بيان
الكلام جار على الغرض السابق يبين به حال الأعراب في كفرهم و نفاقهم و إيمانهم و في خلال الآيات آية الصدقة.
قوله تعالى: «الأعراب أشد كفرا و نفاقا و أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله» الآية، قال الراغب في المفردات،: العرب ولد إسماعيل، و الأعراب جمعه في الأصل، و صار ذلك اسما لسكان البادية: «قالت الأعراب آمنا» و الأعراب أشد كفرا و نفاقا.
و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر»، و قيل في جمع الأعراب: أعاريب، قال الشاعر: أعاريب ذوو فخر بإفك.
و ألسنة لطاف في المقال.
و الأعرابي في التعارف صار اسما للمنسوب إلى سكان البادية، و العربي المفصح و الإعراب البيان، انتهى موضع الحاجة.
يبين تعالى حال سكان البادية و أنهم أشد كفرا و نفاقا لأنهم لبعدهم عن المدنية و الحضارة، و حرمانهم من بركات الإنسانية من العلم و الأدب أقسى و أجفى، فهم أجدر و أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله من المعارف الأصلية و الأحكام الشرعية من فرائض و سنن و حلال و حرام.
قوله تعالى: «و من الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر» الآية، قال في المجمع:، المغرم الغرم و هو نزول نائبة بالمال من غير خيانة، و أصله لزوم الأمر، و منه قوله: إن عذابها كان غراما، و حب غرام أي لازم و الغريم يقال لكل واحد من المتداينين للزوم أحدهما الآخر و غرمته كذا أي ألزمته إياه في ماله، انتهى.
و الدائرة الحادثة و تغلب في الحوادث السوء كأن الحوادث السوء تدور بين الناس فتنزل كل يوم بقوم فتربص الدوائر بالمؤمنين انتظار نزول الحوادث السوء عليهم للتخلص من سلطتهم و الرجوع إلى رسوم الشرك و الضلال.
و قوله: «يتخذ ما ينفق مغرما» أي يفرض الإنفاق غرما أو المال الذي ينفقه مغرما - على أن يكون ما مصدرية أو موصولة - و المراد الإنفاق في الجهاد أو أي سبيل من سبل الخير على ما قيل، و يمكن أن يكون المراد الإنفاق في خصوص الصدقات ليكون الكلام كالتوطئة لما سيجيء بعد عدة آيات من حكم أخذ الصدقة من أموالهم، و يؤيده ما في الآية التالية من قوله: «و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول» فإنه كالتوطئة لقوله في آية الصدقة: «و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم».
فمعنى الآية: و من سكان البادية من يفرض الإنفاق في سبيل الخير أو في خصوص الصدقات غرما و خسارة و ينتظر نزول الحوادث السيئة بكم، عليهم دائرة السوء - قضاء منه تعالى أو دعاء عليهم - و الله سميع للأقوال عليم بالقلوب.
قوله تعالى: «و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر و يتخذ ما ينفق قربات عند الله و صلوات الرسول» إلخ، الظاهر أن قوله: «صلوات الرسول» عطف على قوله: «ما ينفق» و أن الضمير في قوله: «إلا أنها قربة» عائد إلى ما ينفق و صلوات الرسول.
و معنى الآية: و من الأعراب من يؤمن بالله فيوحده من غير شرك و يؤمن باليوم الآخر فيصدق الحساب و الجزاء و يتخذ إنفاق المال لله و ما يتبعه من صلوات الرسول و دعواته بالخير و البركة، كل ذلك قربات عند الله و تقربات منه إليه إلا أن هذا الإنفاق و صلوات الرسول قربة لهم، و الله يعدهم بأنه سيدخلهم في رحمته لأنه غفور للذنوب رحيم بالمؤمنين به و المطيعين له.
قوله تعالى: «و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان» إلخ القراءة المشهورة «و الأنصار» بالكسر عطفا على «المهاجرين» و التقدير: السابقون الأولون من المهاجرين و السابقون الأولون من الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان و قرأ يعقوب: و الأنصار بالرفع فالمراد به جميع الأنصار دون السابقين الأولين منهم فحسب.
و قد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، و قيل: من بايع بيعة الرضوان و هي بيعة الحديبية، و قيل: هم أهل بدر خاصة، و قيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، و هذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ.
و الذي يمكن أن يؤيده لفظ الآية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون الأولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم و أشخاصهم يشعر بأن الهجرة و النصرة هما الجهتان اللتان روعي فيهما السبق و الأولية.
