بيان
الآيات تأمر بقتال أهل الكتاب ممن يمكن تبقيته بالجزية و تذكر أمورا من وجوه انحرافهم عن الحق في الاعتقاد و العمل.
قوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب» أهل الكتاب هم اليهود و النصارى على ما يستفاد من آيات كثيرة من القرآن الكريم و كذا المجوس على ما يشعر أو يدل عليه قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئين و النصارى و المجوس و الذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد»: الحج: - 17 حيث عدوا في الآية مع سائر أرباب النحل السماوية في قبال الذين أشركوا، و الصابئون كما تقدم طائفة من المجوس صبوا إلى دين اليهود فاتخذوا طريقا بين الطريقين.
و السياق يدل على أن لفظة «من» في قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» بيانية لا تبعيضية فإن كلا من اليهود و النصارى و المجوس أمة واحدة كالمسلمين في إسلامهم و إن تشعبوا شعبا مختلفة و تفرقوا فرقا متشتتة اختلط بعضهم ببعض و لو كان المراد قتال البعض و إثبات الجزية على الجميع أو على ذلك البعض بعينه لاحتاج المقام في إفادة ذلك إلى بيان غير هذا البيان يحصل به الغرض.
و حيث كان قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» بيانا لما قبله من قوله: «الذين لا يؤمنون» الآية فالأوصاف المذكورة أوصاف عامة لجميعهم و هي ثلاثة أوصاف وصفهم الله سبحانه بها: عدم الإيمان بالله و اليوم الآخر، و عدم تحريم ما حرم الله و رسوله، و عدم التدين بدين الحق.
فأول ما وصفهم به قوله: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر» و هو تعالى ينسب إليهم في كلامه أنهم يثبتونه إلها و كيف لا؟ و هو يعدهم أهل الكتاب، و ما هو إلا الكتاب السماوي النازل من عند الله على رسول من رسله و يحكي عنهم القول أو لازم القول بالألوهية في مئات من آيات كتابه.
و كذا ينسب إليهم القول باليوم الآخر في أمثال قوله: «و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة:» البقرة: - 80، و قوله: «و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى:» البقرة: - 111.
غير أنه تعالى لم يفرق في كلامه بين الإيمان به و الإيمان باليوم الآخر فالكفر بأحد الأمرين كفر بالله و الكفر بالله كفر بالأمرين جميعا، و حكم فيمن فرق بين الله و رسله فآمن ببعض دون بعض أنه كافر كما قال: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا و اعتدنا للكافرين عذابا مهينا:» النساء: - 151.
فعد أهل الكتاب ممن لم يؤمن بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كفارا حقا و إن كان عندهم إيمان بالله و اليوم الآخر، لا بلسان أنهم كفروا بآية من آيات الله و هي آية النبوة بل بلسان أنهم كفروا بالإيمان بالله فلم يؤمنوا بالله و اليوم الآخر كما أن المشركين أرباب الأصنام كافرون بالله إذ لم يوحدوه و إن أثبتوا إلها فوق الآلهة.
على أنهم يقررون أمر المبدإ و المعاد تقريرا لا يوافق الحق بوجه كقولهم بأن المسيح ابن الله و عزيرا ابن الله يضاهئون في ذلك قول الذين كفروا من أرباب الأصنام و الأوثان أن من الآلهة من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله، و قول اليهود في المعاد بالكرامة و قول النصارى بالتفدية.
فالظاهر أن نفي الإيمان بالله و اليوم الآخر عن أهل الكتاب إنما هو لكونهم لا يرون ما هو الحق من أمر التوحيد و المعاد و إن أثبتوا أصل القول بالألوهية لا لأن منهم من ينكر القول بألوهية الله سبحانه أو ينكر المعاد فإنهم قائلون بذلك على ما يحكيه عنهم القرآن و إن كانت التوراة الحاضرة اليوم لا خبر فيها عن المعاد أصلا.
ثم وصفهم ثانيا بقوله: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله» و ذلك كقول اليهود بإباحة أشياء عدها و ذكرها لهم القرآن في سورتي البقرة و النساء و غيرهما و قول النصارى بإباحة الخمر و لحم الخنزير، و قد ثبت تحريمهما في شرائع موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أكلهم أموال الناس بالباطل كما سينسبه إليهم في الآية الآتية: «إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل».
و المراد بالرسول في قوله: «ما حرم الله و رسوله» أما رسول أنفسهم الذي قالوا بنبوته كموسى (عليه السلام) بالنسبة إلى اليهود، و عيسى (عليه السلام) بالنسبة إلى النصارى فالمعنى لا يحرم كل أمة منهم ما حرمه عليهم رسولهم الذي قالوا بنبوته، و اعترفوا بحقانيته و في ذلك نهاية التجري على الله و رسوله و اللعب بالحق و الحقيقة.
و أما النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم.
و يكون حينئذ توصيفهم بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله بغرض تأنيبهم و الطعن فيهم و لبعث المؤمنين و تهييجهم على قتالهم لعدم اعتنائهم بما حرمه الله و رسوله في شرعهم و استرسالهم في الوقوع في محارم الله و هتك حرماته.
و ربما أيد هذا الاحتمال أن لو كان المراد بقوله: «و رسوله» رسول كل أمة بالنسبة إليها كموسى بالنسبة إلى اليهود و عيسى بالنسبة إلى النصارى كان من حق الكلام أن يقال: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسله» على ما هو دأب القرآن في نظائره للدلالة على كثرة الرسل كقوله: «و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله:» النساء: - 150، و قوله: «قالت رسلهم أ في الله شك:» إبراهيم: - 10، و قوله: «و جاءتهم رسلهم بالبينات:» يونس: - 13.
على أن النصارى رفضوا محرمات التوراة و الإنجيل فلم يحرموا ما حرم موسى و عيسى (عليهما السلام)، و ليس من حق الكلام في مورد هذا شأنه: أنهم لا يحرمون ما حرم الله و رسوله.
على أن المتدبر في المقاصد العامة الإسلامية لا يشك في أن قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ليس لغرض تمتع أولياء الإسلام و لا المسلمين من متاع الحياة الدنيا و استرسالهم و انهماكهم في الشهوات على حد المترفين من الملوك و الرؤساء المسرفين من أقوياء الأمم.
و إنما غرض الدين في ذلك أن يظهر دين الحق و سنة العدل و كلمة التقوى على الباطل و الظلم و الفسق فلا يعترضها في مسيرها اللعب و الهوى فتسلم التربية الصالحة المصلحة من مزاحمة التربية الفاسدة المفسدة حتى لا ينجر إلى أن تجذب هذه إلى جانب، و تلك إلى جانب، فيتشوش أمر النظام الإنساني إلا أن لا يرتضي واحد أو جماعة التربية الإسلامية لنفسه أو لأنفسهم فيكونون أحرارا فيما يرتضونه لأنفسهم من تربية دينهم الخاصة على شرط أن يكونوا على شيء من دين التوحيد، و هو اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، و أن لا يتظاهروا بالمزاحمة، و هذا غاية العدل و النصفة من دين الحق الظاهر على غيره.
و أما الجزية فهي عطية مالية مأخوذة منهم مصروفة في حفظ ذمتهم و حسن إدارتهم و لا غنى عن مثلها لحكومة قائمة على ساقها حقة أو باطلة.
و من هذا البيان يظهر أن المراد بهذه المحرمات: المحرمات الإسلامية التي عزم الله أن لا تشيع في المجتمع الإسلامي العالمي كما أن المراد بدين الحق هو الذي يعزم أن يكون هو المتبع في المجتمع.
و لازم ذلك أن يكون المراد بالمحرمات: المحرمات التي حرمها الله و رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادع بالدعوة الإسلامية، و أن يكون الأوصاف الثلاثة: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر» الآية في معنى التعليل تفيد حكمة الأمر بقتال أهل الكتاب.
