي آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمى باسم «الله» و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدل في الجواب لفظة «الرب» إلى اسم «الله» للدلالة على برهان الحكم، فإن الألوهية المطلقة تجمع كل كمال من غير أن تحد بحد أو تقيد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الألوهي هو الذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.
على أنهم جهلوا أن نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أن اجتراءهم على اقتراحها تعرض منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أن هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات: «قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني و بينكم و الله أعلم بالظالمين»: الأنعام: 58.
و في قوله تعالى: «نزل» و «ينزل» مشددين من التفعيل دلالة على أنهم اقترحوا آية تدريجية أو آيات كثيرة تنزل واحدة بعد واحدة كما يدل عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله: «و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة - إلى أن قال - أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه» الآيات: الإسراء: 93، و قوله: «و قال الذين لا يرجون لقائنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا»: الفرقان: 21 و قوله: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة»: الفرقان: 32.
و روي عن ابن كثير أنه قرأ بالتخفيف.
7 قوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» إلى آخر الآية، الدابة كل حيوان يدب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدب بالفتح و الدبيب هو المشي الخفيف.
و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الأمة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أم يؤم إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الأمور الاجتماعية.
و الظاهر أن توصيف الطائر بقوله: «يطير بجناحيه» محاذاة لتوصيف الدابة بقوله: «في الأرض» فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضي و لا هوائي، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوز فإن الطيران كثيرا ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أن الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله: «يطير بجناحيه» كلام في المجتمعات الحيوانية
و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أن الحيوانات أرضية كانت أو هوائية هي أمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإن الأمة لا تطلق على مجرد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراري أو اختياري يقصده أفراده، و لا أن المراد مجرد كونها أنواعا شتى كل نوع منها يشترك أفراده في نوع خاص من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشئون الحيوية فإن هذا المقدار من الاشتراك و إن صحح الحكم بمماثلتها الإنسان لكن قوله في ذيل الآية: «ثم إلى ربهم يحشرون» يدل على أن المراد بالمماثلة ليس مجرد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك أخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلا نوعا من الحياة الشعورية التي تخد للإنسان خدا إلى سعادته و شقائه، فإن الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيدا في حياته لما ينكب عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانية و نور العبودية.
بل حياة الإنسان الشعورية و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانية و ما يؤيدها من دعوة النبوة تسن للإنسان سنة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استن بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معا، و إن لم يعمل بها و تخلف عن الأخذ ببعضها أو كلها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة.
و هذه السنة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشر و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحق فإن الإنسان بفطرته السليمة يستحسن أمورا هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح أمورا هي الظلم على نفسه أو غيره ثم الدين الإلهي يؤيدها و يشرح له تفاصيلها.
و هذا محصل ما تبين لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنية تفيد ذلك و تؤيده كقوله تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها»: الشمس: 10، و قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»: البقرة: 213.
و الإمعان في التفكر في أطوار الحيوانات العجم التي تزامل الإنسان في كثير من شئون الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيشها يدلنا على أن لها كالإنسان عقائد و آراء فردية و اجتماعية تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء.
فالواحد منا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أن من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدخره في ملكه، و أن يتزوج و أن ينسل و هكذا، و أن من الممنوع المحرم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرك و يسكن على طبق ما اتخد له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.
كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظمة التي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشك به في أن له شعورا بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراء و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضار كما في الإنسان، و ربما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدو من الطرق الاجتماعية و الفردية ما لم يتنبه إليه الإنسان إلا بعد طي قرون و أحقاب من عمره النوعي.
و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنية و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة و المدنية من الإنسان.
و قد حث القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكر في خلقها و أعمالها عامة كقوله تعالى: «و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون»: الجاثية: 4 و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل.
و هذه الآراء و العقائد التي نرى أن الحيوان على اختلاف أنواعها في شئون الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان أمور و استقباح أمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم.
و هو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أي نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلا من الفرق الواضح في حدة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة.
و كذا يؤيده جزئيات أخرى من حب و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعد و غير ذلك مما نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثم إنها مؤثرة أيضا في حياة الإنسان الأخروية، و ملاكا لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة أخروية.
و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربما لاح لنا أن للحيوان حشرا كما أن للإنسان حشرا فإن الله سبحانه يعد انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكا للحشر و يستدل به عليه كما في قوله تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28 بل يعد بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلانا لفعله و صيرورته لعبا أو جزافا كما في الآية السابقة على هذه الآية: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار»: ص: 27.
فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أن للإنسان حشرا إليه؟ ثم إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعم بعد ذلك في جنة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيوي عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنه إنسان؟.
هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف: أما السؤال الأول هل للحيوان غير الإنسان حشر؟ فقوله تعالى في الآية: «ثم إلى ربهم يحشرون» يتكفل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى: «و إذا الوحوش حشرت»: كورت: 5.
بل هناك آيات كثيرة جدا دالة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجن و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.
و أما السؤال الثاني، و هو أنه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعم أو يعذب بها فجوابه أن ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أما مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار»: إبراهيم: 48 و قوله: «و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه»: الزمر: 67 و قوله: «و جمع الشمس و القمر»: القيامة: 9» و قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون، لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها»: الأنبياء: 99.
على أن الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق قال تعالى: «إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: السجدة: 25 و قوله: «ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون»: آل عمران: 55 و غير ذلك من الآيات.
و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله: «إنا من المجرمين منتقمون»: السجدة: 22 و قوله: «فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام، يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار»: إبراهيم: 48 و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.
و يؤيده ظاهر قوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى»: فاطر: 45 فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم و الظلم شائع بين كل ما يسمى دابة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقبا لأن يهلك الله تعالى كل دابة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أن المراد بالدابة في الآية خصوص الإنسان.
و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسياته و روحياته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله.
و ذلك أن مجرد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقة و المناقشة مجرى واحدا فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد.
على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه و التعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله: «حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون»: النمل: 18 و ما حكاه من قول هدهد له (عليه السلام) في قصة غيبته عنه: «فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم و أوتيت من كل شيء و لها عرش عظيم، وجدتها و قومها يسجدون للشمس من دون الله و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون» إلى آخر الآيات: النمل: 24 فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقف على معارف جمة و إدراكات متنوعة كثيرة من بساط المعاني و مركباتها.
و ربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حاد.
و أما السؤال الثالث و الرابع أعني أنه: هل الحيوان يتلقى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث مما لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهي على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرض لبيان شيء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبي و الأئمة من أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يعتمد عليه في ذلك.
فقد تحصل أن المجتمعات الحيوانية كالمجتمع الإنساني فيها مادة الدين الإلهي ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانية و يمهدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال الحيوان بالقياس إلى الإنسان - و تؤيده الآيات القرآنية الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليته من عامة الحيوان - أن الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانية و لا كلف بدقائق التكاليف الإلهية التي كلف بها الإنسان.
و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» يدل على أن المجتمعات الحيوانية التي توجد بين كل نوع من أنواع الحيوان إنما تأسست على مقاصد نوعية شعورية يقصدها كل نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان.
و ليس ذلك مقصورا على المقاصد الطبيعية أعني مقاصد التغذي و النمو و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيأ به إلى حياة أخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة.
و ربما اعترض عليه أن القوم تسلموا أن غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعد أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعية غير اختيارية لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدو غالب كالفأرة إذا رأت هرة أو الغزالة إذا شاهدت أسدا فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريتين في الحيوان غير الإنسان.
لكن التأمل في معنى الاختيار و الحالات النفسية التي يتوسل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختيارية يدفع هذه الشبهة و ذلك أن الشعور و الإرادة الذين يتم بهما فعل الإنسان الاختياري بالحقيقة إنما أودعا في الإنسان مثلا لأنه نوع شعوري يتصرف في المادة الخارجية للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه مما يضره، و لذلك جهزته العناية الإلهية بالشعور و الإرادة فهو يميز بشعوره الحي ما يضره مما ينفعه فإذا تحقق النفع أراد ففعل فما كان من الأمور بين النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه مما ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به إرادة من فوره و فعله و تصرف فيه من غير توقف كما في موارد الملكات الراسخة غالبا مثل التنفس، و أما ما كان من الأمور غير بين النفع موسوما بنقص من الأسباب أو محفوفا بشيء من الموانع الخارجية أو الاعتقادية لم يكف مجرد العلم بتحققه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به.
فهذه الأمور هي التي يتوقف الانبعاث إليها إلى التفكر مثلا فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروي فيها ليميز بذلك إنما هل هي من قبيل النافع أو الضار؟ فإن أنتج التروي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلقة بها و فعلت كما لو كانت بينة النفع غير محتاجة إلى التروي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاء يمكنه أن يسد به خلة الجوع فربما شك في أمره أنه هل هو غذاء طيب صالح لأن يتغذى به أو أنه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على مواد مضرة؟ و أنه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرف فيه؟ و حينئذ يتوقف عن المبادرة إلى التصرف فيه، و لا يزال يتروى حتى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقا لما ينتفع فلا يتوقع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرف فيه.
و إن لم يشك في أمره و كان بينا عنده من أول الأمر أنه طيب صالح للتغذي إرادة إذا علم بوجوده من غير ترو أو تفكر، و لم ينفك العلم به عن إرادة التصرف فيه قطعا.
فمحصل حديث الاختيار أن الإنسان إذا لم يتميز عنده بعض الأمور التي يتصرف فيها أنها نافعة أو ضارة ميز ذلك بالتروي و التفكر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، و أما لو تميز من أول الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى ترو أصلا فالإنسان يختار ما يرى نفعه بترو أو من غير ترو و لا تروي إلا لرفع الموانع عن الحكم.
