بيان
عشر آيات ذكر الله سبحانه فيها ما آتاه النبي العظيم إبراهيم (عليه السلام) من الحجة على المشركين بما هداه إلى توحيده و تنزيهه ثم ذكر هدايته أنبياءه بتطهير سرهم من الشرك، و قد سمى بينهم نوحا (عليه السلام) و هو قبل إبراهيم (عليه السلام) و ستة عشر نبيا من ذرية نوح (عليه السلام).
و الآيات في الحقيقة بيان لمصداق كامل من القيام بدين الفطرة و الانتهاض لنشر عقيدة التوحيد و التنزيه عن شرك الوثنية و هو الذي انتهض له إبراهيم (عليه السلام) و حاج له على الوثنية حينما أطبقت الدنيا على الوثنية ظاهرا، و نسوا ما سنه نوح (عليه السلام) و التابعون له من ذريته الأنبياء من طريقة التوحيد فالآيات بما تشتمل عليه من تلقين الحجة و الهداية إلى دين الفطرة كالتبصر لما تقدمها من الحجج التي لقنها الله: سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه السورة بقوله: قل كذا و قل كذا فقد كررت لفظة «قل» في هذه السورة الكريمة أربعين مرة نيف و عشرون منها قبل هذه الآيات فكأنه قيل: و اذكر فيما تقوله لقومك و تحاجهم به من أدلة التوحيد و نفي الشريك بتلقيننا إياك ما قاله إبراهيم لأبيه و قومه مما آتيناه من حجتنا على قومه بما كنا نريه من ملكوت السماوات و الأرض فقد كان يحاجهم عن إفاضة إلهية عليه بالعلم و الحكمة و إراءة منه تعالى لملكوته مبنية على اليقين لا عن فكرة تصنيعية لا تعدو حد التخيل و التصور، و لا تخلو عن التكلف و التعسف الذي لا تهتف به الفطرة الصافية.
و لحن كلام إبراهيم (عليه السلام) فيما حكاه الله سبحانه في هذه الآيات إن تدبرنا فيها بأذهان خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات و الآثار على اختلافها الفاحش، غير مشوبة بالمشاجرات التي وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الآيات بمضامين الروايات و محتويات التواريخ و ما اشتملت عليه التوراة و أخرى تشايعها من الإسرائيليات إلى غير ذلك، و بالجملة لحن كلامه (عليه السلام) في ما حكي عنه في هذه الآيات يشعر إشعارا واضحا بأنه كلام صادر عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الأفكار و الأوهام المتنوعة أفرغته في قالب اللفظ فطرته الصافية بما عندها من أوائل التعقل و التفكير و لطائف الشعور و الإحساس.
فالواقف في موقف النصفة من التدبر في هذه الآيات لا يشك أن كلامه المحكي عنه مع قومه أشبه شيء بكلام إنسان أولي فرضي عاش في سرب من أسراب الأرض أو كهف من كهوف الجبال لم يعاشر إلا بعض من يقوم بواجب غذائه و لباسه لم يشاهد سماء بزواهر نجومها و كواكبها، و البازغ من قمرها و شمسها، و لم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة و بلاده الوسيعة، و اختلاف أفكاره، و تشتت مقاصده و مآربه، و أنواع أديانه و مذاهبه، ثم ساقه الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة، و شاهد أمورا عجيبة لا عهد له بها من أجرام سماوية، و أقطار أرضية، و جماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين نحو مآربهم و مقاصدهم، لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك و ساكن، و عامل و معمول له، و خادم و مخدوم، و آمر و مأمور، و رئيس، و مرءوس منكب على الكسب و العمل، و متزهد متعبد يعبد الإله.
فبهته عجيب ما يراه و استغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن الواحد بعد الواحد مما اجتذبت إليه نفسه، و وقع عليه بصره، و كثر منه إعجابه نظير ما نراه من حال الصبي إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة و زواهرها اللامعة، و عقود كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمه: ما هذه التي أشاهدها و أمتلىء من حبها و الإعجاب بها؟ من الذي علقها هناك؟ من الذي نورها؟ من الذي صنعها؟.
غير أن الذي لا نرتاب فيه أن هذا الإنسان إنما يبدأ في سؤاله من حقائق الأشياء التي يشاهدها و يتعجب منها بالذي يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش و الانعزال عن المجتمع و إنما يسأل عن المقاصد و الغايات التي لا يقع عليها الحواس.
و ذلك لأن الإنسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الأولية فلا ينتقل من المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات، و هذا أمر ظاهر محسوس من حال بعض بسائط العقول كالصبيان و أهل البدو إذا صادفوا أمورا ليس لهم بها عهد فإنهم يبدءون باستعلام حال ما يستأنسون بأمره بعد الاستيناس فيسألون عن حقيقته و عن أسبابه و غاياته.
و الإنسان المفروض و هو الإنسان الفطري الأولي تقريبا لما لم يشتغل إلا بأبسط أسباب المعيشة لم يشغل ذهنه ما يشغل ذهن الإنسان المدني الحضري الذي أحاطت به هذه الأشغال الكثيرة الطبيعية الخارجة عن الحد و الحصر التي لا فراغ له عنها و لو لحظة، و لذلك كان الإنسان المفروض في فراغ من الفكر و خلاء من الذهن، و الحوادث الجمة السماوية و الأرضية الكونية محيطة به من غير أن يعرف أسبابها الطبيعية فلذلك كان ذهنه أشد استعدادا للانتقال إلى سببها الذي هو أعلى من الأسباب الطبيعية و هو الذي يتنبه له الإنسان الحضري بعد الفراغ عن إحصاء الأسباب الطبيعية لحوادث الكون فوق هذه الأسباب لو وجد فراغا، و لذا كان الأسبق إلى ذهن هذا الإنسان المفروض هو الانتقال إلى هذا السبب الأعلى لو شاهد من الناس الحضريين الاشتغال به و التنسك و العبادة له.
و من الشواهد على هذا الذي ذكرنا ما نجد أن الاشتغال بالمراسم الدينية و البحث عن اللاهوت في آسيا أكثر رواجا و أغلى قدرا منه في أوروبا، و في القرى و البلاد الصغيرة أحكم موقعا منه في البلاد العظيمة و على هذه النسبة في البلاد العظيمة و السواد الأعظم لما أن المجتمع كلما اتسع نطاقه زادت فيه الحوائج الحيوية، و كثرت و تراكمت الأشغال الإنسانية فلم تدع للإنسان فراغا تستريح فيه نفسه إلى معنوياتها و تتوجه إلى البحث عن مبدئها و معادها.
و بالجملة إذا راجعنا قصة إبراهيم (عليه السلام) المودعة في هذه الآيات و ما يناظرها من آيات سورة مريم و الأنبياء و الصافات و غيرها وجدنا حاله (عليه السلام) فيما يحاج به أباه و قومه أشبه شيء بحال الإنسان البسيط المفروض نجده يسأل عن الأصنام و يباحث القوم في شأنها و يتكلم في أمر الكوكب و القمر و الشمس سؤاله من لا عهد له بما يصنعه الناس و خاصة قومه الوثنيون في الأصنام يقول لأبيه و قومه: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون»: الأنبياء: 52 و يقول لأبيه و قومه: «ما تعبدون. قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»: الشعراء: 74.
فهذا كلام من لم ير صنما و لم يشاهد وثنيا يعبد صنما و قد كان (عليه السلام) في مهد الوثنية و هو بابل كلدان، و قد عاش بينهم برهة من الزمان فهل كان مثل هذا التعبير منه (عليه السلام): «ما هذه التماثيل» تحقيرا للأصنام و إيماء إلى أنه لا يضعها الموضع الذي يضعها عليه الناس و لا يقر لها بما أقروا به من القداسة و الفضل كأنه لا يعرفها كقول فرعون لموسى (عليه السلام): «و ما رب العالمين»: الشعراء: 23 و قول كفار مكة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما حكى الله تعالى: «و إذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أ هذا الذي يذكر آلهتكم و هم بذكر الرحمن هم كافرون»: الأنبياء: 36.
لكن يبعده أن إبراهيم (عليه السلام) ما كان يستعمل في خطاب أبيه آزر إلا جميل الأدب حتى إذا طرده أبوه و هدده بالرجم قال له إبراهيم: «سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا»: مريم: 47.
فمن المستبعد أن يلقي إليه أول ما يواجهه من الكلام ما يتضمن تحقير شأن آلهته المقدسة عنده في لحن التشويه و الإهانة فيثير به عصبيته و نزعته الوثنية، و قد نهى الله سبحانه في هذه الملة التي هي ملة إبراهيم حنيفا عن سب آلهة المشركين لئلا يثير ذلك منهم ما يواجهون المسلمين بمثله قال تعالى: «و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم»: الأنعام: 108.
ثم إنه (عليه السلام) بعد الفراغ مما حاج به أباه آزر و قومه في أمر الأصنام يشتغل بأربابها و هي الكوكب و القمر و الشمس فيقول لما رأى كوكبا: «هذا ربي» ثم يقول لما رأى القمر بازغا: «هذا ربي» ثم يقول لما رأى الشمس بازغة: «هذا ربي هذا أكبر» و هذه التعبيرات أيضا تعبير من كأنه لم ير كوكبا و لا قمرا و لا شمسا، و أوضح التعبيرات دلالة على هذا المعنى قوله (عليه السلام) في الشمس: هذا ربي هذا أكبر فإن هذا كلام من لا يعرف ما هي الشمس و ما هما القمر و الكوكب غير أنه يجد الناس يخضعون لها و يعبدونها و يقربون لها القرابين كما يرويه التاريخ عن أهل بابل، و هذا كما إذا رأيت شبح إنسان لا تدري أ رجل هو أو امرأة تسأل و تقول: من هذا؟ تريد الشخص لأنك لا تعلم منه أزيد من أنه شخص إنسان فيقال: امرأة فلان أو هو فلان، و إذا رأيت شبحا لا تدري إنسان هو أو حيوان أو جماد تقول ما هذا؟ تريد الشبح أو المشار إليه إذ لا علم لك من حاله إلا بأنه شيء جسماني أيا ما كان فيقال لك: هذا زيد أو هذه امرأة فلان أو هو شاخص كذا ففي جميع ذلك تراعي - و أنت جاهل بالأمر - من شأن أولي العقل و غيره و الذكورية و الأنوثية مقدار ما لك به علم، و أما المجيب العالم بحقيقة الحال فعليه أن يراعي الحقيقة.
فظاهر قوله (عليه السلام): هذا ربي و قوله: «هذا ربي هذا أكبر» أنه ما كان يعرف من حال الشمس إلا أنه شيء طالع أكبر من القمر و الكوكب يقصده الناس بالعبادة و النسك و الإشارة إلى مثل هذا المعلوم إنما هو بلفظة «هذا» بلا ريب، و أما أنها شمس أي جرم أو صفحة نورانية تدبر العالم الأرضي بضوئها و ترسم الليل و النهار بسيرها بحسب ظاهر الحس أو أنه قمر أو كوكب يطلع كل ليلة من أفق الشرق و يغيب فيما يقابله من الغرب فلم يكن يعرف ذلك على ما يشعر به هذا الكلام، و لو كان يعرف ذلك لقال في الشمس: هذه ربي هذه أكبر أو قال: إنها ربي إنها أكبر كما راعى هذه النكتة بعد ذلك فيما حاج الملك نمرود و قد كان يعرفها اليوم: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب»: البقرة: 258 فلم يقل: فأت به من المغرب.
و كما قال لأبيه و قومه على ما حكى الله: «ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»: الشعراء: 74 فبدأ يسأل عن معبودهم بلفظة «ما» إذ لا علم له عندئذ بشيء من حاله إلا أنه شيء ثم لما ذكروا الأصنام و هم لا يعتقدون لها شيئا من الشعور و الإرادة قالوا: «فنظل لها» بالتأنيث، ثم لما سمع ألوهيتها منهم و من الواجب أن يتصف الإله بالنفع و الضرر و السمع لدعوة من يدعوه عبر عنها تعبيرا أولي العقل، ثم لما ذكروا له في قصة كسر الأصنام: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» حذاء قوله: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» سلب عنها شأن أولي العقل فقال: «أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم أف لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون»: الأنبياء: 67.
و لا يسعنا أن نتعسف فنقول: إنه (عليه السلام) أراد بقوله: «هذا ربي هذا أكبر» الجرم أو المشار إليه أو أنه روعي في ذلك حال لغته التي تكلم بها و هي السريانية ليس يراعى فيها التأنيث كأغلب اللغات العجمية فإن ذلك تحكم، على أنه (عليه السلام) قال للملك في خصوص الشمس بعينها: «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب»: البقرة: 258 فلم يحك القرآن ما لهج به بالوصف الذي في لغته فما بال هذا المورد هذا ربي هذا أكبر اختص بهذه الحكاية.
و نظير السؤال آت في قوله يسأل قومه عن شأن الأصنام: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون»: الأنبياء: 52 و كذا قوله في دعائه: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس»: إبراهيم: 36.
و كذا لا يسعنا القول بأنه (عليه السلام) في تذكيره الإشارة إلى الشمس صان الإله عن وصمة الأنوثية تعظيما أو أن الكلام من باب إتباع المبتدإ للخبر الذي هو مذكر أعني قوله: ربي، و قوله: «أكبر» فكل ذلك تحكم لا دليل عليه، و سيجيء تفصيل البحث فيها.
و الحاصل أن الذي حكاه الله تعالى في هذه الآيات و ما يناظرها من قول إبراهيم (عليه السلام) لأبيه و قومه في توحيده تعالى و نفي الشريك عنه كلام يدل بسياقه على أنه (عليه السلام) إنما عاش قبل ذلك في معزل من الجو الذي كان يعيش فيه أبوه و قومه و لم يكن يعرف ما يعرفه معاشر المجتمعين من تفاصيل شئون أجزاء الكون و السنن الاجتماعية الدائرة بين الناس المجتمعين، و أنه كان إذ ذاك في أوائل زمن رشده و تمييزه ترك معزله و لحق بأبيه، و وجد عنده أصناما فسأله عن شأنها فلما أوقفه على ذلك شاجره في ألوهيتها و ألزمه الحجة، ثم حاج قومه في أمر الأصنام فبكتهم، ثم رجع إلى عبادتهم لأرباب الأصنام من الكوكب و القمر و الشمس فجاراهم في افتراض ربوبيتها الواحد منها بعد الواحد، و لم يزل يراقب أمرها، و كلما غرب واحد منها رفضه و أبطل ربوبيته و افترض ربوبية غيره مما يعبدونه حتى أتى في يومه و ليلته على آخرها على ما هو ظاهر الآيات، ثم عاد إلى التوحيد الخالص بقوله: «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين» و كأنه تم له ذلك في يومين و ليلة بينهما تقريبا على ما سنبين إن شاء الله تعالى.
و كان (عليه السلام) على بصيرة من أن للعالم خالقا فاطرا للسماوات و الأرض هو الله وحده لا شريك له في ذلك، و إنما يبحث عن أنه هل للناس و منهم إبراهيم نفسه رب غير الله هو بعض خلقه كشمس أو قمر أو غيرها يربهم و يدبر أمرهم و يشارك الله في أمره أو أنه لا رب لهم غير الله سبحانه وحده لا شريك له.
و في جميع هذه المراحل التي طواها كان الله سبحانه يمده و يسدده بإراءته ملكوت السماوات و الأرض و عطف نفسه الشريفة إلى الجهة التي ينتسب منها الأشياء إلى الله سبحانه خلقا و تدبيرا فكان إذا رأى شيئا رأى انتسابه إلى الله و تكوينه و تدبيره بأمره قبل أن يرى نفسيته و آثار نفسيته كما هو ظاهر سياق قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض» الآية، و قوله في ذيل الآيات: «و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم» الآية، و قوله: «و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين»: الأنبياء: 51.
و قول إبراهيم لأبيه فيما حكى الله تعالى: «يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا»: مريم: 43 إلى غير ذلك من الآيات.
ثم حاج الملك نمرود في دعواه الربوبية على ما كان ذلك من دأب كثير من جبابرة السلف و من نظائر ذلك نشأت الوثنية و كانت لقومه آلهة كثيرة لها أصنام يعبدونها، و فيهم من كان يعبد أرباب الأصنام كالشمس و القمر و الكوكب الذي ذكره القرآن الكريم و لعله الزهرة.
هذا ملخص ما يستفاد من الآيات الكريمة و سنبحث عن مضامينها تفصيلا بحسب ما نستطيعه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر» القراءات السبع في آزر بالفتح فيكون عطف بيان أو بدلا من أبيه و في بعض القراءات «آزر» بالضم و ظاهره أنه منادى مرفوع بالنداء، و التقدير: يا آزر أ تتخذ أصناما آلهة، و قد عد من القراءات «أ أزرا تتخذ» مفتتحا بهمزة الاستفهام، و بعده «أزرا» بالنصب مصدر أزر يأزر بمعنى قوي و المعنى: و إذ قال إبراهيم لأبيه أ تتخذ أصناما للتقوي و الاعتضاد.
و قد اختلف المفسرون على القراءة الأولى المشهورة و الثانية الشاذة في «آزر» أنه اسم علم لأبيه أو لقب أريد بمعناه المدح أو الذم بمعنى المعتضد أو بمعنى الأعرج أو المعوج أو غير ذلك و منشأ ذلك ما ورد في عدة روايات أن اسم أبيه «تارح» بالحاء المهملة أو المعجمة و يؤيده ما ضبطه التاريخ من اسم أبيه، و ما وقع في التوراة الموجودة أنه (عليه السلام) ابن تارخ.
كما اختلفوا أن المراد بالأب هو الوالد أو العم أو الجد الأمي أو الكبير المطاع و منشأ ذلك أيضا اختلاف الروايات فمنها ما يتضمن أنه كان والده و أن إبراهيم (عليه السلام) سيشفع له يوم القيامة و لكن لا يشفع بل يمسخه الله ضبعا منتنا فيتبرأ منه إبراهيم، و منها ما يدل على أنه لم يكن والده، و أن والده كان موحدا غير مشرك، و ما يدل على أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا جميعا موحدين غير مشركين إلى غير ذلك من الروايات، و قد اختلفت في سائر ما قص من أمر إبراهيم اختلافا عجيبا حتى اشتمل بعضها على نظائر ما ينسبه إليه العهد العتيق مما تنزهه عنه الخلة الإلهية و النبوة و الرسالة.
و قد أطالوا هذا النمط من البحث حتى انجر إلى غايات بعيدة تغيب عندها رسوم البحث التفسيري الذي يستنطق الآيات الكريمة عن مقاصدها عن نظر الباحث، و على من يريد الاطلاع على ذلك أن يراجع مفصلات التفاسير و كتب التفسير بالمأثور.
و الذي يهدي إليه التدبر في الآيات المتعرضة لقصصه (عليه السلام) أنه (عليه السلام) في أول ما عاشر قومه بدأ بشأن رجل يذكر القرآن أنه كان أباه آزر، و قد أصر عليه أن يرفض الأصنام و يتبعه في دين التوحيد فيهديه حتى طرده أبوه عن نفسه و أمره أن يهجره قال تعالى: «و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا - إلى أن قال - قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا»: مريم: 46 فسلم عليه إبراهيم و وعده أن يستغفر له، و لعله كان طمعا منه في إيمانه و تطميعا له في السعادة و الهدى قال تعالى: «قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، و أعتزلكم و ما تدعون من دون الله و أدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا»: مريم: 48 و الآية الثانية أحسن قرينة على أنه (عليه السلام) إنما وعده أن يستغفر له في الدنيا لا أن يشفع له يوم القيامة و إن بقي كافرا أو بشرط أن لا يعلم بكفره.
ثم حكى الله سبحانه إنجازه (عليه السلام) لوعده هذا و استغفاره لأبيه في قوله: «رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين و اجعل لي لسان صدق في الآخرين و اجعلني من ورثة جنة النعيم و اغفر لأبي إنه كان من الضالين و لا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء: 89 و قوله: «إنه كان من الضالين» يدل على أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء لأبيه بعد موته أو بعد مفارقته إياه و هجره له لمكان قوله: «كان» و ذيل كلامه المحكي في الآيات يدل على أنه كان صورة دعاء أتى بها للخروج عن عهدة ما وعده و تعهد له فإنه (عليه السلام) يقول: اغفر لهذا الضال يوم القيامة ثم يصف يوم القيامة بأنه لا ينفع فيه شيء إلا القلب السليم.
و قد كشف الله سبحانه عن هذه الحقيقة بقوله - و هو في صورة الاعتذار -: «ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم»: التوبة: 114 و الآية بسياقها تشهد على أن هذا الدعاء إنما صدر منه (عليه السلام) في الدنيا و كذلك التبري منه لا أنه سيدعو له ثم يتبرأ منه يوم القيامة فإن السياق سياق التكليف التحريمي العام و قد استثنى منه دعاء إبراهيم، و بين أنه كان في الحقيقة وفاء منه (عليه السلام) بما وعده، و لا معنى لاستثناء ما سيقع مثلا يوم القيامة عن حكم تكليفي مشروع في الدنيا ثم ذكر التبري يوم القيامة.
