بيان
هي آيات تختتم بها آيات براءة و هي تذكر حال المؤمنين و المنافقين عند مشاهدة نزول السور القرآنية، يتحصل بذلك أيضا أمارة من أمارات النفاق يعرف بها المنافق من المؤمن، و هو قولهم عند نزول القرآن: أيكم زادته هذه إيمانا؟ و نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد؟.
و فيها وصفه تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفا يحن به إليه قلوب المؤمنين، و أمره بالتوكل عليه إن أعرضوا عنه.
قوله تعالى: «و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا» إلى آخر الآيتين.
نحو السؤال في قولهم: هل يراكم من أحد؟! يدل على أن سائله لا يخلو من شيء في قلبه فإن هذا السؤال بالطبع سؤال من لا يجد في قلبه أثرا من نزول القرآن و كأنه يذعن أن قلوب غيره كقلبه فيما يتلقاه فيتفحص عمن أثر في قلبه نزول القرآن كأنه يرى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعي أن القرآن يصلح كل قلب سواء كان مستعدا مهيئا للصلاح أم لا و هو لا يذعن بذلك و كلما تليت عليه سورة جديدة و لم يجد في قلبه خشوعا لله و لا ميلا و حنانا إلى الحق زاد شكا فبعثه ذلك إلى أن يسأل سائر من حضر عند النزول عن ذلك حتى يستقر في شكه و يزيد ثباتا في نفاقه.
و بالجملة السؤال سؤال من لا يخلو قلبه من نفاق.
و قد فصل الله سبحانه أمر القلوب و فرق بين قلوب المؤمنين و الذين في قلوبهم مرض فقال: «فأما الذين آمنوا» و هم الذين قلوبهم خالية عن النفاق بريئة من المرض و هم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة «فزادتهم» السورة النازلة «إيمانا» فإنها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها توجب اشتداد نور الإيمان فيه، و هذه زيادة في الكيف، و باشتمالها على معارف و حقائق جديدة من المعارف القرآنية و الحقائق الإلهية، و بسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان و هذه زيادة في الكمية و نسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة و كيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيمانا فتنشرح بذلك صدورهم و تتهلل وجوههم فرحا «و هم يستبشرون».
«و أما الذين في قلوبهم مرض» و هم أهل الشك و النفاق «فزادتهم رجسا إلى رجسهم» أي ضلالا جديدا إلى ضلالهم القديم و قد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله: «و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون:» الأنعام: - 125 و المقابلة الواقعة بين «الذين آمنوا» و «الذين في قلوبهم مرض» يفيد أن هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان صحيح و إنما هو الشك أو الجحد و كيف كان فهو الكفر و لذلك قال «و ماتوا و هم كافرون».
و الآية تدل على أن السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه فإن كان قلبا سليما زادته إيمانا و استبشارا و سرورا، و إن كان قلبا مريضا زادته رجسا و ضلالا نظير ما يفيده قوله: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:» إسراء: - 82.
قوله تعالى: «أ و لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين» الآية الاستفهام للتقرير أي ما لهم لا يتفكرون و لا يعتبرون و هم يرون أنهم يبتلون و يمتحنون كل عام مرة أو مرتين فيعصون الله و لا يخرجون من عهدة المحنة الإلهية و هم لا يتوبون و لا يتذكرون و لو تفكروا في ذلك انتبهوا لواجب أمرهم و أيقنوا أن الاستمرار على هذا الشأن ينتهي بهم إلى تراكم الرجس على الرجس و الهلاك الدائم و الخسران المؤبد.
قوله تعالى: «و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد» الآية و هذه خصيصة أخرى من خصائصهم و هي أنهم عند نزول سورة قرآنية - و لا محالة هم حاضرون - ينظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد، و هذا قول من يسمع حديثا لا يطيقه و يضيق بذلك صدره فيتغير لونه و يظهر القلق و الاضطراب في وجهه فيخاف أن يلتفت إليه و يظهر السر الذي طواه في قلبه فينظر إلى بعض من كان قد أودعه سره و أوقفه على باطن أمره كأنه يستفسره هل يطلع على ما بنا من القلق و الاضطراب أحد.
فقوله: «نظر بعضهم إلى بعض» أي بعض المنافقين، و هذا من الدليل على أن الضمير في قوله في الآية السابقة: «فمنهم من يقول» أيضا للمنافقين، و قوله: «نظر بعضهم إلى بعض» أي نظر قلق مضطرب يحذر ظهور أمره و انهتاك ستره، و قوله: «هل يراكم من أحد» في مقام التفسير للنظر أي نظر بعضهم إلى بعض نظر من يقول: هل يراكم من أحد؟ و من للتأكيد و أحد فاعل يراكم.
و قوله: «ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون» ظاهر السياق أن المعنى ثم انصرفوا من عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال صرف الله قلوبهم عن وعي الآيات الإلهية و الإيمان بها بسبب أنهم قوم لا يفقهون الكلام الحق فالجملة حالية على ما يجوزه بعضهم.
و ربما احتمل كون قوله: «صرف الله قلوبهم» دعاء منه تعالى على المنافقين، و له نظائر في القرآن، و الدعاء منه تعالى على أحد إيعاد له بالشر.
قوله تعالى: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم» العنت هو الضرر و الهلاك، و ما في قوله: «ما عنتم» مصدرية التأويل عنتكم، و المراد بالرسول على ما يشهد سياق الآيتين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد وصفه بأنه من أنفسهم و الظاهر أن المراد به أنه بشر مثلكم و من نوعكم إذ لا دليل يدل على تخصيص الخطاب بالعرب أو بقريش خاصة، و خاصة بالنظر إلى وجود رجال من الروم و فارس و الحبشة بين المسلمين في حال الخطاب.