ثم الذي عطف عليهم من قوله: «و الذين اتبعوهم بإحسان» يذكر قوما ينعتهم بالاتباع و يقيده بأن يكون بإحسان و الذي يناسب وصف الاتباع أن يترتب عليه هو وصف السبق دون الأولية فلا يقال: أول و تابع و إنما يقال: سابق و تابع، و تصديق ذلك قوله تعالى: «للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم» إلى أن قال: «و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم» إلى أن قال: «و الذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» الآيات: الحشر: - 10.
فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.
و لكون السبق و يقابله اللحوق و الاتباع من الأمور النسبية، و لازمه كون مسلمي كل عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمي ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيد «السابقون» بقوله: «الأولون» ليدل على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الأولى منهم.
و إذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: «و الذين اتبعوهم بإحسان» و لم يقيده بتابعي عصر دون عصر و لا وصفهم بتقدم و أولية و نحوهما و كان شاملا لجميع من يتبع السابقين الأولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، و السابقون الأولون من الأنصار، و الذين اتبعوهم بإحسان، و الصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية و إنما هما إمامان متبوعان لغيرهما و الصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس.
و هذا نعم الشاهد على أن المراد بالسابقين الأولين هم الذين أسسوا أساس الدين و رفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه و يهتز راياته صنف منهم بالإيمان و اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصبر على الفتنة و التعذيب، و الخروج من ديارهم و أموالهم بالهجرة إلى الحبشة و المدينة، و صنف بالإيمان و نصرة الرسول و إيوائه و إيواء من هاجر إليهم من المؤمنين و الدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع.
و هذا ينطبق على من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة ثم هاجر قبل وقعة بدر التي منها ابتدأ ظهور الإسلام على الكفر أو آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آواه و تهيأ لنصرته عند ما هاجر إلى المدينة.
ثم إن قوله: «و الذين اتبعوهم بإحسان» قيد فيه اتباعهم بإحسان و لم يرد الاتباع في الإحسان بأن يكون المتبوعون محسنين ثم يتبعهم التابعون في إحسانهم و يقتدوا بهم فيه - على أن يكون الباء بمعنى في - و لم يرد الاتباع بواسطة الإحسان - على أن يكون الباء للسببية أو الآلية - بل جيء بالإحسان منكرا، و الأنسب له كون الباء بمعنى المصاحبة فالمراد أن يكون الاتباع مقارنا لنوع ما من الإحسان مصاحبا له، و بعبارة أخرى يكون الإحسان وصفا للاتباع.
و إنا نجده تعالى في كتابه لا يذم من الاتباع إلا ما كان عن جهل و هوى كاتباع المشركين آباءهم، و اتباع أهل الكتاب أحبارهم و رهبانهم و أسلافهم عن هوى و اتباع الهوى و اتباع الشيطان فمن اتبع شيئا من هؤلاء فقد أساء في الاتباع و من اتبع الحق لا لهوى متعلق بالأشخاص و غيرهم فقد أحسن في الاتباع، قال تعالى: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله:» الزمر: - 18 و من الإحسان في الاتباع كمال مطابقة عمل التابع لعمل المتبوع و يقابله الإساءة فيه.
فالظاهر أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان أن يتبعوهم بنوع من الإحسان في الاتباع و هو أن يكون الاتباع بالحق - و هو اتباعهم لكون الحق معهم - و يرجع إلى اتباع الحق بالحقيقة بخلاف اتباعهم لهوى فيهم أو في اتباعهم، و كذا مراقبة التطابق.
هذا ما يظهر من معنى الاتباع بإحسان، و أما ما ذكروه من أن المراد كون الاتباع مقارنا لإحسان في المتبع عملا بأن يأتي بالأعمال الصالحة و الأفعال الحسنة فهو لا يلائم كل الملاءمة التنكير الدال على النوع في الإحسان، و على تقدير التسليم لا مفر فيه من التقييد بما ذكرنا فإن الاتباع للحق و في الحق يستلزم الإتيان بالأعمال الحسنة الصالحة دون العكس و هو ظاهر.
فقد تلخص أن الآية تقسم المؤمنين من الأمة إلى ثلاثة أصناف: صنفان هما السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار، و الصنف الثالث هم الذين اتبعوهم بإحسان.
و ظهر مما تقدم أولا: أن الآية تمدح الصنفين الأولين، بالسبق إلى الإيمان و التقدم في إقامة صلب الدين و رفع قاعدته، و تفضيلهم على غيرهم على ما يفيده السياق.
