بيان
تذكر الآيات شأنا آخر من شئون المنافقين، و تكشف عن سوأة أخرى من سوءاتهم ستروا عليها بالنفاق، و كانوا يحذرون أن تظهر عليهم و تنزل فيها سورة تقص ما هموا به منها.
و الآيات تنبىء عن أنهم كانوا جماعة ذوي عدد كما يدل عليه قوله: «إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» و أنه كان لهم بعض الاتصال و التوافق مع جماعة آخرين من المنافقين كما في قوله: «المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض» الآية و أنهم كانوا على ظاهر الإسلام و الإيمان حتى اليوم و إنما نافقوا يومئذ أي تفوهوا بكلمة الكفر فيما بينهم و أسروا بها يومئذ كما في قوله: «قد كفرتم بعد إيمانكم».
و أنهم تواطئوا على أمر دبروه فيما بينهم فأظهروا عند ذلك كلمة الكفر و هموا على أمر عظيم فحال الله بينهم و بينه فخاب سعيهم و لم يؤثر كيدهم كما في قوله: «و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا».
و أنه ظهر مما هموا به بعض ما يستدل عليه من الآثار و القرائن فسألوا عن ذلك فاعتذروا بما هو مثله قبحا و شناعة كما في قوله: «و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب» و الآيات التالية لهذه الآيات في سياق متصل منسجم تدل على أن هذه الوقعة أيا ما كانت وقعت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك و لما يرجع إلى المدينة كما يدل عليه قوله: «فإن رجعك الله إلى طائفة منهم» الآية: آية: - 83 من السورة: و قوله: «سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم» آية: - 95 من السورة.
فيتلخص من الآيات أن جماعة ممن خرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تواطئوا على أن يمكروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أسروا عند ذلك فيما بينهم بكلمات كفروا بها بعد إسلامهم ثم هموا أن يفعلوا ما اتفقوا عليه بفتك أو نحوه فأبطل الله كيدهم و فضحهم و كشف عنهم فلما سئلوا عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض و نلعب فعاتبهم الله بلسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه استهزاء بالله و آياته و رسوله، و هددهم بالعذاب إن لم يتوبوا، و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهدهم و يجاهد الكافرين.
فالآيات - كما ترى - أوضح انطباقا على حديث العقبة منها على غيره من القصص التي تتضمنها الروايات الآخر الواردة في بيان سبب نزول الآيات، و سنورد جلها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم» إلى آخر الآية.
كان المنافقون يشاهدون أن جل ما يستسرون به من شئون النفاق و يناجي به بعضهم بعضا من كلمة الكفر و وجوه الهمز و اللمز و الاستهزاء أو جميع ذلك لا يخفى على الرسول، و يتلى على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه من وحي الله، و لا محالة كانوا لا يؤمنون بأنه وحي نزل به الروح الأمين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يقدرون أن ذلك مما يتجسسه المؤمنون فيخبرون به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخرجه لهم في صورة كتاب سماوي نازل عليهم و هم مع ذلك كانوا يخافون ظهور نفاقهم و خروج ما خبوه في سرائرهم الخبيثة لأن السلطنة و الظهور كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم يجري فيهم ما يأمر به و يحكم عليه.
فهم كانوا يحذرون نزول سورة يظهر بها ما أضمروه من الكفر و هموا به من تقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قصده بما يبطل به نجاح دعوته و تمام كلمته فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم أن الله عالم بما في صدورهم مخرج ما يحذرون خروجه و ظهوره بنزول سورة من عنده أي يخبرهم بأن الله منزل سورة هذا نعتها.
و بهذا يستنير معنى الآية فقوله: «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة» الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وجه الكلام إليه، و هو يعلم بتعليم الله أن هذا الكلام الذي يتلوه على الناس كلام إلهي و قرآن منزل من عنده فيصف سبحانه الكلام الذي يخاف منه المنافقون بما له من الوصف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أنه سورة منزلة من الله على الناس و منهم المنافقون لا على ما يراه المنافقون أنه كلام بشري يدعى كونه كلام الله.
فهم كانوا يحذرون أن يتلو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم و على الناس كلاما هذا نعته الواقعي و هو أنه سورة منزلة عليهم بما أنها متوجهة بمضمونها إليهم قاصدة نحوهم ينبئهم هذه السورة النازلة بما في قلوبهم فيظهر على الناس و يفشو بينهم ما كانوا يسرونه من كفرهم و سوء نياتهم، و هذا الظهور في الحقيقة هو الذي كانوا يحذرونه من نزول السورة.