و بذلك كله يظهر فساد ما أورد على هذا الوجه أنه لا يعقل أن يحرم أهل الكتاب على أنفسهم ما حرم الله و رسوله علينا إلا إذا أسلموا، و إنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين.
وجه الفساد أنه ليس من الواجب أن يكون الغرض من قتالهم أن يحرموا ما حرم الإسلام و هم أهل الكتاب بل أن لا يظهر في الناس التبرز بالمحرمات من غير مانع يمنع شيوعها و الاسترسال فيها كشرب الخمر و أكل لحم الخنزير و أكل المال بالباطل على سبيل العلن بل يقاتلون ليدخلوا في الذمة فلا يتظاهروا بالفساد، و يحتبس الشر فيما بينهم أنفسهم.
و لعله إلى ذلك الإشارة بقوله: «و هم صاغرون» على ما سيجيء في الكلام على ذيل الآية.
ثم وصفهم ثالثا بقوله: «و لا يدينون دين الحق» أي لا يأخذونه دينا و سنة حيوية لأنفسهم.
و إضافة الدين إلى الحق ليست من إضافة الموصوف إلى صفته على أن يكون المراد الدين الذي هو حق بل من الإضافة الحقيقة، و المراد به الدين الذي هو منسوب إلى الحق لكون الحق هو الذي يقتضيه للإنسان و يبعثه إليه، و كون هذا الدين يهدي إلى الحق و يصل متبعيه إليه فهو من قبيل قولنا طريق الحق و طريق الضلال بمعنى الطريق الذي هو للحق و الطريق الذي هو للضلال أي إن غايته الحق أو غايته الضلال.
و ذلك أن المستفاد من مثل قوله تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم: - 30، و قوله: «إن الدين عند الله الإسلام:» آل عمران: - 19، و سائر ما يجري هذا المجرى من الآيات أن لهذا الدين أصلا في الكون و الخلقة و الواقع الحق يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يندب الناس إلى الإسلام و الخضوع له و يسمى اتخاذه سنة في الحياة إسلاما لله تعالى فهو يدعو إلى ما لا مناص للإنسان عن استجابته و التسليم له و هو الخضوع للسنة العملية الاعتبارية التي يهدي إليها السنة الكونية الحقيقية، و بعبارة أخرى التسليم لإرادة الله التشريعية المنبعثة عن إرادته التكوينية.
و بالجملة للحق الذي هو الواقع الثابت دين و سنة ينبعث منه كما أن للضلال و الغي دينا يدعو إليه، و الأول اتباع للحق كما أن الثاني اتباع للهوى، قال تعالى: «و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض».
و الإسلام دين الحق بمعنى أنه ستة التكوين و الطريقة التي تنطبق عليها الخلقة و تدعو إليها الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.
فتلخص مما تقدم أولا: أن المراد بعدم إيمان أهل الكتاب بالله و اليوم الآخر عدم تلبسهم بالإيمان المقبول عند الله، و بعدم تحريمهم ما حرم الله و رسوله عدم مبالاتهم في التظاهر باقتراف المناهي التي يفسد التظاهر بها المجتمع البشري و يخيب بها سعي الحكومة الحقة الجارية فيه، و بعدم تدينهم بدين الحق عدم استنانهم بسنة الحق المنطبقة على الخلقة و المنطبقة عليها الخلقة و الكون.
و ثانيا: أن قوله: «الذين لا يؤمنون بالله» إلى آخر الأوصاف الثلاثة مسوق لبيان الحكمة في الأمر بقتالهم و يترتب عليه فائدة التحريض و التحضيض عليه.
و ثالثا: أن المراد قتال أهل الكتاب جميعا لا بعضهم بجعل «من» في قوله: «من الذين أوتوا الكتاب» للتبعيض.
قوله تعالى: «حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» قال الراغب في المفردات:، الجزية ما يؤخذ من أهل الذمة، و تسميتها بذلك للاجتزاء بها في حقن دمهم.
انتهى.
و في المجمع:، الجزية فعلة من جزى يجزي مثل العقدة و الجلسة و هي عطية مخصوصة جزاء لهم على تمسكهم بالكفر عقوبة لهم.
عن علي بن عيسى.
انتهى.
و الاعتماد على ما ذكره الراغب فإنه المتأيد بما ذكرناه آنفا أن هذه عطية مالية مصروفة في جهة حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حسن إدارتهم.
و قال الراغب أيضا: الصغر و الكبر من الأسماء المتضادة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض فالشيء قد يكون صغيرا في جنب الشيء و كبيرا في جنب آخر - إلى أن قال - يقال: صغر صغرا - بالكسر فالفتح - في ضد الكبير و صغر صغرا و صغارا - بالفتحتين فيهما - في الذلة.
و الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية: «حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» انتهى.
و الاعتبار بما ذكر في صدر الآية من أوصافهم المقتضية لقتالهم ثم إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمتهم يفيد أن يكون المراد بصغارهم خضوعهم للسنة الإسلامية و الحكومة الدينية العادلة في المجتمع الإسلامي فلا يكافئوا المسلمين و لا يبارزوهم بشخصية مستقلة حرة في بث ما تهواه أنفسهم و إشاعة ما اختلقته هوساتهم من العقائد و الأعمال المفسدة للمجتمع الإنساني مع ما في إعطاء المال بأيديهم من الهوان.
فظاهر الآية أن هذا هو المراد من صغارهم لا إهانتهم و السخرية بهم من جانب المسلمين أو أولياء الحكومة الدينية فإن هذا مما لا يحتمله السكينة و الوقار الإسلامي و إن ذكر بعض المفسرين.
و اليد: الجارحة من الإنسان و تطلق على القدرة و النعمة فإن كان المراد به في قوله: «حتى يعطوا الجزية عن يد» هو المعنى الأول فالمعنى حتى يعطوا الجزية متجاوزة عن يدهم إلى يدكم، و إن كان المراد هو المعنى الثاني فالمعنى: حتى يعطوا الجزية عن قدرة و سلطة لكم عليهم و هم صاغرون غير مستعلين عليكم و لا مستكبرين.
فمعنى الآية - و الله أعلم - قاتلوا أهل الكتاب لأنهم لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر إيمانا مقبولا غير منحرف عن الصواب و لا يحرمون ما حرمه الإسلام مما يفسد اقترافه المجتمع الإنساني و لا يدينون دينا منطبقا على الخلقة الإلهية قاتلوهم و دوموا على قتالهم حتى يصغروا عندكم و يخضعوا لحكومتكم، و يعطوا في ذلك عطية مالية مضروبة عليهم يمثل صغارهم، و يصرف في حفظ ذمتهم و حقن دمائهم و حاجة إدارة أمورهم.
قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله» إلى آخر الآية المضاهاة المشاكلة.
و الإفك على ما ذكره الراغب كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه فمعنى «يؤفكون» يصرفون في اعتقادهم عن الحق إلى الباطل.
و قوله: «و قالت اليهود عزير ابن الله» عزير هذا هو الذي يسميه اليهود عزرا غيرت اللفظة عند التعريب كما غير لفظ «يسوع» فصار بالتعريب «عيسى» و لفظ «يوحنا» فصار كما قيل «يحيى».
و عزرا هذا هو الذي جدد دين اليهود و جمع أسفار التوراة و كتبها بعد ما افتقدت في غائلة بخت نصر ملك بابل الذي فتح بلادهم و خرب هيكلهم و أحرق كتبهم و قتل رجالهم و سبى نساءهم و ذراريهم و الباقين من ضعفائهم و سيرهم معه إلى بابل فبقوا هنالك ما يقرب من قرن ثم لما فتح «كورش» ملك إيران بابل شفع لهم عنده عزرا و كان ذا وجه عنده فأجاز له أن يعيد اليهود إلى بلادهم و أن يكتب لهم التوراة ثانيا بعد ما افتقدوا نسخها و كان ذلك في حدود سنة 457 قبل المسيح على ما ذكروا فراجت بينهم ثانيا ما جمعه عزرا من التوراة و إن كانوا افتقدوا أيضا في زمن أنتيوكس صاحب سورية الذي فتح بلادهم حدود سنة 161 قم و تتبع مساكنهم فأحرق ما وجده من نسخ التوراة و قتل من وجدت عنده أو أخذت عليه على ما في كتب التاريخ.