و ثانيا: أن «من» في قوله: «من المهاجرين و الأنصار» تبعيضية لا بيانية لما تقدم من وجه فضلهم، و لما أن الآية تذكر أن الله رضي عنهم و رضوا عنه، و القرآن نفسه يذكر أن منهم من في قلبه مرض و منهم سماعون للمنافقين، و منهم من يسميه فاسقا، و منهم من تبرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من عمله و لا معنى لرضى الله عنهم، و الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
و ثالثا: أن الحكم بالفضل و رضى الله سبحانه في الآية مقيد بالإيمان و العمل الصالح على ما يعطيه السياق فإن الآية تمدح المؤمنين في سياق تذم فيه المنافقين بكفرهم و سيئات أعمالهم و يدل على ذلك سائر المواضع التي مدحهم الله فيها أو ذكرهم بخير و وعدهم وعدا جميلا فقد قيد جميع ذلك بالإيمان و العمل الصالح كقوله تعالى: «للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا و ينصرون الله و رسوله» إلى آخر الآيات الثلاث: الحشر: - 8.
و قوله فيما حكاه من دعاء الملائكة لهم: «و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك و قهم عذاب الجحيم ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم:» المؤمن: - 8.
و قوله: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما:» الفتح: - 29.
و قوله: «و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين:» الطور: - 21 انظر إلى موضع قوله: «بإيمان» و قوله: كل امرىء «إلخ».
و لو كان الحكم في الآية غير مقيد بقيد الإيمان و العمل الصالح و كانوا مرضيين عند الله مغفورا لهم أحسنوا أو أساءوا و اتقوا أو فسقوا كان ذلك تكذيبا صريحا لقوله تعالى: «فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين:» التوبة: - 96، و قوله: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين:» التوبة: - 80، و قوله: «و الله لا يحب الظالمين:» آل عمران: - 57 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاما أن الله لا يرضى عن الظالم و الفاسق و كل من لا يطيعه في أمر أو نهي، و ليست الآيات مما يقبل التقييد أو النسخ و كذا أمثال قوله تعالى خطابا للمؤمنين: «ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به:» النساء: - 123.
على أن لازم عدم تقييد الحكم في هذه الآية تقييد جميع الآيات الدالة على الجزاء و المشتملة على الوعيد و التهديد، و هي آيات جمة في تقييدها اختلال نظام الوعد و الوعيد و إلغاء معظم الأحكام و الشرائع، و بطلان الحكمة، و لا فرق في ذلك بين أن نقول بكون «من» تبعيضية و الفضل لبعض المهاجرين و الأنصار أو بيانية و الفضل للجميع و الرضى الإلهي للكل، و هو ظاهر.
و قوله تعالى: «رضي الله عنهم و رضوا عنه» الرضى منا موافقة النفس لفعل من الأفعال من غير تضاد و تدافع يقال: رضي بكذا أي وافقه و لم يمتنع منه، و يتحقق بعدم كراهته إياه سواء أحبه أو لم يحبه و لم يكرهه فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله و لا يحب بعض ما يبغضه و لا يتحقق إلا إذا رضي بقضائه تعالى و ما يظهر من أفعاله التكوينية، و كذا بحكمه و ما أراده منه تشريعا، و بعبارة أخرى إذا سلم له في التكوين و التشريع و هو الإسلام و التسليم لله سبحانه.
و هذا بعينه شاهد آخر على ما تقدم أن الحكم في الآية مقيد بالإيمان و العمل الصالح بمعنى أن الله سبحانه إنما يمدح من المهاجرين و الأنصار و التابعين من آمن به و عمل صالحا، و يخبر عن رضاه عنه و إعداده له جنات تجري تحتها الأنهار.
و ليس مدلول الآية أن من صدق عليه أنه مهاجر أو أنصاري أو تابع فإن الله قد رضي عنه رضا لا سخط بعده أبدا و أوجب في حقه المغفرة و الجنة سواء أحسن بعد ذلك أو أساء، اتقى أو فسق.
و أما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير و التبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، و إنما يرضى و يسخط بمعنى أنه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة و إيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة و تسليط النقمة و العقوبة.
و لذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس غير أن الظاهر من سياق الآية أن المراد بالرضى هو الرضى الذي لا سخط بعده فإنه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم و تابعيهم في الإيمان و العمل الصالح، و هذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى و هو بخلاف قوله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» الآية: الفتح: - 18 فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط.
قوله تعالى: «و ممن حولكم من الأعراب منافقون و من أهل المدينة» الآية حول الشيء ما يجاوره من المكان من أطرافه و هو ظرف، و المرد العتو و الخروج عن الطاعة، و الممارسة و التمرين على الشر و هو المعنى المناسب لقوله في الآية: «مردوا على النفاق» أي مرنوا عليه و مارسوا حتى اعتادوه.
و معنى الآية: و ممن في حولكم أو حول المدينة من الأعراب الساكنين في البوادي منافقون مرنوا على النفاق و من أهل المدينة أيضا منافقون معتادون على النفاق لا تعلمهم أنت يا محمد نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم.