و بالجملة هو سبحانه يبين دعاء إبراهيم (عليه السلام) لأبيه ثم تبريه منه، و كل ذلك في أوائل عهد إبراهيم و لما يهاجر إلى الأرض المقدسة بدليل سؤاله الحق و اللحوق بالصالحين و أولادا صالحين كما يستفاد من قوله في الآيات السابقة: رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين» الآية و قوله تعالى - و يتضمن التبري عن أبيه و قومه و استثناء الاستغفار أيضا -: «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم و الذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم و مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم و بدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك و ما أملك لك من الله من شيء»: الممتحنة: 4.
ثم يذكر الله تعالى عزمه (عليه السلام) على المهاجرة إلى الأرض المقدسة و سؤاله أولادا صالحين بقوله: «فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين، و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين»: الصافات: 100.
ثم يذكر تعالى ذهابه إلى الأرض المقدسة و رزقه صالح الأولاد بقوله: «و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، و نجيناه و لوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين»: الأنبياء: 72 و قوله: «فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب و كلا جعلنا نبيا»: مريم: 49.
ثم يذكر تعالى آخر دعائه بمكة و قد وقع في آخر عهده (عليه السلام) بعد ما هاجر إلى الأرض المقدسة و ولد له الأولاد و أسكن إسماعيل مكة و عمرت البلدة و بنيت الكعبة، و هو آخر ما حكي من كلامه في القرآن الكريم: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام - إلى أن قال - ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة - إلى أن قال - الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء - إلى أن قال - ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب»: إبراهيم: 41.
و الآية بما لها من السياق و بما احتف بها من القرائن أحسن شاهد على أن والده الذي دعا له فيها غير الذي يذكره سبحانه بقوله: «لأبيه آزر» فإن الآيات كما ترى تنص على أن إبراهيم (عليه السلام) استغفر له وفاء بوعده ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله، و لا معنى لإعادته (عليه السلام) الدعاء لمن تبرأ منه و لاذ إلى ربه من أن يمسه فأبوه آزر غير والده الصلبي الذي دعا له و لأمه معا في آخر دعائه.
و من لطيف الدلالة في هذا الدعاء أعني دعاءه الأخير ما في قوله: «و لوالدي» حيث عبر بالوالد و الوالد لا يطلق إلا على الأب الصلبي و هو الذي يلد و يولد الإنسان مع ما في دعائه الآخر: «و اغفر لأبي إنه كان من الضالين» و الآيات الآخر المشتملة على ذكر أبيه آزر فإنها تعبر عنه بالأب و الأب ربما تطلق على الجد و العم و غيرهما، و قد اشتمل القرآن الكريم على هذا الإطلاق بعينه في قوله تعالى: «أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك و إله آبائك إبراهيم و إسماعيل و إسحاق إلها واحدا و نحن له مسلمون»: البقرة: 133 فإبراهيم جد يعقوب و إسماعيل عمه و قد أطلق على كل منهما الأب، و قوله تعالى فيما يحكي من كلام يوسف (عليه السلام): «و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب»: يوسف: 38 فإسحاق جد يوسف و إبراهيم (عليهما السلام) جد أبيه و قد أطلق على كل منهما الأب.
فقد تحصل أن آزر الذي تذكره الآية ليس أبا لإبراهيم حقيقة و إنما كان معنونا ببعض الأوصاف و العناوين التي تصحح إطلاق الأب عليه، و أن يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بيا أبت، و اللغة تسوغ إطلاق الأب على الجد و العم و زوج أم الإنسان بعد أبيه و كل من يتولى أمور الشخص و كل كبير مطاع، و ليس هذا التوسع من خصائص اللغة العربية بل يشاركها فيه و في أمثاله سائر اللغات كالتوسع في إطلاق الأم و العم و الأخ و الأخت و الرأس و العين و الفم و اليد و العضد و الإصبع و غير ذلك مما يهدي إليه ذوق التلطف و التفنن في التفهيم و التفهم.
فقد تبين أولا أن لا موجب للاشتغال بما تقدمت الإشارة إليه من الأبحاث الروائية و التاريخية و الأدبية في أبيه و لفظة آزر و أنه هل هو اسم علم أو لقب مدح أو ذم أو اسم صنم فلا حاجة إلى شيء من ذلك في الحصول على مراد الآية.
على أن غالب ما أوردوه في هذا الباب تحكم لا دليل عليه مع ما فيه من إفساد ظاهر الآية و إخلال أمر السياق باعتبار التراكيب العجيبة التي ذكروها للجملة «آزر أ تتخذ أصناما آلهة» من تقديم و تأخير و حذف و تقدير.
و ثانيا: أن والده الحقيقي غير آزر لكن القرآن لم يصرح باسمه، و إنما وقع في الروايات و يؤيده ما يوجد في التوراة أن اسمه «تارخ».
و من عجيب الوهم ما ذكره بعض الباحثين أن القرآن الكريم كثيرا ما يهمل فيما يذكره من تاريخ الأنبياء و الأمم و يقصه من قصص الماضين أمورا مهمة هي من جوهريات القصص كذكر تاريخ الوقوع و محله و الأوضاع الطبيعية و الاجتماعية و السياسية و غيرها المؤثرة في تكون الحوادث الدخيلة في تركب الوقائع و منها ما في مورد البحث فإن من العوامل المقومة لمعرفة حقيقة هذه القصة معرفة اسم أبي إبراهيم و نسبه و تاريخ زمن نشوئه و نهضته و دعوته و مهاجرته.
و ليس ذلك إلا لأن القرآن سلك في قصصه المسلك الجيد الذي يهدي إليه فن القصص الحقيقي و هو أن يختار القاص في قصته كل طريق ممكن موصل إلى غايته و مقصده إيصالا حسنا، و يمثل المطلوب تمثيلا تاما بالغا من غير أن يبالغ في تمييز صحيح ما يقصه من سقيمه، و يحصي جميع ما هو من جوهريات القصة كتأريخ الوقوع و مكانه و سائر نعوته اللازمة فمن الجائز أن يأخذ القرآن الكريم في سبيل النيل إلى مقصده و هو الهداية إلى السعادة الإنسانية قصصا دائرة بين الناس أو بين أهل الكتاب في عصر الدعوة و إن لم يوثق بصحتها أو لم يتبين فيما بأيديهم من القصة جميع جهاتها الجوهرية حتى لو كانت قصة تخييلية كما قيل بذلك في قصة موسى و فتاه و في قصة الملإ الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت و غير ذلك فالفن القصصي لا يمنع شيئا من ذلك بعد ما ميز القاص أن القصة أبلغ وسيلة و أسهل طريقة إلى النيل بمقصده.
و هذا خطأ فإن ما ذكره من أمر الفن القصصي حق غير أن ذلك غير منطبق على مورد القرآن الكريم فليس القرآن كتاب تاريخ و لا صحيفة من صحف القصص التخييلية و إنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و قد نص على أنه كلام الله سبحانه، و أنه لا يقول إلا الحق، و أن ليس بعد الحق إلا الضلال، و أنه لا يستعين للحق بباطل، و لا يستمد للهدى بضلال، و أنه كتاب يهدي إلى الحق و إلى صراط مستقيم، و أن ما فيه حجة لمن أخذ به و على من تركه في آيات جمة لا حاجة إلى إيرادها فكيف يسع لباحث يبحث عن مقاصد القرآن أن يجوز اشتماله على رأي باطل أو قصة كاذبة باطلة أو خرافة أو تخييل.
لست أريد أن مقتضى الإيمان بالله و رسوله و بما جاء به رسوله أن ينفى عن القرآن أن يشتمل على باطل أو كذب أو خرافة و إن كان ذلك، و لا أن الواجب على كل إنسان سليم العقل صحيح الفكر مستقيم الأمر أن تخضع نفسه للقرآن بتصديقه و نفي كل خطإ و زلة عنه في وسائل من المعارف توسل بها إلى مقاصده، و في نفس تلك المقاصد و إن كان كذلك.
و إنما أقول: إنه كتاب يدعي لنفسه أنه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى حقيقة سعادتهم يهدي بالحق و يهدي إلى الحق و من الواجب على من يفسر كتابا هذا شأنه و يستنطقه في مقاصده و مطالبه أن يفترضه صادقا في حديثه مقتصرا على ما هو الحق الصريح في خبره و كل ما يسوقه من بيان أو يقيمه من برهان على مقاصده و أغراضه هاديا إلى الصراط الذي لا يتخلله باطل موصلا إلى غاية لا يشوبها شيء من غير جنس الحق و لا يداخلها أي وهن و فتور.
و كيف يكون مقصد من المقاصد حقا على الإطلاق و قد تسرب باطل ما إلى طريقه الذي يدعو إليه المقصد و لا يدعو - على ما يراه - إلا إلى حق؟ و كيف يكون قضية من القضايا قولا فصلا ما هو بالهزل و قد تسرب إلى البيان المنتج لها شيء من المسامحة و المساهلة؟ و كيف يمكن أن يكون حديث أو نبأ كلاما لله الذي يعلم غيب السماوات و الأرض و قد دب فيه جهل أو خبط أو خطاء؟ و هل ينتج النور ظلمة أو الجهل معرفة؟.
فهذا هو المسلك الوحيد الذي لا يحل تعديه في استنطاق القرآن الكريم في مضامين آياته و هو يرى أنه كلام حق لا يشوبه باطل في غرضه و طريق غرضه.
و أما البحث عن أنه هل هو صادق فيما يدعيه لنفسه: أنه كلام الله، و أنه محض الحق في طريقه و غايته؟ و أنه ما ذا يقضي به الكتب المقدسة الأخرى كالعهدين و أوستا و غيرها في قضايا قضى بها القرآن؟ و أنه ما ذا تهدي إليه الأبحاث العلمية الأخر التاريخية أو الطبيعية أو الرياضية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو غيرها؟ فإنما هذه و أمثالها أبحاث خارجة عن وظيفة التفسير ليس من الجائز أن تخلط به أو يقام بها مقامه.
نعم قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء: 82 ينطق بأن هناك شبهات عارضة و أوهاما متسابقة إلى الأذهان تسول لها أن في القرآن اختلافا كان يتراءى من آية أنها تخالف آية، أو أن يستشكل في آية أنها بمضمونها تخالف الحق و الحقيقة و إذ كان القرآن ينص على أنه يهدي إلى الحق فيختلف الآيتان بالآخرة، هذه تدل على أن كل ما تنبىء عنه آية فهو حق و هذه بمضمونها تنبىء نبأ غير حق لكن الآية أعني قوله: «أ فلا يتدبرون القرآن» إلخ، تصرح القول بأن القرآن تكفي بعض آياته لدفع المشكلة عن بعضها الآخر و يكشف جزء منه عما اشتبه على بعض الأفهام من حال جزء آخر فعلى الباحث عن مراده و مقصده أن يستعين بالبعض على البعض و يستشهد بالبعض على البعض و يستنطق البعض في البعض و القرآن الكريم كتاب دعوة و هداية لا يتخطى عن صراطه و لو خطوة و ليس كتاب تاريخ و لا قصة و ليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية و لا مسلك الفن القصصي، و ليس فيه هوى ذكر الأنساب و لا مقدرات الزمان و المكان، و لا مشخصات أخر لا غنى للدرس التاريخي أو القصة التخييلية عن إحصائها و تمثيلها.
فأي فائدة دينية في أن ينسب إبراهيم أنه إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاذ بن سام بن نوح؟ أو أن يقال: إنه ولد في أور الكلدانيين حدود سنة ألفين تقريبا قبل الميلاد في عهد فلان الملك الذي ولد في كذا و ملك كذا مدة و مات سنة كذا.
و سنجمع في ذيل البحث عن آيات القصة جملا من قصة إبراهيم (عليه السلام) منثورة في القرآن ثم نتبعها بما في التوراة و غيرها من تاريخ حياته و شخصيته فلينظر الباحث المتدبر بعين النصفة ثم ليقض فيما اختاره القرآن منها و حققه ما هو قاض.
و القرآن الكريم مع ذلك لم يهمل الواجب في حق العلوم النافعة، و لم يحرم البحث عن العالم و أجزائه السماوية و الأرضية، و لا منع من استطلاع أخبار الأمم الماضية و سنن المجتمعات و القرون الخالية، و الاستعانة بها على واجب المعرفة و لازم العلم و الآيات تمدح العلم أبلغ المدح، و تندب إلى التفكر و التفقه و التذكر كثرة لا حاجة معها إلى إيرادها هاهنا.
قوله تعالى: «أ تتخذ أصناما آلهة إني أراك و قومك في ضلال مبين» قال الراغب في المفردات:، الصنم جثة متخذة من فضة أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونها متقربين به إلى الله تعالى و جمعه أصنام قال الله تعالى: أ تتخذ أصناما آلهة، لأكيدن أصنامكم، انتهى، و ما ذكره من اتخاذه من فضة أو نحاس أو خشب إنما هو من باب المثال لا ينحصر فيه اتخاذها بل كان يتخذ من كل ما يمكن أن يمثل به تمثال من أقسام الفلزات و الحجارة و غيرها، و قد روي أن بني حنيفة من اليمامة كانوا قد اتخذوا صنما من أقط، و ربما كانوا يتخذونه من الطين و ربما كان صورة مصورة.
و كيف كان فقد كانت الأصنام ربما يمثل بها موضوع اعتقادي غير محسوس كإله السماء و الأرض و إله العدل، و ربما يمثل بها موضوع محسوس كصنم الشمس و صنم القمر، و قد كانت من النوعين جميعا أصنام لقوم إبراهيم (عليه السلام) على ما تؤيده الآثار المكشوفة منهم في خرائب بابل و قد كانوا يعبدونها تقربا بها إلى أربابها، و بأربابها إلى الله سبحانه، و هذا أنموذج بارز من سفه أحلام البشر أن يخضع أعلى حد الخضوع - و هو خضوع العبد للرب - لمثال مثل به موضوعا يستعظم أمره و يعظمه، و حقيقته منتهى درجة خضوع المصنوع المربوب لصانعه من صانع لمصنوع نفسه كان الواحد منهم يأخذ خشبة فينحت بيده منه صنما ثم ينصبه فيعبده و يتذلل له و يخضع و لذلك جيء بلفظة الأصنام في قوله المحكي: «أ تتخذ أصناما آلهة» نكرة ليدل على هوان أمرها و حقارته من جهة أنها مصنوعة لهم مخلوقة بأيديهم كما يشير إليه قوله (عليه السلام) لقومه فيما حكى الله: «أ تعبدون ما تنحتون»: الصافات: 95 و من جهة أنها فاقدة لأظهر صفات الربوبية و هو العلم و القدرة كما في قوله لأبيه: «إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا»: مريم: 42.
فقوله: «أ تتخذ أصناما» إلخ، معناه: أ تتخذ أصناما لا خطر في أمرها آلهة و الإله هو الذي في أمره خطر عظيم إني أراك و قومك في ضلال مبين، و كيف لا يظهر هذا الضلال و هو عبادة و تذلل عبودي من صانع فيه آثار العلم و القدرة لمصنوعه الذي يفقد العلم و القدرة.
و الذي تشتمل عليه الآية أعني قوله: «أ تتخذ أصناما آلهة» إلخ، من الحجاج و إن كان بمنزلة التلخيص لعدة احتجاجات واجه بها إبراهيم (عليه السلام) أباه و قومه على ما حكي تفصيلها في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أنه أول ما حاج به أباه و قومه فإن الذي حكاه الله سبحانه من محاجته هو حجاجه أباه و حجاجه قومه في أمر الأصنام و حجاجهم في ربوبية الكوكب و القمر و الشمس و حجاجه الملك.
أما حجاجه في ربوبية الكوكب و القمر و الشمس فالآيات دالة على كونه بعد الحجاج في أمر الأصنام، و الاعتبار و التدبر يعطي أن يكون حجاجه الملك بعد ما ظهر أمره و شاع مخالفته لدين الوثنية و الصابئة و كسر الأصنام، و أن يكون مبدأ أمره مخالفته أباه في دينه و هو معه و عنده قبل أن يواجه الناس و يخالفهم في نحلتهم فقد كان أول ما حاج به في التوحيد هو ما حاج به أباه و قومه في أمر الأصنام.
قوله تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض» إلخ، ظاهر السياق أن تكون الإشارة بقوله: «كذلك» إلى ما تضمنته الآية السابقة: «و إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أ تتخذ أصناما آلهة إني أراك» إلخ، أنه (عليه السلام) أري الحق في ذلك، فالمعنى: على هذا المثال من الإراءة نري إبراهيم ملك السماوات و الأرض.
و بمعونة هذه الإشارة و دلالة قوله في الآية التالية: «فلما جن عليه الليل» الدالة على ارتباط ما بعده بما قبله يظهر أن قوله: «نري» لحكاية الحال الماضية كقوله تعالى: «و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض»: القصص: 5.
فالمعنى: أنا أرينا إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض فبعثه ذلك أن حاج أباه و قومه في أمر الأصنام و كشف له ضلالهم، و كنا نمده بهذه العناية و الموهبة و هي إراءة الملكوت و كان على هذه الحال حتى جن عليه الليل و رأى كوكبا.
و بذلك يظهر أن ما يتراءى من بعضهم: أن قوله: «و كذلك نري» إلخ، كالمعترضة لا يرتبط بما قبله و لا بما بعده، و كذا قول بعضهم: إن إراءة الملكوت أول ما ظهر من أمرها في إبراهيم (عليه السلام) أنه لما جن عليه الليل رأى كوكبا إلخ، فاسد لا ينبغي أن يصار إليه.
و أما ملكوت السماوات و الأرض فالملكوت هو الملك مصدر كالطاغوت و الجبروت و إن كان آكد من حيث المعنى بالنسبة إلى الملك كالطاغوت و الجبروت بالنسبة إلى الطغيان و الجبر أو الجبران.
و المعنى الذي يستعمله فيه القرآن هو المعنى اللغوي بعينه من غير تفاوت كسائر الألفاظ المستعملة في كلامه تعالى غير أن المصداق غير المصداق و ذلك أن الملك و الملكوت و هو نوع من السلطنة إنما هو فيما عندنا معنى افتراضي اعتباري بعثنا إلى اعتباره الحاجة الاجتماعية إلى نظم الأعمال و الأفراد نظما يؤدي إلى الأمن و العدل و القوة الاجتماعيات و هو في نفسه يقبل النقل و الهبة و الغصب و التغلب كما لا نزال نشاهد ذلك في المجتمعات الإنسانية.
و هذا المعنى على أنه وضعي اعتباري و إن أمكن تصويره في مورده تعالى من جهة أن الحكم الحق في المجتمع البشري لله سبحانه كما قال تعالى: «إن الحكم إلا لله»: الأنعام: 57 و قال: «له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم»: القصص: 70 لكن تحليل معنى هذا الملك الوضعي يكشف عن ثبوت ذلك في الحقائق ثبوتا غير قابل للزوال و الانتقال كما أن الواحد منا يملك نفسه بمعنى أنه هو الحاكم المسلط المتصرف في سمعه و بصره و سائر قواه و أفعاله بحيث إن سمعه إنما يسمع و بصره إنما يبصر بتبع إرادته و حكمه لا بتبع إرادة غيره من الأناسي و حكمه و هذا معنى حقيقي لا نشك في تحققه فينا مثلا تحققا لا يقبل الزوال و الانتقال كما عرفت فالإنسان يملك قوى نفسه و أفعال نفسه و هي جميعا تبعات وجوده قائمة به غير مستقلة عنه و لا مستغنية عنه فالعين إنما تبصر بإذن من الإنسان الذي يبصر بها و كذا السمع يسمع بإذن منه، و لو لا الإنسان لم يكن بصر و لا إبصار و لا سمع و لا استماع كما أن الفرد من المجتمع إنما يتصرف فيما يتصرف فيه بإذن من الملك أو ولي الأمر، و لو لم تكن هذه القوة المدبرة التي تتوحد عندها أزمة المجتمع لم يكن اجتماع، و لو منع عن تصرف من التصرفات الفردية لم يكن له أن يتصرف و لا نفذ منه ذلك، و لا شك أن هذا المعنى بعينه موجود لله سبحانه الذي إليه تكوين الأعيان و تدبير النظام فلا غنى لمخلوق عن الخالق عز اسمه لا في نفسه و لا في توابع نفسه من قوى و أفعال، و لا استقلال له لا منفردا و لا في حال اجتماعه مع سائر أجزاء الكون و ارتباط قوى العالم و امتزاج بعضها ببعض امتزاجا يكون هذا النظام العام المشاهد.
قال تعالى: «قل اللهم مالك الملك»: آل عمران: 26 و قال تعالى: «لله ملك السماوات و الأرض»: المائدة: 120 و قال تعالى: «تبارك الذي بيده الملك و هو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت و الحياة - إلى أن قال - الذي خلق سبع سماوات طباقا»: الملك: 3 و الآيات - كما ترى - تعلل الملك بالخلق فكون وجود الأشياء منه و انتساب الأشياء بوجودها و واقعيتها إليه تعالى هو الملاك في تحقق ملكه و هو بمعنى ملكه الذي لا يشاركه فيه غيره و لا يزول عنه إلى غيره و لا يقبل نقلا و لا تفويضا يغني عنه تعالى و ينصب غيره مقامه.
و هذا هو الذي يفسر به معنى الملكوت في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس: 83 فالآية الثانية تبين أن ملكوت كل شيء هو كلمة كن الذي يقوله الحق سبحانه له، و قوله فعله، و هو إيجاده له.