ثم إنك إذا تأملت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادىء اختيارهم أعني الصفات الروحية و الأحوال الباطنية من شجاعة و جبن و عفة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفة، و كذا في قوة التعقل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيرا ما يرى الشره نفسه مضطرة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهر، و ربما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمة أو مقتلة عذرا لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أي زجر بدني أمرا فوق الطاقة، و لا يرى لأي مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصور، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجحات إلا تلهيا و لعبا، و أفعال الصبيان غير المميزين اختيارية معها بعض التروي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيرا ما نعد في محاوراتنا فعلا من أفعالنا اضطراريا أو إجباريا إذا قارن أعذارا اجتماعية غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر.
و هذا الاختلاف الفاحش في مبادىء الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختيارية هو الذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعية أن يحدوا الفعل الاختياري بما يراه المتوسط من أفراد المجتمع الإنساني اختياريا، و يبنوا على ذلك صحة تعلق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقق فيه ما يتحقق في الفعل الاختياري الذي يأتي به الإنسان المتوسط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسط من الاستطاعة و الفهم.
فهذا الوسط المعدود اختيارا النافي لاختيارية ما دونه إنما هو كذلك بحسب الحكم الديني أو الاجتماعي المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكويني أوسع من ذلك.
و الإمعان فيما تقدم يعطي أن يجزم بأن الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف مما نجده في المتوسط من الناس من معنى الاختيار و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصة الحيوانات الأهلية من آثار التردد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط.
و إذا صح أن الحيوان غير الإنسان لا يخلو عن معنى الاختيار في الجملة و إن كان ضعيفا فمن الجائز أن يجعل الله سبحانه المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها لا نحيط بها، أو يعاملها بما لها من موهبة الاختيار بنحو آخر لا معرفة لنا به إلا أنه فيها بنحو يصحح الإنعام عليها عند الموافقة، و مؤاخذتها و الانتقام منها عند المخالفة بما الله سبحانه أعلم به.
و قوله تعالى: «ما فرطنا في الكتاب من شيء» جملة معترضة، و ظاهرها أن المفرط فيه هو الكتاب، و لفظ «من شيء» بيان للفرط الذي يقع التفريط به، و المعنى لا يوجد شيء تجب رعاية حاله و القيام بواجب حقه و بيان نعته في الكتاب إلا و قد فعل من غير تفريط، فالكتاب تام كامل.
و المراد بالكتاب إن كان هو اللوح المحفوظ الذي يسميه الله سبحانه في موارد من كلامه كتابا مكتوبا فيه كل شيء مما كان و ما يكون و ما هو كائن، كان المعنى أن هذه النظامات الأممية المماثلة لنظام الإنسانية كان من الواجب في عناية الله سبحانه أن يبني عليها خلقة الأنواع الحيوانية فلا يعود خلقها عبثا و لا يذهب وجودها سدى، و لا تكون هذه الأنواع بمقدار ما لها من لياقة القبول ممنوعة من موهبة الكمال.
فالآية على هذا تفيد بنحو الخصوص ما يفيده بنحو العموم، قوله تعالى: «و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء: 20، و قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم»: هود: 56.
و إن كان هو القرآن الكريم و قد سماه الله كتابا في مواضع من كلامه، كان المعنى أن القرآن المجيد لما كان كتاب هداية يهدي إلى صراط مستقيم على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها في الإرشاد إلى صريح الحق و محض الحقيقة لم يفرط فيه في بيان كل ما يتوقف على معرفته سعادة الناس في دنياهم و آخرتهم كما قال تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل: 89.
و مما يجب أن يعرفه الناس في سبيل تفقه أمر المعاد أن يتبينوا كيفية ارتباط الحشر و هو البعث يوم القيامة على نهج الاجتماع بالتشكل الأممي في الدنيا، و أن ذلك هو الذي يجدونه بين أنفسهم و يجدونه بين سائر الأنواع الحيوانية، و يترتب عليه دون ذلك فوائد أخرى كالتبصر في توحيد الله تعالى و لطيف قدرته و عنايته بأمر الخليقة و النظام العام الجاري في العالم، و من أهم فوائده معرفة أن الموجود آخذ في سلسلته من النقص إلى الكمال، و بعض قطعاتها المشتملة على حلقات الحيوان الشامل للإنسان و ما دونه مراتب مختلفة مترتبة آخذة من المراتب القاطنة في أفق النبات إلى المراتب المجاورة لمرتبة الإنسان ثم الإنسان.
و قد ندب الله سبحانه الناس إلى معرفة الحيوان و النظر في الآيات المودعة في وجوده أبلغ الندب، و عد ذلك موصلا إلى أفضل النتائج العلمية الملازمة للسعادة الإنسانية و هو اليقين بالله سبحانه حيث قال: «و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون»: الجاثية: 4، و الآيات في الحث على النظر في أمر الحيوان كثيرة في القرآن الكريم.
و من الممكن أن يشار في الآية إلى كلا المعنيين فيراد في الكتاب مطلق الكتاب، و يكون المعنى أن الله سبحانه لا يفرط فيما يكتب من شيء، أما في كتاب التكوين فإنه يقضي و يقدر لكل نوع ما في استحقاقه أن يناله من كمال الوجود كالأنواع الحيوانية هيأ لكل منها من سعادة الحياة الأممية الاجتماعية ما هيأه للإنسان لما رأى من صلوحها لذلك فلم يفرط في أمرها، و أما في كتابه الذي هو كلامه الموحى إلى الناس فإنه يبين فيه ما في معرفته خير الناس و سعادة عاجلهم و آجلهم و لا يفرط في ذلك، و من ذلك أنه لم يفرط في أمر الأمم الحيوانية، و بين في هذه الآية حقيقة ما وهبه لها من نوع السعادة الوجودية التي جعلتهم أمما حية سائرة بوجودها إلى الله سبحانه محشورة إليه كالإنسان.
و قوله تعالى: «ثم إلى ربهم يحشرون» بيان لعموم الحشر لهم و أن حياتهم الموهوبة نوع حياة تستتبع الحشر إلى الله كما أن الحياة الإنسانية كذلك، و لذلك أرجع الضمير المستعمل في أولي الشعور و العقل، فقال: «إلى ربهم يحشرون» إشارة إلى أن أصل الملاك و هو الأمر الذي يدور عليه الرضا و السخط و الإثابة و المؤاخذة موجود فيهم.
و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ثم إلى الغيبة بالنسبة إليه تعالى، و التدبر فيها يعطي أن الأصل في السياق الغيبة و إنما تحول السياق في قوله: «ما فرطنا في الكتاب من شيء» إلى التكلم مع الغير لكون المعترضة خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما فرغ منه رجع إلى أصل السياق.
و من عجيب ما قيل في الآية استدلال بعضهم بها على التناسخ و هو أن تتعلق نفس الإنسان بعد مفارقتها البدن بالموت ببدن واحد من الحيوان يناسبها في الخلق الرذيل الذي رسخ فيها كأن تتعلق نفس المكار بدن ثعلب، و نفس المفسد الحقود ببدن الذئب، و نفس من يتبع سقطات الناس و عوراتهم ببدن خنزير، و نفس الشره الأكول ببدن البقر، و هكذا و لا تزال تنتقل من بدن إلى بدن و تعذب بذلك هذا إن كانت شقية ذات أخلاق رذيلة، و إن كانت سعيدة تعلقت بعد الموت ببدن سعيد منعم بسعادته من أفاضل أفراد الإنسان و معنى الآية على هذا: ما من حيوان من الحيوانات إلا أمم إنسانية أمثالكم انتقلت بعد الموت إلى صور الحيوانات.
و قد ظهر مما تقدم أن الآية في معزل من هذا المعنى، على أن ذيل الآية: «ثم إلى ربهم يحشرون» لا يلائم هذا المعنى، على أن أمثال هذه الأقاويل من وضوح الفساد بحيث لا طائل في التعرض لها و البحث عن صحتها و سقمها.
و من عجيب ما قيل فيها أيضا: إن المراد بحشر الحيوان موتها فلا بعث بعد ذلك أو مجموع الموت و البعث.
أما الأول فينفيه ظاهر قوله: «إلى ربهم» إذ لا معنى للموت إلى الله، و أما الثاني فهو من الالتزام بما لا يلزم إذ لا موجب لضم الموت إلى البعث في المعنى، و لا أن في الآية ما يستوجبه.
قوله تعالى: «و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم في الظلمات» إلى آخر الآية يريد تعالى أن المكذبين لآياته محرومون من نعمة السمع و التكلم و البصر لكونهم في ظلمات لا يعمل فيها البصر فهم لصممهم لا يقدرون على أن يسمعوا الكلام الحق و أن يستجيبوا له، و لبكمهم لا يستطيعون أن يتكلموا بالقول الحق و يشهدوا بالتوحيد و الرسالة، و لإحاطة الظلمات بهم لا يسعهم أن يبصروا طريق الحق فيتخذوه طريقا.
و في قوله تعالى: «من يشأ الله يضلله» إلخ، دلالة على أن هذا الصمم و البكم و الوقوع في الظلمات إنما هي رجز وقع عليهم منه تعالى جزاء لتكذيبهم بآيات الله فإن الله سبحانه جعل إضلاله المنسوب إليه من قبيل الجزاء، كما في قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26.
فتكذيب آيات الله غير مسبب عن كونهم صما بكما في الظلمات بل الأمر بالعكس و على هذا فالمراد بالإضلال بحسب الانطباق على المورد هو جعلهم صما بكما في الظلمات و المراد بمن شاء الله ضلاله هم الذين كذبوا بآياته.
و بالمقابلة يظهر أن المراد بالجعل على صراط مستقيم هو أن يعطيه سمعا يسمع به فيجيب داعي الله بلسانه و يتبصر بالحق ببصره، و أن هذا جزاء من لا يكذب بآيات الله سبحانه فمن يشأ الله يضلله و لا يشاء إلا إضلال من يستحقه و من يشأ يجعله على صراط مستقيم و لا يشاء ذلك إلا لمن تعرض لرحمته.
