بيان
تذكر الآيات طائفة أخرى من المنافقين بنوا مسجد الضرار و تقيس حالهم إلى حال جماعة من المؤمنين بنوا مسجدا لتقوى الله.
قوله تعالى: «و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا» إلى آخر الآية، الضرار و المضارة إيصال الضرر، و الإرصاد اتخاذ الرصد و الانتظار و الترقب.
و قوله: «و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا» إن كانت الآيات نازلة مع ما تقدمها من الآيات النازلة في المنافقين فالعطف على من تقدم ذكرهم من طوائف المنافقين المذكورين بقوله: و منهم، و منهم أي و منهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
و إن كانت مستقلة بالنزول فالوجه كون الواو استئنافية و قوله: «الذين اتخذوا» مبتدأ خبره قوله: «لا تقم فيه أبدا» و يمكن إجراء هذا الوجه على التقدير السابق أيضا، و قد ذكر المفسرون في إعراب الآية وجوها أخرى لا تخلو عن تكلف تركناها.
و قد بين الله غرض هذه الطائفة من المنافقين في اتخاذ هذا المسجد و هو الضرار بغيرهم و الكفر و التفريق بين المؤمنين و الإرصاد لمن حارب الله و رسوله، و الأغراض المذكورة خاصة ترتبط إلى قصة خاصة بعينها، و هي على ما اتفق عليه أهل النقل أن جماعة من بني عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا و سألوا النبي أن يصلي فيه فصلى فيه فحسدهم جماعة من بني غنم بن عوف و هم منافقون فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا ليضروا به و يفرقوا المؤمنين منه و ينتظروا لأبي عامر الراهب الذي وعدهم أن يأتيهم بجيش من الروم ليخرجوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة، و أمرهم أن يستعدوا للقتال معهم.
و لما بنوا المسجد أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتجهز إلى تبوك و سألوه أن يأتيه و يصلي فيه و يدعو لهم بالبركة فوعدهم إلى الفراغ من أمر تبوك و الرجوع إلى المدينة فنزلت الآيات.
فكان مسجدهم لمضارة مسجد قبا، و للكفر بالله و رسوله، و لتفريق المؤمنين المجتمعين في قبا، و لإرصاد أبي عامر الراهب المحارب لله و رسوله من قبل، و قد أخبر الله سبحانه عنهم إنهم ليحلفن إن أردنا من بناء هذا المسجد إلا الفعلة الحسنى و هو التسهيل للمؤمنين بتكثير معابد يعبد فيها الله، و شهد تعالى بكذبهم بقوله: «و ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى و الله يشهد إنهم لكاذبون».
قوله تعالى: «لا تقم فيه أبدا» إلى آخر الآية، بدأ بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يقوم فيه ثم ذكر مسجد قبا و رجح القيام فيه بعد ما مدحه بقوله: «لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه» فمدحه بحسن نية مؤسسيه من أول يوم و بنى عليه رجحان القيام فيه على القيام في مسجد الضرار.
و الجملة و إن لم تفد تعين القيام في مسجد قبا حيث عبر بقوله: «أحق، غير أن سبق النهي عن القيام في مسجد الضرار يوجب ذلك، و قوله تعالى: «فيه رجال يحبون أن يتطهروا» تعليل للرجحان السابق، و قوله: «و الله يحب المطهرين» متمم للتعليل المذكور، و هذا هو الدليل على أن المراد بقوله: «لمسجد أسس» إلخ هو مسجد قبا لا مسجد النبي أو غيره.
و معنى الآية: لا تقم أي للصلاة في مسجد الضرار أبدا، أقسم، لمسجد قبا الذي هو مسجد أسس على تقوى الله من أول يوم أحق و أحرى أن تقوم فيه للصلاة و ذلك أن فيه رجالا يحبون التطهر من الذنوب أو من الأرجاس و الأحداث و الله يحب المطهرين و عليك أن تقوم فيهم.
و قد ظهر بذلك أن قوله: «لمسجد أسس» إلخ، بمنزلة التعليل لرجحان المسجد على المسجد و قوله: «فيه رجال» إلخ، لإفادة رجحان أهله على أهله، و قوله الآتي: «أ فمن أسس بنيانه» إلخ، لبيان الرجحان الثاني.
قوله تعالى: «أ فمن أسس بنيانه على تقوى من الله و رضوان خير» إلى آخر الآية شفا البئر طرفه، و جرف الوادي جانبه الذي انحفر بالماء أصله و هار الشيء يهار فهو هائر و ربما يقال: هار بالقلب و انهار ينهار انهيارا أي سقط عن لين فقوله: «على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم» استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها و قوامها فتساقطت بما بني عليه من البنيان و كان في أصله جهنم فوقع في ناره، و هذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله و رضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله و ابتغاء رضاه.