فقد تبين أن الملكوت هو وجود الأشياء من جهة انتسابها إلى الله سبحانه و قيامها به، و هذا أمر لا يقبل الشركة و يختص به سبحانه وحده، فالربوبية التي هي الملك و التدبير لا تقبل تفويضا و لا تمليكا انتقاليا.
و لذلك كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية كما قال تعالى: «أ و لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله من شيء و أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون»: الأعراف: 185 و الآية - كما ترى - تحاذي أول سورة الملك المنقول آنفا.
فقد بان أن المراد بإراءة إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض على ما يعطيه التدبر في سائر الآيات المربوطة بها هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه، و إذ كان استنادا لا يقبل الشركة لم يلبث دون أن حكم عليها أن ليس لشيء منها أن يرب غيره و يتولى تدبير النظام و أداء الأمور فالأصنام تماثيل عملها الإنسان و سماها أسماء لم ينزل الله عليها من سلطان، و ما هذا شأنه لا يرب الإنسان و لا يملكه و قد عملته يد الإنسان، و الأجرام العلوية كالكوكب و القمر و الشمس تتحول عليها الحال فتغيب عن الإنسان بعد حضورها، و ما هذا شأنه لا يكون له الملك و تولي التدبير تكوينا كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: «و ليكون من الموقنين» اللام للتعليل، و الجملة معطوفة على أخرى محذوفة و التقدير: ليكون كذا و كذا و ليكون من الموقنين.
و اليقين هو العلم الذي لا يشوبه شك بوجه من الوجوه، و لعل المراد به أن يكون على يقين بآيات الله على حد ما في قوله: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: السجدة: 24 و ينتج ذلك اليقين بأسماء الله الحسنى و صفاته العليا.
و في معنى ذلك ما أنزله في خصوص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا»: الإسراء: 1 و قال: «ما زاغ البصر و ما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى»: النجم: 18 و أما اليقين بذاته المتعالية فالقرآن يجله تعالى أن يتعلق به شك أو يحيط به علم و إنما يسلمه تسليما.
و قد ذكر في كلامه تعالى من خواص العلم اليقيني بآياته تعالى انكشاف ما وراء ستر الحس من حقائق الكون على ما يشاء الله تعالى كما في قوله: «كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم»: التكاثر: 6 و قوله: «كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، و ما أدراك ما عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون»: المطففين: 21.
قوله تعالى: «فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي» إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات،: أصل الجن بفتح الجيم ستر الشيء عن الحاسة يقال: جنه الليل و أجنه و جن عليه: فجنه ستره، و أجنه جعل له ما يجنه كقولك: قبرته و أقبرته و سقيته و أسقيته، و جن عليه كذا ستر عليه قال عز و جل: فلما جن عليه الليل رءا كوكبا، انتهى.
فجن الليل إسداله الظلام لا مجرد ما يحصل بغروب الشمس.
و قوله: «فلما جن عليه الليل» تفريع على ما تقدم من نفيه ألوهية الأصنام بما يرتبطان بقوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض» و محصل المعنى على ذلك أنا كنا نريه الملكوت من الأشياء فأبطل ألوهية الأصنام إذ ذاك، و دامت عليه الحال فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال كذا و كذا.
و قوله: «رءا كوكبا» كأن تنكير الكوكب إنما هو لنكتة راجعة إلى مرحلة الإخبار و التحدث فلا غرض في الكلام يتعلق بتعيين هذا الكوكب و أنه أي كوكب كان من السيارات أو الثوابت لأن الذي أخذه في الحجاج يجري في أي كوكب من الكواكب يطلع و يغرب لا أن إبراهيم (عليه السلام) أشار إلى كوكب ما من الكواكب من غير أن يمتاز بأي مميز مفروض: أما أولا فلأن اللفظ لا يساعده فلا يقال لمن أشار إلى كوكب بين كواكب لا تحصى كثرة فقال: هذا ربي: إنه رأى كوكبا قال هذا ربي، و أما ثانيا فلأن ظاهر الآيات أنه كان هناك قوم يعبدون الكوكب الذي أشار إليه و قال فيه ما قال، و الصابئون ما كانوا يعبدون أي كوكب و لا يحترمون إلا السيارات.
و الذي يؤيده الاعتبار أنه كان كوكب الزهرة، و ذلك لأن الصابئين ما كانوا يحترمون و ينسبون حوادث العالم الأرضي إلا إلى سبعة من الأجرام العلوية التي كانوا يسمونها بالسيارات السبع: القمر، و عطارد، و الزهرة، و الشمس، و المريخ، و المشتري، و زحل و إنما كان أهل الهند هم الذين يحترمون النجوم الثوابت و ينسبون الحوادث إليها، و نظيرهم في ذلك بعض أرباب الطلسمات و وثنية العرب و غيرهم.
فالظاهر أن الكوكب كان أحد السبعة و القمر و الشمس مذكوران بعد، و عطارد مما لا يرى إلا شاذا لضيق مداره فقد كان أحد الأربعة: الزهرة، و المريخ و المشتري، و زحل، و الزهرة من بينها هي الكوكبة الوحيدة التي يمنعها ضيق مدارها أن تبتعد من الشمس أكثر من سبع و أربعين درجة، و لذلك كانت كالتابعة الملازمة للشمس فأحيانا تتقدمها فتطلع قبيل طلوعها و تسمى عند العامة حينئذ نجمة الصباح ثم تغيب بعد طلوعها، و أحيانا تتبعها فتظهر بعد غروب الشمس في أفق المغرب ثم لا تلبث إلا قليلا في أول الليل دون أن تغيب، و إذا كانت على هذا الوضع و الليلة من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري كليلة ثماني عشرة و تسع عشرة و العشرين فإنها تجامع بغروبها طلوع القمر فترى أن الشمس تغرب فتظهر الزهرة في الأفق الغربي ثم تغرب بعد ساعة أو ساعتين مضتا من غروب الشمس ثم يطلع القمر عند ذلك أو بعد ذلك بيسير.
و هذه الخصوصية من بينها إنما هي للزهرة بحسب نظام سيرها و في غيرها كالمشتري و المريخ و زحل أمر اتفاقي ربما يقع في أوضاع خاصة لا يسبق إلى الذهن فيشبه من هنا أن الكوكب كان هو الزهرة.
على أن الزهرة أجمل الكواكب الدرية و أبهجها و أضوؤها أول ما يجلب نظر الناظر إلى السماء بعد جن الليل و عكوف الظلام على الآفاق يجلب إليها.
و هذا أحسن ما يمكن أن تنطبق عليه الآية بحسب ما يتسابق إلى الذهن من قوله: فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل - إلى أن قال - فلما رءا القمر بازغا «إلخ» حيث وصل ظاهرا بين أفول الكوكب و بزوغ القمر.
و يتأيد هذا الذي ذكرناه بما ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الكوكب كان هو الزهرة.
و على هذا فقد كان (عليه السلام) رأى الزهرة و القوم يتنسكون بواجب عبادتها من خضوع و صلاة و قربان، و كانت الزهرة وقتئذ تتلو الشمس في غروبها، و الليلة من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري جن عليه الليل فرأى الزهرة في الأفق الغربي حتى أفلت فرأى القمر بازغا بعده.
و قوله تعالى: «قال هذا ربي» المراد بالرب هو مالك الأشياء المربوبين، المدبر لأمرهم لا الذي فطر السماوات و الأرض و أوجد كل شيء بعد ما لم يكن موجودا فإنه الله سبحانه الذي ليس بجسم و لا جسماني و لا يحويه مكان و لا يقع عليه إشارة، و الذي يظهر مما حكي من كلام إبراهيم مع قومه في أمر الأصنام ظهورا لا شك فيه أنه كان على بينة من ربه و له من العلم بالله و آياته ما لا يخفى عليه معه أن الله سبحانه أنزه ساحة من التجسم و التمثل و المحدودية، قال تعالى حكاية عنه في محاورة له مع أبيه: «يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا» إلى آخر الآيات: مريم: 43.
على أن الوثنيين و الصابئين لا يثبتون لله سبحانه شريكا في الإيجاد يكافىء بوجوده وجوده تعالى بل إنما يثبتون الشريك بمعنى بعض من هو مخلوق لله مصنوع له و لا أقل مفتقر الوجود إليه فوض إليه بعد تدبير الخليقة كإله الحسن و إله العدل و إله الخصب أو تدبير بعض الخليقة كإله الإنسان أو إله القبيلة أو إله يخص بعض الملوك و الأشراف و قد دلت على ذلك آثارهم المستخرجة و أخبارهم المروية، و الموجودون منهم اليوم على هذه الطريقة فقوله (عليه السلام) بالإشارة إلى الكوكب: «هذا ربي» أراد به إثبات أنه رب يدبر الأمر لا إله فاطر مبدع.
و عليه يدل ما حكي عنه في آخر الآيات المبحوث عنها: «قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين» فإن ظاهره أنه ينصرف عن فرض الشريك إلى إثبات أن لا شريك له لا أنه يثبت وجوده تعالى.
فالذي يعطيه ظاهر الآيات أنه (عليه السلام) سلم أن لجميع الأشياء إلها فاطرا واحدا لا شريك له في الفطر و الإيجاد و هو الله تعالى، و أن للإنسان ربا يدبر أمره لا محالة، و إنما يبحث عن أن هذا الرب المدبر للأمر أ هو الله سبحانه و إليه يرجع التدبير كما إليه يرجع الإيجاد أم أنه بعض خلقه أخذه شريكا لنفسه و فوض إليه أمر التدبير.
و في إثر ذلك ما كان منه (عليه السلام) من افتراض الكوكب الذي كانوا يعبدونه ثم القمر ثم الشمس و النظر في أمر كل منها هل يصلح لأن يتولى أمر التدبير و إدارة شئون الناس؟.
و هذا الافتراض و النظر و إن كان بحسب طبعه قبل العلم اليقيني بالنتيجة فإن النتيجة فرع يتأخر طبعا عن الحجة النظرية لكنه لا يضر به (عليه السلام) فإن الآيات كما استفدناه فيما تقدم تقص أول أمر إبراهيم و الإنسان في أول زمن يأخذ بالتمييز و يصلح لتعلق التكليف الإلهي بالنظر في أمر التوحيد و سائر المعارف الأصلية كاللوح الخالي عن النقش و الكتابة غير مشغول بنقش مخالف فإذا أخذ في الطلب و شرع يثبت شيئا و ينفي شيئا لغاية الحصول على الاعتقاد الحق و الإيمان الصحيح فهو بعد في سبيل الحق لا بأس عليه في زمن يمر عليه بين الانتزاع من قصور التمييز و بين الاعتصام بالمعرفة الكاملة و العلم التام بالحق.
و من ضروريات حياة الإنسان أن يمر عليه لحظة هي أول لحظة ينتقل فيها من قصور الجهل بواجب الاعتقاد إلى بلوغ العلم بحيث يتعلق به التكليف العقلي بالانتهاض إلى الطلب و النظر، و هذه سنة عامة في الحياة الإنسانية المتدرجة من النقص إلى الكمال لا يختلف فيها إنسان و إنسان، و إن أمكن أن يظهر من بعض الأفراد بعض ما يخالف ذلك من أمارات الفهم و العلم قبل المتعارف من سن التمييز و البلوغ كما يحكيه القرآن عن المسيح و يحيى (عليهما السلام) فإنما ذلك من خوارق العادة الجارية و ما كل إنسان على هذا النعت و لا كل نبي فعل به ذلك.
و بالجملة ليس الإنسان من أول ما ينفخ فيه الروح الإنساني واجدا لشرائط التكليف بالاعتقاد الحق أو العمل الصالح، و إنما يستعد لذلك على سبيل التدريج حتى يستتم الشرائط فيكلف بالطلب و النظر فزمن حياته منقسم لا محالة إلى قسمين هما قبل التمييز و البلوغ و بعد التمييز و البلوغ و هو الزمان الذي يصلح لأن يشغله الاعتقاد كما أن ما يقابله يقابله فيه، و بين الزمانين الصالح لإشغاله بالاعتقاد و غير الصالح له لا محالة زمان متخلل يتوجه إليه فيه التكليف بالطلب و النظر، و هو الفصل الذي يبحث فيه عن واجب الاعتقاد بما تهدي إليه فطرته من طريق الاستدلال فيفرض نفسه أو العالم مثلا بلا صانع مرة و مع الصانع أخرى، و يفرض الصانع وحده مرة و مع الشريك أخرى و هكذا ثم ينظر ما ذا تؤيده الآثار المشهودة في العالم من كل فرض فرضه أو لا تؤيده فيأخذ بذاك و يترك هذا.
فهو ما لم يتم له الاستدلال غير قاطع بشيء و لا بان على شيء و إنما هو مفترض و مقدر لما افترضه و قدره.
و على هذا فقول إبراهيم (عليه السلام) في الكوكب: «هذا ربي» و كذا قوله الآتي في القمر و الشمس ليس من القطع و البناء اللذين يعدان من الشرك، و إنما هو افتراض أمر للنظر إلى الآثار التي تثبته و تؤيده، و من الدليل على ذلك ما في الآيات من الظهور في أنه (عليه السلام) كان على حالة الترقب و الانتظار، فهذا وجه.
و لكن الذي يتأيد بما حكاه الله عنه في سورة مريم في محاجته أباه: يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أ راغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا»: مريم: 47 أنه (عليه السلام) كان على علم بحقيقة الأمر و أن الذي يتولى تدبير أمره و يحفي عليه و يبالغ في إكرامه هو الله سبحانه دون غيره.
و على هذا فقوله: «هذا ربي» جار مجرى التسليم و المجاراة بعد نفسه كأحدهم و مجاراتهم و تسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم و بطلان قولهم، و هذا الطريق من الاحتجاج أجلب لإنصاف الخصم، و أمنع لثوران عصبيته و حميته، و أصلح لإسماع الحجة.
قوله تعالى: «فلما أفل قال لا أحب الآفلين» الأفول الغروب و فيه إبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه و لا يستقيم تدبير كوني مع الانقطاع.
على أن الربوبية و المربوبية بارتباط حقيقي بين الرب و المربوب و هو يؤدي إلى حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه و تبعيته له، و لا معنى لحب ما يفنى و يتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله، و ما يشاهد من أن الإنسان يحب كثيرا الجمال المعجل و الزينة الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه و زواله فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقة التي تحيا و تموت و تثبت و تزول و تطلع و تغرب و تظهر و تخفى و تشب و تشيب و تنضر و تشين، و هذا وجه برهاني و إن كان ربما يتخيل أنه بيان خطابي أو شعري فافهم ذلك.
و على أي حال فهو (عليه السلام) أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لأن المربوبية و العبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا يحب شيئا أن يعبده و قد ورد في المروي عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب؟» و قد بينا ذلك فيما تقدم.
و إما لكون الحجة متقومة بعدم الحب و إنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية لأن الربوبية و الألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية، و هذا الوجه هو الظاهر يتكىء عليه سياق الاحتجاج في الآية.
ففي الكلام أولا إشارة إلى التلازم بين الحب و العبودية أو المعبودية.
و ثانيا أنه أخذ في إبطال ربوبية الكوكب وصفا مشتركا بينه و بين القمر و الشمس ثم ساق الاحتجاج و كرر ما احتج به في الكوكب في القمر و الشمس أيضا، و ذلك إما لكونه (عليه السلام) لم يكن مسبوق الذهن من أمر القمر و الشمس و أنهما يطلعان و يغربان كالكوكب كما تقدمت الإشارة إليه و إما لكون القوم المخاطبين في كل من المراحل الثلاث غير الآخرين.
و ثالثا أنه اختار للنفي وصف أولي العقل حيث قال: «لا أحب الآفلين» و كأنه للإشارة إلى أن غير أولي الشعور و العقل لا يستحق الربوبية من رأس كما يؤمي إليه في قوله المحكي: «يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا»: مريم: 42 و قوله الآخر: «إذ قال لأبيه و قومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون»: الشعراء: 74 فسألهم أولا عن معبودهم كأنه لا يعلم من أمرها شيئا فأجابوه بما يشعر بأنها أجساد و هياكل غير عاقلة و لا شاعرة فسألهم ثانيا عن علمها و قدرتها و هو يعبر بلفظ أولي العقل للدلالة على أن المعبود يجب أن يكون على هذه الصفة صفة العقل.
قوله تعالى: «فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي» إلى آخر الآية، البزوغ هو الطلوع تقدم الكلام في دلالة قوله: «فلما رءا» إلخ، على اتصال القضية بما قبلها، و قوله: «هذا ربي» على سبيل الافتراض أو المجاراة و المماشاة و التسليم نظير ما تقدم في الآية السابقة.
و أما قوله بعد أفول القمر: «لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» فهو موضوع وضع الكناية فهو (عليه السلام) أبطل ربوبية الكوكب بما يعم كل غارب و لما غرب القمر ظهر عندئذ رأيه في أمر ربوبيته بما كان قد قاله قبل ذلك في الكوكب: «لا أحب الآفلين» فقوله: «لئن لم يهدني ربي» إلخ، إشارة إلى أن الوضع الذي ذكره في القمر بقوله: «هذا ربي» كان ضلالا لو دام و أصر عليه كان أحد أولئك الضالين القائلين بربوبيته و الوجه في كونه ضلالا ما قاله في الكوكب حيث عبر بوصف لا يختص به بل يصدق في مورده و كل مورد يشابهه.
و في الكلام إشارة أولا إلى أنه كان هناك قوم قائلون بربوبية القمر كالكوكب كما أن قوله في الآية التالية بعد ذكر أمر الشمس: «يا قوم إني بريء مما تشركون» لا يخلو عن الدلالة على مثله.
و ثانيا: أنه (عليه السلام) كان وقتئذ في مسير الطلب راجيا للهداية الإلهية مترقبا لما يفيض ربه عليه من النظر الصحيح و الرأي اليقيني سواء كان ذلك بحسب الحقيقة كما لو حملنا الكلام على الافتراض لتحصيل الاعتقاد، أو بحسب الظاهر كما لو حملناه على الوضع و التسليم لبيان الفساد، و قد تقدم الوجهان آنفا.
و ثالثا: أنه (عليه السلام) كان على يقين بأن له ربا إليه تدبير هدايته و سائر أموره، و إنما كان يبحث واقعا أو ظاهرا ليعرفه: أ هو الذي فطر السماوات و الأرض بعينه أو بعض من خلقه، و إذ بان له أن الكوكب و القمر لا يصلحان الربوبية لأفولها توقع أن يهديه ربه إلى نفسه و يخلصه من ضلال الضالين.
قوله تعالى: «فلما رءا الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر» الكلام في دلالة اللفظ على الاتصال بما قبله لمكان قوله: «فلما» و كون قوله: «هذا ربي» مسوقا للافتراض أو التسليم كما تقدم في الآية السابقة.
و قد كان تكرر قوله: «هذا ربي» في القمر لما رآه بازغا بعد ما رأى الكوكب، و لذلك ضم قوله: «هذا أكبر» إلى قوله «هذا ربي» في الشمس في المرة الثالثة ليكون بمنزلة الاعتذار للعود إلى فرض الربوبية لها مع تبين خطإ افتراضه مرة بعد مرة.
و قد تقدمت الإشارة إلى أن إشارته إلى الشمس بلفظة «هذا» تشعر بأنه (عليه السلام) ما كان يعرف من الشمس ما يعرفه أحدنا أنه جرم سماوي يطلع و يغرب بحسب ظاهر الحس في كل يوم و ليلة، و إليها تستند النهار و الليل و الفصول الأربعة السنوية إلى غير ذلك من نعوتها.
فإن الإتيان في الإشارة بلفظ المذكر هو الذي يستريح إليه من لا يميز المشار إليه في نوعه كما تقول فيمن لاح لك شبحه و أنت لا تدري أ رجل أم امرأة: من هذا؟ و نظيره ما يقال في شبح لا يدرى أ من أولي العقل هو أو لا: ما هذا؟ فلعله إنما كان ذلك من إبراهيم (عليه السلام) أول ما خرج من مختفى أخفي فيه إلى أبيه و قومه، و لم يكن عهد مشاهد الدنيا الخارجة و المجتمع البشري فرأى جرما هو كوكب و جرما هو القمر و جرما هو الشمس، و كلما شاهد واحدا منها - و لم يكن يشاهد إلا جرما مضيئا لامعا - قال: هذا ربي، على سبيل عدم المعرفة بحاله معرفة تامة كما سمعت.
و يؤيده بعض التأييد قوله: «فلما أفل قال لا أحب الآفلين» فإن فيه إشعارا بأنه (عليه السلام) مكث بانيا على كون الكوكب ربا حتى شاهد غروبه فحكم بأن الفرض باطل و أنه ليس برب، و لو كان عالما بأنه سيغرب أبطل ربوبيته مقارنا لفرض ربوبيته كما فعل ذلك في أمر الأصنام على ما يدل عليه قوله لأبيه: «أ تتخذ أصناما آلهة إني أراك و قومك في ضلال مبين» و قوله أيضا: «يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا».
و إن أمكن أن يقال: إنه أراد بتأخير قوله.
«لا أحب الآفلين» إلى أن يأفل أن يحاجهم بما وقع عليه الحس كما أراد بما فعل بالأصنام حيث جعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم أن يريهم عجز الأصنام و كونها أجسادا ميتة لا تدفع عن أنفسها الضر و الشر.