و لما نالهم من خدمته عظموا قدره و احترموا أمره و سموه ابن الله و لا ندري أ كان دعاؤه بالبنوة بالمعنى الذي يسمي به النصارى المسيح ابن الله - و المراد أن فيه شيئا من جوهر الربوبية أو هو مشتق منه أو هو هو - أو أنها تسمية تشريفية كما قالوا: نحن أبناء الله و أحباؤه؟ و إن كان ظاهر سياق الآية التالية: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم» الآية يؤيد الثاني على ما سيأتي.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن هذا القول منهم: «عزير ابن الله» كلمة تكلم بها بعض اليهود ممن في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) لا جميع اليهود فنسب إلى الجميع كما أن قولهم: «إن الله فقير و نحن أغنياء» و كذا قولهم: «يد الله مغلولة» مما قاله بعض يهود المدينة ممن عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسب في كلامه تعالى إلى جميعهم لأن البعض منهم راضون بما عمله البعض الآخر، و الجميع ذو رأي متوافق الأجزاء و روية متشابهة التأثير.
و قوله: «و قالت النصارى المسيح ابن الله» كلمة قالتها النصارى، و قد تقدم الكلام فيها و في ما يتعلق بها في قصة المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب.
و قوله: «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل» تنبىء الآية عن أن القول بالبنوة منهم مضاهاة و مشاكلة لقول من تقدمهم من الأمم الكافرة و هم الوثنيون عبدة الأصنام فإن من آلهتهم من هو إله أب إله و من هو إله ابن إله و، من هي إلهة أم إله أو زوجة إله، و كذا القول بالثالوث مما كان دائرا بين الوثنيين من الهند و الصين و مصر القديم و غيرهم و قد مر نبذة من ذلك فيما تقدم من الكلام في قصة المسيح في ثالث أجزاء هذا الكتاب.
و تقدم هناك أن تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى و مثلهم اليهود من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: «يضاهئون قول الذين كفروا من قبل».
و قد اعتنى جمع من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم أعني العهدين: العتيق و الجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين و البرهمائيين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص و الحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى: «يضاهئون» الآية في هذا الباب.
ثم دعا عليهم بقوله: «قاتلهم الله أنى يؤفكون» و ختم به الآية.
قوله تعالى: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم» الأحبار جمع حبر بفتح الحاء و كسرها و هو العالم و غلب استعماله في علماء اليهود و الرهبان جمع راهب و هو المتلبس بلباس الخشية و غلب على المتنسكين من النصارى.
و اتخاذهم الأحبار و الرهبان أربابا من دون الله هو إصغاؤهم لهم و إطاعتهم من غير قيد و شرط و لا يطاع كذلك إلا الله سبحانه.
و أما اتخاذهم المسيح بن مريم ربا من دون الله فهو القول بألوهيته بنحو كما هو المعروف من مذاهب النصارى، و في إضافة المسيح إلى مريم إشارة إلى عدم كونهم محقين في هذا الاتخاذ لكونه إنسانا ابن مرأة.
و لكون الاتخاذين مختلفين من حيث المعنى فصل بينهما فذكر اتخاذهم الأحبار و الرهبان أربابا من دون الله أولا، ثم عطف عليه قوله: «و المسيح بن مريم».
و الكلام كما يدل على اختلاف الربوبيتين كذلك لا يخلو عن دلالة على أن قولهم ببنوة عزير و بنوة المسيح على معنيين مختلفين، و هو البنوة التشريفية في عزير و البنوة بنوع من الحقيقة في المسيح (عليه السلام) فإن الآية أهملت ذكر اتخاذهم عزيرا ربا من دون الله، و لم يذكر مكانه إلا اتخاذهم الأحبار و الرهبان أربابا من دون الله.
فهو رب عندهم بهذا المعنى إما لاستلزام التشريف بالبنوة ذلك أو لأنه من أحبارهم و قد أحسن إليهم في تجديد مذهبهم ما لا يقاس به إحسان غيره، و أما المسيح فبنوته غير هذه البنوة.
و قوله: «و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو» جملة حالية أي اتخذوا لهم أربابا و الحال هذه.
و في الكلام دلالة أولا: على أن الاتخاذ بالربوبية بواسطة الطاعة كالاتخاذ بها بواسطة العبادة فالطاعة إذا كانت بالاستقلال كانت عبادة، و لازم ذلك أن الرب الذي هو المطاع من غير قيد و شرط و على نحو الاستقلال إله، فإن الإله هو المعبود الذي من حقه أن يعبد، يدل على ذلك كله قوله تعالى: «و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا» حيث بدل الرب بالإله، و كان مقتضى الظاهر أن يقال و ما أمروا إلا ليتخذوا ربا واحدا فالاتخاذ للربوبية بواسطة الطاعة المطلقة عبادة، و اتخاذ الرب معبودا اتخاذ له إلها فافهم ذلك.
و ثانيا: على أن الدعوة إلى عبادة الله وحده فيما وقع من كلامه تعالى كقوله تعالى: «لا إله إلا أنا فاعبدون:» الأنبياء: - 25 و قوله فلا تدع مع الله إلها آخر»: الشعراء: - 213 و أمثال ذلك كما أريد بها قصر العبادة بمعناها المتعارف فيه تعالى كذلك أريد قصر الطاعة فيه تعالى، و ذلك أنه تعالى لم يؤاخذهم في طاعتهم لأحبارهم و رهبانهم إلا بقوله عز من قائل: «و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو».
و على هذا المعنى يدل قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم:» يس - 61، و هذا باب ينفتح منه ألف باب.
و في قوله: «لا إله إلا هو» تتميم لكلمة التوحيد التي يتضمنها قوله: «و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا» فإن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بوجود آلهة كثيرة، و هم مع ذلك لا يخصون بالعبادة إلا واحدا منها فعبادة إله واحد لا يتم به التوحيد إلا مع القول بأنه لا إله إلا هو.
و قد جمع تعالى بين العبادتين مع الإشارة إلى مغايرة ما بينهما و أن قصر العبادة بكلا معنييها عليه تعالى هو معنى الإسلام له سبحانه الذي لا مفر منه للإنسان فيما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوة أهل الكتاب بقوله: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون:» آل عمران: - 64.
و قوله تعالى في ذيل الآية: «سبحانه عما يشركون» تنزيه له تعالى عما يتضمنه قولهم بربوبية الأحبار و الرهبان، و قولهم بربوبية المسيح (عليه السلام) من الشرك.
و الآية بمنزلة البيان التعليلي لقوله تعالى في أول الآيات: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر» فإن اتخاذ إله أو آلهة دون الله سبحانه لا يجامع الإيمان بالله، و لا الإيمان بيوم لا ملك فيه إلا لله.
قوله تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم إلى آخر الآية، الإطفاء إخماد النار أو النور، و الباء في قوله: «بأفواههم» للآلة أو السببية.
و إنما ذكر الأفواه لأن النفخ الذي يتوسل به إلى إخماد الأنوار و السرج يكون بالأفواه، قال في المجمع،: و هذا من عجيب البيان مع ما فيه من تصغير شأنهم و تضعيف كيدهم لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة دون الأقباس العظيمة.
انتهى.
و قال في الكشاف:، مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق يريد الله أن يزيده، و يبلغه الغاية القصوى في الإشراق و الإضاءة ليطفئه بنفخة و يطمسه.