و المعنى لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم، من أوصافه أنه يشق عليه ضركم أو هلاككم و أنه حريص عليكم جميعا من مؤمن أو غير مؤمن، و أنه رءوف رحيم بالمؤمنين منكم خاصة فيحق عليكم أن تطيعوا أمره لأنه رسول لا يصدع إلا عن أمر الله، و طاعته طاعة الله، و أن تأنسوا به و تحنوا إليه لأنه من أنفسكم، و أن تجيبوا دعوته و تصغوا إليه كما ينصح لكم.
و من هنا يظهر أن القيود المأخوذة في الكلام من الأوصاف أعني قوله «رسول» و «من أنفسكم» و «عزيز عليه ما عنتم» إلخ، جميعها مسوقة لتأكيد الندب إلى إجابته و قبول دعوته، و يدل عليه قوله في الآية التالية: «فإن تولوا فقل حسبي الله».
قوله تعالى: «فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم» أي و إن تولوا عنك و أعرضوا عن قبول دعوتك فقل حسبي الله لا إله إلا هو أي هو كافي لا إله إلا هو.
فقوله: «لا إله إلا هو» في مقام التعليل لانقطاعه من الأسباب و اعتصامه بربه فهو كاف لا كافي سواه لأنه الله لا إله غيره، و من المحتمل أن تكون كلمة التوحيد جيء بها للتعظيم نظير قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه:» البقرة: - 116.
و قوله: «عليه توكلت» و فيه معنى الحصر تفسير يفسر به قوله: «حسبي الله» الدال على معنى التوكل بالالتزام، و قد تقدم في بعض الأبحاث السابقة أن معنى التوكل هو اتخاذ العبد ربه وكيلا يحل محل نفسه و يتولى تدبير أموره أي انصرافه عن التسبب بذيل ما يعرفه من الأسباب، و لا محالة هو بعض الأسباب الذي هو علة ناقصة و الاعتصام بالسبب الحقيقي الذي إليه ينتهي جميع الأسباب.
و من هنا يظهر وجه تذليل الكلام بقوله: «و هو رب العرش العظيم» أي الملك و السلطان الذي يحكم به على كل شيء و يدبر به كل أمر.
و إنما قال تعالى: «فقل حسبي الله» الآية و لم يقل: فتوكل على الله لإرشاده إلى أن يتوكل على ربه و هو ذاكر هذه الحقائق التي تنور حقيقة معنى التوكل، و أن النظر المصيب هو أن لا يثق الإنسان بما يدركه من الأسباب الظاهرة التي هي لا محالة بعض الأسباب بل يأخذ بما يعلمه منها على ما طبعه الله عليه و يثق بربه و يتوكل عليه في حصول بغيته و غرضه.
و في الآية من الدلالة على عجيب اهتمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) باهتداء الناس ما ليس يخفى فإنه تعالى يأمره بالتوكل على ربه فيما يهتم به من الأمر و هو ما تبينه الآية السابقة من شدة رغبته و حرصه في اهتداء الناس و فوزهم بالسعادة فافهم ذلك.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث طويل يذكر فيه تمام الإيمان و نقصه، قال: قلت: قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عز و جل: «و إذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا - فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا و هم يستبشرون - و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم» و قال: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق - إنهم فتية آمنوا بربهم و زدناهم هدى». و لو كان كله واحدا لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر، و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل، و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، و بالنقصان دخل المفرطون النار. و في تفسير العياشي، عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام): «و أما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم» يقول شكا إلى شكهم. و في الدر المنثور،: في قوله: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم»: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.
أقول: و قد أورد فيه روايات كثيرة في هذا المعنى عن رجال من الصحابة و غيرهم كالعباس و أنس و أبي هريرة و ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و ابن عمر و ابن عباس و علي و محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) و غيرهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن و ابن الأنباري في المصاحف و ابن مردويه عن الحسن أن أبي بن كعب كان يقول: إن أحدث القرآن عهدا بالله و في لفظ بالسماء هاتان الآيتان: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» إلى آخر الآية: أقول: و الرواية مروية من طريق آخر عن أبي بن كعب و هي لا تخلو عن تعارض مع ما سيأتي من الرواية و كذا مع ما تقدم من الروايات في قوله تعالى: «و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله» الآية: البقرة: - 281 أنها آخر آية نزلت من القرآن.
على أن لفظ الآيتين لا يلائم كونهما آخر ما نزلت من القرآن إلا أن يكون إشارة إلى بعض الحوادث الواقعة في مرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كحديث الدواة و القرطاس.
و فيه، أخرج ابن إسحاق و أحمد بن حنبل و ابن أبي داود عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى قوله «و هو رب العرش العظيم» إلى عمر فقال: من معك على هذا؟ فقال: لا أدري و الله إلا أني أشهد لسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعيتها و حفظتها فقال عمر: و أنا أشهد لسمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فألحقوها فألحقت في آخر براءة. أقول: و في رواية أخرى: أن عمر قال للحارث: لا أسألك عليها بينة أبدا كذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في هذا المعنى أحاديث أخرى، و سنستوفي الكلام في تأليف القرآن و ما يتعلق به من الأبحاث في تفسير سورة الحجر إن شاء الله تعالى.
و قد كنا نرجو أن نفرد كلاما في آخر براءة نبحث فيه عن شأن المنافقين في الإسلام و نستخرج ما يشرحه القرآن في أمرهم مع تحليل في تاريخهم و تبيين لما أودعوه من الفساد و البلوى بين المسلمين لكن طول الكلام في تفسير الآيات عاقنا عن ذلك فأخرناه إلى موضع آخر يناسبه و الله نسأل التوفيق فهو وليه.
تم و الحمد لله
|