و قد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين ما هما المرتان؟ فقيل: يعني مرة في الدنيا بالسبي و القتل و نحوهما و مرة بعذاب القبر، و قيل: في الدنيا بأخذ الزكاة و في الآخرة بعذاب القبر، و قيل بالجوع مرتين و قيل مرة عند الاحتضار و مرة في القبر و قيل: بإقامة الحدود و عذاب القبر، و قيل: مرة بالفضيحة في الدنيا و مرة بالعذاب في القبر، و قيل غير ذلك، و لا دليل على شيء من هذه الأقوال، و إن كان و لا بد فأولها أولاها.
قوله تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا» الآية، أي و من الأعراب جماعة آخرون مذنبون لا ينافقون مثل غيرهم بل اعترفوا بذنوبهم لهم عمل صالح و عمل آخر سيىء خلطوا هذا بذلك من المرجو أن يتوب الله عليهم إن الله غفور رحيم.
و في قوله: «عسى الله أن يتوب عليهم» إيجاد الرجاء في نفوسهم لتكون نفوسهم واقعة بين الخوف و الرجاء من غير أن يحيط بها اليأس و القنوط، و في قوله: «إن الله غفور رحيم» ترجيح جانب الرجاء.
قوله تعالى: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم و الله سميع عليم» التطهير إزالة الأوساخ و القذارات من الشيء ليصفى وجوده و يستعد للنشوء و النماء و ظهور آثاره و بركاته، و التزكية إنماؤه و إعطاء الرشد له بلحوق الخيرات و ظهور البركات كالشجر يقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها و جودة ثمرتها فالجمع بين التطهير و التزكية في الآية من لطيف التعبير.
فقوله: «خذ من أموالهم صدقة» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الصدقة من أموال الناس و لم يقل: من مالهم ليكون إشارة إلى أنها مأخوذة من أصناف المال، و هي النقدان: الذهب و الفضة، و الأنعام الثلاثة: الإبل و البقر و الغنم، و الغلات الأربع: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب.
و قوله: «تطهرهم و تزكيهم بها» خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ليس وصفا لحال الصدقة، و الدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من أصناف أموالهم صدقة تطهرهم أنت و تزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها.
و قوله: «و صل عليهم» الصلاة عليهم هي الدعاء لهم و السياق يفيد أنه دعاء لهم و لأموالهم بالخير و البركة و هو المحفوظ من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يدعو لمعطي الزكاة و لماله بالخير و البركة.
و قوله: «إن صلاتك سكن لهم» السكن ما يسكن إليه الشيء و المراد به أن نفوسهم تسكن إلى دعائك و تثق به و هو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى في ذيل الآية: «و الله سميع عليم» سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الآية أو يتلوها.
و الآية تتضمن حكم الزكاة المالية التي هي من أركان الشريعة و الملة على ما هو ظاهر الآية في نفسها، و قد فسرتها بذلك أخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و غيرهم.
قوله تعالى: «أ لم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات و إن الله هو التواب الرحيم» استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة، و ذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله و إنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله و جابيه بما أنه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله، و أخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الأخذ لها بالحقيقة، و قد قال تعالى في أمثاله: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم:» الفتح: - 10 و قال: «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى:» الأنفال: - 13 و قال قولا عاما: «من يطع الرسول فقد أطاع الله:» النساء: - 80.
فإذا ذكر الناس بمثل قوله: «أ لم يعلموا أن الله» الآية، انبعثت رغباتهم و اشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه و يمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الأجسام و تعالى عن ملابسة الحدثان.
و مقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر و إيتاء الصدقة تطهر فالتصدق بصدقة توبة مالية كما أن التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال و الحركات، و لذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلا: «و إن الله هو التواب الرحيم» فذكر عباده باسميه التواب و الرحيم، و جمع فيهما التوبة و التصدق.
و قد بان من الآية أن التصدق و إيتاء الزكاة نوع من التوبة.
قوله تعالى: «و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون» الآية، الآية على ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين و تسوقهم و تحرضهم إلى إيتاء الصدقات.
غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين و لا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذي عمل من الناس من الكفار و المنافقين و المؤمنين و لا أقل من شمولها للمنافقين و المؤمنين جميعا.
إلا أن نظير الآية الذي مر أعني قوله في سياق الكلام على المنافقين: «و سيرى الله عملكم و رسوله ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون:» التوبة: - 94 حيث ذكر الله و رسوله في رؤية عملهم و لم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن الخطاب في الآية التي نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الآيتين إلى الأخرى يخطر بالبال أن حقيقة أعمال المنافقين أعني مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على ملإ الناس فإنما يعلم بها الله و رسوله بوحي من الله تعالى، و أما المؤمنون فحقائق أعمالهم أعني مقاصدهم منها و آثارها و فوائدها التي تتفرع عليها و هي شيوع التقوى و إصلاح شئون المجتمع الإسلامي و إمداد الفقراء في معايشهم و زكاة الأموال و نماؤها يعلمها الله تعالى و رسوله و يشاهدها المؤمنون فيما بينهم.
لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها و عامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها و تبدلها بأمثالها و تصورها في أطوارها زمانا بعد زمان و عصرا بعد عصر مما لا يختص بعمل قوم دون عمل قوم، و لا مشاهدتها و التأثر بها بقوم دون قوم.
فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها و نتائجها و بعبارة أخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم و لا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون و لا يراها المنافقون و هم أهل مجتمع واحد؟ و ما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون و قد كونت في مجتمعهم و داخلت أعمالهم؟.
و هذا مع ما في الآية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنه قوله: «و ستردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» يدل أولا على أن قوله: «فسيرى الله عملكم» الآية ناظر إلى ما قبل البعث و هي الدنيا لمكان قوله: «و ستردون» فإنه يشير إلى يوم البعث و ما قبله هو الدنيا.
و ثانيا: أنهم إنما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث و أما قبل ذلك فإنما يرون ظاهرها، و قد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة، و إذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة و ذكر رؤية الله و رسوله و المؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا و قد ذكر الله مع رسوله و غيره و هو عالم بحقائقها و له أن يوحي إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه و رسوله و المؤمنون حقيقة أعمالهم، و كان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال قوله تعالى «و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا:» البقرة: - 143 و قد مر الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب.
و على هذا فمعنى الآية: و قل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم و يشاهدها رسوله و المؤمنون - و هم شهداء الأعمال - ثم تردون إلى الله عالم الغيب و الشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم.
و بعبارة أخرى: ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم الغيب و الشهادة ثم لرسوله و المؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة.
فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، و إن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها و يرون حقائقها و هم رسول الله و شهداء الأعمال من المؤمنين و الله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها و هم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق: - 22 ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد، و بين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوة و هو يرى أنه كذلك.
هذا في الآية التي نحن فيها، و أما الآية السابقة: «يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم و سيرى الله عملكم و رسوله ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد إليهم اعتذارهم، و يذكر لهم أولا أن الله قد نبأهم أي النبي و الذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات التي تقص أخبار المنافقين و تكشف عن مساوي أعمالهم.
ثم يذكر لهم أن حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه و لا خفية عليه و كذلك رسوله وحده و لم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثم الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة.
فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية التي نحن فيها: الله و رسوله و المؤمنون، و في الآية السابقة: الله و رسوله، و اقتصر على ذلك.
فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية و من لم يقنع بذلك و لم يرض دون أن يصور للآية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى «الله و رسوله» في خطاب المنافقين إنما هو لأجل أنهم إنما يريدون أن يكيدوا الله و رسوله و لا هم لهم في المؤمنون، و أما ذكره تعالى: «الله و رسوله و المؤمنين» في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح و لم يعبأ بحال غيرهم من الكفار و المنافقين.
فتدبر.
قوله تعالى: «و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم و الله عليم حكيم» الإرجاء التأخير، و الآية معطوفة على قوله: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم» و معنى إرجائهم إلى أمر الله أنهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يئول إلى أمر الله ما شاء و أراد فيهم فهو النافذ في حقهم.
و هذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين و المسيئين، و إن ورد في أسباب النزول أن الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيجيء إن شاء الله تعالى.
و كيف كان فالآية تخفي ما يئول إليه عاقبة أمرهم و تبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين: العليم و الحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه و حكمته، و هذا بخلاف ما ذيل قوله: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم» حيث قال: «عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم».
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن داود بن الحصين عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر - و يتخذ ما ينفق قربات عند الله» أ يثيبهم عليه؟ قال: نعم. و فيه، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما سبق بين الخيل يوم الرهان. قلت: أخبرني عما ندب الله المؤمن من الإسباق إلى الإيمان. قال: قول الله تعالى: «سابقوا إلى مغفرة من ربكم - و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض - أعدت للذين آمنوا بالله و رسله» و قال: «السابقون السابقون أولئك المقربون». و قال: «و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار - و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه» فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين و أمرهم بإحسان فوضع كل قوم على قدر درجاتهم و منازلهم عنده. و في تفسير البرهان، عن مالك بن أنس عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «و السابقون الأولون» نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو أسبق الناس كلهم بالإيمان و صلى على القبلتين، و بايع البيعتين بيعة بدر و بيعة الرضوان، و هاجر الهجرتين مع جعفر من مكة إلى الحبشة و من الحبشة إلى المدينة.