و قد تقدم البحث عن حقيقة معنى ما يصفهم الله تعالى به من الصمم و البكم و العمى و ما يشابه ذلك من الصفات، و قد عني في الآية بنكتة أخرى، و هي ما يفيده الوصل و الفصل في قوله: «صم و بكم في الظلمات» حيث ذكر الصمم و هو من أوصافهم ثم ذكر البكم و عطفه عليه و هو صفة ثانية، ثم ذكر كونهم في الظلمات و لم يعطفها و هي صفة ثالثة، و بالجملة وصل بعض الصفات و فصل بعضها، و قد أتى في مثل الآية بحسب المعنى بالفصل أعني قوله في المنافقين: «صم بكم عمي»: البقرة: 18، و في آية أخرى يماثلها بالعطف و هي قوله في الكفار: «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة»: البقرة: 7.
و لعل النكتة في الآية التي نحن فيها أعني قوله: «صم و بكم في الظلمات «، الإشارة إلى كون من هم صم غير الذين هم بكم فالصم هم الجهلاء المقلدون الذين يتبعون كبراءهم فلا يدع لهم ذلك سمعا يسمعون به الدعوة الحقة، و البكم هم العظماء المتبوعون الذين لهم علم بصحة الدعوة إلى التوحيد و بطلان الشرك، غير أنهم لعنادهم و بغيهم بكم لا تنطلق ألسنتهم إلى الاعتراف بكلمة الحق و الشهادة بها، و الطائفتان جميعا تشتركان في أنهما واقعتان في ظلمة لا يتبصر فيها إلى الحق، و لا يسع غيرهما أن يبصرهما بشيء من الإشارات لمكان وقوعهما في الظلمات فلا تنجح فيها الإشارة.
و يؤيد ذلك أن الكلام المسرود في الآيات يعم الطائفتين جميعا كما يشير إليه قوله تعالى في الآيات السابقة: «و هم ينهون عنه و ينأون عنه»: آية: 26، و كذا قوله: «و لكن أكثرهم لا يعلمون»: آية: 37.
هذا في الآية التي نحن فيها، و أما آية المنافقين: «صم بكم عمي»، فالعناية فيها باجتماع جميع هذه الصفات فيهم في زمان واحد لانقطاعهم عن رحمة الله من كل جهة، و أما آية الكفار: «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة» فقد تعلقت العناية فيها بكون ختم السمع من غير جنس ختم القلوب كما حكاه عنهم في قوله: «و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه و في آذاننا وقر و من بيننا و بينك حجاب»: حم السجدة: 5 و ربما وجهت الآية بغير ذلك من الوجوه.
قوله تعالى: «قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة» إلى آخر الآيتين لفظ «أ رأيتكم» بهمزة الاستفهام و صيغة المفرد المذكر الماضي من الرؤية و ضمير الجمع المخاطب، أخذه أهل الأدب بمعنى أخبرني، قال الراغب في المفردات:، و يجري «أ رأيت» مجرى أخبرني فيدخل عليه الكاف و يترك التاء على حالته في التثنية و الجمع و التأنيث، و يسلط التغيير على الكاف دون التاء، قال تعالى: «أ رأيتك هذا الذي» قل أ رأيتكم، انتهى.
و في الآية تجديد احتجاج على المشركين، و إقامة حجة على بطلان شركهم من وجه، و هو أنها تفرض عذابا آتيا من جانب الله أو إتيان الساعة إليهم ثم تفرض أنهم يدعون في ذلك من يكشف العذاب عنهم على ما هو المغروز في فطرة الإنسان أنه يتوجه بالمسألة إذا بلغت به الشدة نحو من يقدر أن يكشفها عنه.
ثم تسألهم أنه من الذي تدعونه و تتوجهون إليه بالمسألة إن كنتم صادقين؟ أ غير الله تدعون من أصنامكم و أوثانكم التي سميتموها من عند أنفسكم آلهة أم إياه تدعون؟ و هيهات أن تدعوا غيره و أنتم تشاهدون حينئذ أنها محكومة بالأحكام الكونية مثلكم لا ينفعكم دعاؤها شيئا.
بل تنسون هؤلاء الشركاء المسمين آلهة لأن الإنسان إذا أحاطت به البلية و هزهزته الهزاهز ينسى كل شيء دون نفسه إلا أن في نفسه رجاء أن ترتفع عنه البلية، و الرافع الذي يرجو رفعها منه هو ربه، فتنسون شركاءكم و تدعون من يرفعها من دونهم و هو الله عز اسمه فيكشف الله سبحانه ما تدعون كشفه إن شاء أن يكشفه، و ليس هو تعالى بمحكوم على الاستجابة و لا مضطرا إلى الكشف إذا دعي بل هو القادر على كل شيء في كل حال.
فإذا كان الله سبحانه هو الرب القدير الذي لا ينساه الإنسان و إن نسي كل شيء إلا نفسه و يضطر إلى التوجه إليه ببعث من نفسه عند الشدائد القاصمة الحاطمة دون غيره من الشركاء المسمين آلهة فهو سبحانه هو رب الناس دونها.
فمعنى الآية «قل» يا محمد «أ رأيتكم» أخبروني «إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة» فرض إتيان عذاب من الله و لا ينكرونه، و فرض إتيان الساعة و لم يعبأ بإنكارهم لظهوره «أ غير الله تدعون» لكشفه، و قد حكى الله في كلامه عنهم سؤال كشف العذاب في الدنيا و يوم القيامة جميعا لما أن ذلك من فطريات الإنسان «إن كنتم صادقين» و جئتم بالنصفة «بل إياه» الله سبحانه دون غيره من أصنامكم «تدعون فيكشف ما تدعون إليه» من العذاب «إن شاء» أن يكشفه كما كشف لقوم يونس، و ليس بمجبر و لا مضطرا إلى القبول لقدرته الذاتية «و تنسون ما تشركون» من الأصنام و الأوثان على ما في غريزة الإنسان أن يشتغل عند إحاطة البلية به عن كل شيء بنفسه، و لا يهم إلا بنفسه لضيق المجال به أن يتلهى بما لا ينفعه، فاشتغاله و الحال هذه بدعاء الله سبحانه و نسيانه الأصنام أصرح حجة أنه تعالى هو الله لا إله غيره و لا معبود سواه.
و بما تقدم من تقرير معنى الآية يتبين أولا: أن إتيان العذاب أو الساعة، و كذا الدعاء لكشفه مفروضان في حجة الآية، و المطلوب بيان أن المدعو حينئذ هو الله عز اسمه دون الأصنام، و أما أصل الدعاء عند الشدائد و المصائب، و أن للإنسان توجها جبليا عند ما تطل عليه البلية و يتقطع عنه كل سبب إلى من يكشفها عنه فهو حجة أخرى غير هذه الحجة، و المطلوب بهذه الحجة - و هي التي في هذه الآية - التوحيد و بتلك الحجة إثبات الصانع من غير نظر إلى توحيده، و إن تلازم المطلوبان.
و ثانيا: أن تقييد قوله: «فيكشف ما تدعون إليه»، بقوله: «إن شاء» لبيان إطلاق القدرة فلله سبحانه أن يكشف كل شديدة حتى الساعة التي لا ريب فيها، فإن قضاءه الحتم لأمر من الأمور و إن كان يحتمه و يوجبه لكنه لا يسلب عنه القدرة على الترك فله القدرة المطلقة على ما قضى به، و ما لم يقض به و مثل الساعة في ذلك كل عذاب غير مردود و أمر محتوم إن يشأ يأت به و إن لم يشأ لم يأت به و إن كان يشاء دائما ما قضى به قضاء حتما و وعده وعدا جزما و الله لا يخلف الميعاد فافهم ذلك.
و له سبحانه أن لا يجيب دعوة أي داع دعاه و إن عرف نفسه بأنه مجيب، فقال: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة: 186 و وعد الاستجابة لداعيه وعدا بتيا، فقال: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن: 60 فإن وعد الاستجابة لا يسلب عنه القدرة على عدم الاستجابة و إن كان يستجيب دائما كل من دعاه بحقيقة الدعاء، و تجري على ذلك سنته صراطا مستقيما لا تخلف فيه.
و من هنا يظهر فساد ما استشكل على الآية بأن مدلولها يخالف ما دلت عليه نصوص الكتاب و السنة أن الساعة لا ريب فيها و لا محيص عن وقوعها و أن عذاب الاستئصال لا مرد له، و قد قال تعالى: «و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال»: المؤمن: 50. وجه الفساد أن الآية لا تدل على أزيد من أن الله سبحانه أن يفعل ما يشاء و أنه قادر على كل شيء، و أما أنه يشاء كل شيء و يفعل كل شيء فلا دلالة فيها على ذلك و لا ريب أن قضاءه الحتمي بوقوع الساعة أو بعذاب قوم عذاب استئصال لا يبطل قدرته على خلافه فله أن يخالف إن شاء و إن كان لا يخلف الميعاد و لا ينقض ما أراد.
و أما قوله تعالى: «و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال» فهو دعاؤهم في جهنم لكشف عذابها و تخفيفه عنهم، و من المعلوم أن الدعاء مع تحتم الحكم و فصل القضاء لا يتحقق بحقيقته فإن سؤال أن لا يبعث الله الخلق أو لا يعذب أهل جهنم فيها من الله سبحانه بمنزلة أن يسأل الله سبحانه أن لا يكون هو الله سبحانه فإن من لوازم معنى الألوهية أن يرجع إليه الخلق على حسب أعمالهم فلمثل هذه الأدعية صورة الدعاء فقط دون حقيقة معناها، و أما لو تحقق الدعاء بحقيقته بأن يدعى حقيقة و يتعلق ذلك الدعاء بالله حقيقة كما هو ظاهر قوله: «أجيب دعوة الداع إذا دعان» الآية، فإن ذلك لا يرد البتة، و الدعاء على هذا النعت لا يدع الكافر كافرا و لو حين الدعاء كما قال تعالى: «فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون»: العنكبوت: 65.