انتهى، و الآية إشارة إلى حال الدعوة الإسلامية، و ما يريده منه الكافرون، و فيها وعد جميل بأن الله سيتم نوره.
قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون» الهدى الهداية الإلهية التي قارنها برسوله ليهدي بأمره، و دين الحق هو الإسلام بما يشتمل عليه من العقائد و الأحكام المنطبقة على الواقع الحق.
و المعنى أن الله هو الذي أرسل رسوله و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الهداية - أو الآيات و البينات - و دين فطري ليظهر و ينصر دينه الذي هو دين الحق على كل الأديان و لو كره المشركون ذلك.
و بذلك ظهر أن الضمير في قوله: «ليظهره» راجع إلى دين الحق كما هو المتبادر من السياق، و ربما قيل: إن الضمير راجع إلى الرسول، و المعنى ليظهر رسوله و يعلمه معالم الدين كلها و هو بعيد.
و في الآيتين من تحريض المؤمنين على قتال أهل الكتاب و الإشارة إلى وجوب ذلك عليهم ما لا يخفى فإنهما تدلان على أن الله أراد انتشار هذا الدين في العالم البشري فلا بد من السعي و المجاهدة في ذلك، و أن أهل الكتاب يريدون أن يطفئوا هذا النور بأفواههم فلا بد من قتالهم حتى يفنوا أو يستبقوا بالجزية و الصغار، و أن الله سبحانه يأبى إلا أن يتم نوره، و يريد أن يظهر هذا الدين على غيره فالدائرة بمشية الله لهم على أعدائهم فلا ينبغي لهم أن يهنوا و يحزنوا و هم الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل و يصدون عن سبيل الله» الظاهر أن الآية إشارة إلى بعض التوضيح لقوله في أول الآيات: و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق» كما أن الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها: «الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر».
أما إيضاح قوله تعالى: «و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله» بقوله: «إن كثيرا من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل» فهو إيضاح بأوضح المصاديق و أهمها تأثيرا في إفساد المجتمع الإنساني الصالح، و إبطال غرض الدين.
فالقرآن الكريم يعد لأهل الكتاب و خاصة لليهود جرائم و آثاما كثيرة مفصلة في سورة البقرة و النساء و المائدة و غيرها لكن الجرائم و التعديات المالية شأنها غير شأن غيرها، و خاصة في هذا المقام الذي تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع الإنساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد و استقلالهم الحيوي قائما على ساق، و لا مفسد للمجتمع مثل التعدي المالي.
فإن أهم ما يقوم به المجتمع الإنساني على أساسه هو الجهة المالية التي جعل الله لهم قياما فجل المآثم و المساوي و الجنايات و التعديات و المظالم تنتهي بالتحليل إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة و قطع الطرق و قتل النفوس و البخس في الكيل و الوزن و الغصب و سائر التعديات المالية، و إما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف و الإسراف في المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المسكن، و الاسترسال في الشهوات و هتك الحرمات، و بسط التسلط على أموال الناس و أعراضهم و نفوسهم.
و تنتهي جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال و اقتناء الثروة، و الأحكام المشرعة لتعديل الجهات المملكة المميزة لأكل المال بالحق من أكله بالباطل، فإذا اختل ذلك و أذعنت النفوس بإمكان القبض على ما تحتها من المال، و تتوق إليه من الثروة بأي طريق أمكن لقن ذلك إياها أن يظفر بالمال و يقبض على الثروة بأي طريق ممكن حق أو باطل، و أن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدى إلى ما أدى، و عند ذلك يقوم البلوى بفشو الفساد و شيوع الانحطاط الأخلاقي في المجتمع، و انقلاب المحيط الإنساني إلى محيط حيواني ردي لا هم فيه إلا البطن و ما دونه و لا يملك فيه إرادة أحد بسياسة أو تربية و لا تفقه فيه لحكمة و لا إصغاء إلى موعظة.
و لعل هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر، و خاصة من الأحبار و الرهبان الذين إليهم تربية الأمة و إصلاح المجتمع.
و قد عد بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال حبا لهم لتظاهرهم بالزهد و التنسك، و أكل الربا و السحت، و ضبطهم أموال مخالفيهم و أخذهم الرشا على الحكم، و إعطاء أوراق المغفرة و بيعها، و نحو ذلك.
و الظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في تفسير قوله تعالى: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» الآية: المائدة: - 41، في الجزء الخامس من الكتاب.
و لو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتي به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة لكفى به مقتا و لوما.
و أما ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهدهم، و كذا تخصيصهم بأوقاف و وصايا و مبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل، و كذا ما ذكره من أكل الربا و السحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى: «و أخذهم الربا و قد نهوا عنه:» النساء: - 161، و قوله: «سماعون للكذب أكالون للسحت»: المائدة: - 42، و إنما كلامه تعالى في الآية التي نحن فيها فيما يخص أحبارهم و رهبانهم من أكل المال بالباطل لا ما يعمهم و عامتهم.
إلا أن الحق أن زعماء الأمة الدينية و مربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين بإصلاح قلوبهم و أعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما أكلوه لهذا الشأن و استدروه من منافعه سحتا محرما لا يبيحه لهم شرع و لا عقل.
و أما إيضاح قوله تعالى: «و لا يدينون دين الحق» بقوله: «و يصدون عن سبيل الله» فهو أيضا مبني على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة التي ثالثها قوله: «و لا يدينون دين الحق» و هو بيان ما يفسد من صفاتهم و أعمالهم المجتمع الإنساني و يسد طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس و تكوين مجتمع حي فعال بما يليق بالإنسان الفطري المتوجه إلى سعادته الفطرية.
و لذا خص بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع الصالح، و هو صدهم عن سبيل الله و منعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا عليه من طرقه الظاهرة و الخفية، و لا يزالون مصرين على هذه السليقة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى اليوم.
قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض و حفظه، و أصله من كنزت التمر في الوعاء، و زمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر، و ناقة كناز مكتنزة اللحم، و قوله: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة» أي يدخرونها، انتهى.
ففي مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز و ادخاره و منعه من أن يجري بين الناس في وجوه المعاملات فينمو نماء حسنا، و يعم الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا بالأخذ و ذاك بالرد، و ذلك بالعمل عليه و قد كان دأبهم قبل ظهور البنوك و المخازن العامة أن يدفنوا الكنوز في الأرض سترا عليها من أن تقصد بسوء.
و الآية و إن اتصلت في النظم اللفظي بما قبلها من الآيات الذامة لأهل الكتاب و الموبخة لأحبارهم و رهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل و الصد عن سبيل الله إلا أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم و اختصاصها بهم البتة.
فلا سبيل إلى القول بأن الآية إنما نزلت في أهل الكتاب و حرمت الكنز عليهم، و أما المسلمون فهم و ما يقتنون من ذهب و فضة يصنعون بأموالهم ما يشاءون من غير بأس عليهم.
و الآية توعد الكانزين إيعادا شديدا، و يهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر الكنز المدلول عليه بقوله: «الذين يكنزون الذهب و الفضة» بقوله: «و لا ينفقونها في سبيل الله» فتدل بذلك على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن إنفاقه في سبيل الله إذا كان هناك سبيل.
و سبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على ساقه و أن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد و جميع مصالح الدين الواجب حفظها، و شئون مجتمع المسلمين التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت، و الحقوق المالية الواجبة التي أقام الدين بها صلب المجتمع الديني، فمن كنز ذهبا أو فضة و الحاجة قائمة و الضرورة عاكفة فقد كنز الذهب و الفضة و لم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فإنه آثر نفسه على ربه و قدم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية.