و قوله: «قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون» كأن المراد بالاستهزاء هو نفاقهم و ما يلحق به من الآثار فإن الله سمى نفاقهم استهزاء حاكيا في ذلك قولهم حيث قال: «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون:» البقرة: - 14 فالمراد بالاستهزاء هو ستر ما يحذرون ظهوره، و الأمر تعجيزي أي دوموا على نفاقكم و ستركم ما تحذرون خروجه من عندكم إلى مرأى الناس و مسمعهم فإن الله مخرج ذلك و كاشف عن وجهه الغطاء، و مظهر ما أخفيتموه في صدوركم.
فصدر الآية و إن كان يذكر أنهم يحذرون تنزيل سورة كذا و كذا لكنهم إنما كانوا يحذرونها لما فيها من الأنباء التي يحذرون أن يطلع عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تنجلي للناس، و هذا هو الذي يذكر ذيلها أنهم يحذرونه فالكلام بمنزلة أن يقال: يحذر المنافقون تنزيل سورة قل إن الله منزلها، أو يقال: يحذر المنافقون انكشاف باطن أمرهم و ما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله سيكشف ذلك و ينبىء عما في قلوبكم.
و بما تقدم يظهر سقوط ما أشكل على الآية أولا: بأن المنافقين لكفرهم في الحقيقة لم يكونوا يرون أن القرآن كلام منزل من عند الله فكيف يصح القول أ يحذرون أن تنزل عليهم سورة؟.
و ثانيا: أنهم لما لم يكونوا مؤمنين في الواقع فكيف يصح أن يطلق أن سورة قرآنية نزلت عليهم و لا تنزل السورة إلا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على المؤمنين؟.
و ثالثا: أن حذرهم نزول السورة و هو حال داخلي جدي فيهم لا يجامع كونه استهزاء.
و رابعا: أن صدر الآية يذكر أنهم يحذرون أن تنزل سورة و ذيلها يقول: إن الله مخرج ما تحذرون فهو في معنى أن يقال: إن الله مخرج سورة أو مخرج تنزيل سورة.
و قد يجاب عن الإشكال الأول بأن قوله: يحذر المنافقون «إلخ» إنشاء في صورة خبر أي ليحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة «إلخ».
و هو ضعيف إذ لا دليل عليه أصلا على أن ذيل الآية لا يلائم ذلك إذ لا معنى لقولنا: ليحذر المنافقون كذا قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون أي ما يجب عليكم حذره.
و هو ظاهر.
و قد يجاب عنه بأنهم إنما كانوا يظهرون الحذر استهزاء لا جدا و حقيقة.
و فيه أن لازمه أنهم كانوا على ثقة بأن ما في قلوبهم من الأنباء و ما أبطنوه من الكفر و الفسوق لا سبيل للظهور و الانجلاء إليه، و لا طريق لأحد إلى الاطلاع عليه، و يكذبه آيات كثيرة في القرآن الكريم تقص ما عقدوا عليه القلوب من الكفر و الفسوق و هموا به من الخدعة و المكيدة كالآيات من سورة البقرة و سورة المنافقين و غيرهما، و إذ كانوا شاهدوا ظهور أنبائهم و مطويات قلوبهم عيانا مرة بعد مرة فلا معنى لثقتهم بأنها لا تنكشف أصلا و إظهارهم الحذر استهزاء لا جدا، و قد قال تعالى: «يحسبون كل صيحة عليهم:» المنافقون: - 4.
و قد يجاب عنه بأن أكثر المنافقين كانوا على شك من صدق الدعوة النبوية من غير أن يستيقنوا كذبه، و هؤلاء كانوا يجوزون تنزيل سورة تنبئهم بما في قلوبهم احتمالا عقليا، و هذا الحذر و الإشفاق كما ذكروه أثر طبيعي للشك و الارتياب فلو كانوا موقنين بكذب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خطر لهم هذا الخوف على بال، و لو كانوا موقنين بصدقه لما كان هناك محل لهذا الخوف و الحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
و هذا الجواب - و هو الذي اعتمد عليه جمهور المفسرين - و إن كان بظاهره لا يخلو عن وجه غير أن فيه أنه إنما يحسم مادة الإشكال لو كان الواقع من التعبير في الآية نحوا من قولنا: يخاف المنافقون أن تنزل عليهم سورة، و لذا قرروا الجواب بأن الخوف يناسب الشك دون اليقين.
