بيان
الآيات تعقب القول في المنافقين و بيان حالهم و فيها ذكر أشياء من أقوالهم و أفعالهم، و البحث عما يكشف عنه من خبائث أوصافهم الباطنة و اعتقاداتهم المبنية على الضلال.
قوله تعالى: «و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني ألا في الفتنة سقطوا» الآية الفتنة هاهنا - على ما يهدي إليه السياق - إما الإلقاء إلى ما يفتتن و يغر به، و إما الإلقاء في الفتنة و البلية الشاملة.
و المراد على الأول: ائذن لي في القعود و عدم الخروج إلى الجهاد، و لا تلقني في الفتنة بتوصيف ما في هذه الغزوة من نفائس الغنائم و مشتهيات الأنفس فافتتن بها و اضطر إلى الخروج، و على الثاني ائذن لي و لا تلقني إلى ما في هذه الغزوة من المحنة و المصيبة و البلية.
فأجاب الله عن قولهم بقولهم: «ألا في الفتنة سقطوا» و معناه أنهم يحترزون بحسب زعمهم عن فتنة مترقبة من قبل الخروج، و قد أخطئوا فإن الذي هم عليه من الكفر و النفاق و سوء السريرة، و من آثاره هذا القول الذي تفوهوا به هو بعينه فتنة سقطوا فيها فقد فتنهم الشيطان بالغرور، و وقعوا في مهلكة الكفر و الضلال و فتنته.
هذا حالهم في هذه النشأة الدنيوية و أما في الآخرة فإن جهنم لمحيطة بالكافرين على حذو إحاطة الفتنة بهم في الدنيا و سقوطهم فيها فقوله: «ألا في الفتنة سقطوا» و قوله: «و إن جهنم لمحيطة بالكافرين» كأنهما معا يفيدان معنى واحدا و هو أن هؤلاء واقعون في الفتنة و التهلكة أبدا في الدنيا و الآخرة.
و يمكن أن يفهم من قوله: «و إن جهنم لمحيطة بالكافرين» الإحاطة بالفعل دون الإحاطة الاستقبالية كما تهدي إليه الآيات الدالة على تجسم الأعمال.
قوله تعالى: «إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل» المراد بالحسنة و السيئة بقرينة السياق ما تتعقبه الحروب و المغازي لأهلها من حسنة الفتح و الظفر و الغنيمة و السبي، و من سيئة القتل و الجرح و الهزيمة.
و قوله: «يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل» كناية عن الاحتراز عن الشر قبل وقوعه كأن أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه و قبضوا و تسلطوا عليه فلم يدعوه يفسد و يضيع.
فمعنى الآية إن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت و ظفرت في وجهك هذا ساءهم ذلك، و إن قتلت أو جرحت أو أصبت بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من قبل و تولوا و هم فرحون.
و قد أجاب الله سبحانه عن ذلك بجوابين اثنين في آيتين: قوله: «قل لن يصيبنا» إلخ و قوله: «قل هل تربصون» إلخ.
قوله تعالى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا و على الله فليتوكل المؤمنون» محصله أن ولاية أمرنا إنما هي لله سبحانه فحسب - على ما يدل عليه قوله: «هو مولانا» من الحصر - لا إلى أنفسنا و لا إلى شيء من هذه الأسباب الظاهرة، بل حقيقة الأمر لله وحده و قد كتب كتابة حتم ما سيصيبنا من خير أو شر أو حسنة أو سيئة، و إذا كان كذلك فعلينا امتثال أمره و السعي لإحياء أمره و الجهاد في سبيله و لله المشية فيما يصيبنا في ذلك من حسنة أو سيئة فما على العبيد إلا ترك التدبير و امتثال الأمر و هو التوكل.
و بذلك يظهر: أن المراد بقوله: «و على الله فليتوكل المؤمنون» ليس كلاما مستأنفا بل معطوف على ما قبله متمم له، و المعنى أن ولاية أمرنا لله و نحن مؤمنون به، و لازمه أن نتوكل عليه و نرجع الأمر إليه من غير أن نختار لأنفسنا شيئا من الحسنة و السيئة فلو أصابتنا حسنة كان المن له و إن أصابتنا سيئة كانت المشية و الخيرة له، و لا لوم علينا و لا شماتة تتعلق بنا، و لا حزن و لا مساءة يطرأ على قلوبنا.
و قد قال تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم:» الحديد: - 23، و قال: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه:» التغابن: - 11 و قال: «ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا:» سورة محمد: - 11، و قال: «و الله ولي المؤمنين:» آل عمران: - 68، و قال: «فالله هو الولي:» الشورى: - 9.
و الآيات - كما ترى - تتضمن أصول هذه الحقيقة التي تنبىء عنه الآية التي نتكلم فيها جوابا عن وهم المنافقين، و هي أن حقيقة الولاية لله سبحانه ليس إلى أحد من دونه من الأمر شيء فإذا آمن الإنسان به و عرف مقام ربه علم ذلك و كان عليه أن يتوكل على ربه و يرجع إليه حقيقة المشية و الخيرة فلا يفرح بحسنة أصابته، و لا يحزن لسيئة أصابته.