و يستفاد هذا مما في الآية التالية من قوله: «هذا ما كنزتم لأنفسكم» فإنه يدل على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصوه بأنفسهم و آثروها فيما خافوا حاجتها إليه على سبيل الله الذي به حياة المجتمع الإنساني في الدنيا و الآخرة، و قد خانوا الله و رسوله في ذلك من جهة أخرى و هي الستر و التغييب إذ لو كان ظاهرا جاريا على الأيدي كان من الممكن أن يأمره ولي الأمر بإنفاقه في حاجة دينية قائمة لكن إذا كنز كنزا و أخفى عن الأنظار لم يلتفت إليه، و بقيت الحاجة الضرورية قائمة في جانب و المال المكنوز الذي هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه.
فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه، و ناهيك أن الإسلام لا يحد أصل الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب و الفضة و لم يدخرها كنزا بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفا و الوفا، و يفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل و غير ذلك لم يتوجه إليه نهي ديني لأنه حيث نصبها على أعين الناس و أجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها و لم يمنعها من أن يصرف في سبيل الله فهو و إن لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث لو أراد ولي أمر المسلمين لأمره بالإنفاق فيما يرى لزوم الإنفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق و هو بمرأى و مسمع من ولي الأمر بخائن ظلوم.
فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق المالية الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها و غيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد و حفظ النفوس من الهلكة و نحو ذلك.
و أما الإنفاق المستحب كالتوسعة على العيال، و إعطاء المال و بذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو و إن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإنفاق في سبيل الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الإنفاق في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال و عدم إنفاقه إنفاقا مندوبا مع عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهي عنه في هذه الآية فهذا ما تدل عليه الآية الكريمة، و قد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين، و سنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالآيات إن شاء الله تعالى.
و قوله في ذيل الآية: «فبشرهم بعذاب أليم» إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد.
قوله تعالى: «يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم» إلى آخر الآية.
إحماء الشيء جعله حارا في الإحساس، و الإحماء عليه الإيقاد ليتسخن و الإحماء فوق التسخين، و الكي إلصاق الشيء الحار بالبدن.
و المعنى: أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم و جنوبهم و ظهورهم و يقال لهم عند ذلك: «هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون»: فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به.
و لعل تخصيص الجباه و الجنوب و الظهور لأنهم خضعوا لها و هو السجدة التي تكون بالجباه و لاذوا إليها و اللواذ بالجنوب، و اتكئوا عليها و الاتكاء بالظهور، و قيل غير ذلك و الله أعلم.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث الأسياف الذي ذكره عن أبيه قال: و أما السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب، قال الله عز و جل: «اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم». قال: و السيف الثاني على أهل الذمة قال الله عز و جل: «و قولوا للناس حسنا» نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز و جل: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر - و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله - و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب - حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل و مالهم فيء و ذراريهم سبي، و إذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، و حرمت أموالهم، و حلت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم و أموالهم و لم يحل مناكحتهم، و لم يقبل إلا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل. و فيه، بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه و لا من المغلوب على عقله. و فيه، بإسناده عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المجوس أ كان لهم شيء؟ فقال: نعم أ ما بلغك كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل مكة: أن أسلموا و إلا نابذتكم بحرب فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن خذ منا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب. فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر. فكتب إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه و كتاب أحرقوه. أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخرى مودعة في جوامع الحديث و استيفاء الكلام في مسائل الجزية و الخراج و غيرهما في الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن أبي أمامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون، و قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فإذا فاءت أعطيت العدل. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و البيهقي في سننه عن مجاهد: في قوله: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله» الآية قال: نزلت هذه حين أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه بغزوة تبوك.
أقول: و قد تقدمت الروايات في ذيل آية المباهلة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقر الجزية على نصارى نجران، و كان ذلك على ما دل عليه أمثل الروايات سنة ست من الهجرة قبل غزوة تبوك بسنين، و كذا دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) ملوك الروم و مصر و العجم و هم من أهل الكتاب كانت سنة ست.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجزية من مجوس أهل هجر و من يهود اليمن و نصاراهم من كل حالم دينار. و فيه، أخرج مالك و الشافعي و أبو عبيد في كتاب الأموال و ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. و فيه، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن أخذ الجزية من المجوس فقال: و الله ما على الأرض اليوم أحد أعلم بذلك مني إن المجوس كانوا أهل كتاب يعرفونه، و علم يدرسونه فشرب أميرهم الخمر فسكر فوقع على أخته فرآه نفر من المسلمين فلما أصبح قالت أخته: إنك قد صنعت بها كذا و كذا، و قد رآك نفر لا يسترون عليك فدعا أهل الطمع ثم قال لهم قد علمتم أن آدم (عليه السلام) قد أنكح بنيه بناته. فجاء أولئك الذين رأوه فقالوا: ويل للأبعد إن في ظهرك حد الله فقتلهم أولئك الذين كانوا عنده ثم جاءت امرأة فقالت له: بلى قد رأيتك فقال لها: ويحا لبغي بني فلان قالت: أجل و الله قد كانت بغية ثم تابت فقتلها، ثم أسري على ما في قلوبهم و على كتبهم فلم يصبح عندهم شيء. و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «و قالت اليهود عزير ابن الله» الآية: عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير ابن الله، و اشتد غضب الله على النصارى حين قالوا: المسيح ابن الله، و اشتد غضب الله على من أراق دمي و آذاني في عترتي. و في الدر المنثور، أخرج البخاري في تاريخه عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم أحد شج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وجهه و كسرت رباعيته فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ رافعا يديه يقول: إن الله عز و جل اشتد غضبه على اليهود أن قالوا: عزير ابن الله و اشتد غضبه على النصارى أن قالوا المسيح ابن الله و إن الله اشتد غضبه على من أراق دمي و آذاني في عترتي.
أقول: و قد روي في الدر المنثور، و غيره عن ابن عباس و كعب الأحبار و السدي و غيرهم روايات في قصة عزير هي أشبه بالإسرائيليات، و الظاهر أن الجميع تنتهي إلى كعب.
و في الإحتجاج، للطبرسي عن علي (عليه السلام) قال: «قاتلهم الله أنى يؤفكون» أي لعنهم الله أنى يؤفكون فسمى اللعنة قتالا، و كذلك: «قتل الإنسان ما أكفره» أي لعن الإنسان: أقول: و روي ذلك من طرق أهل السنة عن ابن عباس و هو على أي حال تفسير يلازم المعنى لا بالمراد اللفظي.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» فقال: أما و الله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، و لو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، و لكن أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
أقول: و روى هذا المعنى البرقي في المحاسن، و رواه العياشي في تفسيره عن أبي بصير و عن جابر جميعا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و عن حذيفة، و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الطرق عن حذيفة.
و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله» قال: أما المسيح فبعض عظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله و أنه ابن الله، و طائفة منهم قالوا: ثالث ثلاثة، و طائفة منهم قالوا: هو الله. و أما قوله: «أحبارهم و رهبانهم» فإنهم أطاعوا و أخذوا بقولهم، و اتبعوا ما أمروهم به، و دانوا بما دعوهم إليه فاتخذوهم أربابا بطاعتهم لهم و تركهم أمر الله و كتبه و رسله فنبذوه وراء ظهورهم، و ما أمرهم به الأحبار و الرهبان اتبعوهم و أطاعوهم و عصوا الله. الحديث.
و في تفسير البرهان، عن المجمع قال: و روى الثعلبي بإسناده عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و في عنقي صليب من ذهب فقال لي: يا عدي اطرح هذا الربق. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): في قوله عز و جل: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق» الآية و الله ما نزل تأويلها بعد و لا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله و لا مشرك بالإمام إلا كره خروجه حتى لو كان الكافر في بطن صخرة قالت: يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله.