لكن الآية تعبر عن شأنهم بالحذر، و يخبر أنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة «إلخ» و الحذر فيه شيء من معنى الاحتراز و الاتقاء، و لا يتم ذلك إلا بالتوسل إلى أسباب و وسائل تحفظ الحاذر مما يحذره و يحترز منه، و تصونه من شر مقبل إليه من ناحية ما يخافه.
و لو كان مجرد شك من غير مشاهدة أثر من الآثار و إصابة شيء مما يتقونه إياهم لما صح الاحتراز و الاتقاء، فحذرهم يشهد أنهم كانوا يخافون أن يقع بهم هذه المرة نظير ما وقع بهم قبل ذلك من جهة آيات البقرة و غيرها، فهذا هو الوجه لحذرهم دون الشك و الارتياب فالمعتمد في الجواب ما قدمناه.
و قد يجاب عن الإشكال الثاني بأن «على» في قوله: «أن تنزل عليهم» بمعنى: في كما في قوله: «و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان:» البقرة: - 102، و المعنى: يحذر المنافقون أن تنزل فيهم أي في شأنهم و بيان حالهم سورة تكشف عما في ضمائرهم.
و فيه أنه لا بأس به لو لا قوله بعده: «تنبئهم بما في قلوبهم» على ما سنوضحه.
و قد يجاب عنه بأن الضمير في قوله: «عليهم» راجع إلى المؤمنين دون المنافقين و المعنى: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبىء المنافقين بما في قلوب المنافقين أو تنبىء المؤمنين بما في قلوب المنافقين.
ورد عليه بأنه يستلزم تفكيك الضمائر.
و دفع بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع و لا أنه مناف للبلاغة إلا إذا كان المعنى معه غير مفهوم، و ربما أيد بعضهم هذا الجواب بأنه ليس هاهنا تفكيك للضمائر فإنه قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ثم وبخهم الله بأن الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين فقد بين هاهنا بطريقة الاستئناف أنهم يحذرون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئهم بما في قلوبهم فتبطل ثقتهم بهم فأعيد الضمير إلى المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم فلا أثر من التفكيك.
و فيه أن من الواضح الذي لا يرتاب فيه أن موضوع الكلام في هذه الآيات و آيات كثيرة مما يتصل بها من قبل و من بعد، هم المنافقون، و السياق سياق الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره، و إنما كان خطاب المؤمنين في قوله: «يحلفون بالله لكم ليرضوكم خطابا التفاتيا للتنبيه على غرض خاص أومأنا إليه ثم عاد الكلام إلى سياقها الأصلي من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبدل خطابهم إلى خطابه فلا معنى لقوله: إن سياق الكلام في المؤمنين.
و لو كان السياق هو الذي ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أن تنزل عليكم سورة تنبئكم بما في قلوبهم، فما معنى العدول إلى ضمير الغيبة، و لم يتقدم في سابق الكلام ذكر لهم على هذا النعت؟.
على أن قوله: إن الآية - يحذر المنافقون - بيان من طريق الاستئناف لسبب حلفهم للمؤمنين ليرضوهم، إخراج لهذه الطائفة من الآيات من استقلال غرضها الأصلي الذي بحثنا عنه في أول الكلام، و يختل بذلك ما يتراءى من فقرات الآيات من الاتصال و الارتباط.
فالآية - يحذر المنافقون إلخ - ليست بيانا لسبب حلفهم المذكور سابقا بل استئناف مسوق لغرض آخر يهدي إليه مجموع الآيات الإحدى عشرة.
و بالجملة الآيات السابقة على هذه الآية خالية عن ذكر المؤمنين ذكرا يوجب انعطاف الذهن إليه حينما يلقي ضميرا يمكن عوده إليهم و هذا هو التفكيك المذكور، و هو مع ذلك تفكيك ممنوع لإيجابه إبهاما في البيان ينافي بلاغته.
و الحق أن الضمير في قوله: «أن تنزل عليهم» للمنافقين - كما تقدمت الإشارة إليه - و لا بأس بأن يسمى تنزيل سورة لبيان حالهم و ذكر مثالبهم و توبيخهم على نفاقهم تنزيلا للسورة عليهم و هم في جماعة المؤمنين غير متميزين منهم كما عبر بنظير التعبير في مورد المؤمنين حيث قال: «و اذكروا نعمة الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به:» البقرة: - 231.