و من الجهل أن يسوء الإنسان ما أصابت عدوه من حسنة أو يسره ما أصابته من سيئة فليس له من الأمر شيء، و هذا هو الجواب الأول عن مساءتهم بما أصاب المؤمنين من الحسنة و فرحهم بما أصابتهم من السيئة.
و ظاهر كلام بعض المفسرين أن المولى في الآية بمعنى الناصر، و كذا ظاهر كلام بعضهم: أن قوله: «و على الله فليتوكل المؤمنون» جملة مستأنفة أمر الله فيها المؤمنين بالتوكل عليه، و السياق المشهود من الآيتين لا يساعد عليه.
قوله تعالى: «قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين و نحن نتربص بكم» الآية الحسنيان هما الحسنة و السيئة على ما يدل عليه الآية الأولى الحاكية أنهم يسوؤهم ما أصاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حسنة، و تسرهم ما أصابه من سيئة فيقولون قد أخذنا أمرنا من قبل فهم على حال تربص ينتظرون ما يقع به و بالمؤمنين من الحسنة أو السيئة.
و الحسنة و السيئة كلتاهما حسنيان بحسب النظر الديني فإن في الحسنة حسنة الدنيا و عظيم الأجر عند الله، و في السيئة التي هي الشهادة أو أي تعب و عناء أصابهم مرضاة الله و ثواب خالد دائم.
و معنى الآية أنا نحن و أنتم كل يتربص بصاحبه غير أنكم تتربصون بنا إحدى خصلتين كل واحدة منهما خصلة حسنى و هما: الغلبة على العدو مع الغنيمة، و الشهادة في سبيل الله، و نحن نتربص بكم أن يعذبكم الله بعذاب من عنده كالعذاب السماوي أو بعذاب يجري بأيدينا كأن يأمرنا بقتالكم و تطهير الأرض من قذارة وجودكم فنحن فائزون على أي حال، إن وقع شيء مما تربصتم سعدنا، و إن وقع ما تربصنا سعدنا فتربصوا إنا معكم متربصون، و هذا جواب ثان عن المنافقين.
و قد ذكر في الآية الأولى إصابة الحسنة و السيئة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في مقام الجواب في الآيتين الثانية و الثالثة إصابتهما النبي و المؤمنين جميعا لملازمتهم إياه و مشاركتهم إياه فيما أصابه من حسنة أو سيئة.
قوله تعالى: «قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين» لفظ أمر في معنى الشرط.
و الترديد للتعميم و لفظ الأمر في هذه الموارد كناية عن عدم النهي و سد السبيل إيماء إلى أن الفعل لغو لا يترتب عليه أثر، و قوله: «لن يتقبل منكم» تعليل للأمر كما أن قوله تعالى: «إنكم كنتم قوما فاسقين» تعليل لعدم القبول.
و معنى الآية: لا نمنعكم عن الإنفاق في حال من طوع أو كره فإنه لغو غير مقبول لأنكم فاسقون، و لا يقبل عمل الفاسقين، قال تعالى: «إنما يتقبل الله من المتقين:» المائدة: - 27 و التقبل أبلغ من القبول.
قوله تعالى: «و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله و برسوله» إلخ الآية تعليل تفصيلي لعدم تقبل نفقاتهم، و بعبارة أخرى بمنزلة الشرح لفسقهم، و قد عدت الكفر بالله تعالى و رسوله و الكسل في إقامة الصلاة و الكره في الإنفاق أركانا لنفاقهم.
قوله تعالى: «فلا تعجبك أموالهم و لا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها» إلى آخر الآية، الإعجاب بالشيء السرور بما يشاهد فيه من جمال أو كمال أو نحوهما، و الزهوق خروج الشيء بصعوبة و أصله الهلاك على ما قيل.
و قد نهى الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإعجاب بأموال المنافقين و أولادهم أي بكثرتها على ما يعطيه السياق، و علل ذلك بأن هذه الأموال و الأولاد - و هي شاغلة للإنسان لا محالة - ليست من النعمة التي تهتف لهم بالسعادة بل من النقمة التي تجرهم إلى الشقاء فإن الله و هو الذي خولهم إياها إنما أراد بها تعذيبهم في الحياة الدنيا، و توفيهم و هم كافرون.
فإن الحياة التي يعدها الموجود الحي سعادة لنفسه و راحة لذاته إنما تكون سعادة فيها الراحة و البهجة إذا جرت على حقيقة مجراها و هو أن يتلبس الإنسان بواقع آثارها من العلم النافع و العمل الصالح من غير أن يشتغل بغير ما فيه خيره و نفعه، فهذه هي الحياة التي لا موت فيها، و الراحة التي لا تعب معها، و اللذة التي لا ألم دونها، و هي الحياة في ولاية الله، قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون:» يونس: - 62.