أقول: و روى ما في معناه العياشي عن أبي المقدام عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و كذا الطبرسي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في تفسير القمي، أنها نزلت في القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و معنى نزولها فيه كونه تأويلها كما يدل عليه رواية الصدوق.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في سننه عن جابر: في قوله: «ليظهره على الدين كله» قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي و لا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام حتى تأمن الشاة الذئب، و البقرة الأسد، و الإنسان الحية، و حتى لا تقرض فأرة جرابا، و حتى يوضع الجزية و يكسر الصليب و يقتل الخنزير، و ذلك إذا نزل عيسى بن مريم (عليهما السلام).
أقول: و المراد بوضع الجزية أن تصير متروكة لا حاجة إليها لعدم الموضوع بقرينة صدر الحديث، و ما دلت عليه هذه الروايات من عدم بقاء كفر و لا شرك يومئذ يؤيدها روايات أخرى، و هناك روايات أخرى تدل على وضع المهدي (عليه السلام) الجزية على أهل الكتاب بعد ظهوره.
و ربما أيده قوله تعالى في أهل الكتاب: «و ألقينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة:» المائدة: - 64، «فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة»: المائدة: - 14، و ما في معناه من الآيات فإنها لا تخلو من ظهور ما في بقائهم إلى يوم القيامة إن لم تكن كناية عن ارتفاع المودة بينهم ارتفاعا أبديا، و قد تقدم في ذيل الآيات بعض الكلام في هذا المعنى.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر: أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة» قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها. و في أمالي الشيخ، قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضل و ساق إسناده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما نزلت هذه الآية: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» كل ما يؤدى زكاته فليس بكنز و إن كان تحت سبع أرضين، و كل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز و إن كان فوق الأرض.
أقول: و روي ما في معناه في الدر المنثور، عن ابن عدي و الخطيب عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا بطرق أخرى عن ابن عباس و غيره.
و فيه، أيضا بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه أبي جعفر (عليه السلام): أنه سئل عن الدنانير و الدراهم و ما على الناس. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، و بها يستقيم شئونهم و مطالبهم فمن أكثر له منها فقال بحق الله تعالى فيها أدى زكاتها فذاك الذي طلبه، و خلص له، و من أكثر له منها فبخل بها و لم يؤد حق الله فيها و اتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عز و جل في كتابه يقول الله تعالى: «يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم - هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون».
أقول: و الرواية تؤيد ما استفدناه سابقا من الآية.
و في تفسير القمي، قال: كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم و هو في الشام فينادي بأعلى صوته: بشر أهل الكنوز بكي في الجباه، و كي في الجنوب و كي في الظهور حتى يتردد الحر في أجوافهم.
أقول: و قد استفاد الطبرسي في المجمع، من الرواية الوجه في تخصيص الجباه و الجنوب و الظهور من بين أعضاء الإنسان بالذكر في الآية، و أن الغرض من تعذيبهم بهذا الوجه إيراد حر النار في أجوافهم و هي داخل الرءوس فتكوى جباههم و داخل الصدور و البطون فتكوى جنوبهم و ظهورهم.
و يمكن تتميم ما ذكره بأنهم يكبون على وجوههم و رءوسهم منكوسة على ما يشعر به الأخبار و بعض الآيات ثم تكوى أعضاؤهم من فوق فينتج ذلك كي الجباه و الجنوب و الظهور.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أبي ذر قال: بشر أصحاب الكنوز بكي في الجباه و في الجنوب و في الظهور. و فيه، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و البخاري و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة - و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» فقال معاوية: ما هذه فينا هذه في أهل الكتاب. قلت أنا: إنها لفينا و فيهم. و فيه، أخرج مسلم و ابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال: جاء أبو ذر فقال: بشر الكانزين بكي من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، و كي من جباههم يخرج من أقفائهم، فقلت: ما ذا؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن أبي بكر المنكدر قال: بعث حبيب بن سلمة إلى أبي ذر و هو أمير الشام بثلاثمائة دينار، و قال: استعن بها على حاجتك فقال أبو ذر: أرجع بها إليه أ ما وجد أحدا أغر بالله منا ما لنا إلا الظل نتوارى به، و ثلاثة من غنم تروح علينا، و مولاة لنا تصدق علينا بخدمتها ثم إني لأنا أتخوف الفضل.
و فيه، أخرج البخاري و مسلم عن الأحنف بن قيس قال: جلست إلى ملإ من قريش فجاء رجل خشن الشعر و الثياب و الهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، و يوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل. ثم ولى و جلس إلى سارية فتبعته و جلست إليه و أنا لا أدري من هو؟ فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي. قلت: من خليلك؟ قال: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أ تبصر أحدا؟ قلت: نعم. قال: ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير و إن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا و الله لا أسألهم دنيا، و لا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله عز و جل. و في تاريخ الطبري، عن شعيب عن سيف عن محمد بن عوف عن عكرمة عن ابن عباس: أن أبا ذر دخل على عثمان و عنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، و قد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران و الإخوان و يصل القرابات. فقال: كعب من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه، فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له و قال: يا أبا ذر اتق الله و اكفف يدك و لسانك، و قد كان قال له: يا ابن اليهودية ما أنت و ما هاهنا.
أقول: و قصص أبي ذر و اختلافه مع عثمان و معاوية معروفة مضبوطة في كتب التاريخ و التدبر فيما مر من أحاديثه و ما قاله لمعاوية إن الآية لا تختص بأهل الكتاب و ما خاطب به عثمان و واجه به كعبا يدل على أنه إنما فهم من الآية ما قدمناه أنها توعد على الكف عن الإنفاق في السبيل الواجب.
و يؤيده تحليل الحال الحاضر يومئذ فقد كان الناس يومئذ انقسموا قسمين و تبعضوا شطرين عامة لا يقدرون على قوت اليوم، و لا يجدون ما يستر عوراتهم و ما لهم إلى أوجب حوائجهم سبيل، و خاصة أسكرتهم الدنيا بجماع ما فيها من مال و منال يكنزون مئات الألوف و ألوف الألوف من عطايا الخلافة و غنائم الحروب و مال الخراج.
و يكفيك في التبصر فيه أن تراجع ما ضبطته التواريخ من أموال الصحابة من نقد و رقيق و ضيعة و شامخات القصور و ناجمات الدور، و ما أحدثه معاوية و سائر بني أمية بالشام و غيره من أزياء قيصرانية و كسروانية.
و الإسلام لا يرتضي شيئا من ذلك و لا ينفذ هذا الاختلاف الفاحش دون أن تتقارب الطبقات بالإنفاق، و تصلح عامة الأوضاع بانعطاف الأغنياء على الفقراء، و الأقوياء على الضعفاء.
و ربما قيل: إن أبا ذر كان يرى باجتهاد منه أن الزائد على القدر الواجب من المال الذي ينفق لسد الجوع و ستر العورة كنز يجب إنفاقه في سبيل الله أو أنه كان يدعو إلى الزهد في الدنيا.
لكن الذي يوجد من بعض كلامه في الروايات يكذبه فإنه لا يستند في شيء مما قاله إلى اجتهاده و رأي نفسه بل بقوله: ما قلت لهم إلا ما سمعت من نبيهم، و قال خليلي كذا و كذا، و قد صحت الرواية و استفاضت من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر».
و بذلك يظهر فساد ما ذكره شداد بن أوس فيما روى عنه أحمد و الطبراني قال: «كان أبو ذر يسمع عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يخرج إلى باديته ثم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك فيحفظ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الرخصة فلا يسمعها أبو ذر فيأخذ أبو ذر بالأمر الأول الذي سمع قبل ذلك.
و ذلك أن الذي ذكر من أبي ذر أنما هو قوله: إن آية الكنز لا تختص بأهل الكتاب بل يعمهم و المسلمين، و ليس هذا مصداقا لما ذكره في الرواية من العزيمة و الرخصة، و كذا قوله: إن تأدية الزكاة فحسب لا يكفي في جواز الكنز و عدم إنفاقه في الواجب من سبيل الله، و كيف يتصور في حقه أن لا يكون يسمع أن الإنفاق منه مستحب كما أن منه واجبا و أن لا يعلم أن أدلة الإنفاق المندوب أحسن مبين لآية الكنز.