و قد أتى سبحانه بنظير هذا التعبير في أهل الكتاب حيث قال: «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء:» النساء: - 153، و في المشركين حيث حكى عنهم قولهم: «و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه:» إسراء: - 93، و ليست نسبة المنافقين و هم في المؤمنين إلى نزول القرآن عليهم بأبعد من نسبة المشركين و أهل الكتاب إلى نزوله عليهم، و النزول و الإنزال و التنزيل يقبل التعدي بإلى بعناية الانتهاء و بعلى بعناية الاستعلاء و الإتيان من العلو، و التعدية بكل واحد منهما كثير في تعبيرات القرآن، و المراد بنزول الكتاب إلى قوم و على قوم تعرضه لشئونهم و بيانه لما ينفعهم في دنياهم و أخراهم.
و قد يجاب عن الإشكال الثالث بأن قوله تعالى: «قل استهزءوا» دليل على أنهم كانوا يستهزءون بالحذر و لم يكن من جد الحذر في شيء.
و فيه أن الآيات الكثيرة النازلة في سورة البقرة و النساء و غيرها - و كل ذلك قبل هذه الآيات نزولا - المخرجة لكثير من خبايا قلوبهم الكاشفة عن أسرارهم تدل على أن هذا الحذر كان منهم على حقيقته من غير استهزاء و سخرية.
على أنه تعالى وصفهم في سورة المنافقون بمثل قوله: «يحسبون كل صيحة عليهم:» المنافقون: - 4، و قال في مثل ضربه لهم و فيهم: «يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت:» البقرة: - 19 و قد ذكر في الآية التالية.
و الحق أن استهزاءهم إنما هو نفاقهم و قولهم في الظاهر خلاف ما في باطنهم كما يؤيده قوله تعالى: «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون:» البقرة: - 14.
و الجواب عن الإشكال الرابع أن الشيء الذي كانوا يحذرونه في الحقيقة هو ظهور نفاقهم و انكشاف ما في قلوبهم، و إنما كانوا يحذرون نزول السورة لأجل ذلك فالمحذور الذي ذكر في صدر الآية و الذي في ذيل الآية أمر واحد، و معنى قوله «إن الله مخرج ما تحذرون» إنه مظهر لما أخفيتموه من النفاق و منبىء لما في قلوبكم.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أ بالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون» الخوض - على ما في المجمع، - دخول القدم فيما كان مائعا من الماء و الطين ثم كثر حتى استعمل في غيره.
و قال الراغب في المفردات:، الخوض هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الأمور، و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه.
انتهى.
و لم يذكر الله سبحانه متعلق السؤال و أن المسئول عنه الذي إن سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل عنه ما هو؟ غير أن قوله: «ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب» بما له من السياق المصدر بإنما يدل على أنه كان فعلا صادرا منهم له نوع تعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان أمرا مرئيا يسيء الظن بهم، و لم يكن في وسعهم أن يعتذروا منه بعد ما تبين و انكشف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا بأنه إنما كان منهم خوضا و لعبا لم يريدوا به غير ذلك.
و الخوض و اللعب الذين اعتذروا بهما من الأعمال السيئة التي لا يعترف بهما الناس في حالهم العادي و خاصة المؤمنون و سائر المتظاهرين بالإيمان و خاصة إذا كان ذلك في أمر يرجع إلى الله و رسوله غير أنهم لم يجدوا وصفا يصفون به فعلهم لإخراجه عن ظاهر ما يدل عليه، دون أن يعنونوه بأنه كان خوضا و لعبا.
و لذا أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم على ما اعتذروا به فقال: «قل أ بالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون» ثم فسر عملهم في آخر الآيات بقوله: «يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا» الآية.
و يتحصل من مجموع هذه القرائن أن المنافقين كانوا أرادوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسوء كالفتك به و مفاجأته بما يهلكه و أقدموا على ما قصدوه و تكلموا عند ذلك بشيء من الكلام الردي لكنهم أخطئوا في ما أوقعوه عليه و اندفع الشر عنه، و لم يصب السهم هدفه فلما خاب سعيهم و بان أمرهم سألهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك و ما تصدوه به اعتذروا بأنهم كانوا يخوضون و يلعبون فوبخهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «أ بالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون» و رد الله سبحانه إليهم عذرهم الذي اعتذروا به و بين حقيقة ما قصدوا بذلك.
و بالجملة معنى الآية: و أقسم لئن سألتهم عن فعلهم الذي شوهد منهم: ما الذي أرادوا به؟ و كان ظاهره أنهم هموا بأمر فيك ليقولن: لم يكن قصد سوء و لا بالذي ظننت فأسأت الظن بنا، و إنما كنا نخوض و نلعب خوض الركب في الطريق لا على سبيل الجد و لكن لعبا.