و أما من اشتغل بالدنيا و جذبته زيناتها من مال و بنين إلى نفسها و غرته الآمال و الأماني الكاذبة التي تتراءى له منها و استهوته الشياطين فقد وقع في تناقضات القوى البدنية و تزاحمات اللذائذ المادية، و عذب أشد العذاب بنفس ما يرى فيه سعادته و لذته فمن المشاهد المعاين أن الدنيا كلما زادت إقبالا على الإنسان، و متعته بكثرة الأموال و الأولاد أبعدته عن موقف العبودية و قربته إلى الهلاكة و عذاب الروح فلا يزال يتقلب بين هذه الأسباب الموافقة و المخالفة، و الأوضاع و الأحوال الملائمة و المزاحمة، فالذي يسميه هؤلاء المغفلون سعة العيش هو بالحقيقة ضنك كما قال تعالى: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى:» طه: - 126.
فغاية إعراض الإنسان عن ذكر ربه، و انكبابه على الدنيا يبتغي به سعادة الحياة و راحة النفس و لذة الروح أن يعذب بين أطباق هذه الفتن التي يراها نعما، و يكفر بربه بالخروج عن زي العبودية كما قال: «إنما يريد الله ليعذبهم بها و تزهق أنفسهم و هم كافرون» و هو الإملاء و الاستدراج الذين يذكرهما في قوله: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين:» الأعراف: - 183.
قوله تعالى: «و يحلفون بالله إنهم لمنكم و ما هم منكم» إلى آخر الآيتين، الفرق انزعاج النفس من ضرر متوقع، و الملجأ الموضع الذي يلتجأ إليه و يتحصن فيه، و المغار المحل الذي يغور فيه الإنسان فيستره عن الأنظار، و يطلق على الغار و هو الثقب الذي يكون في الجبال، و المدخل من الافتعال الطريق الذي يتدسس بالدخول فيه، و الجماح مضي المار مسرعا على وجهه لا يصرفه عنه شيء، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون» اللمز العيب، و إنما كانوا يعيبونه فيها إذا لم يعطهم منها لعدم استحقاقهم ذلك أو لأسباب أخر كما يدل عليه ذيل الآية.
قوله تعالى: «و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله» إلى آخر الآية، «لو» للتمني و قوله: «رضوا ما آتاهم الله» كأن الرضى ضمن معنى الأخذ و لذا عدي بنفسه أي أخذوا ذلك راضين به أو رضوا آخذين ذلك، و الإيتاء الإعطاء، و حسبنا الله أي كفانا فيما نرغب إليه و نأمله.
و قوله: «سيؤتينا الله من فضله و رسوله» بيان لما يرغب إليه و يطمع فيه و ليس إخبارا عما سيكون، و قوله: «إنا إلى الله راغبون» كالتعليل لقوله: «سيؤتينا الله» إلى آخر الآية.
و المعنى و كان مما يتمنى لهم أن يكونوا أخذوا ما أعطاهم الله و رسوله بأمر منه من مال الصدقات أو غيره، و قالوا كفانا الله سبحانه من سائر الأسباب و نحن راغبون في فضله و نطمع أن يؤتينا من فضله و يؤتينا رسوله.
و في الآية ما لا يخفى من لطيف البيان حيث نسب الإيتاء إلى الله و إلى رسوله و خص الكفاية و الفضل و الرغبة بالله على ما هو لازم دين التوحيد.
قوله تعالى: «إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل» الآية، بيان لموارد تصرف إليها الصدقات الواجبة و هي الزكوات بدليل قوله في آخر الآية: «فريضة من الله» و هي ثمانية.
وارد على ظاهر ما يعطيه سياق الآية و لازمه أن يكون الفقير و المسكين موردين أحدهما غير الآخر.
و قد اختلفوا في الفقير و المسكين أنهما صنف واحد أو صنفان، ثم على الثاني في معناهما على أقوال كثيرة لا ينتهي أكثرها إلى حجة بينة، و الذي يعطيه ظاهر لفظهما أن الفقير هو الذي اتصف بالعدم و فقدان ما يرفع حوائجه الحيوية من المال قبال الغني الذي اتصف بالغنى و هو الجدة و اليسار.
و أما المسكين فهو الذي حلت به المسكنة و الذلة مضافة إلى فقدان المال و ذلك إنما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من أن يبذل ماء وجهه و يسأل كل كريم و لئيم من شدة الفقر و كالأعمى و الأعرج فالمسكين أسوأ حالا من الفقير.
و الفقير و المسكين و إن كانا بحسب النسبة أعم و أخص فكل مسكين من جهة الحاجة المالية فقير و لا عكس غير أن العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة الوصفين في نفسهما فلا يرد أن ذكر الفقير على هذا المعنى مغن عن ذكر المسكين لمكان أعميته و ذلك أن المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة و العرج و العمى و إن كان بعض مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال.
و أما العاملون عليها أي على الصدقات فهم الساعون لجمع الزكوات و جباتها.
و أما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يؤلف قلوبهم بإعطاء سهم من الزكاة ليسلموا أو يدفع بهم العدو أو يستعان بهم على حوائج الدين.
و أما قوله: «و في الرقاب» فهو متعلق بمقدر و التقدير: و المصرف في الرقاب أي في فكها كما في المكاتب الذي لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه أو الرق الذي كان في شدة.
و قوله: «و الغارمين» أي و للصرف في الغارمين الذين ركبتهم الديون فيقضى ديونهم بسهم من الزكاة.