و للمفسرين في تذكير الإشارة في قوله: «هذا ربي هذا أكبر» مسالك من التوجيه مختلفة: فمنهم من قال: تذكير الإشارة إنما هو بتأويل المشار إليه أو الجرم النير السماوي أي هذا المشار إليه أو هذا الجرم النير ربي و هو أكبر.
و فيه أنه لا ريب في صحة الاستعمال بهذا التأويل لكن الشأن في النكتة التي تصحح هذا التأويل، و لا يجوز ذلك من غير نكتة مسوغة، و لو جاز ذلك في اللغة من غير اعتماد على نكتة لجاز تذكير كل مؤنث قياسي و سماعي في إرجاع الضمير و الإشارة إليه بتأويل الشخص و نحوه و في ذلك نسخ اللغة قطعا.
و منهم من قال: إنه من قبيل إتباع المبتدإ للخبر في تذكيره فإن الرب و أكبر مذكران فأتبع اسم الإشارة للخبر المذكر كما عكس في قوله تعالى: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا» الآية فأتبع المذكر للمؤنث.
و فيه أنهم كانوا يرون من الآلهة إناثا كما يثبتون ذكورا و يسمون الأنثى من الآلهة إلهة و ربة و بنت الله و زوجة الرب فكان من الواجب أن يطلق على الشمس ربة لمكان التأنيث، و أن يقال: هذه ربتي أو آلهتي، فالكلام في تذكير الخبر في قوله: «هذا ربي» كالكلام في تذكير المبتدإ، و لا معنى حينئذ لحديث الإتباع.
و كذا قوله: «هذا أكبر» الخبر فيه من صيغ التفضيل و حكم صيغة التفضيل إذا وقعت خبرا أن يجاء بأفعل و يستوي فيه المذكر و المؤنث يقال زيد أفضل من عمر و ليلى أجمل من سلمى، و ما هذا شأنه لا نسلم أنه من صيغ المذكر الذي يجري فيه الإتباع.
و منهم من قال: إن تذكير الإشارة إنما هو لتعظيم الشمس حيث نسب إليها الربوبية صونا للإله عن وصمة التأنث.
و فيه: أنهم كانوا يعدون الأنوثية من النواقص التي يجب أن ينزه عنها الإله و قد كان لأهل بابل أنفسهم آلهة أنثى كالإلهة «نينو» إلهة الأمهات الخالفة، و الإلهة «نين كاراشا» ابنة الإله «آنو» و الإلهة «مالكات» زوجة الإله «شاماش» و الإلهة «زاربانيت» إلهة الرضاع، و الإلهة «آنوناكي».
و كانت طائفة من مشركي العرب تعبد الملائكة و تعدهم بنات الله، و قد رووا في تفسير قوله تعالى: «إن يدعون من دونه إلا إناثا»: النساء: 117 أنهم كانوا يسمون آلهتهم إناثا، و كانوا يقولون: أنثى بني فلان يعنون به الصنم الذي يعبدونه.
و منهم من قال: إن قوم إبراهيم (عليه السلام) كانوا يعدون الشمس من الذكور و قد أثبتوا لها زوجة يسمونها «أنونيت» فاحتفظ في الكلام على ظاهر عقيدتهم.
و فيه: أن اعتقادهم بكون الشمس ذكرا لا يصحح تبديل تأنيث لفظها تذكيرا.
على أن قوله (عليه السلام) للملك: «فأت بها من المغرب»: البقرة: 258 و هو يريد الشمس ينافي ذلك.
و منهم من قال: إن إبراهيم (عليه السلام) كان يتكلم باللغة السريانية و هي لغة قومه، و لا يفرق فيها في الضمائر و أسماء الإشارة بالتذكير و التأنيث بل الجميع على صفة التذكير، و قد احتفظ القرآن الكريم في حكاية قوله على ما أتى به من التذكير.
و فيه: منع جواز ذلك فإنه أمر راجع إلى أحكام الألفاظ المختلفة باختلاف اللغات بل إنما يجوز ذلك فيما يرجع إلى المعنى الذي لا يؤثر في الخصوصية اللفظية، على أنه تعالى حكى عن إبراهيم (عليه السلام) احتجاجات كثيرة و أدعية وافرة في القرآن و فيها موارد كثيرة اعتبر فيها التأنيث فما بال هذا المورد اختص من بينها بإلغاء جهة التأنيث؟ حتى أن قوله فيما يحاج به ملك بابل: «إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت قال أنا أحيي و أميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر»: البقرة: 258 و يتضمن ذكر الشمس و تأنيث الضمير العائد إليها.
و من عجيب ما أورد على هذا الوجه ما ذكره بعض المفسرين و أصر عليه: أن إبراهيم (عليه السلام) و كذا إسماعيل و هاجر كانوا يتكلمون باللغة العربية القديمة، و أنها كانت لغة قومه، قال ما ملخصه: إنه ثبت عند علماء الآثار القديمة، أن عرب الجزيرة قد استعمروا منذ فجر التاريخ بلاد الكلدان و مصر و غلبت لغتهم فيهما، و صرح بعضهم بأن الملك حموربي الذي كان معاصرا لإبراهيم (عليه السلام) عربي و حموربي هذا ملك البر و السلام و وصف في العهد العتيق بأنه كاهن الله العلي، و ذكر فيه أنه بارك إبراهيم، و أن إبراهيم أعطاه العشرة من كل شيء، قال: و من المعروف في كتب الحديث و التاريخ العربي أن إبراهيم أسكن إسماعيل ابنه (عليه السلام) مع أمه هاجر المصرية في الواد الذي بنيت فيه مكة بعد ذلك، و أن الله سخر لهما جماعة من جرهم سكنوا معهما هنالك، و أن إبراهيم (عليه السلام) كان يزورهما، و أنه هو و ولده إسماعيل بنيا بيت الله الحرام و نشرا دين الإسلام في البلاد العربية، و في الحديث: أن إبراهيم (عليه السلام) جاء مكة ليزور ابنه و قد خرج إلى الصيد فكلم زوجته و كانت جرهمية فلم يرتض أمرها ثم جاءها بعد مدة ليزوره فلم يجده فكلم زوجته الأخرى فدعته إلى النزول و غسل رأسه فارتضى أمرها و دعا لها، و كل ذلك يدل على أنه كان يتكلم بالعربية، هذا ملخص ما ذكره.
و فيه: أن مجاورة عرب الجزيرة مصر و كلدان و اختلاطهم بهم أو استعمارهم و استيلاؤهم عليهم لا يوجب تبدل لغاتهم إلى العربية، و قد كانت لغة مصر قبطية و لغة كلدان و الآشوريين سريانية، نعم ربما أوجب ذلك دخول أسماء و ألفاظ من لغة بعضهم في لغة بعض كما يوجد في القرآن الكريم أمثال القسطاس و الإستبرق و غيرهما و هي من الدخيل.
و أما ما ذكره من أمر حموربي و معاصرته لإبراهيم (عليه السلام) فلا يطابق ما هو الصحيح من تاريخه و يؤيده الآثار المكشوفة من خرائب بابل و النصب المستخرجة التي كتبت فيها شريعته التي وضعها و أجراها في مملكته و هي أقدم القوانين المدونة في العالم على ما بلغنا، و قد ذكر بعضهم أن أيام ملكه كانت بين 1728 ق م و 1686 ق م، و ذكر آخرون: أنه تملك بابل سنة 2287 - 2232 ق م و كان إبراهيم (عليه السلام) يعيش في حدود سنة 2000 ق م، و حموربي هذا وثني، و قد استمد فيما وجد من كلامه المنقوش في ذيل شريعته المنقوشة على النصب بعده من الآلهة لبقاء شريعته و عمل الناس بها و تدمير من أراد نسخها أو مخالفتها و أما ما ذكره من حديث إسكانه ابنه و أم ولده بتهامة و بناء بيت الله الحرام و نشر دين الله و تفاهمه مع العرب فشيء من ذلك لا يدل على كونه (عليه السلام) متكلما باللغة العربية و هو ظاهر.
و لنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: قوله: «فلما رءا الشمس بازغة» إلخ - كما سمعت - يدل على اتصال ما بعد «فلما» بما قبله و هو قوله: «فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» فهو يدل على أن القمر قد كان غرب حينما رأى (عليه السلام) الشمس بازغة، و هذا إنما يكون في الخريف أو الشتاء في العرض الشمالي الذي كانت فيه بلاد كلدان حين يطول الليالي و خاصة إذا كان القمر في شيء من البروج الجنوبية كالقوس و الجدي فعند ذلك يجيز الوضع السماوي أن يغرب القمر في النصف الأخير من الشهر القمري قبل طلوع الشمس، و قد تقدم سابقا في قوله تعالى: «فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رءا القمر بازغا قال هذا ربي» أن ظاهر الكلام المؤيد بالاعتبار يدل على أن الليلة كانت من ليالي النصف الأخير من الشهر القمري، و كان الكوكب هي الزهرة، شاهدها أولا في المغرب حال الانحطاط ثم شاهد غروبها و طلوع القمر من ناحية المشرق.
فيتحصل من الآيات أن إبراهيم (عليه السلام) حاج قومه في أمر الأصنام يوم حاجهم و اشتغل بهم يومه ذلك حتى جن عليه الليل فلما جن عليه الليل رأى الزهرة و قوم يعبدونها فجاراهم في ربوبيتها و أخذ ينتظر ما يحل بها من حال حتى أفلت بعد سويعات فحاجهم به و تبرأ من ربوبيتها، ثم رأى القمر بازغا و هناك قوم يعبدونه فجاراهم في ربوبيته بقوله: «هذا ربي» و أخذ يراقب ما يحدث به حتى أفل، و كانت الليلة من الليالي الطوال في النصف الثاني من الشهر القمري و لعل القمر كان يسير في قوس قصير من أقواس المدارات الجنوبية فلما أفل تبرأ من ربوبيته، و أخذ يستهدي ربه و يستعيذ به من الضلال حتى طلعت الشمس فرآها بازغة و أكبر بالنسبة إلى ما تقدمها من الكوكب و القمر فعاد كذلك إلى مجاراتهم في ربوبيتها مع ما لاح له من بطلان ربوبية الكوكب و القمر و هما مثلها في كونها جرما سماويا نيرا لكنه اتخذ كونها أكبر منها عذرا يعتذر به فيما يفترضه أو يسلمه من ربوبيتها فقال: «هذا ربي هذا أكبر» و أخذ ينتظر مستقبل الأمر حتى أفلت فتبرأ من ربوبيتها و شرك قومه فقال: «يا قوم إني بريء مما تشركون» ثم أثبت الربوبية لله سبحانه كما كان يثبت الألوهية بمعنى إيجاد السماوات و الأرض و فطرها له تعالى فقال: «إني وجهت وجهي - و هو العبودية قبال الربوبية - للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا - غير منحرف من حاق الوسط إلى يمين أو يسار - و ما أنا من المشركين - بإشراك شيء من خلقه و مفطوراته له تعالى في العبادة و الإسلام -».
و قد تقدم أن قوله تعالى في ضمن الآيات محفوفا بها: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين» يدل على أنه (عليه السلام) إنما كان يأخذ ما يلقيه من الحجة على أبيه و قومه مما كان يشاهده من ملكوت السماوات و الأرض، و قد أفاض الله سبحانه اليقين الذي ذكره غاية لإراءته الملكوت على قلبه بهذه المشاهدة و الرؤية.
و هذا أوضح شاهد على أن الذي ذكره (عليه السلام) من الحجة كانت حجة برهانية ترتضع من ثدي اليقين، و قد أورد في ذلك قوله: «لا أحب الآفلين» و تقدمت الإشارة إلى تقريره.
فتبين من جميع ما تقدم: أولا: أن قوله (عليه السلام): «لا أحب الآفلين» حجة برهانية يقينية بني الكلام فيه على عدم حبه للآفلين، و منافاة الأفول للربوبية، و يظهر من كلام بعضهم أنه يأخذه حجة عامية غير برهانية إذ يقول: و الصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا لا برهانا نظريا جليا يعرض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يتحجب عنهم، و لا يدري شيئا من أمر عبادتهم، و هذا هو السبب في جعله الأفول منافيا للربوبية دون البزوغ و الظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا و إن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا.
و قد خفي عليه أولا: أن وضع قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين» بين الآيات المتضمنة لحججه ع أدل دليل على كون حججه مأخوذة من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله و آياته و كيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية.
و خفي عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب و عدمه لا على الأفول مضافا إلى أن البناء على الأفول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو (عليه السلام) إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربة و هو لا يحب الآفلين فلا يعبدها، و من المعلوم أن عبادة الإنسان لربه إنما هي لأنه رب أي لأنه يدبر أمر الإنسان فيفيض عليه الحياة و الرزق و الصحة و الخصب و الأمن و القدرة و العلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل جهة، و من فطريات الإنسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه و أن يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لأن الإنسان يحبه لجلبه المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا.
و من فطريات الإنسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة و يصرفه عن التأمل و الإمعان في جهة فنائه و زواله، و قد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، و ردع الناس عن التعلق المفرط بزينتها و الانهماك في شهواتها كقوله: «إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس»: يونس: 24 و قوله: «ما عندكم ينفد و ما عند الله باق»: النحل: 96 و قوله: «و ما عند الله خير و أبقى»: الشورى: 36.
فهو (عليه السلام) يفيد بقوله: «لا أحب الآفلين» أن الذي من شأنه أن يفقده الإنسان و يغيب عنه و لا يبقى و لا يثبت له لا يستحق أن يحبه الإنسان و تتعلق به نفسه، و الرب الذي يعبده الإنسان يجب أن يحبه فيجب أن لا يكون من شأنه أن يأفل عنه و يفقد فهذه الأجرام الآفلة لا تستحق اسم الربوبية، و هذه - كما ترى - حجة يعرفها العامة و الخاصة.
و قد خلط ثالثا بين البزوغ و الظهور فحكم أنه غير مناف للربوبية بل القول مبني عليه فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا إلى آخر ما قال فإن الذي ذكر في الآية - و لم يبن الحجة عليه - هو البزوغ و هو الطلوع و الظهور بعد خفاء المنافي للربوبية فيبقى السؤال: لم بنى الكلام على الأفول دون البزوغ؟ على حاله.
و ثانيا: أن أخذ الأفول في الحجة دون البزوغ إنما هو لأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الأفول، و بذلك يظهر ما في قول الكشاف في وجه العدول، قال: «فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ و كلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء و احتجاب» انتهى.
فإن الاحتجاج كما عرفت إنما هو بعدم تعلق الحب لا بالأفول حتى يوجه العدول إليه من البزوغ بما ذكره.
و ثالثا: أن الاحتجاج إنما أريد به نفي ربوبية الأجرام الثلاثة بمعنى تدبيرها للعالم الأرضي أو العالم الإنساني لا الربوبية بمعنى المقام الذي ينتهي إليه الإيجاد و التدبير جميعا فإن الوثنية و عبدة الكواكب لا ينكرون أن آلهتهم ليست أربابا بهذا المعنى، و أنه الله الواحد لا شريك له.
و من هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن الأفول إنما أخذ مبدأ للبرهان لأنه يستلزم الإمكان، و كل ممكن محتاج يجب أن يقف سلسلة حاجته عند موجود واجب الوجود، و كذا ما في قول آخرين: إن الأفول إنما ينفي الربوبية عن المتصف به لأنه حركة، و لا بد لكل حركة من محرك، و ينتهي لا محالة إلى محرك غير متحرك و ثابت غير متغير بذاته و هو الله عز اسمه.
و ذلك أنهما و إن كانا حجتين برهانيتين غير أنهما تنفيان عن الممكنات و عن المتحركات الربوبية بمعنى العلية الأولى التي ينتهي إليها جميع العلل، و سببية الإيجاد و التدبير التي يقف عندها جميع الأسباب، و عبدة الكواكب من الصابئين و غيرهم و إن ذهبوا إلى أن كل جرم سماوي قديم زماني غير قابل للكون و الفساد متحرك بحركة دائمة غير أنهم لا ينكرون أن جميعها معلولة لإمكانها غير مستغنية لا في وجودها و لا في آثار وجودها عن الواجب عز اسمه.
فالحجتان إنما هما قائمتان على منكري وجود الصانع من الطبيعيين لا الصابئين و عبدة أرباب الأنواع و غيرهم من الوثنيين، و إبراهيم (عليه السلام) إنما كان يحاج هؤلاء دون أولئك.
على أنك عرفت أن الحجة لم تركب من جهة الأفول بل من جهة عدم تعلق الحب بشيء من شأنه الأفول و الغروب.
و أما من دفع ما ذكروه من تقرير الحجة من جهة الإمكان أو الحركة بأن تفسير الأفول بذلك تفسير للشيء بما يباينه فإن العرب لا يعرفون الأفول بمعنى الإمكان أو الحدوث و كذلك تفسير الأفول بالتغير و الحركة غلط كسابقه.
فقد خفي عليه أن هؤلاء لا يقولون: إن الأفول في الآية بمعنى الإمكان أو بمعنى الحركة، و إنما يقولون: إن الأفول إنما احتج به لاستلزامه الإمكان أو الحركة و التغير، و أما الأفول بمعنى الغيبة بعد الحضور و الخفاء بعد الظهور مع قطع النظر عن استلزامه الإمكان أو التغير غير اللائقين بساحة الواجب جل ثناؤه فليس ينافي الربوبية كما اعترف به هذا المورد نفسه.
و ذلك أن الواجب تعالى أيضا غائب عن مشاعرنا من غير أن يتحول عليه الحال و يطرأ عليه التغير بالغيبة بعد الحضور و الخفاء بعد الظهور، و لا ينفع القول بأن الغيبة و الخفاء فيه تعالى من جهتنا لا من جهته و لاشتغالنا بما يصرفنا عنه لا لمحدودية وجوده و قصور استيلائه فإن غيبة هذه الأجرام السماوية و خاصة الشمس بالحركة اليومية أيضا من قبلنا حيث أنا أجزاء من الأرض التي تتحرك بحركتها اليومية فتحولنا بها من مسامتة هذه الأجرام و مواجهتها إلى خلاف ذلك فنغرب عنها في الحقيقة بعد طلوعنا عليها و إن كان الخطأ الحسي يخيل لنا غيره.
و قد أراد الرازي أن يجمع بين الوجوه جميعا فقال في تفسيره ما نصه: الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره و إذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة، و على هذا التقدير فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث فلم ترك إبراهيم (عليه السلام) الاستدلال على حدوثها بالطوع و عول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟.
و الجواب: لا شك أن الطلوع و الغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد و أن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي و الغبي و العاقل، و دلالة الحركة على الحدوث و إن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق، أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم.
و أيضا قال بعض المحققين: الهوي في خطرة الإمكان أفول و أحسن الكلام ما تحصل فيه حصة الخواص و حصة الأوساط و حصة العوام: فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان و كل ممكن محتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: و أن إلى ربك المنتهى.
و أما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث، و كل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي يحتاج إليه ذلك الآفل.
و أما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، و هم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول و الغروب فإنه يزول نوره، و ينتقص ضوؤه، و يذهب سلطانه، و يكون كالمعزول، و من يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله «لا أحب الآفلين» كلمة مشتملة على نصيب المقربين و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل و أفضل البراهين.
و فيه دقيقة أخرى، و هو أنه (عليه السلام) إنما كان يناظرهم و هم كانوا منجمين، و مذهب أصحاب النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي و يكون صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير، أما إذا كان غربيا و قريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز و كماله إلى النقصان، و مذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجز عن التدبير، و ذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته» انتهى موضع الحاجة من كلامه على طوله.
و أنت بالتأمل في ما تقدم تقف على أن ما تفنن به من تقسيم البرهان إلى حصص مختلفة باختلاف النفوس، و تقريره بوجوه شتى لا لفظ الآية يدل عليه، و لا شبهة الصابئين و أصحاب النجوم تندفع به فإنهم لا يرون الجرم السماوي إلها واجب الوجود غير متناهي القدرة ذا قوة مطلقة، و إنما يرونه ممكنا معلولا ذا حركة دائمة يدبر بحركته ما دونه من العالم الأرضي، و شيء مما ذكره من الوجوه لا يدفع هذه النظرية، و كأنه تنبه لهذا الإشكال بعد كلامه المنقول آنفا فبسط في الكلام و أطنب في الخروج من العويصة بما لا يجدي شيئا.
على أن الحجة الثانية على ما قرره حجة غير تامة فإن الحركة إنما تدل على حدوث المتحرك من حيث وصفه و هو التحرك لا من حيث ذاته، و تمام الكلام في ذلك موكول إلى محله، و المصير إلى ما قدمناه في تقرير الحجة من جهة الحركة.
و رابعا: أن إبراهيم (عليه السلام) إنما ساق هذه الحجج بحسب ما كان الله سبحانه يريه ملكوت السماوات و الأرض، و بحسب ما يسمح له جريان محاجته أباه و قومه آخذا بالمحسوس المعاين إما لأنه لم يكن رأى تفصيل الحوادث السماوية و الأرضية اليومية كما تقدمت الإشارة إليه أو لأنه أراد أن يحاجهم بما تحت حسهم فأورد قوله «هذا ربي» لما شاهد شيئا من الأجرام الثلاثة لامعا بازغا، و أورد قوله «لا أحب الآفلين» أو ما في معناه لما شاهد أفولها.