و هذا اعتذار منهم بالاستهزاء بالله و آياته و رسوله فإنهم يعترفون بأنهم فعلوا فيك ما فعلوه خوضا و لعبا فقد استهزءوا بالله و رسوله فقل: أ بالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون أي أ تعتذرون عن سيىء فعلكم بسيئة أخرى هي الاستهزاء بالله و آياته و رسوله، و هو كفر؟.
و ليس من البعيد أن يكون الغرض الأصيل بيان كونه استهزاء بالرسول، و إنما ذكر الله و آياته للدلالة على معنى الاستهزاء بالرسول، و أنه لما كان من آيات الله كان الاستهزاء به استهزاء بآيات الله، و الاستهزاء بآيات الله استهزاء بالله العظيم فالاستهزاء برسول الله استهزاء بالله و آياته و رسوله.
قوله تعالى: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» الآية، قال الراغب في المفردات،: الطوف المشي حول الشيء و منه الطائف لمن يدور حول البيوت حافظا - إلى أن قال - و الطائفة من الناس جماعة منهم و من الشيء القطعة منه.
و قوله تعالى: «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين» قال بعضهم: قد يقع ذلك على الواحد فصاعدا، و على ذلك قوله: «و إن طائفتان من المؤمنين.
إذ همت طائفتان منكم».
و الطائفة إذا أريد بها الجمع فجمع طائف، «و إذا أريد بها الواحد فيصح أن يكون جمعا و يكنى به عن الواحد، و يصح أن يجعل كراوية و علامة و نحو ذلك.
انتهى.
و قد خطأ بعضهم القول بجواز صدق الطائفة على الواحد و الاثنين من الناس كما تصدق على الثلاثة فصاعدا، و بالغ في ذلك حتى عده غلطا و لا دليل له على ما ذكره، و مادة اللفظ لا يستوجب شيئا معينا من العدد، و إطلاقها على القطعة من الشيء يؤيد استعمالها في الواحد.
و قوله: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم» نهي عن الاعتذار بدعوى أنه لغو كما يدل عليه قوله: «قد كفرتم بعد إيمانكم» فإن الاعتذار لا فائدة تترتب عليه بعد الحكم بكفرهم بعد إيمانهم.
و المراد بإيمانهم هو ظاهر الإيمان الذي كانوا يتظاهرون به لا حقيقة الإيمان الذي هو من الهداية الإلهية التي لا يعقبها ضلال، و يؤيده قوله تعالى في آخر هذه الآيات: «و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم» فبدل الإيمان إسلاما و هو ظاهر الشهادتين.
و يمكن أن يقال: إن من مراتب الإيمان ما هو اعتقاد و إذعان ضعيف غير آب عن الزوال كإيمان الذين في قلوبهم مرض و قد عدهم الله من المؤمنين و ذكرهم مع المنافقين لأمنهم، و لا مانع من أن ينسلخوا هذا الإيمان.
و كيف لا؟ و قد سلخ الله الإيمان ممن هو أرسخ إيمانا منهم كالذي يقصه في قوله: «و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين و لو شئنا لرفعناه بها و لكنه أخلد إلى الأرض و اتبع هواه:» الأعراف: - 176.
و قال أيضا: «إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا:» النساء: - 137 و قد أكثر القرآن الكريم من ذكر الكفر بعد الإيمان فلا مانع من زوال الاعتقاد القلبي قبل رسوخه و هو اعتقاد.
نعم الإيمان المستقر و الاعتقاد الراسخ لا سبيل إلى عروض الزوال له قال تعالى: «من يهد الله فهو المهتدي:» الأعراف: - 178 و قال: «فإن الله لا يهدي من يضل:» النحل: - 37.
و قوله: «إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» يدل على أن هؤلاء المنافقين المذكورين في الآيات كانوا ذوي عدد و كثرة، و أن كلمة العذاب وقعت عليهم لا بد لهم من العذاب فلو شمل بعضهم عفو إلهي لمصلحة في ذلك وقع العذاب على الباقين فهذا معنى الجملة: «إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» بحسب ما يفهم من نظمه و سياقه.
و بعبارة أخرى رابطة اللزوم بين الشرط و الجزاء بترتب الجزاء و تفرعه على الشرط إنما هي بالتبع و أصله ترتب الجزاء هاهنا على أمر يتعلق به الشرط و هو أن العذاب وجب على جماعتهم فإن عفي عن بعضهم تعين الباقون من غير تخلف.
و قد ظهر بما قدمناه أولا: وجه ترتب قوله: «نعذب طائفة» على قوله: «إن نعف عن طائفة» و اندفع ما استشكله بعضهم على الآية أنه لا ملازمة بين العفو عن البعض و عذاب البعض فما معنى الاشتراط؟.