و قوله: «و في سبيل الله» أي و للصرف في سبيل الله، و هو كل عمل عام يعود عائدته إلى الإسلام و المسلمين و تحفظ به مصلحة الدين و من أظهر مصاديقه الجهاد في سبيل الله، و يلحق به سائر الأعمال التي تعم نفعه و تشمل فائدته كإصلاح الطرق و بناء القناطر و نظائر ذلك.
و قوله: «و ابن السبيل» أي و للصرف في ابن السبيل و هو المنقطع عن وطنه الفاقد لما يعيش به و إن كان غنيا ذا يسار في بلده فيرفع حاجته بسهم من الزكاة.
و قد اختلف سياق العد فيما ذكر في الآية من الأصناف الثمانية فذكرت الأربعة الأول باللام: «للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم» ثم غير السياق في الأربعة الباقية فقيل: «و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل» فإن ظاهر السياق الخاص بهذه الأربعة أن التقدير: و في الرقاب و في الغارمين و في سبيل الله و في ابن السبيل.
أما الأربعة الأول: «للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم» فاللام فيها للملك بمعنى الاختصاص في التصرف فإن الآية بحسب السياق كالجواب عن المنافقين الذين كانوا يطمعون في الصدقات و هم غير مستحقين لها و كانوا يلمزون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حرمانهم منها فأجيبوا بالآية أن للصدقات مواضع خاصة تصرف فيها و لا تتعداها، و الآية ليست بظاهرة في أزيد من هذا المقدار من الاختصاص.
و أما كون ملكهم للصدقات هو الملك بمعناه المعروف فقها؟ و كذا حقيقة هذا الملك مع كون المالكين أصنافا بعناوينهم الصنفية لا ذوات شخصية؟ و نسبة سهم كل صنف إلى بقية السهام؟ فإنما هي مسائل فقهية خارجة عن غرضنا، و قد اختلفت أقوال الفقهاء فيها اختلافا شديدا فليرجع إلى الفقه.
و أما الأربعة الباقية: «و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل» فقد قيل في تغيير السياق فيها و في تأخيرها عن الأربعة الأول وجوه: منها: أن الترتيب لبيان الأحق فالأحق من الأصناف، فأحق الأصناف بها الفقراء ثم المساكين و هكذا على الترتيب، و لكون الأربعة الأخيرة بحسب ترتيب الأحقية واقعة في المراتب الأربع الأخيرة وضع كل في موضعه الخاص، و لو لا هذا الترتيب لكان الأنسب أن يذكر الأصناف ثم تذكر موارد المصالح فيقال: للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و الغارمين و ابن السبيل ثم يقال: و في الرقاب و سبيل الله.
و الحق أن دلالة الترتيب بما فيه من التقديم و التأخير على أهمية الملاك و قوة المصلحة في أجزاء الترتيب لا ريب فيه فإن كان مراده بالأحق فالأحق الأهم ملاكا فالأهم فهو، و لو كان المراد التقدم و التأخر من حيث الإعطاء و الصرف و ما يشبه ذلك فلا دلالة من جهة اللفظ عليه البتة كما لا يخفى و الذي أيده به من الوجه لا جدوى فيه.
و منها: أن العدول عن اللام في الأربعة الأخيرة إلى «في» للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأن «في» للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات و يجعلوا مظنة لها و مصبا، و ذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق و الأسر، و في فك الغارمين من الغرم و التخليص و الإنقاذ، و لجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر و العبادة، و كذلك ابن السبيل جامع بين الفقر و الغربة عن الأهل و المال.
و تكرير «في» في قوله: «و في سبيل الله و ابن السبيل» فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب و الغارمين.
كذا ذكره في الكشاف.
و فيه: أنه معارض بكون الأربعة الأول مدخولة للام الملك فإن المملوك أشد لزوما و اتصالا بالنسبة إلى مالكه من المظروف بالنسبة إلى ظرفه، و هو ظاهر.
و منها: أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، و إنما يأخذونه ملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، و أما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم بل و لا يصرف إليهم و لكن في مصالح تتعلق بهم.
فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون و البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، و إنما هم محال لهذا الصرف و المصلحة المتعلقة به، و كذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، و أما سبيل الله فواضح ذلك فيه، و أما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، و إنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا و عطفه على المجرور باللام ممكن و لكنه على القريب منه أقرب.
و هذا الوجه لا يخلو عن وجه غير أن إجراءه في ابن السبيل لا يخلو عن تكلف، و ما ذكر من دخوله في سبيل الله هو وجه مشترك بينه و بين غيره.
و لو قال قائل بكون الغارمين و ابن السبيل معطوفين على المجرور باللام ثم ذكر الوجه الأول بالمعنى الذي ذكرناه وجها للترتيب و الوجه الأخير وجها لاختصاص الرقاب و سبيل الله بدخول «في» لم يكن بعيدا عن الصواب.