و ظاهر السياق أن قوله: «أ فمن أسس بنيانه على تقوى» إلخ، و قوله: «أم من أسس بنيانه على شفا جرف» إلخ، مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين و المنافقين و هو الدين و الطريق الذي يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله و ابتغاء رضوانه عن يقين به، و دين المنافق مبني على التزلزل و الشك.
و لذلك أعقبه الله تعالى و زاد في بيانه بقوله: «لا يزال بنيانهم» يعني المنافقين «الذي بنوا ريبة» و شكا «في قلوبهم» لا يتعدى إلى مرحلة اليقين «إلا أن تقطع قلوبهم» فتتلاشى الريبة بتلاشيها «و الله عليم حكيم» و لذلك يضع هؤلاء و يرفع أولئك.
بحث روائي
في المجمع، قال المفسرون: إن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا، و بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فأتاهم و صلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجدا فنصلي فيه و لا نحضر جماعة محمد، و كانوا اثني عشر رجلا، و قيل: خمسة عشر رجلا، منهم: ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و نبتل بن الحارث فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا. فلما بنوه أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة و الحاجة و الليلة الممطرة و الليلة الشاتية، و إنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا و تدعو بالبركة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إني على جناح سفر و لو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلينا لكم فيه، فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد. قال: فوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني و مالك بن الدخشم و كان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فأهدماه و حرقاه، و روي أنه بعث عمار بن ياسر و وحشيا فحرقاه، و أمر بأن يتخذ كناسة يلقى فيها الجيف. أقول: و في رواية القمي: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث لذلك مالك بن دخشم الخزاعي و عامر بن عدي أخا بني عمرو بن عوف فجاء مالك و قال لعامر: انتظرني حتى أخرج نارا من منزلي، فدخل و جاء بنار و أشعل في سعف النخل ثم أشعله في المسجد فتفرقوا، و قعد زيد بن حارثة حتى احترقت البنية ثم أمر بهدم حائطه.
و القصة مروية بطرق كثيرة من طرق أهل السنة، و الروايات متقاربة إلا أن في أسامي من بعثه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اختلافا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق قال: كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلا: خذام بن خالد بن عبيد بن زيد، و ثعلبة بن حاطب و هلال بن أمية، و معتب بن قشير، و أبو حبيبة بن الأزعر، و عباد بن حنيف، و جارية بن عامر و ابناه مجمع و زيد، و نبتل بن الحارث، و بخدج بن عثمان و وديعة بن ثابت. و في المجمع،: في قوله: «و إرصادا لمن حارب الله و رسوله» قال: هو أبو عامر الراهب، قال و كان من قصته أنه كان قد ترهب في الجاهلية و لبس المسوح فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة حسده، و حزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكة إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، و خرج إلى الروم و تنصر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد و كان جنبا فغسلته الملائكة. و سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا عامر الفاسق، و كان قد أرسل إلى المنافق أن استعدوا و ابنوا مسجدا فإني أذهب إلى قيصر و آتي من عنده بجنود، و أخرج محمدا من المدينة فكان هؤلاء المنافقون يتوقعون أن يجيئهم أبو عامر فمات قبل أن يبلغ ملك الروم.
أقول: و في معناه عدة من الروايات.
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجد قبا: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، و روي هذا المعنى أيضا في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عنه (عليه السلام).
و قد روي في الدر المنثور، بغير واحد من الطرق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: هو مسجدي هذا، و هو مخالف لظاهر الآية و خاصة قوله: «فيه رجال» إلخ، فإن الكلام موضوع في القياس بين المسجدين: مسجد قبا و مسجد الضرار و القياس بين أهليهما و لا غرض يتعلق بمسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير العياشي، عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «فيه رجال يحبون أن يتطهروا» قال: الذين يحبون أن يتطهروا نظف الوضوء و هو الاستنجاء بالماء و قال: قال نزلت هذه في أهل قبا. و في المجمع،: في الآية قال: يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط و البول: و هو المروي عن السيدين: الباقر و الصادق (عليهما السلام)، و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم فإن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال: أنزل الله فيكم: «و الله يحب المطهرين». و فيه،: في قراءة قوله: «إلا أن تقطع قلوبهم» و قرأ يعقوب و سهل: «إلى أن» على أنه حرف الجر، و هو قراءة الحسن و قتادة و الجحدري و جماعة: و رواه البرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
|