و الجواب: أن اللزوم بحسب الأصل بين وجوب نزول العذاب على الجماعة و بين نزوله على بعضهم ثم انتقل إلى ما بين العفو عن البعض و بين نزوله على بعضهم كما قررناه.
و ثانيا: أن المراد بالعفو هو ترك العذاب لمصلحة من مصالح الدين دون العفو بمعنى المغفرة المستندة إلى التوبة إذ لا وجه ظاهرا لمثل قولنا: إن غفرنا لطائفة منكم لتوبتهم نعذب طائفة لجرمهم مع أنهم لو تابوا جميعا لم يعذبوا قطعا.
و قد ندب الله إليهم جميعا أن يتوبوا حيث قال في آخر الآيات: «فإن يتوبوا يك خيرا لهم و إن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا و الآخرة».
و ثالثا: أن العفو في الآية بل و العذاب المذكور فيها هو العفو عن العذاب الدنيوي و تركها و كذا القول في العذاب فإن العفو من العذاب الأخروي على ما تنص عليه الآيات القرآنية إنما يكون لتوبة أو شفاعة، و لا تحقق لواحد منهما فيما نحن فيه أما التوبة فلما تبين أنها غير مرادة في الآية، و أما الشفاعة فلما ثبت بآيات الشفاعة أن الشفاعة لا ينالها في الآخرة إلا مؤمن مرضي الإيمان، و قد استوفينا البحث عنها في الجزء الأول من الكتاب.
و رابعا: أنه لا مانع من كون الآية أعني قوله: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة» الآية من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المراد بالعفو و العذاب هو العذاب الدنيوي بالسياسة و تركه، و لا مانع من نسبتهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكن ظاهر الآيات التالية هو كونه من قول الله سبحانه خطابا للمنافقين فيكون التفاتا من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خطابهم و النكتة فيه إظهار كمال الغضب و اشتداد السخط من صنعهم حتى كأنه لا يفي بإيذانه و إعلامه الرسالة فواجههم بنفسه و خاطبهم بشخصه فهددهم بعذاب واقع لا مرد له و لا مفر منه.
قوله تعالى: «المنافقون و المنافقات بعضهم من بعض» إلى آخر الآيتين، ذكروا أنه استئناف يتعرض لحال عامة المنافقين بذكر أوصافهم العامة الجامعة و تعريفهم بها و ما يجازيهم الله في عاقبة أمرهم ثم يتعرض لحال عامة المؤمنين و يعرفهم بصفاتهم الجامعة و يذكر ما ينبئهم الله به على سبيل المقابلة استتماما للقسمة، و من الدليل على هذا الاستيفاء ذكر جزاء الكفار مع المنافقين في قوله: «وعد الله المنافقين و المنافقات و الكفار» الآية.
و الظاهر أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: «إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» و سياق مخاطبة المنافقين جار لم ينقطع بعد.
فالآية السابقة لما دلت على أنه تعالى لا يترك المنافقين حتى يعذبهم بأجرامهم فإن ترك بعضا منهم لحكمة و مصلحة أخذ آخرين منهم بالعذاب كان هناك مظنة أن يسأل فيقال: ما وجه أخذ البعض إذا ترك غيره؟ و هل هو إلا كأخذ الجار بجرم الجار فأجيب ببيان السبب و هو أن المنافقين جميعا بعضهم من بعض لاشتراكهم في خبائث الصفات و الأعمال، و اشتراكهم في جزاء أعمالهم و عاقبة حالهم.
و لعله ذكر المنافقات مع المنافقين مع عدم سبق لذكرهن للدلالة على كمال الاتحاد و الاتفاق بينهم في نفسيتهم، و ليكون تلويحا على أن من النساء أيضا أجزاء مؤثرة في هذا المجتمع النفاقي الفاسد المفسد.
فمعنى الآية لا ينبغي أن يستغرب أخذ بعض المنافقين إذا ترك البعض الآخر لأن المنافقين و المنافقات يحكم عليهم نوع من الوحدة النفسية يوحد كثرتهم فيرجع بعضهم إلى بعض، فيشركهم في الأوصاف و الأعمال و ما يجازون به بوعد من الله تعالى.
فهم يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و يمسكون عن الإنفاق في سبيل الله و بعبارة أخرى نسوا الله تعالى بالإعراض عن ذكره لأنهم فاسقون خارجون عن زي العبودية فنسيهم الله فلم يثبهم بما أثاب عباده الذاكرين مقام ربهم.