و قوله في ذيل الآية: «فريضة من الله و الله عليم حكيم» إشارة إلى كون الزكاة فريضة واجبة مشرعة على العلم و الحكمة لا تقبل تغيير المغير، و لا يبعد أن يتعلق الفرض بتقسمها إلى الأصناف الثمانية كما ربما يؤيده السياق فإن الغرض في الآية إنما تعلق ببيان مصارف الصدقات لا بفرض أصلها فالأنسب أن يكون قوله: «فريضة من الله» إشارة إلى أن تقسمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض من الله لا يتعدى عنه على خلاف ما كان يطمع فيه المنافقون في لمزهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و من هنا يظهر أن الآية لا تخلو عن إشعار بكون الأصناف الثمانية على سهمها من غير اختصاص بزمان دون زمان خلافا لما ذكره بعضهم: أن المؤلفة قلوبهم كانوا جماعة من الأشراف في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف قلوبهم بإعطاء سهم من الصدقات إياهم، و أما بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ظهر الإسلام على غيره، و ارتفعت الحاجة إلى هذا النوع من التأليفات، و هو وجه فاسد و ارتفاع الحاجة ممنوع.
قوله تعالى: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة للذين آمنوا منكم» الأذن جارحة السمع المعروفة، و قد أطلقوا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الأذن و سموه بها إشارة إلى أنه يصغي لكل ما قيل له و يستمع إلى كل ما يذكر له فهو أذن.
و قوله: «قل أذن خير لكم» من الإضافة الحقيقية أي سماع يسمع ما فيه خيركم حيث يسمع من الله سبحانه الوحي و فيه خير لكم، و يسمع من المؤمنين النصيحة و فيها خير لكم و يمكن أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة أي أذن هي خير لكم لأنه لا يسمع إلا ما ينفعكم و لا يضركم.
و الفرق بين الوجهين أن اللازم على الأول أن يكون مسموعه خيرا لهم كالوحي من الله و النصيحة من المؤمنين، و اللازم على الثاني أن يكون استماعه استماع خير و إن لم يكن مسموعه خيرا كأن يستمع إلى بعض ما ليس خيرا لهم لكنه يستمع إليه فيحترم بذلك قائله ثم يحمل ذلك القول منه على الصحة فلا يهتك حرمته و لا يسيء الظن به ثم لا يرتب أثر الخبر الصادق المطابق للواقع عليه فلا يؤاخذ من قيل فيه بما قيل فيه فيكون قد احترم إيمانه كما احترم إيمان القائل الذي جاءه بالخبر.
و من هنا يظهر أن الأنسب بسياق الآية هو الوجه الثاني لما عقبه بقوله: «يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» الآية.
و ذلك أن الإيمان هو التصديق، و قد ذكر متعلق الإيمان في قوله: «يؤمن بالله» و أما قوله: «و يؤمن للمؤمنين» فلم يذكر متعلقه و إنما ذكر أن هذا التصديق لنفع المؤمنين لمكان اللام، و التصديق الذي يكون فيه نفع المؤمنين حتى في الخبر الذي يتضمن ما يضرهم إنما هو التصديق بمعنى إعطاء الصدق المخبري دون الخبري أي فرض أن المخبر صادق بمعنى أنه معتقد بصدق خبره و إن كان كاذبا لا يطابق الواقع.
و هذا كما في قوله تعالى: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون:» المنافقون: - 1 فالله سبحانه يكذب المنافقين لا من حيث خبرهم برسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل من حيث إخبارهم بخلاف ما يعتقدونه و هذا بخلاف قول المؤمنين فيما حكى الله سبحانه: «و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله:» الأحزاب: - 22 فهم يصدقون الله و رسوله في الخبر لا في الاعتقاد.
و بالجملة ظاهر قوله: «يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» إنه يصدق الله فيما أخبره به من الوحي، و يصدق لنفع المؤمنين كل من ألقى إليه منهم خبرا بحمل فعله على الصحة و عدم رميه بالكذب و سوء النية من غير أن يرتب أثرا على كل ما يسمعه و يستمع إليه و إلا لم يكن تصديقه لنفع المؤمنين و اختل الأمر، و هذا المعنى كما ترى يؤيد الوجه الثاني المذكور.
و كأن المراد بالمؤمنين المجتمع المنسوب إليهم و إن اشتمل على أفراد من غيرهم كالمنافقين و على هذا كان المراد بالذين آمنوا منهم المؤمنون من قومهم حقا فمعنى الكلام أنه يصدق ربه و يصدق كل فرد من أفراد مجتمعكم احتراما لظاهر حاله من الانتساب إلى المؤمنين و هو رحمة للذين آمنوا منكم حقا لأنه يهديهم إلى مستقيم الصراط.
و إن كان المراد من الذين آمنوا هم الذين آمنوا في أول البعثة قبل الفتح - كما تقدم سابقا أن «الذين آمنوا» اسم تشريفي في القرآن للمؤمنين الأولين في الإسلام - كان المراد بالمؤمنين في قوله: «و يؤمن للمؤمنين» المؤمنون منهم حقا كما أطلق بهذا المعنى في قوله: «و لما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله:» الأحزاب: - 22.