و بذلك يظهر الجواب عما يمكن أن يقال: إن قوله: «فلما جن عليه الليل رءا كوكبا» يدل على أنه (عليه السلام) كان في النهار المتصل بذلك الليل شاهد قومه فما باله لم يذكر الشمس لينفي ربوبيتها.
فإن من المحتمل أن يكون قد خرج إلى قومه للمحاجة و الوقت لا يسع أزيد مما حاج به أباه و قومه في أمر الأصنام فكان يحاجهم طول النهار أو مدة ما أدركه من النهار عند قومه حتى إذا تمم الحجاج لم يلبث دون أن جن عليه الليل، و هناك محتملات أخر كغيم في الهواء أو حضور قومه للصلوات و القرابين في أول الطلوع فحسب و قد كان يريد أن يواجههم فيما يلقيه إليهم.
و خامسا: أن الآيات كما قيل تدل على أن الهداية من الله سبحانه و أما الإضلال فلم ينسب إليه تعالى في هذه الآيات بل دل قوله: «لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» بعض الدلالة على أن من شأن الإنسان بحسب ما يقتضيه نقص نفسه أن يتصف بالضلال لو لم يهده ربه، و هو الذي يستفاد من قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا»: النور: 21 و قوله: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56 إلى غير ذلك من الآيات.
نعم هناك آيات تنسب إليه تعالى الإضلال لكن أمثال قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26 تبين أن الضلال المنسوب إليه تعالى هو الإضلال الواقع بحسب المجازاة دون الإضلال الابتدائي، و قد تقدم البحث في تفسير الآية في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و سادسا: أنه (عليه السلام) أخذ في حجته لإبطال ربوبية الأجرام الثلاثة أنه لا يحب الآفل لأفوله و هو أن يفقده الإنسان بعد أن يجده فهو الوصف الذي لا يتعلق به الحب المسوغ للعبادة، و إذ كان ذلك وصفا مطردا في جميع الجسمانيات التي تسير إلى الزوال و الفوت و الهلاك و البيد كانت الحجة قاطعة على كل شرك و وثنية حتى على ما يظهر من بعض الوثنيين من القول بألوهية أرباب الأنواع و الموجودات النورية التي يذعنون بوجودها و أنها فوق المادة و الطبيعة متعالية عن الجسمية و الحركة فإنهم يصرحون بأنها على ما لها من صفاء الجوهر و شرف الوجود مستهلكة تجاه النور القيومي، مستذلة تحت القهر الأحدي، و إذ كان هذه صفة ما يدعونه فلو توجه تلقاءها حب لم يتعلق إلا بمن يدبر أمرها و يصلح شأنها لا بها.
قوله تعالى: «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض» إلى آخر الآية.
ذكر الراغب في المفردات:، أن أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا قال: هل ترى من فطور أي اختلال و وهي فيه، و ذلك قد يكون على سبيل الفساد، و قد يكون على سبيل الصلاح قال: السماء منفطر به كان وعده مفعولا.
و فطرت الشاة حلبتها بإصبعين، و فطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، و منه الفطرة، و فطر الله الخلق و هو إيجاده الشيء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع و ركز في الناس من معرفته تعالى، و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله، انتهى.
و ذكر أيضا: أن الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة و الجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال قال: و سمت العرب كل من حج أو اختتن حنيفا تنبيها على أنه على دين إبراهيم (عليه السلام) و الأحنف من في رجله ميل، قيل: سمي بذلك على التفاؤل و قيل: بل استعير للميل المجرد، انتهى.
لما تبرأ (عليه السلام) من شركهم و شركائهم بقوله: «يا قوم إني بريء» إلخ، و قد سلك إليه تدريجا بإظهار عدم تعلق قلبه بالشريك حيث قال: «لا أحب الآفلين» ثم الإيماء إلى كون عبادة الشريك ضلالا حيث قال: «لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين» ثم التبري الصريح من ذلك بقوله: «يا قوم إني بريء مما تشركون» رجع إلى توحيده التام في الربوبية، و هو إثبات الربوبية و المعبودية للذي فطر السماوات و الأرض، و نفي الشرك عن نفسه فقال: «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا».
فتوجيه الوجه كناية عن الإقبال إلى الله سبحانه بالعبادة فإن لازم العبودية و المربوبية أن يتعلق العبد المربوب بربه في قوته و إرادته، و يدعوه و يرجع إليه في جميع أعماله، و لا يكون دعاء و لا رجوع إلا بتوجيه الوجه و الإقبال إليه فكنى بتوجيه الوجه عن العبادة التي هي دعاء و رجوع.
و ذكر ربه و هو الله سبحانه الذي وجه وجهه إليه، بنعته الذي يخصه بلا نزاع فيه و هو فطر السماوات و الأرض، و جاء بالموصول و الصلة ليدل على العهد فلا يشتبه الأمر على أحد منهم فقال: للذي فطر السماوات و الأرض أي إني أقبلت بعبادتي على من ينتهي إليه إيجاد كل شيء و إبداعه، و هو الذي يثبته و يثبتونه فوق الجميع.
ثم نفى غيره مما يدعونه شريكا بقوله: «حنيفا» أي مائلا إليه عن غيره نافيا للشريك عنه، و أكده بقوله: «و ما أنا من المشركين» فأفاد مجموع قوله: «إني وجهت» إلخ، إثبات المعبودية لله تعالى و نفي الشريك عنه قريبا مما تفيده الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله.
و اللام في قوله: «للذي» للغاية و تفيد معنى إلى، و كثيرا ما تستعمل في الغاية اللام كما تستعمل «إلى» قال: «أسلم وجهه لله»: البقرة: 11 «و من يسلم وجهه إلى الله»: لقمان: 22.
و في تخصيص فطر السماوات و الأرض من بين صفاته تعالى الخاصة و كذا من بين الألفاظ الدالة على الخلقة كالباري و الخالق و البديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم (عليه السلام) من دين الفطرة و قد كرر توصيف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف و دين الفطرة أي الدين الذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الإنسان و نوع وجوده الذي لا يقبل التبدل و التغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية و السعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشيء حسب تركب وجوده و تجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، و حاشا أن يسعد الإنسان أو أي شيء آخر من الخليقة بأمر و لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيىء لخلافه كأن يسعد بترك التغذي أو النكاح أو ترك المعاشرة و الاجتماع و قد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك و لم يجهز بما يوافقه.
فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة و حاشا ساحة الربوبية أن يهدي الإنسان أو أي مخلوق آخر مكلف بالدين - إن كان - إلى غاية سعيدة مسعدة و لا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدي إليه و يدل عليه صنعه و إيجاده.
قوله تعالى: «و حاجه قومه قال أ تحاجوني في الله و قد هدان».
قسم تعالى حججه ع إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاج الناس، و ثانيهما ما بدأ به الناس فكلموه به بعد ما تبرأ من آلهتهم، و هذا الذي تعرض له في الآية و ما بعده هو القسم الثاني.
لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجة لكنه لوح إليه بقوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): «و لا أخاف ما تشركون به» فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف و قد تقدم و سيجيء أن الذي بعثهم إلى اتخاذ الآلهة و عبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها و قهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضي، أو رجاء البركة و السعادة منها، و أشد الأمرين تأثيرا في نفوسهم هو الأمر الأول أعني الخوف و ذلك أن الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة و السعادة المادية ملك أنفسهم إما مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال و اكتساب المقام و الجاه أو مما ملكهم إياه الجد الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالا من مورثه أو صادف كنزا فتملكه أو ساد قومه برئاسة أبيه.
فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبودية حتى أن المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الإلهي يتأثرون من الوعد و البشارة أقل مما يتأثرون من الوعيد و الإنذار، و لذلك بعينه نرى أن القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير، و كلا الأمرين من وظائفهم و الطرق التي يستعملونها في الدعوة الدينية.
و بالجملة اختار قوم إبراهيم (عليه السلام) في محاجتهم إياه عند ما كلموه في أمر الآلهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الآلهة و سخطها و وعظوه بسلوك سبيلهم و لزوم طريقهم في التقرب بالآلهة و رفض القول بربوبية الله سبحانه، و إثباته في المقام الذي أثبتوه فيه و هو أنه الذي ينتهي إليه الكل فحسب.
و لما وجد (عليه السلام) كلامهم ينحل إلى جزءين: الردع عن القول بربوبية الله سبحانه و التحريض على القول بربوبية آلهتهم احتج عليهم من الجهتين جميعا لكن لا غنى للجهة الأولى عن الثانية كما سيجيء.
و ما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله: «أ تحاجوني في الله و قد هدان» أي إني واقع في أمر مفروغ عنه و مهتد بهداية ربي حيث آتاني العلم بما أراني من ملكوت السماوات و الأرض و ألهمني بذلك حجة أنفي بها ربوبية غيره من الأصنام و الكواكب، و إني لا أستغني عن رب يدبر أمري فأنتج لي أنه هو الرب وحده لا شريك له، و إذ هداني إليه فأنا في غنى عن الإصغاء إلى حجتكم و البحث عن الربوبية ثانيا فإن البحث إنما ينفع الطالب و لا طلب بعد الوصول إلى الغاية.
هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكن هناك معنى أدق من ذلك يظهر بالتدبر و هو أن قوله: «و قد هدان» استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن الاستدلال و تقريره أن الله هداني بما علمني من الحجة على نفي ربوبية، غيره و إثبات ربوبيته و نفس هدايته دليل على أنه رب و لا رب غيره فإن الهداية إلى الرب من جملة التدبير فهي شأن من هو رب، و لو لم يكن الله سبحانه هو ربي لم يكن ليهديني و لأقام بها إلى الذي هو الرب لكن الله هو هداني فهو ربي.
و لم يكن لهم أن يقولوا: إن الذي علمك ما علمت و ألهمك الحجة هو بعض آلهتنا لأن الشيء لا يهدي إلى ما يضره و يميت ذكره و يفسد أمره فاهتداؤه (عليه السلام) إلى نفي ربوبيتها لا يصح أن ينسب إليها، هذا.
و لكن كان لهم أن يقولوا أو أنهم قالوا: إن ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهرا و سخطا أبعدك عن القول بربوبيتها و لقنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك و علة نفسك نظير ما شافهت به عاد هودا (عليه السلام) لما دعاهم إلى توحيد الله سبحانه و احتج عليهم بأن الله هو الذي يجب أن يرجى و يخاف، و أن آلهتهم لا تنفع و لا تضر فردوا عليه بأن بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصتهم حكاية عن هود (عليه السلام): «و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا و يزدكم قوة إلى قوتكم و لا تتولوا مجرمين، قالوا يا هود - إلى أن قال - إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله و اشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون»: هود: 55.
فقوله (عليه السلام): «و لا أخاف ما تشركون به» إلخ، ينفي هذه الشبهة و كما أنه ينفي هذه الشبهة فإنه حجة تامة تنفي ربوبية شركائهم.
و محصله: أنكم تدعونني إلى القول بربوبية شركائكم و رفض القول بربوبية ربي بما تخافونني من أن تمسني شركاؤكم بسوء، و ترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، و إني لا أخاف ما تشركون به لأنها جميعا مخلوقات مدبرة لا تملك نفعا و لا ضرا و إذ لم أخفها سقطت حجتكم و ارتفعت شبهتكم.
و لو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنها لا تقدر على شيء بل كان من صنع ربي و كان هو الذي شاء أن أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلا آخر على ربوبيته و آية أخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له لا دليلا على ربوبية شركائكم و حجة توجب عبادتها.
و الدليل على أن ذلك من ربي أنه وسع كل شيء علما فهو يعلم كل ما يحدث و يجري من خير و شر في مملكته التي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، و كيف يمكن أن يعلم في ملكه بشيء ينفع أو يضر فيسكت و لا يستقبله بأحد أمرين: إما المنع أو الإذن؟.
فلو حصل في نفسي شيء من الخوف لكان بمشية من الله و إذن على ما يليق بساحة قدسه، و كان ذلك من التدبير الدال على ربوبيته و نفي ربوبية غيره أ فلا تتذكرون و ترجعون إلى ما تدركونه بعقولكم و تهدي إليه فطرتكم.
فهذا وجه في تقرير الحجة المودعة في قوله: «و لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي وسع ربي كل شيء علما أ فلا تتذكرون» و على ذلك فقوله: «و لا أخاف ما تشركون به» كالمتمم للحجة في قوله: «أ تحاجوني في الله و قد هدان» و هو مع ذلك حجة تامة في نفسه لإبطال ربوبية شركائهم بعدم الخوف منها، و قوله: «إلا أن يشاء ربي شيئا» كالكلام في الحجة على تقدير التسليم أي تحتجون على وجوب عبادتها بالخوف و لا خوف في نفسي، و لو فرض خوف لكان دليلا على ربوبية ربي لا على ربوبية شركائكم فإنه عن مشية من ربي، و قوله: «وسع ربي كل شيء علما» بيان و تعليل لكون الخوف المفروض مستندا إلى مشية ربه فإن فاطر السماوات و الأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلا بإذن منه فهو الذي يدبر أمره و يقوم بربوبيته، و قوله: «أ فلا تتذكرون» استفهام توبيخي و إشارة إلى أن الحجة فطرية، هذا.
و للمفسرين في الآية أقوال: أما قوله تعالى: «قال أ تحاجوني في الله و قد هدان» فقد أورد أكثرهم فيه الوجه الأول من الوجهين اللذين قدمناهما، و محصله أنه يرد اعتراضهم على توحيده بأنه غني عن المحاجة في ذلك فإن الله هداه و لا حاجة معها إلى المحاجة لكن ظاهر السياق أنه في مقام المحاجة و لازمه أن كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.
و أما قوله تعالى: «لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا» فقد ذكروا في الصدر قريبا مما قدمناه، و أما الاستثناء فقيل: معناه إلا أن يغلب ربي هذه الأصنام التي تخوفونني بها فيحييها و يقدرها فتضر و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلا على حدوثها و على توحيد الله سبحانه، و بعبارة أخرى: المعنى أني لا أخافها في حال من الحالات إلا أن يشاء ربي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضر و تنفع فأخافها و إذ ذاك كانت الربوبية لله و تبين حدوث شركائكم.
و هذا الوجه و إن كان قريبا مما قدمناه بوجه لكن نسبة النفع و الضر إلى الشركاء لو كانت أحياء - مع أن بعضها أحياء عندهم كالملائكة و أرباب الأنواع و بعضها يضر و ينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الإلهي في كتابه فإن القرآن يصرح أن لا يملك نفعا و لا ضررا إلا الله سبحانه.
و كذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضر أهل الأوثان فإنهم كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام و لا أربابها معلولة لله مخلوقة له، و القول بالقدم الزماني في بعضها لا ينافي إمكانها و لا معلوليتها عندهم.
و قيل: إن معنى الاستثناء أني لا أخاف شركاءكم و أستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربي أن يعذبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداء، و بعبارة أخرى الجملة استثناء من معنى أعم مما يدل عليه الجملة السابقة فقد دل قوله: «و لا أخاف» إلخ، على نفي الخوف من شركائهم، و قوله: «إلا أن يشاء» إلخ، استثناء من كل خوف فالتقدير: لا أخاف ما تشركون به و لا شيئا آخر إلا من أن يشاء ربي شيئا أكرهه ابتداء أو جزاء فإني أخافه، و وجه التعسف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان.
و أما قوله: «وسع ربي كل شيء علما» فقد قيل.
إنه ثناء منه (عليه السلام) لربه بعد إتمام الحجة.
و قيل: إنه تعريض بأصنامهم حيث إنها لا تعلم شيئا و لا تشعر، و يرد عليه أن التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى العلم؟ و الإشكال جار في الوجه السابق.
و قيل: إنه لما استثنى ما يشاؤه ربه مما يقع عليه من المكاره بين بقوله: «وسع ربي كل شيء علما» أنه تعالى علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح و الخير و الحكمة.
و فيه أن الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم و لا أقل من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في أغلب الموارد.
و قيل: إنه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجه أو تؤثر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله، و فيه أن التمسك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم.
و قيل: معناه أن علم ربي وسع كل شيء و أحاط به و مشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم و قدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها و لا لغيرها تأثير ما في صفاته، و لا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة و لا غيرها و إنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شيء فيعلمه الشفعاء و الوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع أو العطاء أو المنع.
قال هذا القائل: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله: «من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء».
قال: و هذا أرجح الوجوه، و هو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، انتهى ملخصا.
و محصله أن قوله: «وسع ربي كل شيء علما» بيان و تعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة و غيرها كأنه قال: لا أخاف ضر شيء من آلهتكم و غيرها من المخلوقات فإن ربي يعلم كل شيء فيتمه بمشيئته و ينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلمه ما جهل حتى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى و شفاعة.
و أنت تعلم أن نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة و المشيئة - و المشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته و مشيئته إطلاق، و الشاهد عليه نفس كلامه الذي قرر فيه الوجه بالعلم و المشيئة و القدرة جميعا.
و بالجملة هذا الوجه لا يتم بسعة العلم وحدها و إنما يتم بها و بإطلاق القدرة و المشيئة، و قد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها.
و أما ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى التوسط في السببية بإذن من الله سبحانه لا أنها تنفيها كما خيل إليه فزعم أنه يفسر القرآن، بالقرآن و كيف لا؟ و الطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه، و القرآن الكريم من أوله إلى آخره يتكلم عن السببية و يبني على أصل العلية و المعلولية العام، و قد تقدم الكلام في هذه المعاني كرارا في الأجزاء السابقة من الكتاب.
قوله تعالى: «و كيف أخاف ما أشركتم و لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا» إلخ، ثم كر (عليه السلام) عليهم بحجة أخرى تثبت المناقضة بين قولهم و فعلهم و بعبارة أخرى: حالهم يكذب مقالهم و محصله أنكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه، و أنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم و لم آتمر بأمركم.
أما كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأن الأصنام و أربابها لا دليل على كونها مستقلة بالضر و النفع حتى توجب الخوف منها، و أما كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنكم أنفسكم أثبتم لله سبحانه شركاء في الربوبية و لم ينزل الله في ذلك عليكم برهانا يمكن أن يعتمد عليه فإن الصنع و الإيجاد لله سبحانه فله الملك و له الحكم فلو كان اتخذ بعض مخلوقاته شريكا لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبين لنا ذلك و يكشف عن وجه الحقيقة فيه، و الطريق فيه أن يقارنه بعلائم و آيات تدل على أن له شركة في كذا و كذا، و ذلك إما وحي أو برهان يتكىء على آثار خارجية، و شيء من ذلك غير موجود.
و على هذا التقرير فقوله تعالى: «ما أشركتم» مقيد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيد به قوله: «أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا» و إنما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأن الحجة إلى ذكره هناك أحوج و هو ظاهر.
و قوله: «فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون» من تتمة الحجة، و المجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوته (عليه السلام) إلى أن يخاف آلهتهم فإنهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب و هم أنفسهم لا يخافون فيما يجب.
و بالبيان السابق يظهر أن وصف شركائهم بأن الله لم ينزل بها عليهم سلطانا افتراض استدعاه نوع الحجة التي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادعيتم، في جواب من يخوفنا من موضوع خرافي يدعي أنه ربما ينفع و يضر، و لنا أن نبدل قولنا ذلك لو أردنا التكلم بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلا، و الكلام بحسب التحليل المنطقي يئول إلى قياس استثنائي استثني فيها نقيض المقدم في الشرطية لإنتاج نقيض التالي نحوا من قولنا: لو كان الله نزل بها عليكم سلطانا يدل على قدرتهم على الضر لكان اتخاذكم الشركاء خوفا منها في محله لكنه لم ينزل سلطانا فليس اتخاذكم الشركاء في محله، و من المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأن التقييد بقوله: «لم ينزل به عليكم سلطانا» للتهكم، أو للإشارة إلى أن هذا وصف لازم لشركائهم على حد قوله تعالى: «و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به: «المؤمنون: 117 إلى غير ذلك من التحملات.
و الباء في قوله: «لم ينزل به» للمعية أو السببية و قد كنى (عليه السلام) عنهم و عن نفسه بالفريقين و لم يقل: أنا و أنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحمية و تهييج العصبية كما قيل، و ليدل على تفرقهما و شقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الأصول و أم المعارف الحقيقية بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شيء.
قوله تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون» سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجة عمن هو أحق بالأمن حيث قال: «فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون» ثم أجابهم عما سألهم لكون الجواب واضحا لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان و الجواب الذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير أن ينتظر المسئول فإن المسئول لا يخالف السائل في ذلك حتى يخاف منه الرد، و قد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصة كسر الأصنام: «قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون»: الأنبياء: 65.
هذا ما يقتضيه سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيم (عليه السلام) و مقولة لقوله، و أما كونها من كلام قومه و جوابا محكيا عنهم، و كذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فمما لا يساعد عليه السياق البتة.
و كيف كان فالكلام متضمن تأكيدا قويا من جهة إسنادات متعددة في جمل اسمية و هي ما في قوله: «لهم الأمن» جملة اسمية هي خبر لقوله: «أولئك» و المجموع جملة اسمية هي خبر لقوله: «الذين آمنوا» إلخ، و المجموع جملة اسمية، و كذلك ما عطف على قوله: «لهم الأمن» من قوله: «و هم مهتدون» فينتج أنه لا شك في اختصاص الذين آمنوا و لم يستروا إيمانهم بظلم بالأمن و الاهتداء و لا ريب.