ثم ذكر ما وعدهم على ذلك فقال: «وعد الله المنافقين و المنافقات و الكفار - و عطف عليهم الكفار لأنهم جميعا سواء - نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم» من الجزاء لا يتعدى فيهم إلى غيرها «و لعنهم الله» و أبعدهم «و لهم عذاب مقيم» ثابت لا يزول عنهم البتة.
و قد ظهر بذلك أن قوله تعالى: «نسوا الله فنسيهم» إلخ؟ بيان لما تقدمه من قوله: «يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و يقبضون أيديهم».
و يتفرع على ذلك أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإنفاق في سبيل الله من الذكر.
قوله تعالى: «كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة و أكثر أموالا و أولادا فاستمتعوا بخلاقهم» إلخ، قال الراغب: الخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه قال تعالى: «و ما له في الآخرة من خلاق» انتهى و فسره غيره بمطلق النصيب.
و الآية من تتمة مخاطبة المنافقين التي في قوله: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم» الآية في سياق واحد متصل و في الآية تشبيه حال المنافقين بحال من كان قبلهم من الكفار و المنافقين و قياسهم إليهم ليستشهد بذلك على ما قيل: إن المنافقين و المنافقات بعضهم من بعض و أنهم جميعا و الكفار ذوو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذكر الله و الإقبال على الاستمتاع بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال و أولاد و الخوض في آيات الله ثم في حبط أعمالهم في الدنيا و الآخرة و الخسران.
و معنى الآية - و الله أعلم - أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة و أموال و أولاد بل أشد و أكثر في ذلك منكم، فاستمتعوا بنصيبهم و قد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا و خضتم كما خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و أولئك هم الخاسرون و أنتم أيضا أمثالهم في الحبط و الخسران و لذا وعدكم النار الخالدة و لعنكم.
و ذكر كون قوة من قبلهم أشد و أموالهم و أولادهم أكثر للإيماء إلى أنهم لم يعجزوا الله بذلك، و لم يدفع ذلك عنهم غائلة الحبط و الخسران فكيف بكم و أنتم أضعف قوة و أقل أموالا و أولادا؟.
قوله تعالى: «أ لم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و أصحاب مدين و المؤتفكات» الآية رجوع إلى السياق الأول و هو سياق مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع افتراض الغيبة في المنافقين، و تذكير لهم بما قص عليهم القرآن من قصص الأمم الماضين.
فذاك قوم نوح عمهم الله سبحانه بالغرق، و عاد و هم قوم هود أهلكهم بريح صرصر عاتية، و ثمود و هم قوم صالح عذبهم بالرجفة، و قوم إبراهيم أهلك ملكهم نمرود و سلب عنهم النعمة، و المؤتفكات و هي القرى المنقلبات على وجهها - من ائتفكت الأرض إذا انقلبت - قرى قوم لوط جعل عاليها سافلها.
و قوله: «أتتهم رسلهم بالبينات» أي بالواضحات من الآيات و الحجج و البراهين و هو بيان إجمالي لنبئهم أي كان نبؤهم أن أتتهم رسلهم بالآيات البينة فكذبوها فانتهى أمرهم إلى الهلاك، و لم يكن من شأن السنة الإلهية أن يظلمهم لأنه بين لهم الحق و الباطل، و ميز الرشد من الغي، و الهدى من الضلال، و لكن كان أولئك الأقوام و الأمم أنفسهم يظلمون بالاستمتاع من نصيب الدنيا و الخوض في آيات الله و تكذيب رسله.
قوله تعالى: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض» إلى آخر الآية.
ثم وصف الله سبحانه حال المؤمنين عامة محاذاة لما وصف به المنافقين فقال: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض» ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم و تفرقهم من حيث العدد و من الذكورة و الأنوثة ذوو كينونة واحدة متفقة لا تشعب فيها و لذلك يتولى بعضهم أمر بعض و يدبره.
و لذلك كان يأمر بعضهم بعضا بالمعروف و ينهى بعضهم بعضا عن المنكر فلولاية بعض المجتمع على بعض ولاية سارية في جميع الأبعاض دخل في تصديهم الأمر بالمعروفة و النهي عن المنكر فيما بينهم أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: «و يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة» و هما الركنان الوثيقان في الشريعة فالصلاة ركن العبادات التي هن الرابطة بين الله و بين خلقه، و الزكاة في المعاملات التي هي رابطة بين الناس أنفسهم.