أقول: و في معناها روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق الأوزاعي حدثني يحيى بن كثير و القاسم و مكحول و عبدة بن أبي لبابة و حسان بن عطية أنهم سمعوا جماعة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: لما أنزلت هذه الآية: «و السابقون الأولون إلى قوله و رضوا عنه» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا لأمتي كلهم، و ليس بعد الرضا سخط.
أقول: معناه أن من رضي الله عنهم و رضوا عنه هم الذين جمعتهم الآية لا أن الآية تدل على رضاه تعالى عن الأمة كلهم فهذا مما يدفعه الكتاب بالمخالفة القطعية، و كذا قوله: «و ليس بعد الرضا سخط»، مراده ليس بعد الرضا المذكور في الآية سخط، و قد قررناه فيما تقدم لا أنه ليس بعد مطلق رضى الله سخط فهو مما لا يستقيم البتة.
و فيه، أخرج أبو الشيخ و ابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما أريد الفتن: فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم و مسيئهم. قلت: و في أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال: أ لا تقرأ: «و السابقون الأولون» الآية أوجب لجميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجنة و الرضوان، و شرط على التابعين شرطا لم يشترطه فيهم. قلت: و ما أشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، و لا يقتدون بهم في غير ذلك. قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قبل ذلك، و ما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب.
أقول: هو - كما ترى - يسلم أن في أعمالهم حسنة و سيئة و طاعة و فسقا غير أن الله رضي عنهم في جميع ذلك و غفرها لهم فلا يجازيهم بالسيئة سيئة، و هو الذي ذكرنا في البيان المتقدم أن مقتضاه تكذيب آيات كثيرة قرآنية تدل على أن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين و الظالمين و أنه لا يحبهم و لا يهديهم، و تقيد آيات أكثر من ذلك و هي أكثر الآيات القرآنية الدالة على عموم جزاء الحسنة بالحسنة و السيئة بالسيئة من غير مقيد و عليها تعتمد آيات الأمر و النهي و هي آيات الأحكام بجملتها.
و لو كان مدلول الآية هذا الذي ذكره لكانت الصحابة على عربيتهم المحضة و اتصالهم بزمان النبوة و نزول الوحي أحق أن يفهموا من الآية ذلك، و لو كانوا فهموا منها ذلك لما عامل بعضهم بعضا بما ضبطه النقل الصحيح.
و كيف يمكن أن يتحقق كلهم بمضمون قوله: «رضي الله عنهم و رضوا عنه» و يفهموا ذلك منه ثم لا يرضى بعضهم عن بعض و قد رضي الله عنه، و الراضي عن الله راض عما رضي الله عنه، و لا يندفع هذا الإشكال بحديث اجتهادهم فإن ذلك لو سلم يكون عذرا في مقام العمل لا مصححا للجمع بين صفتين متضادتين وجدانا و هما الرضا عن الله و عدم الرضا عما رضي الله عنه و الكلام طويل.
و فيه، أخرج أبو عبيد و سنيد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن حبيب الشهيد عن عمرو بن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ «و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوهم بإحسان» فرفع الأنصار و لم يلحق الواو في الذين فقال له زيد بن ثابت: و الذين فقال عمر: الذين فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال أبي: و الذين فقال عمر: فنعم إذن نتابع أبيا.
أقول: و مقتضى قراءة عمر اختصاص المهاجرين بما يتضمنه قوله: «و السابقون الأولون» من المنقبة و منقبة أخرى و هي كونهم متبوعين للأنصار كما يشير إليه الحديث الآتي.
و فيه، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي قال: مر عمر برجل يقرأ «و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار» فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب. قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم قال: و سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: نعم. قال: كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. فقال أبي: تصديق ذلك في أول سورة الجمعة: «و آخرين منهم لما يلحقوا بهم» و في سورة الحشر: «و الذين جاءوا من بعدهم - يقولون ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» و في الأنفال: «و الذين آمنوا من بعد و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم». و في الكافي، بإسناده عن موسى بن بكر عن رجل قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا» فأولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون و يكرهونها فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم.
أقول: و رواه العياشي عن زرارة عنه (عليه السلام) إلا أن فيه «مذنبون» «مكان مؤمنون».
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم» الآية قال: أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو كنانة بن عبد المنذر و ثعلبة بن وديعة و أوس بن حذام تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند مخرجه إلى تبوك فلما بلغهم ما أنزل الله فيمن تخلف عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيقنوا بالهلاك و أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله يحلهم، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و أنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أومر فيهم بأمر. فلما نزل: «عسى الله أن يتوب عليهم» عمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فخذها و تصدق بها عنا. قال: ما أمرت فيها، فنزل: «خذ من أموالهم صدقة الآيات.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخرى رواها في الدر المنثور بينها اختلاف في أسامي الرجال، و فيها نزول آية الصدقة في خصوص أموالهم، و يضعفها تظافر الروايات في نزول الآية في الزكاة الواجبة.