فما في قوله: «و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال» دعاء منهم و هم على الكفر فإن الثابت من ملكة الكفر لا يفارقهم في دار الجزاء و إن كان من الجائز أن يفارقهم في دار العمل بالتوبة و الإيمان.
فدعاؤهم لكشف العذاب عنهم يوم القيامة أو في جهنم ككذبهم على الله يوم القيامة بقولهم - كما حكى الله - و الله ربنا ما كنا مشركين، و لا ينفع اليوم كذب غير أنهم اعتادوا ذلك في الدنيا و رسخت رذيلتهم في نفوسهم فبرزت عنهم آثاره يوم تبلى السرائر، و نظير أكلهم و شربهم و خصامهم في النار، و لا غنى لهم في شيء من ذلك، كما قال تعالى: «تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع»: الغاشية: 7، و قال تعالى: «ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم»: الواقعة: 55، و قال تعالى: «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار»: ص: 64، فهذا كله من قبيل ظهور الملكات فيهم.
و ما قبل الآية يؤيد ما ذكرناه من أن دعاءهم ليس على حقيقته و هو قوله تعالى: «و قال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب، قالوا أ و لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال»: المؤمن: 50، فإن مسألتهم خزنة النار أن يدعوا الله لهم في تخفيف العذاب ظاهر في أنهم آيسون من استجابة دعائهم أنفسهم، و الدعاء مع اليأس عن الاستجابة ليس دعاء و مسألة حقيقية إذ لا يتعلق الطلب بما لا يكون البتة.
و ثالثا: أن النسيان في قوله: «و تنسون ما تشركون» حقيقة معناه على ما هو المشهود من حال الإنسان عند ما تغشاه الشدائد و الخطوب إذ يشتغل بنفسه و ينسى كل أمر دونها إلا الله سبحانه فلا موجب للالتزام بما ذكره بعضهم: أن المراد بقوله: «و تنسون ما تشركون» تعرضون عنها إعراض من نسي الشيء عنه.
و إن كان لا مانع من ذلك لكونه من المجازات الشائعة لكلمة النسيان، و قد استعمل في القرآن النسيان بمعنى الإعراض عن الشيء و عدم الاعتناء به كثيرا كما قال تعالى: «و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا»: الجاثية: 34 إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء و الضراء لعلهم يتضرعون» البأساء و البأس و البؤس هو الشدة و المكروه إلا أن البؤس يكثر استعماله في الحرب و نحوه و البأس و البأساء في غيره كالفقر و الجدب و القحط و نحوها، و الضر و الضراء هو سوء الحال فيما يرجع إلى النفس كغم و جهل أو ما يرجع إلى البدن كمرض و نقص بدني أو ما يرجع إلى غيرهما كسقوط جاه أو ذهاب مال، و لعل المقصود من الجمع بين البأساء و الضراء الدلالة على تحقق الشدائد في الخارج كالجدب و السيل و الزلزلة، و ما يعود إلى الناس من قبلها من سوء الحال كالخوف و الفقر و رثاثة الحال.
و الضراعة هي المذلة و التضرع التذلل و المراد به التذلل إلى الله سبحانه لكشف ما نزل عليهم من نوازل الشدة و الرزية.
و الله سبحانه يذكر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات سنته في الأمم التي من قبله إذ جاءتهم رسلهم بالبينات: أنه كان يرسل إليهم الرسل فيذكرونهم بتوحيد الله سبحانه و التضرع و إخلاص الإنابة إليه ثم يبتليهم بأنواع الشدة و المحن و يأخذهم بالبأساء و الضراء و لكن بمقدار لا يلجئهم إلى التضرع و لا يضطرهم إلى الابتهال و الاستكانة لعلهم يتضرعون إليه بحسن اختيارهم، و يلين قلوبهم فيعرضوا عن التزيينات الشيطانية و عن الإخلاد إلى الأسباب الظاهرية لكنهم لم يتضرعوا إليه بل أقسى الاشتغال بأعراض الدنيا قلوبهم و زين لهم الشيطان أعمالهم، و أنساهم ذلك ذكر الله.
فلما نسوا ذكر الله سبحانه فتح الله عليهم أبواب كل شيء و صب عليهم نعمه المتنوعة صبا حتى إذا فرحوا بما عندهم من النعم و اغتروا و استقلوا بأنفسهم من دون الله أخذهم الله بغتة و من حيث لا يشعرون به فإذا هم آيسون من النجاة شاهدون سقوط ما عندهم من الأسباب فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين.
و هذه السنة سنة الاستدراج و المكر الذي لخصها الله تعالى في قوله: «و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين»: الأعراف: 183.
و بالتأمل فيما تقدم من تقرير معنى الآية و التدبر في سياقها يظهر أن الآية لا تنافي سائر الآيات الناطقة بأن الإنسان مفطور على التوحيد ملجأ باقتضاء من فطرته و جبلته إلى الإقرار به و التوجه إليه عند الانقطاع عن الأسباب الكونية كما قال تعالى: «و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد و ما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور»: لقمان: 32.
و ذلك أن الآية لا تريد من البأساء و الضراء إلا ما لا يبلغ من الشدة و المهابة مبلغا يذهلون به عن كل سبب و ينسون به كل وسيلة عادية، و من الدليل على ذلك قوله في الآية: «لعلهم يتضرعون» إذ «لعل» كلمة رجاء و لا رجاء مع الإلجاء و الاضطرار، و كذا قوله تعالى: «و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون» فإن ظاهره أنهم اغتروا بذلك و توسلوا في رفع البأساء و الضراء إلى أعمالهم التي عملوها بأيديهم و دبروها بتدابيرهم للغلبة على موانع الحياة و أضداد العيش فاشتغلوا بالأسباب الطبيعية الملهية إياهم عن التضرع إلى الله سبحانه و الاعتصام به، كقوله تعالى: «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين»: المؤمن: 84، فالآية الأولى - كما ترى - تحكي عنهم نظير ما تحكيه الآية التي نحن فيها من الإعراض عن التضرع و الاغترار بالأعمال، و الآية الثانية تحكي ما تحكيه الآيات الأخرى من التوحيد في حال الاضطرار.
و من هنا يظهر فساد ما يظهر من بعضهم أن ظاهر الآية كون الأمم السابقة مستنكفة عن التوحيد معرضة عن التضرع حتى في الشدائد الملجئة قال في تفسير الآية: أقسم الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أرسل رسلا قبله إلى أمم قبل أمته فكانوا أرسخ من قومه في الشرك، و أشد منهم إصرارا على الظلم فإن قومه يدعون الله وحده عند شدة الضيق، و ينسون ما اتخذوه من الأولياء و الأنداد، و أما تلك الأمم فلم تلن الشدائد قلوبهم، و لم تصلح ما أفسد الشيطان من فطرتهم، انتهى.
و لازم ما ذكره أن لا يكون التوحيد فطريا يظهر عند ارتفاع الأوهام الشاغلة و الانقطاع عن الأسباب الظاهرة أو أن يمكن إبطال حكم الفطرة من أصله، و قد قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»: الروم: 30 فأفاد أن دين التوحيد فطري، و أن الفطرة لا تقبل التغيير بمغير و أيد ذلك بآيات أخر ناصة على أن الإنسان عند انقطاعه عن الأسباب يتوجه إلى ربه بالدعاء مخلصا له الدين لا محالة.
على أن الإقرار بالإله الواحد عند الشدة و الانقطاع مما نجده من أنفسنا وجدانا ضروريا و لا يختلف في ذلك الإنسان الأولي و إنسان اليوم البتة.
قوله تعالى: «فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا و لكن قست قلوبهم» إلخ، «لو لا» للتحضيض أو للنفي، و على أي حال تفيد في المقام فائدة النفي بدليل قوله: «و لكن قست قلوبهم» و قسوة القلب مقابل لينه، و هو كون الإنسان لا يتأثر عن مشاهدة ما يؤثر فيه عادة أو عن استماع كلام شأنه التأثير.
و المعنى: فلم يتضرعوا حين مجيء البأس و لم يرجعوا إلى ربهم بالتذلل بل أبت نفوسهم أن تتأثر عنه، و تلهوا بأعمالهم الشيطانية الصارفة لهم عن ذكر الله سبحانه، و أخلدوا إلى الأسباب الظاهرة التي كانوا يرون استقلالها في إصلاح شأنهم.
قوله تعالى: «فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء» إلخ، المراد بفتح أبواب كل شيء إيتاؤهم من كل نعمة من النعم الدنيوية التي يتنافس فيها الناس للتمتع من مزايا الحياة من المال و البنين و صحة الأبدان و الرفاهية و الخصب و الأمن و الطول و القوة، كل ذلك توفيرا من غير تقتير و منع كما أن خزانة المال إذا أعطي منها أحد بقدر و ميزان فتح بابها فأعطي ما أريد ثم سد، و أما إذا أريد الإعطاء من غير تقدير فتح بابها و لم يسد على وجه قاصده بالجملة كناية عن إيتائهم أنواع النعم من غير تقدير على ما يساعده المقام.
على أن فتح الباب إنما يناسب بحسب الطبع الحسنات و النعم و أما السيئات و النقم فإنما تتحقق بالمنع و يناسبها سد الباب كما يلمح إليه قوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده»: فاطر: 2.
و مبلسون من أبلس إبلاسا، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس - إلى أن قال - و لما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت و ينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان إذا سكت و إذا انقطعت حجته، انتهى.
و على هذا المعنى المناسب لقوله: «فإذا هم مبلسون» أي خامدون منقطعوا الحجة.
و معنى الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به أو أعرضوا عنه آتيناهم من كل نعمة استدراجا حتى إذا تمت لهم النعم و فرحوا بما أوتوا منها أخذناهم فجأة فانخمدت أنفاسهم و لا حجة لهم لاستحقاقهم ذلك.