و ربما قيل: إن اللام في قوله: «و يؤمن للمؤمنين» للتعدية كما في قوله: «يؤمن بالله» فالإيمان يتعدى بالحرفين جميعا كما في قوله: «فآمن له لوط:» العنكبوت: - 26 و قوله: «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه:» يونس: - 83 و قوله: «أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون»: الشعراء: - 111.
و ربما قيل: إن اللفظ جار على طريقة التضمين بتضمين الإيمان معنى الجنوح المتعدي باللام و المعنى يجنح للمؤمنين مؤمنا بهم أو يؤمن جانحا لهم و الوجهان و إن كانا لا بأس بهما في نفسهما لكن يبعد ذلك لزوم التفكيك في قوله: «يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» بين «يؤمن» الأول و الثاني من غير نكتة ظاهرة إلا أن يحمل على التفنن في التعبير و مع ذلك فالنتيجة هي النتيجة السابقة فإن إيمانه بالمؤمنين لا يختص بالمخبرين خاصة حتى يصدق خبرهم و يؤاخذ آخرين إذا أخبر بما يضرهم بل إيمان يعم جميع المؤمنين فيصدق المخبر في خبره بمعنى إعطاء الصدق المخبري و يصدق المخبر عنه بحمل فعله على الصحة فافهم ذلك.
و عده تعالى نبيه في قوله: «و رحمة للذين آمنوا منكم» رحمة لقوم خاص في هذه الآية مع عده رحمة للناس كلهم في قوله عز و جل: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين:» الأنبياء: - 107 إنما هو لاختلاف المراد بالرحمة في الآيتين فالمراد بها هاهنا الرحمة الفعلية و هناك الرحمة الشأنية.
و بعبارة أخرى هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لمن آمن به حقا بمعنى أن الله سبحانه أنقذه به من الضلالة و ختم له بالسعادة و الكرامة، و رحمة للناس كلهم مؤمنهم و كافرهم، من معاصريه و ممن يأتي بعده بمعنى أن الله بعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بملة بيضاء و سنة طيبة فحول المجتمع البشري و صرفه عن مسيره المنحرف عن الاستقامة إلى طريق الشقاوة و الهلاك، و أنار بمشعلته صراط الفطرة الإلهية فمن راكب على السبيل فائز بالغاية المطلوبة، و من خارج عن مسير الردى و الهلكة و لما يركب متن الصراط الفطري، و من قاصد للخروج و الورود و لما يخرج و هذا حال المجتمع العام البشري بعد طلوع الإسلام و بسطة معارفه بين الناس و إيصاله إلى سمع كل سامع و تأثيره في كل من السنن الاجتماعية بما في وسعه أن يتأثر به، و هذا مما لا يرتاب فيه باحث عن طبيعة المجتمع الإنساني، و هذا الوجه قريب المأخذ من الوجه السابق أو راجع إليه بالحقيقة.
قوله تعالى: «يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين» قال في المجمع:، «الفرق بين الأحق و الأصلح أن الأحق قد يكون من غير صفات الفعل كقولك: زيد أحق بالمال، و الأصلح لا يقع هذا الموقع لأنه من صفات الفعل و تقول: الله أحق بأن يطاع و لا تقول أصلح».
انتهى.
و السبب الأصلي فيه أن الصلاحية و الصلوح يحمل معنى الاستعداد و التهيؤ، و الحق يحمل معنى الثبوت و اللزوم، و الله سبحانه لا يتصف بشيء من معنى الاستعداد و القبول المستلزم لتأثير الغير فيه و تأثره عنه.
و قد حول الله الخطاب في الآية عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المؤمنين التفاتا و كأن الوجه فيه التلويح لهم بما يشتمل عليه قوله: «و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين» من الحكم و هو أن من الواجب على كل مؤمن أن يرضي الله و رسوله، و لا يحاد الله و رسوله فإن فيه خزيا عظيما نار جهنم خالدا فيها.
و من أدب التوحيد في الآية ما في قوله: «أحق أن يرضوه» من إفراد الضمير و لم يقل: أحق أن يرضوهما صونا لمقامه تعالى من أن يعدل به أحد فإن أمثال هذه الحقوق و كذا الأوصاف التي يشاركه تعالى غيره من حيث الإطلاق و الإجراء، له تعالى بالذات و لنفسه و لغيره بالتبع أو بالعرض و من جهته كوجوب الإرضاء و التعظيم و الطاعة و غيرها، و كالاتصاف بالعلم و الحياة و الإحياء و الإماتة و غيرها.
و قد روعي نظير هذا الأدب في القرآن في موارد كثيرة فيما يشارك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غيره من الأمة من الشئون فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم و أفرد بالذكر كما في قوله: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا:» التحريم: - 8 و قوله: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الفتح: - 26 و قوله: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون»: البقرة: - 285 و غير ذلك.
قوله تعالى: «أ لم يعلموا أنه من يحادد الله و رسوله فإن له نار جهنم» إلى آخر الآية قال في المجمع،: المحادة مجاوزة الحد بالمشاقة، و هي و المخالفة و المجانبة و المعاداة نظائر، و أصله المنع و المحادة ما يلحق الإنسان من النزق لأنه يمنعه من الواجب و قال: و الخزي الهوان و ما يستحيى منه.