و فيه، و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): أنها نزلت في أبي لبابة و لم يذكر غيره معه و سبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح. و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لما نزلت هذه الآية: «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها» و أنزلت في شهر رمضان فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مناديه فنادى في الناس: أن الله فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة ففرض الله عز و جل عليهم من الذهب و الفضة و فرض الصدقة من الإبل و البقر و الغنم، و من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب فنادى بهم بذلك في شهر رمضان، و عفا لهم عما سوى ذلك. قال: ثم لم يفرض لشيء من أموالهم حتى حال عليه الحول من قابل فصاموا و أفطروا فأمر مناديه فنادى في المسلمين: أيها المسلمون زكوا أموالكم تقبل صلاتكم. قال: ثم وجه عمال الصدقة و عمال الطسوق. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن مردويه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتي بصدقة قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن سليمان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و يأخذ الصدقات» قال: يقبلها من أهلها و يثيب عليها. و في تفسير العياشي، عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ضمنت على ربي أن الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرب، و هو قوله: «هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات».
أقول: و في معناه روايات أخرى مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي و أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في بصائر الدرجات، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألت عن الأعمال هل تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: ما فيه شك. قال: أ رأيت قول الله «اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون» فقال: لله شهداء في خلقه.
أقول: و في معناه روايات متظافرة متكاثرة مروية في جوامع الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و في أكثرها: أن «المؤمنون» في الآية هم الأئمة، و انطباقها على ما قدمناه من التفسير ظاهر.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله «و آخرون مرجون لأمر الله» قال: قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة و جعفرا و أشباههما من المسلمين ثم إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا الله و تركوا الشرك، و لم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فيجب لهم الجنة، و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن زرارة عنه (عليه السلام) و في معناه روايات أخر.
و في تفسير العياشي، عن حمران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المستضعفين قال: هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفار فهم المرجون لأمر الله. و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة: في قوله: «و آخرون مرجون لأمر الله» قال: هم الثلاثة الذين خلفوا: أقول: و روي مثله عن مجاهد و قتادة و أن أسماءهم هلال بن أمية، و مرارة بن الربيع و كعب بن مالك من الأوس و الخزرج، و لا تنطبق قصتهم على هذه الآية و سيجيء إن شاء الله تعالى.
كلام في الزكاة و سائر الصدقة
الأبحاث الاجتماعية و الاقتصادية و سائر الأبحاث المرتبطة بها جعلت اليوم حاجة المجتمع من حيث إنه مجتمع إلى مال يختص به و يصرف لرفع حوائجه العامة في صف البديهيات التي لا يشك فيها شاك و لا يداخلها ريب فكثير من المسائل الاجتماعية و الاقتصادية - و منها هذه المسألة - كانت في الأعصار السالفة مما يغفل عنها عامة الناس و لا يشعرون بها إلا شعورا فطريا إجماليا و هي اليوم من الأبجديات التي يعرفها العامة و الخاصة.
غير أن الإسلام بحسب ما بين من نفسية الاجتماع و هويته و شرع من الأحكام المالية الراجعة إليها، و الأنظمة و القوانين التي رتبها في أطرافها و متونها له اليد العليا في ذلك.
فقد بين القرآن الكريم أن الاجتماع يصيغ من عناصر الأفراد المجتمعين صيغة جديدة فيكون منهم هوية جديدة حية هي المجتمع، و له من الوجود و العمر و الحياة و الموت و الشعور و الإرادة و الضعف و القوة و التكليف و الإحسان و الإساءة و السعادة و الشقاوة أمثال أو نظائر ما للإنسان الفرد و قد نزلت في بيان ذلك كله آيات كثيرة قرآنية كررنا الإشارة إليها في خلال الأبحاث السابقة.
و قد عزلت الشريعة الإسلامية سهما من منافع الأموال و فوائدها للمجتمع كالصدقة الواجبة التي هي الزكاة و كالخمس من الغنيمة و نحوها و لم يأت في ذلك ببدع فإن القوانين و الشرائع السابقة عليها كشريعة حمورابي و قوانين الروم القديم يوجد فيها أشياء من ذلك بل سائر السنن القومية في أي عصر، و بين أية طائفة دارت لا يخلو عن اعتبار جهة مالية لمجتمعها فالمجتمع كيفما كان يحس بالحاجة المالية في سبيل قيامه و رشده.