قوله تعالى: «فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين» دبر الشيء مقابل قبله و هما الجزءان: المقدم و المؤخر من الشيء، و لذا يكنى بهما عن العضوين المخصوصين، و ربما توسع فيهما فأطلقا على ما يلي الجزء المقدم أو المؤخر فينفصلان عن الشيء، و قد اشتق منهما الأفعال بحسب المناسبة نحو أقبل و أدبر و قبل و دبر و تقبل و تدبر و استقبل و استدبر، و من ذلك اشتقاق دابر بمعنى ما يقع خلف الشيء و يليه من ورائه، و يقال: أمس الدابر أي الواقع خلف اليوم كما يقال: عام قابل، و يطلق الدابر بهذا المعنى على أثر الشيء كدابر الإنسان على أخلافه و سائر آثاره، فقوله: «فقطع دابر القوم الذين ظلموا» أي إن الهلاك استوعبهم فلم يبق منهم عينا و لا أثرا أو أبادهم جميعا فلم يخلص منهم أحد كما قال تعالى: «فهل ترى لهم من باقية»: الحاقة: 8.
و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: «دابر القوم الذين ظلموا» دون أن يقال: دابرهم للدلالة على سبب الحكم و هو الظلم الذي أفنى جمعهم و قطع دابرهم، و هو مع ذلك يمهد السبيل إلى إيراد قوله: «و الحمد لله رب العالمين».
و من هذه الآية بما تشتمل على وصفهم بالظلم و على حمده تعالى بربوبيته تتحصل الدلالة على أن اللوم و السوء في جميع ما حل بهم من عذاب الاستئصال يرجع إليهم لأنهم القوم الذين ظلموا، و أنه لا يعود إليه تعالى إلا الثناء الجميل لأنه لم يأت في تدبير أمرهم إلا بما تقتضيه الحكمة البالغة، و لم يسقهم في سبيل ما انتهوا إليه إلا إلى ما ارتضوه بسوء اختيارهم فقد تحقق أن الخزي و السوء على الكافرين، و أن الحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: «قل أ رأيتم إن أخذ الله سمعكم و أبصاركم» إلى آخر الآية، أخذ السمع و الأبصار هو سلب قوتي السمع و الإبصار و هو الإصمام و الإعماء و الختم على القلوب إغلاق بابها إغلاقا لا يدخلها معه شيء من خارج حتى تتفكر في أمرها، و تميز الواجب من الأعمال من غير: و الخير النافع منها من الشر الضار مع حفظ أصل الخاصية و هو صلاحية التعقل و إلا كان جنونا و خبلا.
و إذ كان هؤلاء المشركون لا يسمعون حق القول في الله سبحانه و لا يبصرون آياته الدالة على أنه واحد لا شريك له فصارت قلوبهم لا يدخلها شيء من واردات السمع و البصر حتى تعرف بذلك الحق من الباطل أقام الحجة بذلك على إبطال مذهبهم في أمر الإله تعالى و وحدته.
و ملخصها أن القول بثبوت شركاء لله يستلزم القول ببطلانه و ذلك أن القول بالشركاء لإثبات الشفاعة، و هي أن تشفع و تتوسط في جلب المنافع و دفع المضار، و إذ كانت الشركاء شفعاء على الفرض كان لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء من غير مصادفة مانع يمانعه أو ضد يضاده فلو سلب الله عنكم سمعكم و أبصاركم و ختم على قلوبكم فعل ذلك و لم يعارضه أحد من شركائكم لأنها شفعاء متوسطة لا أضداد معارضة، و لو فعل ذلك و سلب ما سلب لم يقدر أحد منها أن يأتيكم به لأنها شفعاء وسائط لا مصادر للخلق و الإيجاد.
و إذا لم يقدر على إيتاء نفع أو إذهاب ضر فما معنى ألوهيتها فليس الإله إلا من يوجد و يعدم و يتصرف في الكون كيف شاء، و إنما اضطرت الفطرة الإنسانية إلى الإقرار بأن للعالم إلها من جهة الحصول على مبدإ حوادث الخير و الشر التي تشاهدها في الوجود، و إذ كان شيء لا يضر و لا ينفع في جنب الحوادث شيئا فليس تسميته إلها إلا لغوا من القول.
و ليس لإنسان صحيح العقل و التمييز أن يجوز كون صورة حجرية أو خشبية أو فلزية عملته يد الإنسان و صنعته فكرته خالقا للعالم أو متصرفا فيه بالإيجاد و الإعدام و كذا كون رب الصنم ربا معبودا أبدع العالم على غير مثال سابق مع الاعتراف بكونه عبدا مربوبا.
و الحجة تعود بتقرير آخر إلى أن معنى الألوهية يأبى عن الصدق على الشريك بمعنى الشفيع المتوسط فإن مبدئية الصنع و الإيجاد لازم معناها الاستقلال في التصرف و التعين في استحقاق خضوع المصنوع المربوب، و الواسطة المفروضة إن كان لها استقلال في العمل كانت أصلا و مبدأ لا واسطة و شفيعا و إن لم يكن له حظ من الاستقلال كانت أداة آلة لها مبدأ و إلها.
و لذا كانت الأسباب الكونية أيا ما فرضت ليس لها إلا معنى الإله و الأداة كسببية الأكل للشبع و الشرب للري و الوالدين للولد و القلم للكتابة و المشي لانطواء المسافة و هكذا.
و قوله: «انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون» تصريف الآيات تحويلها إلى نحو أفهامهم، و الصدوف الإعراض، يقال: صدف يصدف صدوفا إذا مال عن الشيء.
قوله تعالى: «قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة» إلى آخر الآية، الجهرة الظهور التام الذي لا يقبل الارتياب و لذا قابلت البغتة التي هي إتيان الشيء فجأة لا يظهر على من أتاه إلا بعد إتيانه و غشيانه فلا يترك له مجال التحذر.
و هذه حجة بين فيها على وجه العموم أن الظالمين على خطر من عذاب الله عذابا لا يتخطاهم، و لا يغلط في إصابتهم بإصابة من سواهم، ثم بين أنهم هم الظالمون لفسقهم عن الدعوة الإلهية و تكذيبهم بآيات الله تعالى.
و ذلك أن معنى العذاب ليس إلا إصابة المجرم بما يسوؤه و يدمره من جزاء إجرامه و لا إجرام إلا مع ظلم فلو أتاهم من قبل الله سبحانه عذاب لم يهلك به إلا الظالمون، فهذا ما يدل عليه الآية ثم بين الآيتين التاليتين أنهم هم الظالمون.
قوله تعالى: «و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين» إلى آخر الآيتين يبين بالآيتين أنهم هم الظالمون، و لا يهلك بعذاب الله إن أتاهم إلا لظلمهم.
و لذا غير سياق الكلام فوجه وجه البيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون هو المخبر عن شأن عذابه فيكون أقطع للعذر و جيء بلفظ المتكلم ليدل به على صدوره من ساحة العظمة و الكبرياء.
فكان ملخص المضمون أمره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عليهم الحجة أن لو أتاهم عذاب الله لم يهلك إلا الظالمين منهم ثم يقول تعالى لرسوله: إنا نحن الملقين إليك الحجة الآتين بالعذاب نخبرك أن إرسالنا الرسل إنما هو للتبشير و الإنذار فمن آمن و أصلح فلا عليه، و من كذب بآياتنا فهو الذي يمسه عذابنا لفسقه و خروجه عن طور العبودية فلينظروا في أمر أنفسهم من أي الفريقين هم؟.
و قد تقدم في المباحث السابقة استيفاء البحث عن معنى الإيمان و الإصلاح و الفسق و معنى نفي الخوف و الحزن عن المؤمنين.
قوله تعالى: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك» لعل المراد بخزائن الله ما ذكره بقوله تعالى: «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق»: الإسراء: 100 و خزائن الرحمة هذه هي ما يكشف عن أثره، قوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك له» الآية،: فاطر: 2 و هي فائضة الوجود التي تفيض من عنده تعالى على الأشياء من وجودها، و آثار وجودها و قد بين قوله تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82 أن مصدر هذا الأثر الفائض هو قوله، و هو كلمة «كن» الصادرة عن مقام العظمة و الكبرياء، و هذا هو الذي يخبر عنه بلفظ آخر في قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.
فالمراد بخزائن الله هو المقام الذي يعطي بالصدور عنه ما أريد من شيء من غير أن ينفد بإعطاء وجود أو يعجزه بذل و سماحة، و هذا مما يختص بالله سبحانه، و أما غيره كائنا ما كان و من كان فهو محدود و ما عنده مقدر إذا بذل منه شيئا نقص بمقدار ما بذل، و ما هذا شأنه لم يقدر على إغناء أي فقير، و إرضاء أي طالب، و إجابة أي سؤال.
و أما قوله: «و لا أعلم الغيب» فإنما أريد بالعلم الاستقلال به من غير تعليم بوحي و ذلك أنه تعالى يثبت الوحي في ذيل الآية بقوله: «إن أتبع إلا ما يوحى إلي»، و قد بين في مواضع من كلامه أن بعض ما يوحيه لرسله من الغيب، كقوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن: 26، و كقوله بعد سرد قصة يوسف: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون»: يوسف: 102، و قوله في قصة مريم: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون»: آل عمران: 44، و قوله بعد قصة نوح: «تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا»: هود: 49.
فالمراد بنفي علم الغيب نفي أن يكون مجهزا في وجوده بحسب الطبع بما لا يخفى عليه معه ما لا سبيل للإنسان بحسب العادة إلى العلم به من خفيات الأمور كائنة ما كانت.