و لا ريب أن الآية تدل على أن خاصة الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان مشروطا بأن لا يلبس بظلم، و اللبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات،: و أصل اللبس - بفتح اللام - الستر، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أن هذا الظلم لا يبطل أصل الإيمان فإنه فطري لا يقبل البطلان من رأس، و إنما يغطي عليه و يفسد أثره و لا يدعه يؤثر أثره الصحيح.
و الظلم و هو الخروج عن وسط العدل و إن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي و لازمه العموم و عدم اقتران الإيمان بشيء مما يصدق عليه الظلم على الإطلاق لكن السياق حيث دل على كون الظلم مانعا من ظهور الإيمان و بروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أن المراد بالظلم هو نوع الظلم الذي يؤثر أثرا سيئا في الإيمان دون الظلم الذي لا أثر له فيه.
و ذلك أن الظلم و إن كان المظنون أن أول ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعي و هو التعدي إلى حق اجتماعي بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حق مسوغ لكن الناس توسعوا بعد ذلك فسموا كل مخالفة لقانون أو سنة جارية ظلما بل كل ذنب و معصية لخطاب مولوي ظلما من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حق الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلما و إن كان عن سهو أو نسيان أو جهل و إن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف و عقابه على ما أتى به بل يعدون من خالف النصيحة و الأمر الإرشادي و لو اشتبه عليه الأمر و أخطأ في مخالفته من غير تعمد ظالما لنفسه حتى أن من سامح في مراعاة الدساتير الصحية الطبية أو خالف شيئا من العوامل المؤثرة في صحة مزاجه و لو من غير عمد عد ظالما لنفسه و إن كان ظلما من غير شعور، و الملاك في جميع ذلك التوسع في معنى الظلم من جهة تحليله.
و بالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كل فرد من أفراده بمؤثر أثرا سيئا في الإيمان فإن أصنافه التي لا تتضمن ذنبا و معصية و لا مخالفة مولوية كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلا فتلك كلها مما لا يؤثر في الإيمان الذي شأنه التقريب من السعادة و الفلاح الحقيقي و الفوز برضى الرب سبحانه و هو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شيء من ذلك.
فقوله: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن» معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كل ذنب و معصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أن هاهنا دقيقة و هي أن الذنب الاختياري - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختيارية بالنسبة إلى قوم و ليس بها عند آخرين.
فالواقف في منشعب طريقي الشرك و التوحيد مثلا و هو الذي يرى أن للعالم صانعا هو الذي فطر أجزاءها و شق أرجاءها و أمسك أرضها و سماءها، و يرى أنه نفسه و غيره مخلوقون مربوبون مدبرون، و أن الحياة الإنسانية الحقيقية إنما تسعد بالإيمان به و الخضوع له فالظلم اللائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله و الإيمان بغيره بالربوبية كالأصنام و الكواكب و غيرها على ما يثبته إبراهيم (عليه السلام) بقوله: «و كيف أخاف ما أشركتم و لا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا» فالإيمان الذي يؤثر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك و معصيته.
و من طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين و أكل مال اليتيم و قتل النفس المحترمة و الزنا و شرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، و قد وعده الله أن يكفر عنه السيئات و المعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلا كريما»: النساء: 31 و فساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي و إن لم يكن عذابا خالدا غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعا إما بحلول أجله و إما بشفاعة و نحوها.
و من تزود هذا الزاد من التقوى و حصل شيئا من المعرفة بمقام ربه كان مسئولا بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربه كإتيان المكروهات و ترك المستحبات و التوغل في المباحات، و فوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة و الملكات الربانية و وراء ذلك الذنوب التي تعترض سبيل الحب، و تحف بساط القرب، فالإيمان في كل من هذه المراتب إنما يؤمن المتلبس به و يدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.
فلقوله تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» إطلاق من حيث الظلم لكنه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان و إذ كان المقام مقام محاجة المشركين انطبق الظلم المنفي على ظلم الشرك فحسب و الأمن الذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن مما يخاف منه من الشقاء المؤبد و العذاب المخلد، و الآية مع ذلك آية مستقلة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصية المورد تفيد أن الأمن و الاهتداء إنما يترتب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الذي يلبسه و يستر أثره بالمعنى الذي تقدم بيانه.
و أما الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق و المراد به الإيمان بالربوبية الصالح للتقيد بما يصلحه أو يفسده ثم إذا قيد بقوله: «و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» أفاد الإيمان بربوبية الله سبحانه و رفض غيره من شركائهم فإن إبراهيم (عليه السلام) ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أن قولهم بربوبية شركائهم و إيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله و لا سلطان و أنهم بإيمانهم بشركائهم يتوقون شرا و يستأمنون شقاء ليس لها أن تدفعها لأنها لا تضر و لا تنفع، و أما هو (عليه السلام) فقد خاف و آمن بمن هو فاطره و هو المتصرف بالهداية و المدبر الذي له في كل أمر إرادة و مشية لسعة علمه، ثم سألهم: أي الفريقين أحق بالأمن و الناجح بالإيمان بالرب، و لكل من الفريقين إيمان بالرب، و إن اختلفا من جهة الرب، و الذي آمنوا به بين مؤمن برب على ربوبيته دليل، و مؤمن برب لا دليل على ربوبيته بل الدليل على خلافه.
و من هنا يظهر أن المراد بالإيمان في قوله: «الذين آمنوا» مطلق الإيمان بالربوبية ثم بتقيده بقوله: «و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» يتعين في الإيمان بالله سبحانه الذي هو حق الإيمان فافهم.
فقد اتضح بما تقدم أولا: أن المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبية دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافا لمنكري وجوده.
و ثانيا: أن الظلم في الآية مطلق ما يضر الإيمان و يفسده من المعاصي، و كذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي و الذنوب، و بالاهتداء مطلق التخلص من ضلالها و إن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصة.
و ثالثا: أن إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان.
قال بعض المفسرين في معنى عموم الظلم في الآية: إن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه و عدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم لا في إيمانهم و لا في أعمالهم البدنية و النفسية من دينية أو دنيوية و لا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء و العجماوات أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي و المنكرات، و عقابه الدنيوي على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسببات كالفقر و الأسقام و الأمراض دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإن الظالمين لا أمان لهم بل كل ظالم عرضة للعقاب و إن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، و يعذب من يشاء و يغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.
قال: و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، و يترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني و الدنيوي أو الشرعي و القدري جميعا لا يصح لأحد من المكلفين دع خوف الهيبة و الإجلال الذي يمتاز به أهل الكمال.
قال: و أما معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أن الذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم و هو الشرك بالله أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين و هو الخلود في دار العذاب و هم فيما دون ذلك بين الخوف و الرجاء.
قال: و ظاهر الآية هو العموم و استدل عليه بفهم الصحابة على ما روي: أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس و قالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم (صلى الله عليه وآله وسلم): أن المراد به الشرك، و ربما أشعر بذلك السياق و كون الموضوع هو الإيمان، انتهى ملخصا.
و فيه مواقع للإشكال فأولا: أن ما استدل عليه من العموم بفهم الصحابة هو غير ما قرره من معنى العموم فإن الذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية، و الذي قرره هو أعم من ذلك.
و ثانيا: أن ما قرره من عموم الظلم حتى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شيء ثم حكم بصحة تفسير الآية به أجنبي عن مدلول الآية فإن الآية في مقام بيان أن الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان و لكن بشرط أن لا يقارن ظلما يستره و يفسد أثره، و هذا الظلم إنما هو المعصية بوجه، و أما ما لا يعد معصية كأكل الغذاء المضر بصحة البدن خطاء فمن المعلوم أنه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن و الاهتداء، و ليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيا ما كانت و لو مع قطع النظر عن الإيمان فإنه تعالى قال: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» فجعل الإيمان هو الموضوع و قيده بعدم الظلم و جعل أثره الأمن و الاهتداء، و لم يجعل الظلم هو الموضوع حتى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره.
فالآية سيقت لبيان الآثار التي تترتب على الإيمان الصحيح، و أما الظلم بما له من العرض العريض و ما له من الأثر المترتب عليه فالآية غير متعرضة لذلك البتة، فقوله: «و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه» فاسد البتة.
و ثالثا: أن قوله: «و يترتب عليه أن الأمن المطلق لا يصح لأحد من المكلفين» صريح في أن الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الذي قرره، و لازمه سقوط الكلام عن الفائدة، و أي فائدة في أن يوضع في الحجة قول لا مصداق له أصلا؟.
و رابعا: أن الذي اختاره في معنى الآية أن المراد به هو الظلم الخاص و هو الشرك ليس بمستقيم فإن الآية من جهة عموم لفظها و إن دلت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتى يؤثر أثره لكن ذلك من باب انطباق اللفظ العام على مورده الخاص، و أما إرادة المعنى الخاص من اللفظ العام من غير قرينة حالية أو مقالية متصلة أو منفصلة فمما لا ترتضيه صناعة البلاغة و هو ظاهر.
و أما ما أشار إليه من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنما هو الشرك» فليس بصريح في أن الشرك مراد لفظي من الآية و إنما هو الانطباق، و سيجيء البحث عن الحديث في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء» إلخ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجة تفخيم و تعظيم لأمرها لكونها حجة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدماتها منها.
و أما قوله: «نرفع درجات من نشاء» فالدرجات - كما قيل - هي مراقي السلم ثم توسع فيها فأطلق على مراتب الكمال من المعنويات كالعلم و الإيمان و الكرامة و الجاه و غير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنوية و فضائل حقيقية في الخيرات الكسبية كالعلم و التقوى و غير الكسبية كالنبوة و الرسالة و الرزق و غيرها.
و الدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أن المتيقن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم و الهداية فقد رفع الله إبراهيم (عليه السلام) بهدايته و إراءته ملكوت السماوات و الأرض و إيتائه اليقين و الحجة القاطعة، و الجميع من العلم، و قد قال تعالى في درجات العلم: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة: 11.
ثم ختم الآية بقوله: «إن ربك حكيم عليم» لتثبيت أن ذلك كله كان بحكمة منه تعالى و علم كما أن الحجج التي آتاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المذكورة في السورة قبل هذه الحجة من حكمته و علمه تعالى، و في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة لتطييب قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تثبيت المعارف المذكورة فيه.
بحث روائي
في العيون:، حدثنا نعيم بن عبد الله بن تميم القرشي رضي الله عنه قال: حدثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيشابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له: فأخبرني عن قول الله عز و جل في إبراهيم: «فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي». فقال الرضا (عليه السلام): إن إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشمس و ذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فلما جن عليه الليل رأى الزهرة قال: هذا ربي على الإنكار و الاستخبار فلما أفل الكوكب قال: لا أحب الآفلين لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي على الإنكار و الاستخبار فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر من الزهرة و القمر على الإنكار و الاستخبار لا على الإخبار و الإقرار فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة و القمر و الشمس: يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا و ما أنا من المشركين. و إنما أراد إبراهيم بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أن العبادة لا يحق لما كان بصفة الزهرة و القمر و الشمس، و إنما يحق العبادة لخالقها و خالق السماوات و الأرض، و كان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز و جل و آتاه كما قال عز و جل: و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه. فقال المأمون: لله درك يا بن رسول الله.
أقول: و تأييد الرواية بمضمونها عدة من الأمور التي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر، و سيأتي أيضا بعض ما يؤيدها من الروايات، و أما ما في الرواية من كون قول إبراهيم (عليه السلام): «هذا ربي» واقعا على سبيل الإنكار و الاستخبار دون الإخبار و الإقرار فوجه من الوجوه التي تقدمت في تفسير الآيات أورده (عليه السلام) في قطع حجة المأمون، و لا ينافي صحة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي.
و كذا قوله: «لأن الأفول من صفات المحدث» إلخ، ليس بظاهر في أن الحجة مأخوذة من الأفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجة مأخوذة من عدم الحب و ملاكه كون الأفول من صفات المحدث التي لا ينبغي أن يتعلق بها حب فافهم.
و في كمال الدين:، أبي و ابن الوليد معا عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو إبراهيم منجما لنمرود بن كنعان، و كان نمرود لا يصدر إلا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من الليالي فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجبا فقال له نمرود: ما هو؟ فقال: رأيت مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، و لا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به فعجب من ذلك نمرود و قال: هل حمل به النساء؟ فقال: لا، و كان فيما أوتي من العلم أنه سيحرق بالنار، و لم يكن أوتي أن الله سينجيه. قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك امرأة إلا جعلت بالمدينة حتى لا يخلص إليهن الرجال، قال: و باشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به فظن أنه صاحبه فأرسل إلى نساء من القوابل لا يكون في البطن شيء إلا علمنا به فنظرنا إلى أم إبراهيم فألزم الله تبارك و تعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئا في بطنها. فلما وضعت أم إبراهيم أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله و لا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثم أرضعته ثم جعلت على باب الغار صخرة ثم انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصها فيشرب لبنا، و جعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة، و يشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر، و يشب في الشهر كما يشب غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث. ثم إن أمه قالت لأبيه: لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبي فأراه فعلت قال: ففعل فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم و إذا عيناه تزهران كأنهما سراجان فأخذته و ضمته إلى صدرها و أرضعته ثم انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبي فقالت: قد واريته في التراب. فمكثت تعتل فتخرج في الحاجة، و تذهب إلى إبراهيم فتضمه إليها أصل لازم و ترضعه ثم تنصرف فلما تحرك أتته أمه كما كانت تأتيه، و صنعت كما كانت تصنع فلما أرادت الانصراف أخذ ثوبها فقالت له: ما لك؟ فقال: اذهبي بي معك فقالت له: حتى استأمر أباك فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيا بشخصه كاتما لأمره حتى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، و أظهر الله قدرته فيه.
أقول: و روي في قصص الأنبياء، عن الصدوق عن أبيه و ابن الوليد ثم ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان آزر عم إبراهيم منجما لنمرود و كان لا يصدر إلا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتي عجبا قال: ما هو؟ قال: إن مولودا يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، و كان تارخ وقع على أم إبراهيم فحملت ثم ساق الحديث إلى آخره.
و قد حمل وحدة السند في الحديثين، و وحدة المضمون إلا في أبي إبراهيم صاحب البحار أن قال: الظاهر أن ما رواه الراوندي هو هذا الخبر بعينه، و إنما غيره ليستقيم على أصول الإمامية، انتهى.
ثم حمل الرواية و ما في مضمونها من الروايات الدالة على أن آزر الوثني كان والدا لإبراهيم صلبيا على التقية.
و قد روى مثل المضمون السابق القمي في تفسيره، و العياشي في تفسيره، و روي من طرق أهل السنة عن مجاهد، و رواه الطبري في تاريخه و الثعلبي في قصص الأنبياء، عن عامة السلف و أهل العلم.
و كيف كان فالذي ينبغي أن يقال: إن علماء الحديث و الآثار كأنهم مجمعون على أن إبراهيم (عليه السلام) كان في بادي عمره قد أخفي في سرب خوفا من أن يقتله الملك نمرود، ثم خرج عنه بعد حين فحاج أباه و قومه في أمر الأصنام و الكوكب و القمر و الشمس و حاج الملك في دعواه الربوبية، و قد تقدم أن سياق آيات القصة يؤيد هذا المعنى.
و أما أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - و آزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.
و ذكروا أن هذا المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم و ذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبي و والده الحقيقي و وافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث و الكلام من أهل السنة، و خالفهم جمع منهم، و الشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض المحدثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم، و عمدة ما احتج به القائلون بأن آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، و إنما كان عمه أو جده لأمه الأخبار الواردة من طرق الفريقين في أن آباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك، و قد طالت المشاجرة بين الفريقين.
أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري و إن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده و استنتاج حق ما ينتجه لكنا في غنى عن ذلك فقد تقدم أن الآيات دالة على أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا حقيقيا لإبراهيم (عليه السلام).
فالروايات الدالة على كون آزر أباه الحقيقي على ما فيها من الاختلاف في سرد القصة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، و لا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقية إن صح الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و كذلك نري إبراهيم الآية قال: حدثني أبي عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السماء و من عليها، و الملك الذي يحملها، و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام):. أقول: و روى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبد الله بن مسكان و أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و بطريق عن عبد الرحيم عن الباقر (عليه السلام) و رواه العياشي عن زرارة و أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و عن زرارة و عبد الرحيم القصير عن الباقر (عليه السلام) و رواه في الدر المنثور، عن ابن عباس و مجاهد و السدي من مفسري السلف، و سيأتي في الكلام على العرش حديث علي (عليه السلام) المروي في الكافي في معنى العرش و فيه قال: و الذين يحملون العرش و من حوله هم العلماء الذين حملهم الله علمه قال: و هو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه، و أراه خليله (عليه السلام) فقال: و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض - و ليكون من الموقنين الحديث.
و في الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت و تأييد لما قدمناه في البيان السابق، و سيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما رأى ملكوت السماوات و الأرض التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات ثم رأى آخر فدعا عليه فمات حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: إن دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني و لا يشرك بي شيئا، و عبد يعبد غيري فلن يفوتني، و عبد يعبد غيري فأخرج من صلبه من يعبدني: أقول: و الرواية مستفيضة و رواه في الكافي مسندا عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و رواه الصدوق في العلل عنه (عليه السلام) و الطبرسي في الاحتجاج عن العسكري (عليه السلام) و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عن أبي الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن عدة من المفسرين موقوفا.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: في إبراهيم إذ رأى كوكبا قال: إنما كان طالبا لربه و لم يبلغ كفرا، و أنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته.
و في تفسير القمي، قال: و سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول إبراهيم: «هذا ربي» هل أشرك في قوله: هذا ربي؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم شرك، و إنما كان في طلب ربه و هو من غيره شرك.
أقول: و يقابل الذي هو طالب من تم له البيان و قامت له الحجة الواضحة فهو غير طالب، و ليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك.
و في تفسير العياشي، عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيابة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول إبراهيم: «هذا ربي» و أنه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن من إبراهيم شرك إنما كان في طلب ربه، و هو من غيره شرك.
و فيه، عن محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله فيما أخبر عن إبراهيم: «هذا ربي» قال: لم يبلغ به شيئا، أراد غير الذي قال.
أقول: المراد به ظاهرا أنه أراد به أن قوله: «هذا ربي» لا يتعدى مفهوم نفسه و ليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي أنه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدمت الإشارة إليه.
في الدر المنثور، في قوله تعالى: الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الدارقطني في الأفراد و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله و أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح: «إن الشرك لظلم عظيم»؟ إنما هو الشرك.
أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان.
و في الحديث دلالة على أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان، و قد تقدم أن كون المراد هو الشرك إنما هو الانطباق بحسب المورد و الشرك ذنب لا تتعلق به مغفرة أصلا بخلاف غيره كائنا ما كان، و الدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات.
و فيه، أخرج أحمد و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلم فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي و ولدي و عشيرتي أريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت قال: قد أقررت. ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى و وقع الرجل على هامته فمات فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا من الذين عملوا قليلا و أجروا كثيرا، هذا من الذين قال الله: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم - أولئك لهم الأمن و هم مهتدون» إني رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنة فعلمت أن الرجل مات جائعا: أقول: و رواه أيضا عن الحكيم الترمذي و ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه، و رواه العياشي في تفسيره عن جابر الجعفي عمن حدثه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله. و فيه، أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي: أن رجلا سأل عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسكت حتى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلا قليلا حتى قاتل فاستشهد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا منهم من الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم.
و فيه، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم» قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم و أصحابه خاصة ليس في هذه الأمة.
أقول: و الرواية لا توافق بظاهرها الأصول الكلية المستخرجة من الكتاب و السنة فإن الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاص تختص به أمة دون أمة كالأحكام الفرعية التشريعية التي ربما تختص بزمان دون زمان، و أما الإيمان بما له من الأثر على مراتبه، و كذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانية لا يختلف باختلاف الأزمنة و الأمم.
و قال بعض المفسرين في توجيه الحديث: لعل مراده أن الله خص إبراهيم و قومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط، و لعل سبب هذا - إن صح - أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية و الأدبية و غيرها.
و قد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم و باركه و أخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها و أما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين و أما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها، انتهى.
و في كلامه من التحكم ما لا يخفى فقد تقدم أن الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف و سبعمائة قبل المسيح، و إبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريبا كما ذكره.
و حمورابي هذا و إن كان ملكا صالحا في دينه عادلا في رعيته ملتزما العمل بقوانين وضعها و عمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء و إنفاذ، و هي أقدم القوانين المدنية الموضوعة على ما قيل إلا أنه كان وثنيا، و قد استمد بعده من آلهة الوثنيين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، و الآلهة التي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون، و شكرها في أن آتته الملك العظيم و وفقته لبسط العدل و وضع الشريعة، و استعان بها و استمد منها في حفظ شريعته عن الزوال و التحريف هي «ميروداخ» إله الآلهة، و أي إله القانون و العدل و الإله «زماما» و الإله «إشتار» إله الحرب و «شاماش» الإله القاضي في السماء و الأرض و «سين» إله السماوات، و «حاداد» إله الخصب و «نيرغال» إله النصر و «بل» إله القدر و الآلهة «بيلتيس» و الآلهة «نينو» و الإله «ساجيلا» و غيرها.