انتهى.
و الاستفهام في الآية للتعجيب، و الكلام مسوق لبيان كونه تعالى و كون رسوله أحق بالإرضاء و محصله أنهم يعلمون أن محادة الله و رسوله و المشاقة و المعاداة مع الله و رسوله و الإسخاط يوجب خلود النار، و إذا حرم إسخاط الله و رسوله وجب إرضاؤه و إرضاء رسوله على من كان مؤمنا بالله و رسوله.
بحث روائي
في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «و إن تصبك حسنة تسؤهم و إن تصبك مصيبة» الآية أما الحسنة فهي الغنيمة و العافية، و أما المصيبة فالبلاء و الشدة. و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبار السوء، و يقولون: إن محمدا و أصحابه قد جهدوا في سفرهم و هلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم و عافية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه فساءهم ذلك فأنزل الله تعالى: «إن تصبك حسنة تسؤهم» الآية. و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عز و جل «هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين» قال: إما موت في طاعة الإمام أو إدراك ظهور إمام «و نحن نتربص بكم» مع ما نحن فيه من المشقة «أن يصيبكم الله بعذاب من عنده» قال: هو المسخ «أو بأيدينا» و هو القتل، قال الله عز و جل لنبيه: «فتربصوا إنا معكم متربصون».
أقول: و هو من الجري دون التفسير.
في المحاسن، بإسناده عن يوسف بن ثابت عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يضر مع الإيمان عمل، و لا ينفع مع الكفر عمل. ثم قال: أ لا ترى أن الله تبارك و تعالى قال: «و ما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم - إلا أنهم كفروا بالله و برسوله». أقول: و رواه العياشي و القمي عنه و كذا الكليني في الكافي، عنه في حديث مفصل و الرواية تبينها آيات و روايات أخرى فالإيمان ما دام باقيا لا يضره معصية بإيجاب خلود النار، و الكفر ما دام كفرا لا ينفع معه حسنة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «مدخلا» الآية قال: سربا: عن أبي جعفر (عليه السلام). و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية: فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون» قال: هم أكثر من ثلثي الناس: أقول: و رواه العياشي في تفسيره و الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن إسحاق عنه (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج البخاري و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم قسما إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال: اعدل. يا رسول الله فقال: ويلك و من يعدل إذا لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يرى فيه شيء، ثم ينظر في رصافه فلا يرى فيه شيء، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث و الدم آيتهم رجل أسود إحدى ثديه أو قال: ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدر در يخرجون على حين فرقة من الناس قال: فنزلت فيهم: «و منهم من يلمزك في الصدقات» الآية. قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أشهد أن عليا حين قتلهم و أنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و في تفسير القمي،: في الآية: أنها نزلت لما جاءت الصدقات و جاء الأغنياء و ظنوا أن الرسول يقسمها بينهم فلما وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفقراء تغامزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لمزوه، و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب و نغزو معه و نقوي أمره ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا فأنزل الله: «و لو أنهم رضوا ما آتاهم الله و رسوله - و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله - إنا إلى الله راغبون». ثم فسر الله عز و جل الصدقات لمن هي و على من يجب؟ فقال: «إنما الصدقات للفقراء و المساكين - و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين - و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله و الله عليم حكيم» فأخرج الله من الصدقات جميع الناس إلا هذه الثمانية الأصناف الذين سماهم. و بين الصادق (عليه السلام) من هم؟ فقال: الفقراء هم الذين لا يسألون و عليهم مئونات من عيالهم، و الدليل على أنهم لا يسألون قول الله تعالى في سورة البقرة: «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض - يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا. و المساكين هم أهل الزمانة من العميان و العرجان و المجذومين و جميع أصناف الزمنى من الرجال و النساء و الصبيان. و العاملين عليها هم السعاة و الجباة في أخذها و جمعها و حفظها حتى يؤديها إلى من يقسمها. و المؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله و لم يدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتألفهم و يعلمهم كيما يعرفوا فجعل الله لهم نصيبا في الصدقات كي يعرفوا و يرغبوا.
أقول: و قد وردت في تأييد هذا الذي أرسله من الرواية روايات كثيرة مسندة من طرق أهل البيت (عليهم السلام).
و في بعض الروايات تعارض ما، و ليرجع في تفصيل الروايات على كثرتها و تنقيح المطلب إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث علي بن أبي طالب من اليمن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذهبية فيها تربتها فقسمها بين أربعة من المؤلفة: الأقرع بن حابس الحنظلي و علقمة بن علاثة العامري و عيينة بن بدر الفزاري و زيد الخيل الطائي، فقالت قريش و الأنصار: أ تقسم بين صناديد أهل نجد و تدعنا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أتألفهم. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن يحيى بن أبي كثير قال: المؤلفة قلوبهم من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و من بني أمية أبو سفيان بن حرب، و من بني مخزوم الحارث بن هشام و عبد الرحمن بن يربوع و من بني أسد حكيم بن حزام، و من بني عامر سهيل بن عمرو و حويطب بن عبد العزى، و من بني جمح صفوان بن أمية، و من بني سهم عدي بن قيس، و من ثقيف العلاء بن جارية أو حارثة، و من بني فزارة عيينة بن حصن، و من بني تميم الأقرع بن حابس، و من بني نصر مالك بن عوف، و من بني سليم العباس بن مرداس. أعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع و حويطب بن عبد العزى فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المؤلفة قلوبهم: أبو سفيان بن حرب بن أمية، و سهيل بن عمرو و هو من بني عامر بن لؤي و هشام ابن عمرو أخوه: أخو بني عامر بن لؤي و صفوان بن أمية بن خلف القرشي ثم الجمحي، و الأقرع بن حابس التميمي أحد بني حازم و عيينة بن حصن الفزاري و مالك بن عوف و علقمة بن علاثة. بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي الرجل منهم مائة من الإبل و رعاتها و أكثر من ذلك و أقل.