و أما قوله: «و لا أقول لكم إني ملك» فهو كناية عن نفي آثار الملكية من أنهم منزهون عن حوائج الحياة المادية من أكل و شرب و نكاح و ما يلحق بذلك، و قد عبر عنه في مواضع أخرى بقوله: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي»: الكهف: 110، و إنما عبر عن ذلك هاهنا بنفي الملكية دون إثبات البشرية ليحاذي به ما كانوا يقترحونه عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل قولهم: «ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق»: الفرقان: 7.
و من هنا يظهر أن الآية بما في سياقها من النفي بعد النفي - كأنها - ناظرة إلى الجواب عما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سؤال الآيات المعجزة و الاعتراض بما كان يأتي به من أعمال كأعمال المتعارف من الناس كما حكاه عنهم في قوله: «و قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها»: الفرقان: 8، و قوله: «و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: الإسراء: 93، و قوله: «فسينغضون إليك رءوسهم و يقولون متى هو»: الإسراء: 51، و كقوله: «يسألونك عن الساعة أيان مرساها»: الأعراف: 187. فمعنى قوله: «قل لا أقول لكم» إلخ، قل: لم أدع فيما أدعوكم إليه و أبلغكموه أمرا وراء ما أنا عليه من متعارف حال الإنسان حتى تبكتوني بإلزامي بما تقترحونه مني فلم أدع أني أملك خزائن الألوهية حتى تقترحوا أن أفجر أنهارا أو أخلق جنة أو بيتا من زخرف، و لا ادعيت أني أعلم الغيب حتى أجيبكم عن كل ما هو مستور تحت أستار الغيوب كقيام الساعة و لا ادعيت أني ملك حتى تعيبوني و تبطلوا قولي بأكل الطعام و المشي في الأسواق للكسب.
قوله تعالى: «إن أتبع إلا ما يوحى إلي» بيان لما يدعيه حقيقة بعد رد ما اتهموه به من الدعوى من جهة دعواه الرسالة من الله إليهم أي ليس معنى قولي: إني رسول الله إليكم أن عندي خزائن الله و لا أني أعلم الغيب و لا أني ملك بل إن الله يوحي إلي بما يوحي.
و لم يثبته في صورة الدعوى بل قال: «إن أتبع» إلخ، ليدل على كونه مأمورا بتبليغ ما يوحى إليه ليس له إلا اتباع ذلك فكأنه لما قال: لا أقول لكم كذا و لا كذا و لا كذا قيل له: فإذا كان كذلك و كنت بشرا مثلنا و عاجزا كأحدنا لم تكن لك مزية علينا فما ذا تريد منا؟ فقال: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أن أبشركم و أنذركم فأدعوكم إلى دين التوحيد.
و الدليل على هذا المعنى قوله بعد ذلك: «قل لا يستوي الأعمى و البصير أ فلا تتفكرون» فإن مدلوله بحسب ما يعطيه السياق: أني و إن ساويتكم في البشرية و العجز لكن ذلك لا يمنعني عن دعوتكم إلى اتباعي فإن ربي جعلني على بصيرة بما أوحى إلي دونكم فأنا و أنتم كالبصير و الأعمى و لا يستويان في الحكم و إن كانا متساويين في الإنسانية فإن التفكر في أمرهما يهدي الإنسان إلى القضاء بأن البصير يجب أن يتبعه الأعمى، و العالم يجب أن يتبعه الجاهل.
قوله تعالى: «و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم» إلى آخر الآية الضمير في «به» راجع إلى القرآن و قد دل عليه قوله في الآية السابقة: «إن أتبع إلا ما يوحى إلي» و قوله: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع» حال و العامل فيه يخافون أو يحشرون.
و المراد بالخوف معناه المعروف دون العلم و ما في معناه إذ لا دليل عليه بحسب ظاهر المعنى المتبادر من السياق، و الأمر بإنذار خصوص الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم لا ينافي عموم الإنذار لهم و لغيرهم كما يدل عليه قوله في الآيات السابقة: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ»: آية: 19 بل لما كان خوف الحشر إلى الله معينا لنفوسهم على القبول و مقربا للدعوة إلى أفهامهم أفاد تخصيص الأمر بالإنذار بهم و وصفهم هذا الوصف تأكيدا لدعوتهم و تحريضا له أن لا يسامح في أمرهم و لا يضعهم موضع غيرهم بل يخصهم بمزيد عناية بدعوتهم لأن موقفهم أقرب من الحق و إيمانهم أرجى فالآية بضميمة سائر آيات الأمر بالإنذار العام تفيد من المعنى: أن أنذر الناس عامة و لا سيما الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم.
و قوله: «ليس لهم من دونه ولي و لا شفيع» نفي مطلق لولاية غير الله و شفاعته فيقيده الآيات الأخر المقيدة كقوله: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه»: البقرة: 255 و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى»: الأنبياء: 28 و قوله: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف: 86.
و إنما لم يستثن في الآية لأن الكلام يواجه به الوثنيون الذين كانوا يقولون بولاية الأوثان و شفاعتها، و لم يكونوا يقولون بذلك بالإذن و الجعل فإن الولاية و الشفاعة عن إذن يحتاج القول به إلى العلم به، و العلم إلى الوحي و النبوة، و هم لم يكونوا قائلين بالنبوة، و أما الذي أثبتوه من الولاية و الشفاعة فكأنه أمر متهيء لأوليائهم و شركائهم بالضرورة من طبعها لا بإذن من الله كأن أقوياء الوجود من الخليقة لها نوع من التصرف في ضعفائه بالطبع و إن لم يأذن به الله سبحانه، و إن شئت قلت: لازمه أن يكون إيجادها إذنا اضطراريا في التصرف في ما دونها.
و بالجملة قيل: «ما لهم من دونه ولي و لا شفيع» و لم يقل: إلا بإذنه لأن المشركين إنما قالوا إن الأوثان أولياء و شفعاء من غير تقييد فنفي ما ذكروه من الولي و الشفيع من دون الله محاذاة بالنفي لإثباتهم، و أما الاستثناء فهو و إن كان صحيحا كما وقع في مواضع من كلامه تعالى لكن لا يتعلق به غرض هاهنا.
و قد تبين مما تقدم أن الآية على إطلاق ظاهرها تأمر بإنذار كل من لا يخلو من استشعار خوف من الحشر في قلبه إذا ذكر بآيات الله سواء كان ممن يؤمن بالحشر كالمؤمنين من أهل الكتاب أو ممن لا يؤمن به كالوثنيين و غيرهم لكنه يحتمله فيغشى الخوف نفسه بالاحتمال أو المظنة فإن الخوف من شيء يتحقق بمجرد احتمال وجوده و إن لم يوقن بتحققه.
و قد اختلفت أنظار المفسرين في الآية فمن قائل: إن الآية نزلت في المؤمنين القائلين بالحشر، و أنهم هم الذين عنوا في الآية التالية بقوله: «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي».
و من قائل: إنها نزلت في طائفة من المشركين الوثنيين يجوزون الحشر بعد الموت و إن لم يثبت وجود القائل بهذا القول بين مشركي مكة أو العرب يوم نزول السورة مع كون خطابات السورة متوجهة إلى المشركين من قريش أو العرب بحسب السياق،.
و من قائل: إن المراد بهم كل معترف بالحشر من مسلم أو كتابي، و إنما خص هؤلاء المعترفون بالأمر بالإنذار مع أن وجوب الإنذار عام لجميع الخلق لأن الحجة أوجب عليهم لاعترافهم بالمعاد.
لكن الآية لم تأخذ في وصفهم إلا الخوف من الحشر، و لا يتوقف الخوف من الشيء على العلم بتحققه و لا الاعتراف بوجوده بل الشك - و هو الاحتمال المتساوي طرفاه - و المظنة و هي الإدراك الراجح على ما له من المراتب يجامع الخوف كالعلم و هو ظاهر.
فالآية إنما تحرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إنذار كل من شاهد في سيماه علائم الخوف من أي طائفة كان لأن بناء الدعوة الدينية على أساس الحشر و إقامة المحاسبة على السيئة و الحسنة و المجازاة عليهما، و أدنى ما يرجى من تأثير الدعوة الدينية في واحد أن يجوزه فيخافه، و كلما ازداد احتمال وقوعه ازداد الخوف و قوي التأثير حتى يتلبس باليقين و ينتفي احتمال الخلاف بالكلية، فهناك التأثير التام.
قوله تعالى: «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه» إلى آخر الآية ظاهر السياق على ما يؤيده ما في الآية التالية: «و كذلك فتنا بعضهم ببعض» إلخ، أن المشركين من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) اقترحوا عليه أن يطرد عن نفسه الضعفاء المؤمنين به فنهاه الله تعالى في هذه الآية عن ذلك.
و ذلك منهم نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم من رسلهم أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء و الفقراء من المؤمنين استكبارا و تعززا، و قد حكى الله تعالى ذلك عن قوم نوح فيما حكاه من محاجته (عليه السلام) حجاجا يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي و ما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين. قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون - إلى أن قال - و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم - إلى أن قال - و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين»: هود - 31.
و التطبيق بين هذه الآيات و الآيات التي نحن فيها يقضي أن يكون المراد بالذين يدعون ربهم بالغداة و العشي و يريدون وجهه هم المؤمنين، و إنما ذكر دعاءهم بالغداة و العشي و هو صلاتهم أو مطلق دعائهم ربهم للدلالة على ارتباطهم بربهم بما لا يداخله غيره تعالى و ليوضح ما سيذكره من قوله: «أ ليس الله بأعلم بالشاكرين».
و قوله: «يريدون وجهه» أي وجه الله، قال الراغب في مفرداته:، أصل الوجه الجارحة قال: فاغسلوا وجوهكم و أيديكم، و تغشى وجوههم النار، و لما كان الوجه أول ما يستقبلك و أشرف ما في ظاهر البدن استعمل في مستقبل كل شيء و في أشرفه و مبدئه فقيل: وجه كذا و وجه النهار، و ربما عبر عن الذات بالوجه في قول الله: و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام، قيل: ذاته و قيل أراد بالوجه هاهنا التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة.