و الذي ذكره من أن الله لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية «إلخ» يكذبه أن القرآن يحكي عن لسان إبراهيم (عليه السلام) الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم و يذكر أن الله أوحى إليه فعل الخيرات و إيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء، و أنه شرع الحج و أباح لحوم الأنعام كما في سورة الحج، و كان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، و كان ينهى عن كل ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام و غيرها، و من شرعه التطهر كما تشير إليه سورة الحج و وردت الأخبار أنه (عليه السلام) شرع الحنيفية و هي عشر خصال: خمس في الرأس و خمس في البدن و منها الختنة، و كان يحيي بالسلام كما في سورة هود و مريم.
و قد قال الله تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم»: الحج: 78 و قال: «قل بل ملة إبراهيم حنيفا»: البقرة: 135 فوصف هذا الدين على ما له من الأصول و الفروع بأنه ملة إبراهيم (عليه السلام)، و هذا و إن لم يدل على أن هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرعا في زمن إبراهيم (عليه السلام) بل الأمر بالعكس كما يدل عليه قوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى»: الشورى: 13 إلا أنه يدل على أن شرائعه راجعة إلى أصل أو أصول كلية تهدي إليها الفطرة مما ترتضيه و تأمر به أو لا ترتضيه و تنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججا على الشرك و جملا من الأوامر و النواهي الكلية مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»: الأنعام: 161.
و لو كان الأمر على ما ذكره أن الله لم يشرع لإبراهيم (عليه السلام) شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدني الدائر و هو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوبة من عند الله، و كانت من أجزاء دين إبراهيم (عليه السلام) بل الدين الإسلامي الذي شرع في القرآن لأنه هو ملة إبراهيم حنيفا فكانت إحدى الشرائع الإلهية و نوعا من الكتب السماوية.
و الحق الذي لا مرية فيه أن الوحي الإلهي كان يعلم الأنبياء السالفين و أممهم أصولا كلية في المعاش و المعاد كأنواع من العبادة و سننا كلية في الخيرات و الشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة و التجنب عن الظلم و الإسراف و إعانة المستكبرين و نحوها، ثم يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الذي جهزوا به، و الدعوة إلى أخذ الخير و الصلاح و رفض الشر و الفحشاء و الفساد سواء كانت المجتمعات التي دخلوا فيها يدبرها استبداد الظلمة و الطغاة أو رأفة العدول من السلاطين و سياستهم المنظمة.
و لم يشرع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلامي إلا في التوراة و فيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أن التوراة نزلها الله على موسى (عليه السلام) و كانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصر التي أفنت جمعهم و خربت هيكلهم و لم يبق منهم إلا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا و اسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل و أعتقهم من الأسر و أجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، و أن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما أعدمت نسخها و نسيت متون معارفها، و قد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيين.
و مع هذا الحال كيف يحكم بأن الله أمضى في الشريعة الكليمية كثيرا من شرائع حمورابي، و القرآن إنما يصدق من هذه التوراة بعض ما فيها، و بعد ذلك كله لا مانع من كون بعض القوانين غير السماوية مشتملا على بعض المواد الصالحة و الأحكام الحقة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: هو الشرك.
و فيه، بطريق آخر عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في الآية قال: بشك:. أقول: و رواه العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله: الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممن لبس إيمانه بظلم، ثم قال: أولئك الخوارج و أصحابهم.
و فيه، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: و لم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال: الضلال و ما فوقه.
أقول: كأن المراد بالضلال في الرواية الشرك الذي هو أصل كل بما ظلم فوقه و ما يزيد عليه من المعاصي و المظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقق به الظلم من المعاصي، و بما فوقه الشرك الذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإن كل معصية ضلال.
و الروايات - كما ترى - تتفنن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسرها بالشرك و تارة بالشك و تارة بما عليه الخوارج، و في بعضها: أن منه ولاية أعدائهم، و كل ذلك من شواهد ما قدمنا أن الظلم في الآية مطلق و هو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.
كلام في قصة إبراهيم (عليه السلام)
و شخصيته و فيه أبحاث مختلفة قرآنية و أخرى علمية و تاريخية و غير ذلك.
1 - قصة إبراهيم (عليه السلام)
في القرآن: كان إبراهيم (عليه السلام) في طفوليته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثم خرج إليهم و لحق بأبيه فوجده و قومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه و منهم ذلك و قد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيدة من الله سبحانه بالشهود الحق و إراءة ملكوت كل شيء و بالجملة و بالقول الحق و العمل الصالح.
فأخذ يحاج أباه في عبادته الأصنام و يدعوه إلى رفضها و توحيد الله سبحانه و اتباعه حتى يهديه إلى مستقيم الصراط و يبعده من ولاية الشيطان، و لم يزل يحاجه و يلح عليه حتى زبره و طرده عن نفسه و أوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء و الرغبة عنها.
فتلطف إبراهيم (عليه السلام) إرفاقا به و حنانا عليه و قد كان ذا خلق كريم و قول مرضي فسلم عليه و وعده أن يستغفر له و يعتزله و قومه و ما يعبدون من دون الله مريم: 41، 48 و قد كان من جانب آخر يحاج القوم في أمر الأصنام الأنبياء: 51 - 56، الشعراء: 69 - 77، الصافات: 83 - 87 و يحاج أقواما آخرين منهم يعبدون الشمس و القمر و الكوكب في أمرها حتى ألزمهم الحق و شاع خبره في الانحراف عن الأصنام و الآلهة الأنعام: 74 - 82 حتى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد و اعتل هو بالسقم فلم يخرج معهم و تخلف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضربا باليمين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما تراجعوا و علموا بما حدث بآلهتهم و فتشوا عمن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، و قد كان أبقى كبير الأصنام و لم يجذه و وضع الفأس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنه هو الذي كسر سائر الأصنام.
و إنما قال (عليه السلام) ذلك و هو يعلم أنهم لا يصدقونه على ذلك و هم يعلمون أنه جماد لا يقدر على ذلك لكنه قال ما قال ليعقبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتى يعترفوا بصريح القول بأنهم جمادات لا حياة لهم و لا شعور، و لذلك لما سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أ فتعبدون من دون الله ما لا يضركم و لا ينفعكم أف لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون.
قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم فبنوا له بنيانا و أسعروا فيه جحيما من النار و قد تشارك في أمره الناس جميعا و ألقوه في الجحيم فجعله الله بردا عليه و سلاما و أبطل كيدهم الأنبياء: 57 - 70، الصافات: 88 - 98 و قد أدخل في خلال هذه الأحوال على الملك، و كان يعبده القوم و يتخذونه ربا فحاج إبراهيم في ربه فقال إبراهيم ربي الذي يحيي و يميت فغالطه الملك و قال: أنا أحيي و أميت كقتل الأسير و إطلاقه فحاجه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر البقرة: 258.
ثم لما أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة و قد سمى الله تعالى منهم لوطا و منهم زوجته التي هاجر بها و قد كان تزوج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدسة.
ثم تبرأ هو (عليه السلام) و من معه من المؤمنين من قومهم و تبرأ هو من آزر الذي كان يدعوه أبا و لم يكن بوالده الحقيقي و هاجر و معه زوجته و لوط إلى الأرض المقدسة ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين الممتحنة: 4 الأنبياء: 71 و بشره الله سبحانه هناك بإسماعيل و بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب و قد شاخ و بلغه كبر السن فولد له إسماعيل ثم ولد له إسحاق و بارك الله سبحانه فيه و في ولديه و أولادهما.
ثم إنه (عليه السلام) بأمر من ربه ذهب إلى أرض مكة و هي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل و هو صبي و رجع إلى الأرض المقدسة فنشأ إسماعيل هناك و اجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك و بنيت بذلك بلدة مكة.
و كان (عليه السلام) ربما يزور إسماعيل في أرض مكة قبل بناء مكة و البيت و بعد ذلك البقرة: 126، إبراهيم: 35 - 41 ثم بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل و هي أول بيت وضع للناس من جانب الله مباركا و هدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا البقرة: 127 - 129، آل عمران: 96 - 97 و أذن في الناس بالحج و شرع نسك الحج الحج: 26: 30.
ثم أمره الله بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام) فخرج معه للنسك فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما و تله للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا و فداه الله سبحانه بذبح عظيم الصافات: 101 - 107.
و آخر ما قص القرآن الكريم من قصصه (عليه السلام) أدعيته في بعض أيام حضوره بمكة المنقولة في سورة إبراهيم آية: 35 - 41 و آخر ما ذكر فيها قوله (عليه السلام): «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب».
2 - منزلة إبراهيم عند الله سبحانه و موقفه العبودي:
أثنى الله تعالى على إبراهيم (عليه السلام) في كلامه أجمل ثناء و حمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، و كرر ذكره باسمه في نيف و ستين موضعا من كتابه و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئا كثيرا.
و هاك جملا من ذلك: آتاه الله رشده من قبل الأنبياء: 51 و اصطفاه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين البقرة: 130 - 131 و هو الذي وجه وجهه إلى ربه حنيفا و ما كان من المشركين الأنعام: 79 و هو الذي اطمأن قلبه بالله و أيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات و الأرض البقرة: 260، الأنعام: 75.
و اتخذه الله خليلا النساء: 125 و جعل رحمته و بركاته عليه و على أهل بيته و وصفه بالتوفية النجم: 37 و مدحه بأنه حليم أواه منيب هود: 73 - 75 و مدحه أنه كان أمة قانتا لله حنيفا و لم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتاه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين النحل: 120 - 122.
و كان صديقا نبيا مريم: 41 و عده الله من عباده المؤمنين و من المحسنين و سلم عليه الصافات: 83 - 111 و هو من الذين وصفهم بأنهم أولو الأيدي و الأبصار و أنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار ص: 45 - 46.
و قد جعله الله للناس إماما البقرة: 124 و جعله أحد الخمسة أولي العزم الذين آتاهم الكتاب و الشريعة الأحزاب: 7، الشورى: 13، الأعلى: 18 - 19 و آتاه الله العلم و الحكمة و الكتاب و الملك و الهداية و جعلها كلمة باقية في عقبه النساء: 54، الأنعام: 74 - 90، الزخرف: 28 و جعل في ذريته النبوة و الكتاب الحديد: 26 و جعل له لسان صدق في الآخرين الشعراء: 84، مريم: 50 فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهية و مقامات العبودية و لم يفصل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء و الرسل المكرمين و كراماتهم ما فصل من نعوته و كراماته (عليه السلام).
و ليراجع في تفسير كل من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختص به فيما تقدم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به هاهنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.
و قد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة و شخصيته الدينية بما سمى هذا الدين القويم بالإسلام كما سماه (عليه السلام) و نسبه إليه قال تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل»: الحج: 78 و قال: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»: الأنعام: 161.
و جعل الكعبة البيت الحرام الذي بناها قبلة للعالمين و شرع مناسك الحج و هي في الحقيقة أعمال ممثلة لقصة إسكانه ابنه و أم ولده و تضحية ابنه إسماعيل و ما سعى به إلى ربه و التوجه له و تحمل الأذى و المحنة في ذاته كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى: «و إذ جعلنا البيت مثابة للناس»: الآية البقرة: 125 في الجزء الأول من الكتاب.
3 - أثره المبارك في المجتمع البشري:
و من مننه (عليه السلام) السابغة أن دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان و عند من كان فإن الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، و ينتهي إلى الكليم موسى بن عمران (عليهما السلام) و ينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهما السلام)، و دين النصرانية و ينتهي إلى المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) و هو من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، و دين الإسلام و الصادع به هو محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيب المبارك، و يشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة و الزكاة و الحج و إباحة لحوم الأنعام و التبري من أعداء الله، و السلام، و الطهارات العشر الحنيفية البيضاء خمس منها في الرأس و خمس منها في البدن: أما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال و أما التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء.
و البحث المستوفى يؤيد أن السنن الصالحة من الاعتقاد و العمل في المجتمع البشري كائنة ما كانت من آثار النبوة الحسنة كما تكررت الإشارة إليه في المباحث المتقدمة، فلإبراهيم (عليه السلام) الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.
4 - ما تقصه التوراة الموجودة في إبراهيم:
قالت التوراة: و عاش تارح أبو إبراهيم سبعين سنة و ولد أبرام و ناحور و هاران، و هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام و ناحور و هاران، و ولد هاران لوطا، و مات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في «أور» الكلدانيين و اتخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام «ساراي» و اسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران أبي ملكة و أبي بسكة، و كانت ساراي عاقرا ليس لها ولد و أخذ تارح أبرام ابنه و لوطا بن هاران ابن ابنه، و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك، و كانت أيام تارح مائتين و خمس سنين، و مات تارح في حاران. قالت التوراة: و قال الرب لأبرام: اذهب من أرضك و من عشيرتك و من بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة و أباركك و أعظم اسمك و تكون بركة و أبارك مباركيك، و لاعنك ألعنه، و يتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام كما قال له الرب، و ذهب معه لوط، و كان أبرام ابن خمس و سبعين سنة لما خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته و لوطا ابن أخيه و كل مقتنياتهما التي اقتنيا و النفوس التي امتلكا في حاران، و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان. و اجتاز أبرام في أرض إلى مكان «شكيم» إلى «بلوطة مورة» و كان الكنعانيون حينئذ في الأرض، و ظهر الرب لأبرام و قال: لنسلك أعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له، ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي «بيت إيل» و نصبت خيمته و له «بيت إيل» من المغرب و «عاي» من المشرق فبنى هناك مذبحا للرب و دعا باسم الرب، ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب. و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا، و حدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني و يستبقونك، قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك، فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون فأخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيرا بسببها و صار له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و أتن و جمال. فضرب الرب فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لما ذا قلت: هي أختي أخذتها لتكون زوجتي؟ و الآن هو ذا امرأتك خذها و اذهب، فأوصى عليه رجالا فشيعوه و امرأته و كل ما كان له. ثم ذكرت التوراة: أن أبرام خرج من مصر و معه ساراي و لوط و معهم الأغنام و الخدم و الأموال العظيمة و وردوا «بيت إيل» المحل الذي كانت فيه خيمته مضروبة بين «بيت إيل» و «عاي» ثم بعد حين تفرق هو و لوط لأن الأرض ما كانت تسعهما فسكن أبرام كنعان، و كان الكنعانيون و الفرزيون ساكنون هناك، و نزل لوط أرض سدوم. ثم ذكرت: أنه في تلك الأيام نشبت حرب في أرض سدوم بين «أمرافل» ملك شنعار و معه ثلاثة من الملوك، و بين بارع ملك سدوم و معه أربعة من الملوك المتعاهدين فانهزم ملك سدوم و من معه انهزاما فاحشا و هربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم و نهبت أموالهم و سبيت نساؤهم و ذراريهم، و كان فيمن أسر لوط و جميع أهله و نهبت أمواله. قالت التوراة: فأتى من نجى و أخبر أبرام العبراني و كان ساكنا عند «بلوطات ممرى» الآموري أخو «أشكول» و أخي «عانر» و كانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلما سمع أبرام أن أخاه سبي جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة و ثمانية عشر و تبعهم إلى «دان» و انقسم عليهم هو و عبيده فكسرهم و تبعهم إلى «حوبة» التي عن شمال دمشق و استرجع كل الأموال و استرجع لوطا أخاه أيضا و أملاكه و النساء أيضا و الشعب. فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من «كسرة كدر لعومر» و الملوك الذين معه إلى عمق «شوى» الذي هو عمق الملك، و ملكي صادق ملك «شاليم» أخرج خبزا و خمرا و كان كاهنا لله العلي و باركه و قال: مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات و الأرض و مبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشرا من كل شيء. و قال ملك سدوم لأبرام: أعطني النفوس، و أما الأملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الرب الإله العلي ملك السماء و الأرض لا آخذن لا خيطا و لا شراك نعل و لا من كل ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الذي أكله الغلمان و أما نصيب الرجال الذين ذهبوا معي «عابر» و «أسلول» و «ممرا» فهم يأخذون نصيبهم. إلى أن قالت: و أما ساراي فلم تلد له و كانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراي لأبرام: هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان و أعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت. ثم ذكرت: أن هاجر لما حبلت حقرت ساراي و استكبرت عليها فشكت ساراي ذلك إلى أبرام ففوض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيدتها و أخبرها أنها ستلد ولدا ذكرا و تدعو اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتها، و أنه يكون إنسانا وحشيا يضاد الناس و يضادونه، و ولدت هاجر لأبرام ولدا و سماه أبرام إسماعيل و كان أبرام ابن ست و سبعين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام. قالت التوراة: و لما كان أبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الرب لأبرام و قال له: أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملا فأجعل عهدي بيني و بينك و أكثرك كثيرا جدا فسقط أبرام على وجهه و تكلم الله معه قائلا: أما أنا فهو ذا عهدي معك و تكون أبا لجمهور من الأمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم و أثمرك كثيرا جدا و أجعلك أمما: و ملوك منك يخرجون، و أقيم عهدي بيني و بينك و بين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا لأكون إلها لك و لنسلك من بعدك و أعطي لك و لنسلك من بعد أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا و أكون إلههم. ثم ذكرت: أن الرب جعل في ذلك عهدا بينه و بين إبراهيم و نسله أن يختتن هو و كل من معه و يختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم و هو ابن تسع و تسعين سنة و ختن ابنه إسماعيل و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سائر الذكور من بنيه و عبيده. قالت التوراة: و قال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة و أباركها و أعطيت أيضا منها ابنا، و أباركها فتكون أمما و ملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه و ضحك و قال في قلبه: و هل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة و هي بنت تسعين سنة؟. و قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا و تدعو اسمه إسحاق، و أقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده و أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه و أثمره و أكثره كثيرا جدا، اثنا عشر رئيسا يلد و أجعله أمة كبيرة، و لكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية، فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم. ثم ذكرت قصة نزول الرب مع الملكين لإهلاك أهل سدوم قوم لوط و أنهم وردوا على إبراهيم فضافهم و أكلوا من الطعام الذي عمله لهم من عجل قتله و الزبد و اللبن اللذين قدمهما إليهم ثم بشروه و بشروا سارة بإسحاق و ذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه و كان بعده هلاك قوم لوط. ثم ذكرت أن إبراهيم انتقل إلى أرض «حرار» و تغرب فيها و أظهر لملكه «أبي مالك» أن سارة أخته فأخذها الملك منه فعاتبها الرب في المنام فأحضر إبراهيم و عاتبه على قوله: إنها أختي فاعتذر أنه إنما قال ذلك خوفا من القتل و اعترف أنه في الحقيقة أخته من أبيه دون أمه تزوج بها فرد إليه سارة و أعطاهما مالا جزيلا نظير ما قص في فرعون. قالت التوراة: و افتقد الرب سارة كما قال و فعل الرب لسارة كما تكلم فحبلت سارة و ولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه و دعا إبراهيم اسم ابنه الذي ولدته له سارة إسحاق، و ختن إبراهيم إسحاق ابنه و هو ابن ثمانية أيام كما أمره الله، و كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، و قالت سارة: فقد صنع إلي الله، ضحكا كل من يسمع يضحك لي، و قالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتى ولدت ابنا في شيخوخته فكبر الولد و فطم و صنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق. و رأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام و من أجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنه بإسحاق يدعى لك نسل و ابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك. فبكر إبراهيم صباحا و أخذ خبزا و قربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعا إياهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برية بئر سبع و لما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار و مضت و جلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لأنها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء، و قال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي و احملي الغلام و شدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة، و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماء و سقت الغلام، و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرية، و كان ينمو رامي قوس، و سكن في برية فاران، و أخذت له أمه زوجة من أرض مصر. قالت التوراة: و حدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق و اذهب إلى أرض المريا و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك، فبكر إبراهيم صباحا و شد على حماره و أخذ اثنين من غلمانه معه و إسحاق معه و شقق حطبا لمحرقة و قام و ذهب إلى الموضع الذي قال له الله، و في اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه و أبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار، أما أنا و الغلام فنذهب إلى هناك و نسجد و نرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة و وضعه على إسحاق ابنه و أخذ بيده النار و السكين فذهبا كلاهما معا، و كلم إسحاق أباه إبراهيم و قال له: يا أبي فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار و الحطب و لكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معا. فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح و رتب الحطب و ربط إسحاق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب ثم مد إبراهيم يده و أخذ السكين لذبح ابنه فناداه ملاك الرب من السماء و قال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمد يدك إلى الغلام و لا تفعل به شيئا لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضا عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه برأه» حتى أنه يقال اليوم في جبل الرب «برى»، و نادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء و قال: بذاتي أقسمت يقول الرب: إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة و أكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء و كالرمل الذي على شاطىء البحر و يرث نسلك باب أعدائه و يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي ثم رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا و ذهبوا معا إلى بئر سبع و سكن إبراهيم في بئر سبع. ثم ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثم موت سارة و هي بنت مائة و سبع و عشرين في حبرون، ثم ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة و إيلادها عدة من البنين، ثم موت إبراهيم و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة، و دفن ابنيه إسحاق و إسماعيل إياه في غار «مكفيلة» و هو مشهد الخليل اليوم.