و أوهن من ذلك ما تعلق به الطبري في تاريخه فقد روي عن شعيب عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر أ لا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله ألا إن كل شيء لله: كأنه يريد أن يحتجبه دون المسلمين، و يمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر أ لسنا عباد الله و المال ماله و الخلق خلقه و الأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، و لكن سأقول: مال المسلمين. قال: و أتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له: من أنت؟ أظنك و الله يهوديا؟ فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به فأتى به معاوية فقال: هذا و الله الذي بعث عليك أبا ذر. و قام أبو ذر بالشام و جعل يقول: يا معشر الأغنياء و أسوأ الفقراء بشر الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله بمكان من نار تكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم. الحديث.
و محصله أن أبا ذر إنما بادر إلى ما بادر و ألح عليه بتسويل من ابن السوداء و هذان اللذان روي عنهما الحديث و عنهما يروى جل قصص عثمان أعني شعيبا و سيفا هما من الكذابين الوضاعين المشهورين ذكرهما علماء الرجال و قدحوا فيهما.
و الذي اختلقاه من حديث ابن السوداء و هو الذي سموه عبد الله بن سبإ، و إليهما ينتهي حديثه، من الأحاديث الموضوعة، و قد قطع المحققون من أصحاب البحث أخيرا أن ابن السوداء هذا من الموضوعات الخرافية التي لا أصل لها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من ذي كنز لا يؤدي حقه إلا جيء به يوم القيامة تكوى به جبينه و جبهته، و قيل له: هذا كنزك الذي بخلت به. و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط و أبو بكر الشافعي في الغيلانيات عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم القدر الذي يسع فقراءهم، و لن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يمنع أغنياؤهم. ألا و إن الله يحاسبهم حسابا شديدا أو يعذبهم عذابا أليما. و فيه، أخرج الحاكم و صححه و ضعفه الذهبي عن أبي سعيد الخدري عن بلال قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بلال الق الله فقيرا و لا تلقه غنيا. قلت: و كيف لي بذلك؟ قال: إذا رزقت فلا تخبأ، و إذا سئلت فلا تمنع، قلت: و كيف لي بذلك؟ قال: هو ذاك و إلا فالنار.
كلام في معنى الكنز
لا ريب أن المجتمع الذي أوجده الإنسان بحسب طبعه الأولي إنما يقوم بمبادلة المال و العمل، و لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني و لا طرفة عين فإنما يتزود الإنسان من مجتمعه بأن يحرز أمورا من أوليات المادة الأرضية و يعمل عليها ما يسعه من العمل ثم يقتني من ذلك لنفسه ما يحتاج إليه، و يعوض ما يزيد على حاجته من سائر ما يحتاج إليه مما عند غيره من أفراد المجتمع كالخباز يأخذ لنفسه من الخبز ما يقتات به و يعوض الزائد عليه من الثوب الذي نسجه النساج و هكذا فإنما أعمال المجتمعين في ظرف اجتماعهم بيع و شرى و مبادلة و معاوضة.
و الذي يتحصل من الأبحاث الاقتصادية أن الإنسان الأولي كان يعوض في معاملاته العين بالعين من غير أن يكونوا متنبهين لأزيد من ذلك غير أن النسب بين الأعيان كانت تختلف عندهم باشتداد الحاجة و عدمه، و بوفور الأعيان المحتاج إليها و اعوازها فكلما كانت العين أمس بحاجة الإنسان أو قل وجودها توفرت الرغبات إلى تحصيلها، و ارتفعت نسبتها إلى غيرها، و كلما بعدت عن مسيس الحاجة أو ابتذلت بالكثرة و الوفور انصرفت النفوس عنها و انخفضت نسبتها إلى غيرها و هذا هو أصل القيمة.
ثم إنهم عمدوا إلى بعض الأعيان العزيزة الوجود عندهم فجعلوها أصلا في القيمة تقاس إليه سائر الأعيان المالية بمالها من مختلف النسب كالحنطة و البيضة و الملح فصارت مدارا تدور عليها المبادلات السوقية، و هذه السليقة دائرة بينهم في بعض المجتمعات الصغيرة في القرى و بين القبائل البدوية حتى اليوم.
و لم يزالوا على ذلك حتى ظفروا ببعض الفلزات كالذهب و الفضة و النحاس و نحوها فجعلوها أصلا إليه يعود نسب سائر الأعيان من جهة قيمها، و مقياسا واحدا يقاس إليها غيرها فهي النقود القائمة بنفسها و غيرها يقوم بها ثم آل الأمر إلى أن يحوز الذهب المقام أول و الفضة تتلوه، و يتلوها غيرهما، و سكت الجميع بالسكك الملوكية أو الدولية فصارت دينارا و درهما و فلسا و غير ذلك بما يطول شرحه على خروجه من غرض البحث.
فلم يلبث النقدان حتى عادا أصلا في القيمة بهما يقوم كل شيء، و إليهما يقاس ما عند الإنسان من مال أو عمل، و فيهما يرتكز ارتفاع كل حاجة حيوية، و هما ملاك الثروة و الوجد كالمتعلق بهما روح المجتمع في حياته يختل أمره باختلال أمرهما، إذا جريا في سوق المعاملات جرت المعاملات بجريانهما، و إذا وقفا وقفت.
و قد أوضحت ما عليهما من الوظيفة المحولة إليهما في المجتمعات الإنسانية من حفظ قيم الأمتعة و الأعمال، و تشخيص نسب بعضها إلى بعض، الأوراق الرسمية الدائرة اليوم فيما بين الناس كالبوند و الدولار و غيرهما و الصكوك البنجية المنتشرة فإنها تمثل قيم الأشياء من غير أن تتضمن عينية لها قيمة في نفسها فهي قيم خالصة مجردة تقريبا.
فالتأمل في مكانة الذهب و الفضة الاجتماعية بما هما نقدان حافظان للقيم و مقياسان يقاس إليهما الأمتعة و الأموال بما لها من النسب الدائرة بينها تنور أنهما ممثلان لنسب الأشياء بعضها إلى بعض، و إذ كانت بحسب الاعتبار ممثلات للنسب - و إن شئت فقل: نفس النسب - تبطل النسب ببطلان اعتبارها، و تحبس بحبسها و منع جريانها و تقف بوقوفها.
و قد شاهدنا في الحربين العالميين الأخيرين ما ذا أوجده بطلان اعتبار نقود بعض الدول؟ كالمنات في الدولة التزارية و المارك في الجرمن من البلوى و سقوط الثروة و اختلال أمر الناس في حياتهم، و الحال في كنزهما و منع جريانهما بين الناس هذا الحال.
و إلى ذلك يشير قول أبي جعفر (عليه السلام) في رواية الأمالي المتقدمة: «جعلها الله مصلحة لخلقه و بها يستقيم شئونهم و مطالبهم».
و من هنا يظهر أن كنزهما إبطال لقيم الأشياء و إماتة لما في وسع المكنوز منهما من إحياء المعاملات الدائرة و قيام السوق في المجتمع على ساقه، و ببطلان المعاملات و تعطل الأسواق تبطل حياة المجتمع، و بنسبة ما لها من الركود و الوقوف تقف و تضعف.
لست أريد خزنهما في مخازن تختص بهما فإن حفظ نفائس الأموال و كرائم الأمتعة من الضيعة من الواجبات التي تهدي إليه الغريزة الإنسانية و يستحسنه العقل السليم فكلما جرت وجوه النقد في سبيل المعاملات كيفما كان فهو و إذا رجعت فمن الواجب أن تختزن و تحفظ من الضيعة و ما يهددها من أيادي الغصب و السرقة و الغيلة و الخيانة.