و قال: فأينما تولوا فثم وجه الله، كل شيء هالك إلا وجهه، يريدون وجه الله، إنما نطعمكم لوجه الله، قيل: إن الوجه في كل هذا ذاته و يعني بذلك كل شيء هالك إلا هو و كذا في أخواته، و روي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه و معناه: كل شيء من أعمال العباد هالك و باطل إلا ما أريد به الله، و على هذا الآيات الأخر، و على هذا قوله: يريدون وجهه، يريدون وجه الله، انتهى.
أقول: أما الانتقال الاستعمالي من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشيء غيره توسعا فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطور الألفاظ في معانيها لكن النظر الدقيق لا يسوغ إرادة الذات من الوجه فإن الشيء أيا ما كان إنما يستقبل غيره بشيء من ظواهر نفسه من صفاته و أسمائه، و هي التي تتعلق بها المعرفة فإنا إنما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثم نستدل بذلك على ذاته من غير أن نماس ذاته مساسا على الاستقامة.
فإنا إنما ننال معرفة الأشياء أولا بأدوات الحس التي لا تنال إلا الصفات من أشكال و تخاطيط و كيفيات و غير ذلك من دون أن ننال ذاتا جوهرية ثم نستدل بذلك على أن لها ذوات جوهرية هي القيمة لأعراضها و أوصافها التابعة لما أنها تحتاج إلى ما يقيم أودها و يحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلا معناه الشيء الذي نسبته إلى أوصاف زيد و خواصه كنسبتنا إلى أوصافنا و خواصنا فإدراك الذوات إدراكا فكريا يكون دائما بضرب من القياس و النسبة.
و إذا لم يمكن إدراك الذوات الماهوية بإدراك تام فكري إلا من طريق أوصافها و آثارها بضرب من القياس و النسبة فالأمر في الله سبحانه و لا حد لذاته و لا نهاية لوجوده أوضح و أبين، و لا يقع العلم على شيء إلا مع تحديد ما له فلا مطمع في الإحاطة العلمية به تعالى قال: «و عنت الوجوه للحي القيوم»: طه: 111 و قال: «و لا يحيطون به علما»: طه: 110.
لكن وجه الشيء لما كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجها فإنها بالنسبة إلى الشيء الذي يحد الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، و بهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجها لله تعالى كما أن الأعمال الطالحة وجه للشيطان و هذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله: «يريدون وجه الله» و قوله: «إنما نطعمكم لوجه الله» و غير ذلك، و كذا الصفات التي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة و الخلق و الرزق و الهداية و نحوها من الصفات الفعلية بل الصفات الذاتية التي نعرفه تعالى بها نوعا من المعرفة كالحياة و العلم و القدرة كل ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها و يتوجه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى: «و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام»: الرحمن: 27 فإن ظاهر الآية أن قوله: «ذو الجلال و الإكرام» نعت للوجه دون الرب فافهم ذلك.
و إذا صح أن ناحيته تعالى جهته و وجهه صح بالجملة أن كل ما ينسب إليه تعالى نوعا من نسبة القرب كأسمائه و صفاته و كدينه، و كالأعمال الصالحة و كذا كل من يحل في ساحة قربه كالأنبياء و الملائكة و الشهداء و كل مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.
و بذلك يتبين أولا: معنى قوله سبحانه: «و ما عند الله باق»: النحل: 96، و قوله: «و من عنده لا يستكبرون عن عبادته»: الأنبياء: 19، و قوله: «إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه»: الأعراف: 206، و قوله فيمن يقتل في سبيل الله: «بل أحياء عند ربهم يرزقون»: آل عمران: 169، و قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه:» الحجر: 21، فالآيات تدل بانضمام الآية الأولى إليهن أن هذه الأمور كلها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك و البوار إليها، ثم قال تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه»: القصص: 88 فدل الحصر الذي في الآية على أن ذلك كله وجه لله سبحانه و بعبارة أخرى كلها واقعة في جهته تعالى مستقرة مطمئنة في جانبه و ناحيته.
و ثانيا: أن ما تتعلق به إرادة العبد من ربه هو وجهه كما في قوله: «يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا»: المائدة: 2، و قوله: «ابتغاء رحمة من ربك»: الإسراء: 28 و قوله: «و ابتغوا إليه الوسيلة»: المائدة: 35 فكل ذلك وجهه تعالى لأن صفات فعله تعالى كالرحمة و المرضاة و الفضل و نحو ذلك من وجهه، و كذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدم، و قال تعالى: «إلا ابتغاء وجه الله»: البقرة: 272.
و قوله: «ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء» الحساب هو استعمال العدد بالجمع و الطرح و نحو ذلك، و لما كان تمحيص الأعمال و تقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة و نحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمي ذلك حسابا للأعمال.
و إذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، و الجزاء إنما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته و كفايته كما قال: «إن حسابهم إلا على ربي»: الشعراء: 113، و قال: «ثم إن علينا حسابهم»: الغاشية: 26 و عكس في قوله: «إن الله كان على كل شيء حسيبا»: النساء: 86 للدلالة على سلطانه تعالى و هيمنته على كل شيء.
و على هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو الذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتى إذا لم يرتض أمرهم و كره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الذين يحاسبون أعماله حتى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكبارا و استعلاء عليهم طردهم، و على هذا فكل من الجملتين: «ما عليك» إلخ، «و ما عليهم» إلخ، مقصودة في الكلام مستقلة.
و ربما أمكن أن يستفاد من قوله: «ما عليك من حسابهم من شيء» نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتى يستثقله و ذلك بإيهام أن للعمل ثقلا على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شيء من ثقل أعمالهم عليك، و على هذا فاستتباعه بقوله: «و ما من حسابك عليهم من شيء» - و لا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنما هو لتتميم أطراف الاحتمال و تأكيد مطابقة الكلام، و من الممكن أيضا أن يقال: إن مجموع الجملتين أعني قوله: «ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء» كناية عن نفي الارتباط بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم من حيث الحساب.
و ربما قيل: إن المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال و المراد: ليس عليك حساب رزقهم، و إنما الله يرزقهم و عليه حساب رزقهم، و قوله: «و ما من حسابك عليهم» إلخ، جيء به تأكيدا لمطابقة الكلام على ما تقدم في الوجه السابق، و الوجهان و إن أمكن توجيههما بوجه لكن الوجه هو الأول.
و قوله: «فتطردهم فتكون من الظالمين» الدخول في جماعة الظالمين متفرع على طردهم أي طرد الذين يدعون ربهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرع قوله: «فتكون من الظالمين»، على قوله في أول الآية: «و لا تطرد الذين» إلخ، إلا أن الكلام لما طال بتخلل جمل بين المتفرع و المتفرع عليه أعيد لفظ الطرد ثانيا في صورة الفرع ليتفرع عليه قوله: «فتكون من الظالمين» بنحو الاتصال و يرتفع اللبس.
فلا يرد عليه أن الكلام مشتمل على تفريع الشيء على نفسه فإن ملخصه: و لا تطرد الذين يدعون ربهم فتطردهم، و ذلك أن إعادة الطرد ثانيا لإيصال الفرع أعني قوله: «فتكون من الظالمين»، إلى أصله كما عرفت.
قوله تعالى: «و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا» إلى آخر الآية، الفتنة هي الامتحان، و السياق يدل على أن الاستفهام في قوله: «أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا» للتهكم و الاستهزاء، و معلوم أنهم لا يسخرون إلا ممن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه من المجتمع، و لم يكن ذلك إلا لفقرهم و مسكنتهم و انحطاط قدرهم عند الأقوياء و الكبرياء منهم.
فالله سبحانه يخبر نبيه أن هذا التفاوت و الاختلاف إنما هو محنة إلهية يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران و الاستكبار في الفقراء المؤمنين: أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا فإن السنن الاجتماعية عند الناس توصف بما عند المستن بها من الشرافة و الخسة، و كذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعي فالطريقة المسلوكة عند الفقراء و الأذلاء و العبيد يستذلها الأغنياء و الأعزة، و العمل الذي أتى به مسكين أو الكلام الذي تكلم به عبد أو أسير مستذلا لا يعتني به أولو الطول و القوة.
فانتحال الفقراء و الأجراء و العبيد بالدين، و اعتناء النبي بهم و تقريبه إياهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين و أنه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء و الأعزة.
و قوله تعالى: «أ ليس الله بأعلم بالشاكرين» جواب عن استهزائهم المبني على الاستبعاد، بقولهم: «أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا» و محصله أن هؤلاء شاكرون لله دونهم و لذلك قدم هؤلاء لمنه و أخرهم فكنى سبحانه عن ذلك بأن الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنهم شاكرون، و من المسلم أن المنعم إنما يمن و ينعم على من يشكر نعمته و قد سمى الله تعالى توحيده و نفي الشريك عنه شكرا في قوله حكاية عن قول يوسف (عليه السلام): «ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون:» يوسف: 38.
فالآية تبين أنهم بجهالتهم يبنون الكرامة و العزة على التقدم في زخارف الدنيا من مال و بنين و جاه، و لا قدر لها عند الله و لا كرامة، و إنما الأمر يدور مدار صفة الشكر و النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهية.
قوله تعالى: «و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم» إلى آخر الآية، قد تقدم معنى السلام، و المراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنونا بعنوان الرحمة، و الإصلاح هو التلبس بالصلاح فهو لازم و إن كان بحسب الحقيقة متعديا و أصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.
و الآية ظاهرة الاتصال بالآية التي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطف بهم و يسلم عليهم و يبشر من تاب منهم عن سيئة توبة نصوحا بمغفرة الله و رحمته فتطيب بذلك نفوسهم و يسكن طيش قلوبهم.
و يتبين بذلك أولا: أن الآية - و هي من آيات التوبة - إنما تتعرض للتوبة عن المعاصي و السيئات دون الكفر و الشرك بدليل قوله: «من عمل منكم» أي المؤمنين بآيات الله.