5 -
فهذه خلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام) و تاريخ حياته المورد في التوراة سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر - الإصحاح الخامس و العشرون و على الباحث الناقد أن يطبق ما ورد منه فيها على ما قصه القرآن الكريم ثم يرى رأيه.
5 - الذي تشتمل عليه من القصة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها و التناقض بين أطرافها مما يصدق القرآن الكريم فيما ادعاه أن هذا الكتاب المقدس لعبت به أيدي التحريف.
فمن عمدة ما فيها من المغمض أنها أهملت ذكر مجاهداته في أول أمره و حجاجاته قومه و ما قاساه منهم من المحن و الأذايا، و هي طلائع بارقة لماعة من تاريخه (عليه السلام).
و من ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرفة و جعله حرما آمنا و تشريعه الحج، و لا يرتاب أي باحث ديني و لا ناقد اجتماعي أن هذا البيت العتيق الذي لا يزال قائما على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهية التي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه و آياته، و تستحفظ كلمة الحق دهرا طويلا، و هو أول بيت لله تعالى وضع للناس مباركا و هدى للعالمين.
و ليس إهمال ذكره إلا لنزعة إسرائيلية من كتاب التوراة و مؤلفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة؟ و إحصاء ما بناه من المذابح و مذبح بناه بأرض شكيم، و آخر بشرقي بيت إيل، و آخر بجبل الرب.
ثم الذي وصفوا به النبي الكريم إسماعيل: أنه كان غلاما وحشيا يضاد الناس و يضادونه، و لم يكن له من الكرامة إلا أنه كان مطرودا من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره.
و من ذلك: ما نسبته إليه مما لا يلائم مقام النبوة و لا روح التقوى و الفتوة كقولها: إن ملكي صادق ملك «شاليم» أخرج إليه خبزا و خمرا و كان كاهنا لله العلي و باركه.
و من ذلك قولها: إن إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة أخته و وصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنك أختي ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك، و أظهر تارة أخرى لأبي مالك ملك حرار أنها أخته، فأخذها للزوجية فرعون تارة، و أبو مالك أخرى، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله: «إنها أختي» مرة بأنها أختي في الدين، و أخرى أنها ابنة أبي من غير أمي فصارت لي زوجة.
و أيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم و حاشا مقام الخليل يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون و أبي مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة و هي ذات بعل و ينال هو بذلك جزيل العطاء و يستدرهما بما عندهما من الخير!.
على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ و خاصة حينما أخذها أبو مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو أكثر، و العادة تقضي أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها و وضاءة جمالها، و الملوك و الجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا.
و ربما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففي صحيحي البخاري و مسلم عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لم يكذب إبراهيم النبي (عليه السلام) قط إلا ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله: قوله «إني سقيم» و قوله «بل فعله كبيرهم هذا» و واحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار و معه سارة و كانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيرك و غيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك فأرسل إليها فأتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي و لا أضرك ففعلت فعاد فقبضت أشد من القبضتين. الأوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت فأطلقت يده و دعا الذي جاء بها فقال له إنك إنما أتيتني بشيطان و لم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي و أعطها هاجر. قال فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم (عليه السلام) انصرف و قال لها: مهيم فقالت: خيرا كف الله يد الفاجر و أخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.
و في صحيح البخاري، بطرق كثيرة عن أنس و أبي هريرة، و في صحيح مسلم، عن أبي هريرة و حذيفة، و في مسند أحمد، عن أنس و ابن عباس و أخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبراني عن عبادة بن الصامت و ابن أبي شيبة عن سلمان، و الترمذي عن أبي هريرة، و أبو عوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، و هو حديث طويل فيه: أن أهل الموقف يأتون الأنبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، و كلما أتوا نبيا و سألوه الشفاعة ردهم إلى من بعده و اعتذر بشيء من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجيبهم إلى مسألتهم و في الحديث: أنهم يأتون إبراهيم (عليه السلام) يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هناكم إني كذبت ثلاث كذبات: قوله «إني سقيم» و قوله «بل فعله كبيرهم هذا» و قوله لامرأته «أخبريه أني أخوك».
و الاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أن الأقاويل الثلاث التي وصفت فيهما أنها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات و المعاريض البديعية كما ربما يلوح من بعض ألفاظ الحديث كالذي ورد في بعض طرقه من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله» و كذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين الله» فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه و مانعة عن القيام بأمر الشفاعة و يعتذر بها عنها؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله و حسناته في الدين لو جاز لنبي من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الأنبياء (عليهم السلام) قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم و أحاديثهم من أصلها.
على أن هذا النوع من الإخبار لو جاز عده كذبا و منعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله (عليه السلام) لما رأى كوكبا و القمر و الشمس: هذا ربي و هذا ربي أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.
على أن قوله (عليه السلام) على ما حكاه الله تعالى بقوله: «فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم» لا يظهر بشيء من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله (عليه السلام) كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الأصنام.
و كذا قوله (عليه السلام) للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم: «ء أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» فأجابهم و هم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذي لا شعور فيه و لا إرادة له: «بل فعله كبيرهم هذا» ثم أردفه بقوله: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، و لذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم أف لكم و لما تعبدون من دون الله»: الأنبياء: 67.
و لو كان المراد أن الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، و نحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل 2 من الكلام في منزلة إبراهيم (عليه السلام) عند الله تعالى و موقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء و حمد مقامه أبلغ الحمد.
و ليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: «و اذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا»: مريم: 41 على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق حاشا ساحة خليل الله عن ذلك.
و أما الأخبار المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم (عليه السلام) عما نسب إليه من الكذب و سائر ما لا يلائم قدس ساحته، و من أجمع ما يتضمن قصة الخليل (عليه السلام) ما في الكافي، عن علي عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) كان مولده بكوثار و كان أبوه من أهلها، و كانت أم إبراهيم و أم لوط (عليهما السلام) و سارة و ورقة و في نسخة رقبة أختين و هما ابنتان للاحج، و كان لاحج نبيا منذرا و لم يكن رسولا. و كان إبراهيم (عليه السلام) في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عز و جل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه، و أنه تزوج سارة ابنة لاحج و هي ابنة خالته و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة و حال حسنة، و كانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه و أصلحه و كثرت الماشية و الزرع حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه. و إن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود و أمر به نمرود فأوثق و عمل له حيرا و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم (عليه السلام) في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم (عليه السلام) سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم (عليه السلام) من بلاده، و أن يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم (عليه السلام) عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فإن حقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمرود فقضى على إبراهيم (عليه السلام) أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم (عليه السلام) ما ذهب من عمره في بلادهم، و أخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم و لوطا (عليهما السلام) معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم و معه لوط لا يفارقه و سارة، و قال لهم: إني ذاهب إلى ربي سيهدين يعني إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته و ماله و عمل تابوتا و جعل فيه سارة و شد عليها الأغلاق غيرة منه عليها و مضى حتى خرج من سلطان نمرود، و سار إلى سلطان رجل من القبط يقال له «عزارة» فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلما انتهى إلى العاشر و معه التابوت قال العاشر لإبراهيم (عليه السلام): افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطي عشره و لا نفتحه. قال: فأبى العاشر إلا فتحه قال: و غصب إبراهيم (عليه السلام) على فتحه فلما بدت له سارة و كانت موصوفة بالحسن و الجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم (عليه السلام): هي حرمتي و ابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها و حالك. قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه و التابوت معه فحملوا إبراهيم (عليه السلام) و التابوت و جميع ما كان معه حتى أدخل على الملك: فقال له الملك افتح التابوت فقال له إبراهيم (عليه السلام): أيها الملك إن فيه حرمتي و ابنة خالتي و أنا مفتد فتحه بجميع ما معي. قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها فأعرض إبراهيم (عليه السلام) وجهه عنها و عنه غيرة منه و قال: اللهم احبس يده عن حرمتي و ابنة خالتي فلم تصل يده إليها و لم ترجع إليه فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إن إلهي غيور يكره الحرام، و هو الذي حال بينك و بين ما أردته من الحرام فقال له الملك: فادع إلهك يرد علي يدي فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيم (عليه السلام): إلهي رد إليه يده ليكف عن حرمتي. قال: فرد الله عز و جل إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه، و قال: اللهم احبس يده عنها. قال: فيبست يده و لم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم (عليه السلام): إن إلهك لغيور و إنك لغيور فادع إلهك يرد إلي يدي فإنه إن فعل لم أعد فقال إبراهيم (عليه السلام): أسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيم (عليه السلام): اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى و رأى الآية في يده عظم إبراهيم (عليه السلام) و هابه و أكرمه و اتقاه، و قال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشيء مما معك فانطلق حيث شئت و لكن لي إليك حاجة فقال إبراهيم (عليه السلام): ما هي؟ فقال له: أحب أن تأذن لي أن أخدمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن إبراهيم (عليه السلام) فدعا بها فوهبها لسارة و هي هاجر أم إسماعيل (عليهما السلام). فسار إبراهيم (عليه السلام) بجميع ما معه، و خرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم (عليه السلام) إعظاما لإبراهيم و هيبة له فأوحى الله تبارك و تعالى إلى إبراهيم (عليه السلام) أن قف و لا تمش قدام الجبار المتسلط و يمشي و هو خلفك، و لكن اجعله أمامك و امش خلفه و عظمه و هبه فإنه مسلط و لا بد من إمرة في الأرض برة أو فاجرة فوقف إبراهيم (عليه السلام) و قال للملك: امض فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظمك و أهابك، و أن أقدمك أمامي و أمشي خلفك إجلالا لك فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال إبراهيم (عليه السلام): نعم فقال له الملك: أشهد إن إلهك لرفيق حليم كريم و أنك ترغبني في دينك. قال: و ودعه الملك فسار إبراهيم (عليه السلام) حتى نزل بأعلى الشامات، و خلف لوطا (عليه السلام) في أدنى الشامات. ثم إن إبراهيم (عليه السلام) لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع إبراهيم (عليه السلام) هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيل (عليه السلام).
و من ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل (عليه السلام) مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة و بنائه الكعبة المشرفة و تشريع عمل الحج الحاكي لما جرى عليه و على أمه من المحنة و المشقة في ذات الله، و قد اشتمل على الطواف و السعي و التضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق (عليهما السلام).
و قد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود و وبخهم على قولهم بأن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل 44: فكلم الله إبراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك إسماعيل و اصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر و هو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل 44 آية: 11 - 12.
و أما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل (عليه السلام) قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الأصنام و إلقائه في النار و جعلها بردا و سلاما: «فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما و تله للجبين و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين و فديناه بذبح عظيم و تركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين»: الصافات: 113.
و المتدبر في الآيات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف أن الذبيح هو الذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: «فبشرناه بغلام حليم» و أن البشارة الأخرى التي ذكرها أخيرا بقوله «و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» غير البشارة الأولى، و الذي بشر به في الثانية و هو إسحاق (عليه السلام) غير الذي بشر به في الأولى و أردفها بذكر قصة التضحية به.
و أما الروايات فالتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تذكر أن الذبيح هو إسماعيل (عليه السلام)، و التي رويت من طرق أهل السنة و الجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل و صنف يذكر إسحاق (عليه السلام) غير أنك عرفت أن الصنف الأول هو الذي يوافق الكتاب.
قال الطبري في تاريخه،: اختلف السلف من علماء أمة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، و قال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم.
و قد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رويت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: هو إسحاق أوضح و أبين منه على صحة الأخرى.
إلى أن قال: و أما الدلالة من القرآن التي قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجته سارة قال: «إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين» و ذلك قبل أن يعرف هاجر، و قبل أن تصير له أم إسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عز و جل الخبر عن إجابة دعائه و تبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.
و لا نعلم في كتاب الله عز و جل تبشيرا لإبراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق و ذلك قوله: «و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب» و قوله: «فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم».
ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: «فبشرناه بغلام حليم» نظير ما في سائر سور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة.
و أما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمر بذبح إسحاق و قد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته و ولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، و ذلك أن الله تعالى إنما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي و جائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.
و كذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة و ذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه.
و ليت شعري كيف خفي عليه أن إبراهيم (عليه السلام) لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام و عنده سارة و لا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: «رب هب لي من الصالحين» فسأل ربه الولد، و لم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: «رب هب لي» و لم يقل: رب هب لي من سارة.
و أما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا.
فمع ما سيجيء من الكلام عليه في سائر الموارد التي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الآيات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق و لا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم (عليه السلام) قبل إسحاق بولد له آخر و ليس إلا إسماعيل، و قد اتفق الرواة و النقلة و أهل التاريخ أن إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاق (عليهما السلام) جميعا.
و من ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنها تصرح أن إسماعيل ولد لإبراهيم (عليه السلام) قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما و أن إبراهيم (عليه السلام) طرده و أمه هاجر بعد تولد إسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي و نفاد الماء الذي حملته هاجر و عطش إسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء، و لا يرتاب الناظر المتدبر في القصة أن إسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها و التأمل فيها، و هذا هو الذي يوافق المأثور من أخبارنا.
6 -
القرآن الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصة إبراهيم (عليه السلام) من جهة نفسه و من جهة ابنيه الكريمين إسماعيل و إسحاق و ذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق و شعب إسرائيل، و لا يلتفت إلى إسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره و يحقر شأنه، و مع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيم (عليه السلام) أن نسلك الباقي هو من إسحاق، و تارة أخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل و سيجعله أمة كبيرة، و تارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس و يضاده الناس قد نشأ رامي قوس مطرودا عن بيت أبيه، و تارة تذكر أن الله معه.
و بالتأمل فيما تقدم من قصته (عليه السلام) في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز.
الإشكال الأول ما ذكره بعض المستشرقين أن القرآن في سوره المكية لا يتعرض لشأن إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس و يدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة و صلته بإسماعيل و كونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة و الملة الحنيفية.
لكن السور المدينة كالبقرة و الحج و غيرهما تذكر إبراهيم و إسماعيل متصلين اتصال الأبوة و البنوة و أبوين للعرب مشرعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.
و سر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا.
هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم و بذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الإسلام بانيا لبيتهم المقدس الذي في مكة لما أن هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره.
انتهى ملخصا.
و قد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التي نسبها إلى الكتاب العزيز الذي له شهرته العالمية التي لا يتحجب معها على شرقي و لا غربي فكل باحث متدبر يشاهد أن القرآن الكريم لم يداهن مشركا و لا يهوديا و لا نصرانيا و لا غيرهم في سورة مكية و لا مدنية و لم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود و لا غيرهم بحسب مكية السور و مدنيتها.
غير أن الآيات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينية، و كان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشئونهم و الإبانة عن التشديد في حقهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنية كتفاصيل الأحكام المشرعة التي أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.
و أما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال إسماعيل بإبراهيم (عليهما السلام) و بناء الكعبة و تأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة إبراهيم و هي مكية فيما حكاه من دعاء إبراهيم (عليه السلام): «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام - إلى أن قال - ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون - إلى أن قال - الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء»: إبراهيم: 39. و قد مر نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
و أما ما ذكراه من يهودية إبراهيم (عليه السلام) فإن القرآن يرده بقوله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أ فلا تعقلون - إلى أن قال - ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من المشركين: آل عمران: 67.
الإشكال الثاني: أن الصابئين و هم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض إبراهيم (عليه السلام) لآلهتهم بقوله: «فلما جن عليه الليل رءا كوكبا قال هذا ربي» إلى آخر الآيات إنما كانوا بمدينة حران التي هاجر إليها إبراهيم (عليه السلام) من بابل أو من «أور» و لازمه أن يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الأصنام و كسره الأصنام و دخوله النار، و لا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أن قصة الحجاج مع عبدة الأصنام و الكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه و قومه كما تقدم بيانه.
أقول: و هذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذي تقدم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.
و مع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ و يعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئية التي كانت يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها و وجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.
و أما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل و وجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب و أصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل و ما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس و إله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف و مائتين قبل المسيح، و في نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس و إله القمر و هو مما يقرب زمن الخليل إبراهيم (عليه السلام).
و قد تقدم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيروني: أن يوذاسف ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، و أتى بالكتابة الفارسية، و دعا إلى ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشدادية و بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين و الكواكب و كليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.
و ساق الكلام إلى أن قال: و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظمون الأنوار، و من آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، و كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا.
و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، و قران فإنها منسوبة إلى القمر و بناؤها على صورته كالطيلسان، و بقربها قرية تسمى سلمسين و اسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: و قرية أخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة.
و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم و أن اللات كان باسم زحل، و العزى باسم الزهرة، انتهى.
و ذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول و التكامل في دين الوثنية و أن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، و أن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس و القمر و الزهرة و سائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الآلهة.
قال في مروج الذهب:، كان كثير من أهل الهند و الصين و غيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عز و جل جسم، و أن الملائكة أجسام لها أقدار و أن الله تعالى و ملائكته احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل و أصناما على صورة الباري عز و جل و بعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود و الأشكال، و منها على صورة الإنسان و على خلافها من الصور يعبدونها، و قربوا لها القرابين، و نذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى و قربها منه.
فأقاموا على ذلك برهة من الزمان و جملة من الأعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الأفلاك و الكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله تعالى و أنها حية ناطقة، و أن الملائكة تختلف فيهما بينها و بين الله، و أن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظموها و قربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا.
فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار و في بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما و تماثيل على صورها و أشكالها فجعلوا لها أصناما و تماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، و كل صنف منهم يعظم كوكبا منها، و يقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للآخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الأصنام تحركت لهم الأجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، و بنوا لكل صنم بيتا و هيكلا مفردا، و سموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.
و قد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، و إنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الأعصار لأنه بيت زحل، و أن زحل تولاه لأن زحل من شأنه البقاء و الثبوت، فما كان له فغير زائل و لا داثر، و عن التعظيم غير حائل و ذكروا أمورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.
و لما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنها تقربهم إلى الله و ألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند و كان هنديا، و كان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان و بلاد زابلستان و هي بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان.
فتنبأ و زعم أنه رسول الله، و أنه واسطة بين الله و بين خلقه، و أتى أرض فارس، و ذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، و قيل: ذلك في ملك جم، و هو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب.
و قد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، و الاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس و إليها يقع الصدر من هذا العالم، و جدد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام و السجود لها لشبه ذكرها، و قرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل و الخدع.
و ذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم و أخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم النار و دعا الناس إلى تعظيمها، و قال: إنها تشبه ضوء الشمس و الكواكب لأن النور عنده أفضل من الظلمة، و جعل للنور مراتب.
ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقربا إلى الله بذلك.
ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم و هي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، و بيت على جبل مارس بأصفهان، و بيت مندوسان ببلاد الهند، و بيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، و بيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، و بيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، و بيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلة الأولى.
و اليونان و الروم القديم و الصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذي بتونس للروم الذي على اسم الزهرة.
ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية و الكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى، و هيكل العقل.
قال: و من هياكل الصابئة هيكل السلسلة، و هيكل الصورة و هيكل النفس و هذه مدورات الشكل، و هيكل زحل مسدس، و هيكل المشتري مثلث، و هيكل المريخ مربع مستطيل، و هيكل الشمس مربع، و هيكل عطارد مثلث الشكل، و هيكل الزهرة مثلث في جوف مربع مستطيل، و هيكل القمر مثمن الشكل، و للصابئة فيما ذكرنا رموز و أسرار يخفونها، انتهى.
و قريب منه ما في الملل و النحل، للشهرستاني.
و قد تبين مما نقلناه أولا: أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للآلهة و أرباب الأنواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب و الشمس و القمر، و كانت عندهم هياكل على أسمائها، و من الممكن أن يكون حجاج إبراهيم (عليه السلام) في أمر الكواكب و القمر و الشمس، مع الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة أور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا.
على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم: أن إبراهيم (عليه السلام) حاج أباه و قومه و تحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم و هجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة، و الذي ضبطه كتب التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الأرض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهر لمن تدبر تاريخ الطبري، و غيره.
على أن بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات و خابور، و هو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم.
نعم ذكر المسعودي أن الذي بقي من هياكلهم - الصابئة - المعظمة في هذا الوقت - و هو سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف «بمغليتيا» و هو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل (عليه السلام) عندهم، و للقوم في آزر و ابنه إبراهيم كلام كثير، انتهى.
و لا حجة في قولهم على شيء.
و ثانيا: أنه كما أن الوثنية ربما كانت تعبد الشمس و القمر و الكواكب كذلك الصابئة كانت تبني بيوتا و هياكل لعبادة غير الكواكب و القمر و الشمس كالعلة الأولى و العقل و النفس و غيرها كالوثنية و تتقرب إليها مثلهم و قد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض و أن آخر الأبراج و هو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، و ليس في القبة شيء من التماثيل و الأصنام، و لا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم الناس أن الله هو اختارها للخدمة و وظفها للملازمة.
انتهى.
و لعله كان للعلة الأولى المنزهة عن الهيئات و الأشكال و إن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي.
و قد ثبت أن فلاسفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانية و الأشكال و الأوضاع المادية و يصفونه بما يليق به من الصفات غير أنهم كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقي ذلك، أو لمقاصد و أغراض سياسية توجب كتمان الحق.
|