و إنما أعني به كنزهما و جعلهما في معزل عن الجريان في المعاملات السوقية و الدوران لإصلاح أي شأن من شئون الحياة و رفع الحوائج العاكفة على المجتمع كإشباع جائع و إرواء عطشان و كسوة عريان و ربح كاسب و انتفاع عامل و نماء مال و علاج مريض و فك أسير و إنجاء غريم و الكشف عن مكروب و التفريج عن مهموم و إجابة مضطر و الدفع عن بيضة المجتمع الصالح و إصلاح ما فسد من الجو الاجتماعي.
و هي موارد لا تحصى واجبة أو مندوبة أو مباحة لا يتعدى فيها حد الاعتدال إلى جانبي الإفراط و التفريط و البخل و التبذير، و المندوب من الإنفاق و إن لم يكن في تركه مأثم و لا إجرام شرعا و لا عقلا غير أن التسبب إلى إبطال المندوبات من رأس و الاحتيال لرفع موضوعها من أشد الجرم و المعصية.
اعتبر ذلك فيما بين يديك من الحياة اليومية بما يتعلق به من شئون المسكن و المنكح و المأكل و المشرب و الملبس تجد أن ترك النفل المستحب من شئون الحياة و المعاش و الاقتصار دقيقا على الضروري منها - الذي هو بمنزلة الواجب الشرعي - يوجب اختلال أمر الحياة اختلالا لا يجبره جابر و لا يسد طريق الفساد فيه ساد.
و بهذا البيان يظهر أن قوله تعالى: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم» ليس من البعيد أن يكون مطلقا يشمل الإنفاق المندوب بالعناية التي مرت فإن في كنز الأموال رفعا لموضوع الإنفاق المندوب كالإنفاق الواجب لا مجرد عدم الإنفاق مع صلاحية الموضوع لذلك.
و بذلك يتبين أيضا معنى ما خاطب به أبو ذر عثمان بن عفان لما دخل عليه على ما تقدم في رواية الطبري حيث قال له: «لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، و قد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران و الإخوان و يصل القرابات».
فإن لفظه كالصريح أو هو صريح في أنه لا يرى كل إنفاق فيما يفضل من المئونة بعد الزكاة واجبا، و أنه يقسم الإنفاق في سبيل الله إلى ما يجب و ما ينبغي غير أنه يعترض بانقطاع سبيل الإنفاق من غير جهة الزكاة و انسداد باب الخيرات بالكلية و في ذلك إبطال غرض التشريع و إفساد المصلحة العامة المشرعة.
يقول: ليست هي حكومة استبدادية قيصرانية أو كسروانية، لا وظيفة لها إلا بسط الأمن و كف الأذى بالمنع عن إيذاء بعض الناس بعضا ثم الناس أحرار فيما فعلوا غير ممنوعين عن ما اشتهوا من عمل أفرطوا أو فرطوا، أصلحوا أو أفسدوا، اهتدوا أو ضلوا و تاهوا، و المتقلد لحكومتهم حر فيما عمل و لا يسأل عما يفعل.
و إنما هي حكومة اجتماعية دينية لا ترضى عن الناس بمجرد كف الأذى بل تسوق الناس في جميع شئون معيشتهم إلى ما يصلح لهم و يهيىء لكل من طبقات المجتمع من أميرهم و مأمورهم و رئيسهم و مرءوسهم و مخدومهم و خادمهم و غنيهم و فقيرهم و قويهم و ضعيفهم ما يسع له من سعادة حياتهم فترفع حاجة الغني بإمداد الفقير و حاجة الفقير بمال الغني و تحفظ مكانة القوي باحترام الضعيف و حياة الضعيف برأفة القوي و مراقبته، و مصدرية العالي بطاعة الداني و طاعة الداني بنصفة العالي و عدله، و لا يتم هذا كله إلا بنشر المبرات و فتح باب الخيرات، و العمل بالواجبات على ما يليق بها و المندوبات على ما يليق بها و أما القصر على القدر الواجب، و ترك الإنفاق المندوب من رأس فإن فيه هدما لأساس الحياة الدينية، و إبطالا لغرض الشارع، و سيرا حثيثا إلى نظام مختل و هرج و مرج و فساد عريق لا يصلحه شيء كل ذلك عن المسامحة في إحياء غرض الدين، و المداهنة مع الظالمين إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض و فساد كبير.
و كذلك قول أبي ذر لمعاوية فيما تقدم من رواية الطبري: «ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر أ لسنا عباد الله و المال ماله و الخلق خلقه و الأمر أمره قال: فلا تقله».
فإن الكلمة التي كان يقولها معاوية و عماله و من بعده من خلفاء بني أمية و إن كانت كلمة حق و قد رويت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يدل عليها كتاب الله لكنهم كانوا يستنتجون منه خلاف ما يريده الله سبحانه فإن المراد به أن المال لا يختص به أحد بعزة أو قوة أو سيطرة و إنما هو لله ينفق في سبيله على حسب ما عينه من موارد إنفاقه فإن كان مما اقتناه الفرد بكسب أو إرث أو نحوهما فله حكمة، و إن كان مما حصلته الحكومة الإسلامية من غنيمة أو جزية أو خراج أو صدقات أو نحو ذلك فله أيضا موارد إنفاق معينة في الدين، و ليس في شيء من ذلك لوالي الأمر أن يخص نفسه أو واحدا من أهل بيته بشيء يزيد على لازم مئونته فضلا أن يكنز الكنوز و يرفع به القصور و يتخذ الحجاب و يعيش عيشة قيصر و كسرى.
و أما هؤلاء فإنما كانوا يقولونه دفعا لاعتراض الناس عليهم في صرف مال المسلمين في سبيل شهواتهم و بذله فيما لا يرضى الله، و منعه أهلية و مستحقيه أن المال للمسلمين تصرفونه في غير سبيلهم! فيقولون: إن المال مال الله و نحن أمناءه نعمل فيه بما نراه فيستبيحون بذلك اللعب بمال الله كيف شاءوا و يستنتجون به صحة عملهم فيه بما أرادوا و هو لا ينتج إلا خلافه، و مال الله و مال المسلمين بمعنى واحد، و قد أخذوهما لمعنيين اثنيين يدفع أحدهما الآخر.
و لو كان مراد معاوية بقوله: «المال مال الله» هو الصحيح من معناه لم يكن معنى لخروج أبي ذر من عنده و ندائه في الملإ من الناس: بشر الكانزين بكي في الجباه و كي في الجنوب و كي في الظهور.
على أن معاوية قد قال لأبي ذر إنه يرى أن آية الكنز خاصة بأهل الكتاب و ربما كان من أسباب سوء ظنه بهم إصرارهم عند كتابة مصحف عثمان أن يحذفوا الواو من قوله: «و الذين يكنزون الذهب» إلخ حتى هددهم أبي بالقتال إن لم يلحقوا الواو فألحقوها و قد مرت الرواية.
فالقصة في حديث الطبري عن سيف عن شعيب و إن سيقت بحيث تقضي على أبي ذر بأنه كان مخطئا في ما اجتهد به كما اعترف به الطبري في أول كلامه غير أن أطراف القصة تقضي بإصابته.
و بالجملة فالآية تدل على حرمة كنز الذهب و الفضة فيما كان هناك سبيل لله يجب إنفاقه فيه و ضرورة داعية إليه لمستحقي الزكاة مع الامتناع من تأديتها، و الدفاع الواجب مع عدم النفقة و انقطاع سبيل البر و الإحسان بين الناس.
و لا فرق في تعلق وجوب الإنفاق بين المال الظاهر الجاري في الأسواق و بين الكنز المدفون في الأرض غير أن الكنز يختص بشيء زائد و هو خيانة ولي الأمر في ستر المال و غروره كما تقدم ذكره في البيان المتقدم.
|