و ثانيا: أن المراد بالجهالة ما يقابل الجحود و العناد اللذين هما من التعمد المقابل للجهالة فإن من يدعو ربه بالغداة و العشي يريد وجهه و هو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكبارا و استعلاء عليه بل لجهالة غشيته باتباع هوى في شهوة أو غضب.
و ثالثا: أن تقييد قوله: «تاب» بقوله: «و أصلح» للدلالة على تحقق التوبة بحقيقتها فإن الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه و اللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذر بقذارة الذنب الذي تطهر منه التائب الراجع، و ليست التوبة قول: «أتوب إلى الله» قولا لا يتعدى من اللسان إلى الجنان، و قد قال تعالى: «و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: البقرة: 284.
و رابعا: أن صفاته الفعلية كالغفور و الرحيم يصح تقييدها بالزمان حقيقة فإن الله سبحانه و إن كتب على نفسه الرحمة لكنها لا تظهر و لا تؤثر أثرها إلا إذا عمل بعض عباده سوءا بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح.
و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: «إنما التوبة على الله» إلى آخر الآيتين: النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلق بالمقام.
قوله تعالى: «و كذلك نفصل الآيات و لتستبين سبيل المجرمين» تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهية و تخليصها من الإبهام و الاندماج، و قوله: «و لتستبين سبيل المجرمين» اللام فيه للغاية، و هو معطوف على مقدر طوي عن ذكره تعظيما و تفخيما لأمره و هو شائع في كلامه تعالى، كقوله: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا»: آل عمران: 140، و قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الآية: 75.
فالمعنى: و كذلك نشرح و نميز المعارف الإلهية بعضها من بعض و نزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا، و على هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل التي يسلكها المجرمون قبال الآيات الناطقة بتوحيد الله سبحانه و المعارف الحقة التي تتعلق به و هي سبيل الجحود و العناد و الإعراض عن الآيات و كفران النعمة.
و ربما قيل إن المراد بسبيل المجرمين السبيل التي تسلك في المجرمين، و هي سنة الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالآخرة، و سوء الحساب و أليم العقاب في الآخرة، و المعنى الأول أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده فيه رفع عن الرضا (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل لم يقبض نبينا حتى أكمل له الدين، و أنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج إليه الناس كملا، و قال عز و جل: ما فرطنا في الكتاب من شيء.
و في تفسير القمي، حدثني أحمد بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد قال حدثنا كثير بن عياش عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و الذين كذبوا بآياتنا صم و بكم» يقول: صم عن الهدى بكم لا يتكلمون بخير «في الظلمات» يعني ظلمات الكفر «من يشأ الله يضلله و من يشأ يجعله على صراط مستقيم» و هو رد على قدرية هذه الأمة يحشرهم الله يوم القيامة من الصابئين و النصارى و المجوس فيقولون «ربنا ما كنا مشركين، يقول الله: «انظر كيف كذبوا على أنفسهم - و ضل عنهم ما كانوا يفترون» قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن لكل أمة مجوسا و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة إليهم و لهم.
قال في البرهان، عند نقل الحديث: و في نسخة أخرى من تفسير علي بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: ألا إن لكل أمة مجوسا، و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست لهم و لا عليهم، و في نسخة ثالثة، يقولون: لا قدر و يزعمون أن المشية و القدرة ليست إليهم و لا لهم، انتهى.
أقول: مسألة القدر من المسائل التي وقع الكلام فيها في الصدر الأول فأنكر القدر - و هو أن لإرادة الله سبحانه تعلقا ما بأعمال العباد - قوم و أثبتوا المشية و القدرة المستقلتين للإنسان في فعله و أنه هو الخالق له المستقل به، و سموا بالقدرية أي المتكلمين في القدر، و قد روى الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «القدرية مجوس هذه الأمة، و انطباقه عليهم واضح فإنهم يثبتون للأعمال خالقا هو الإنسان و لغيرها خالقا هو الله سبحانه و هو قول الثنوية و هم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، و خالق للشر.
و هناك روايات أخر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل بيته (عليهم السلام) تفسر الرواية بالمعنى الذي تقدم، و تثبت أن هناك قدرا و أن لله مشية في أفعال عباده كما يثبته القرآن.
و قد أول المعتزلة و هم النافون للقدر الرواية بأن المراد بالقدرية المثبتون للقدر، و هم كالمجوس في إسنادهم الخير و الشر كله إلى خالق غير الإنسان، و قد تقدم بعض الكلام في ذلك، و سيجيء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.
و مما ذكرنا يظهر أن الجمع بين القول بأنه لا قدر، و القول بأنه ليست المشية و القدرة للإنسان و لا إليه جمع بين المتنافيين فإن القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشية و الاستطاعة، و القول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشية و القدرة.
و على هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، و قولهم: إن المشية و القدرة ليست لهم و لا إليهم ليس إلا من تحريف بعض النساخ، و قد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله «لا قدر» و غير الباقي.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبراني في الكبير و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا و هو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. الآية و الآية التي بعدها.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تبارك و تعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد و العفاف و إذا أراد بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين.
و فيه، أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود: خفني على كل حال، و أخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثم لا أنظر إليك.
أقول: قوله: لا أصرعك نهي يفيد التحذير، و قوله: ثم لا أنظر «إلخ» منصوب للتفريع على النهي.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «قل أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة» الآية، قال: إنها نزلت لما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل و المرض فشكوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: قل لهم يا محمد أ رأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة - أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون أي لا يصيبكم إلا الجهد و الضر في الدنيا فأما العذاب الأليم الذي فيه الهلاك فلا يصيب إلا القوم الظالمين.
أقول: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أن سورة الأنعام نزلت بمكة دفعة.
على أن الآية بمضمونها لا تنطبق على القصة و الذي تمحل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و أنذر به الذين يخافون الآية قال قال الصادق (عليه السلام): أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربهم ترغبهم فيما عنده فإن القرآن شافع مشفع لهم.
أقول: و ظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله: «من دونه» إلى القرآن، و هو معنى صحيح و إن لم يعهد في القرآن أن يسمى وليا كما سمي إماما.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عنده صهيب و عمار و بلال و خباب و نحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أ رضيت بهؤلاء من قومك؟ أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أ نحن نكون تبعا لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فأنزل فيهم القرآن: «و أنذر به - الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم»: إلخ. أقول: و رواه في المجمع، عن الثعلبي بإسناده عن عبد الله بن مسعود مختصرا.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عدي بن خيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا و عسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا و أطوع له عندنا و أدنى لاتباعنا إياه و تصديقه. فذكر ذلك أبو طالب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم؟ و ما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله: «و أنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أ ليس الله بأعلم بالشاكرين». قال: و كانوا بلالا و عمار بن ياسر و سالما مولى أبي حذيفة و صبحا مولى أسيد، و من الحلفاء ابن مسعود و المقداد بن عمرو و واقد بن عبد الله الحنظلي و عمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين و مرثد بن أبي مرثد و أشباههم. و نزلت في أئمة الكفر من قريش و الموالي و الحلفاء: «و كذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا» الآية فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله: «و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا» الآية.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبو يعلى و أبو نعيم في الحلية و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدا مع بلال و صهيب و عمار و خباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا فإن وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة و دعا عليا ليكتب، و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية: «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي - إلى قوله فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه و هو يقول: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله: و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم - بالغداة و العشي يريدون وجهه الآية. قال: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا و تركناه حتى يقوم. أقول: و رواه في المجمع، عن سلمان و خباب و في معنى هذه الروايات الثلاث المتقدمة بعض روايات أخر، و الرجوع إلى ما تقدم في أول السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثم التأمل في سياق الآيات لا يبقي ريبا أن هذه الروايات إنما هي من قبيل ما نسميه تطبيقا بمعنى أنهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعدوا القصة سببا لنزول الآية لا بمعنى أن الآية إنما نزلت وحدها و دفعة لحدوث تلك الواقعة و رفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أن الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة و نظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله: و لا تطرد الذين يدعون الآية فإن الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرة بعد كرة و عنده في كل مرة عدة من ضعفاء المؤمنين و في مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.
و على هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص و الحوادث الواقعة في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما لها مناسبة ما مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلا نظر إلى خصوص القصة و الواقعة المذكورة، ثم شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث و التوسع البالغ في كيفية النقل أوهم أن الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصة على أن تكون أسبابا منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول و خاصة في أمثال هذه السورة من السور التي نزلت دفعة على أزيد من أنها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع التي كانت في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و لا سيما بالنظر إلى شيوع الوضع و الدس في هذه الروايات و الضعف الذي فيها و ما سامح به القدماء في أخذها و نقلها.
و قد روى في الدر المنثور، عن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن عمر بن عبد الله ابن المهاجر: أن الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الضعفاء من أصحاب الصفة عن نفسه في نظير من القصة، و يضعفه ما تقدم في نظيره أن السورة إنما نزلت دفعة و في مكة قبل الهجرة.
و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: رحم الله عبدا تاب إلى الله قبل الموت فإن التوبة مطهرة من دنس الخطيئة و منقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال: كتب ربكم على نفسه الرحمة - أنه من عمل منكم سوءا بجهالة - ثم تاب من بعده و أصلح - فإنه غفور رحيم، و من يعمل سوءا - أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله - يجد الله توابا رحيما.
و في تفسير البرهان، روي عن ابن عباس: في قوله تعالى: و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية نزلت في علي و حمزة و زيد.
أقول: و في عدة من الروايات أن الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيت (عليهم السلام) و الظاهر أنها جميعا من قبيل الجري و التطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإن نزول السورة بمكة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول و لذلك طوينا عن إيرادها، و الله أعلم.
|