أقول: و هؤلاء هم المؤلفة قلوبهم الذين أعطاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تأليفا لقلوبهم، و ليس المراد حصر المؤلفة قلوبهم و هم صنف من الأصناف الثمانية المذكور في الآية في هؤلاء الأشخاص بأعيانهم.
و في تفسير العياشي، عن ابن إسحاق عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) قال: سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى بعضها، قال: يؤدى من مال الصدقة إن الله يقول في كتابه: «و في الرقاب» و فيه، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد زنى؟ قال: يجلد نصف الحد، قال: قلت: فإن هو عاد؟ قال: يضرب مثل ذلك، قال: قلت: فإن هو عاد؟ قال: لا يزاد على نصف الحد. قال: قلت: فهل يجب عليه الرجم في شيء من فعله؟ قال: نعم يقتل في الثامنة إن فعل ذلك ثمان مرات. قال: قلت: فما الفرق بينه و بين الحر و إنما فعلهما واحد؟ فقال له: إن الله رحمه أن يجمع عليه ربق الرق و حد الحر. قال: ثم قال: و على إمام المسلمين أن يدفع ثمنه إلى مولاه من سهم الرقاب. و فيه، عن الصباح بن سيابة قال: أيما مسلم مات و ترك دينا لم يكن في فساد و على إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقض فعليه إثم ذلك إن الله يقول: «إنما الصدقات للفقراء و المساكين - و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين» فهو من الغارمين و له سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه. و فيه، عن محمد بن القسري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الصدقة فقال: اقسمها فيمن قال الله و لا يعطي من سهم الغارمين الذين يغرمون في مهور النساء و لا الذين ينادون نداء الجاهلية قال: قلت: و ما نداء الجاهلية؟ قال: الرجل يقول: يا آل بني فلان فيقع بينهم القتل و لا يؤدى ذلك من سهم الغارمين، و لا الذين لا يبالون ما صنعوا بأموال الناس. و فيه، عن الحسن بن محمد قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) إن رجلا أوصى لي في السبيل قال: فقال لي: اصرف في الحج قال: قلت: إنه أوصى في السبيل! قال: اصرفه في الحج فإني لا أعلم سبيلا من سبله أفضل من الحج.
أقول: و الروايات في الباب أكثر من أن تحصى، و إنما أوردنا منها ما يجري مجرى الأنموذج.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و منهم الذين يؤذون النبي» الآية:، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجلس إليه فيسمع ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، و هو الذي قال لهم: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه، فأنزل الله فيه: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن» الآية. و في تفسير القمي،: في الآية قال: سبب نزولها أن عبد الله بن نبتل كان منافقا و كان يقعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع كلامه و ينقله إلى المنافقين فينم عليه فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن رجلا من المنافقين ينم و ينقل حديثك إلى المنافقين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من هو؟ قال: الرجل الأسود الوجه الكثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنهما قدران، و ينطق بلسان شيطان. فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره فحلف أنه لم يفعل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد قبلت منك فلا تفعل فرجع إلى أصحابه فقال: إن محمدا أذن. أخبره الله أني أنم عليه و أنقل أخباره فقبله، و أخبرته أني لم أقل و لم أفعل فقبله!. فأنزل الله على نبيه: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن - قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» أي يصدق الله فيما يقول له، و يصدقكم فيما تعتذرون إليه و لا يصدقكم في الباطن، و يؤمن للمؤمنين يعني المقرين بالإيمان من غير اعتقاد.
أقول: و روي ما يقرب منه في نهج البيان، عن الصادق (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت و جحش بن حمير و وديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهى بعضهم بعضا، و قالوا: إنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بكم، و قال بعضهم: إن محمدا أذن نحلف له فيصدقنا فنزل: «و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن» الآية. و في تفسير العياشي، عن حماد بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني أردت أن أستبضع فلانا بضاعة إلى اليمن فأتيت إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: إني أريد أن أستبضع فلانا فقال لي. أ ما علمت أنه يشرب الخمر؟ فقلت: قد بلغني من المؤمنين إنهم يقولون ذلك، فقال: صدقهم إن الله عز و جل يقول: «يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين» فقال: يعني يصدق الله و يصدق للمؤمنين لأنه كان رءوفا رحيما بالمؤمنين.
|