غير أن الشريعة الإسلامية تمتاز في ذلك من سائر السنن و الشرائع بأمور يجب إمعان النظر فيها للحصول على غرضها الحقيقي و نظرها المصيب في تشريعها و هي: أولا: أنها اقتصرت في وضع هذا النوع من الجهات المالية على كينونة الملك و حدوثه موجودا و لم يتعد ذلك، و بعبارة أخرى إذا حدثت مالية في ظرف من الظروف كغلة حاصلة عن زراعة أو ربح عائد من تجارة أو نحو ذلك بادرت فوضعت سهما منها ملكا للمجتمع و بقية السهام ملكا لمن له رأس المال أو العمل مثلا، و ليس عليه إلا أن يرد مال المجتمع و هو السهم إليه.
بل ربما كان المستفاد من أمثال قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا:» البقرة: - 29 و قوله: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما:» النساء: - 5 أن الثروة الحادثة عند حدوثها للمجتمع بأجمعها ثم اختص سهم منها للفرد الذي نسميه المالك أو العامل، و بقي سهم أعني سهم الزكاة أو سهم الخمس في ملك المجتمع كما كان فالمالك الفرد مالك في طول مالك و هو المجتمع، و قد تقدم بعض البحث عن ذلك في تفسير الآيتين.
و بالجملة فالذي وضعته الشريعة من الحقوق المالية كالزكاة و الخمس مثلا إنما وضعته في الثروة الحادثة عند حدوثها فشركت المجتمع مع الفرد من رأس ثم الفرد في حرية من ماله المختص به يضعه حيث يشاء من أغراضه المشروعة من غير أن يعترضه في ذلك معترض إلا أن يدهم المجتمع من المخاطر العامة ما يجب معه صرف شيء من رءوس الأموال في سبيل حفظ حياته كعدو هاجم يريد أن يهلك الحرث و النسل، و المخمصة العامة التي لا تبقي و لا تذر.
و أما الوجوه المالية المتعلقة بالنفوس أو الضياع و العقار أو الأموال التجارية عند حصول شرائط أو في أحوال خاصة كالعشر المأخوذ في الثغور و نحو ذلك فإن الإسلام لا يرى ذلك بل يعده نوعا من الغصب و ظلما يوجب تحديدا في حرية المالك في ملكه.
ففي الحقيقة لا يأخذ المجتمع من الفرد إلا مال نفسه الذي يتعلق بالغنيمة و الفائدة عند أول حدوثه و يشارك الفرد في ملكه على نحو يبينه الفقه الإسلامي مشروحا، و أما إذا انعقد الملك و استقر لمالكه فلا اعتراض لمعترض على مالك في حال أو عند شرط، يوجب قصور يده و زوال حريته.
و ثانيا: أن الإسلام يعتبر حال الأفراد في الأموال الخاصة بالمجتمع كما يعتبر حال المجتمع بل الغلبة في ما يظهر من نظره لحالهم على حاله فإنه يجعل السهام في الزكاة ثمانية لا يختص بسبيل الله منها إلا سهم واحد و باقي السهام للأفراد كالفقراء و المساكين و العاملين و المؤلفة قلوبهم و غيرهم، و في الخمس ستة لم يجعل لله سبحانه إلا سهم واحد و الباقي للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.
و ذلك أن الفرد هو العنصر الوحيد لتكون المجتمع، و رفع اختلاف الطبقات الذي هو من أصول برنامج الإسلام، و إلقاء التعادل و التوازن بين قوى المجتمع المختلفة و تثبيت الاعتدال في مسيره بأركانه و أجزائه لا يتم إلا بإصلاح حال الأجزاء أعني الأفراد و تقريب أحوالهم بعضهم من بعض.
و أما قصر مال المجتمع في صرفه في إيجاد الشوكة العامة و التزيينات المشتركة و رفع القصور المشيدة العالية و الأبنية الرفيعة الفاخرة و تخلية القوي و الضعيف أو الغني و الفقير على حالهما لا يزيدان كل يوم إلا ابتعادا فلتدل التجربة الطويلة القطعية أنه لا يدفع غائلا و لا يغني طائلا.
و ثالثا: أن للفرد من المسلمين أن يصرف ما عليه من الحق المالي الواجب كالزكاة مثلا في بعض أرباب السهام كالفقير و المسكين من دون أنه يؤديه إلى ولي الأمر أو عامله في الجملة فيرده هو إلى مستحقيه.
و هذا نوع من الاحترام الاستقلالي الذي اعتبره الإسلام لأفراد مجتمعه نظير إعطاء الذمة الذي لكل فرد من المسلمين أن يقوم به لمن شاء من الكفار المحاربين و ليس للمسلمين و لا لولي أمرهم أن ينقض ذلك.
نعم لولي الأمر إذا رأى في مورد أن مصلحة الإسلام و المسلمين في خلاف ذلك أن ينهى عن ذلك فيجب الكف عنه لوجوب طاعته.
|