ثم وصفهم بقوله: «و يطيعون الله و رسوله» فجمع في إطاعة الله جميع الأحكام الشرعية الإلهية و جمع في إطاعة رسوله جميع الأحكام الولائية التي يصدرها رسوله في إدارة أمور الأمة و إصلاح شئونهم كفرامينه في الغزوات، و أحكامه في القضايا و إجراء الحدود و غير ذلك.
على أن إطاعة شرائع الله النازلة من السماء من جهة أخرى منطوية في إطاعة الرسول فإن الرسول هو الصادع بالحق القائم بالدعوة إلى أصول الدين و فروعه.
و قوله: «أولئك سيرحمهم الله» إخبار عما في القضاء الإلهي من شمول الرحمة الإلهية لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، و كان في هذه الجملة محاذاة لما سرد في المنافقين من قوله تعالى: «نسوا الله فنسيهم» و الظاهر أيضا أن قوله: «إن الله عزيز حكيم» تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزته، و لا اختلال أو وهنا و جزافا في حكمته.
قوله تعالى: «وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار» إلى آخر الآية، العدن مصدر بمعنى الإقامة و الاستقرار يقال: عدن بالمكان أي أقام فيه و استقر و منه المعدن للأرض التي تستقر فيه الجواهر و الفلزات المعدنية، و على هذا فمعنى جنات عدن جنات إقامة و استقرار و خلود.
و قوله: «و رضوان من الله أكبر» أي رضى الله سبحانه عنهم أكبر من ذلك كله - على ما يفيده السياق - و قد نكر «رضوان» إيماء إلى أنه لا يقدر بقدر و لا يحيط به وهم بشر أو لأن رضوانا ما منه و لو كان يسيرا أكبر من ذلك كله لا لأن ذلك كله مما يتفرع على رضاه تعالى و يترشح منه و إن كان كذلك في نفسه - بل لأن حقيقة العبودية التي يندب إليها كتاب الله هي عبوديته تعالى حبا له: لا طمعا في جنة، أو خوفا من نار، و أعظم السعادة و الفوز عند المحب أن يستجلب رضى محبوبه دون أن يسعى لإرضاء نفسه.
و كأنه للإشارة إلى ذلك ختم الآية بقوله: «ذلك هو الفوز العظيم» و تكون في الجملة دلالة على معنى الحصر أي إن هذا الرضوان هو حقيقة كل فوز عظيم حتى الفوز العظيم بالجنة الخالدة إذ لو لا شيء من حقيقة الرضى الإلهي في نعيم الجنة كان نقمة لا نعمة.
قوله تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم و مأواهم جهنم و بئس المصير» جهاد القوم و مجاهدتهم بذل غاية الجهد في مقاومتهم و هو يكون باللسان و باليد حتى ينتهي إلى القتال، و شاع استعماله في الكتاب في القتال و إن كان ربما استعمل في غيره كما في قوله: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا» الآية.
و استعماله في قتال الكفار على رسله لكونهم متجاهرين بالخلاف و الشقاق، و أما المنافقون فهم الذين لا يتظاهرون بكفر و لا يتجاهرون بخلاف، و إنما يبطنون الكفر و يقلبون الأمور كيدا و مكرا و لا معنى للجهاد معهم بمعنى قتالهم و محاربتهم؟ و لذلك ربما يسبق إلى الذهن أن المراد بجهادهم مطلق ما تقتضيه المصلحة من بذل غاية الجهد في مقاومتهم فإن اقتضت المصلحة هجروا و لم يخالطوا و لم يعاشروا، و إن اقتضت وعظوا باللسان، و إن اقتضت أخرجوا و شردوا إلى غير الأرض أو قتلوا إذا أخذ عليهم الردة، أو غير ذلك.
و ربما شهد لهذا المعنى أعني كون المراد بالجهاد في الآية مطلق بذل الجهد تعقيب قوله: «جاهد الكفار و المنافقين» بقوله: «و أغلظ عليهم» أي شدد عليهم و عاملهم بالخشونة.
و أما قوله: «و مأواهم جهنم و بئس المصير» فهو عطف على ما قبله من الأمر، و لعل الذي هون الأمر في عطف الإخبار على الإنشاء هو كون الجملة السابقة في معنى قولنا: «إن هؤلاء الكفار و المنافقين مستوجبون للجهاد».
و الله أعلم.
قوله تعالى: «يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كلمة الكفر و كفروا بعد إسلامهم و هموا بما لم ينالوا» الآية.
سياق الآية يشعر بأنهم أتوا بعمل سيىء و شفعوه بقول تفوهوا به عند ذلك، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاتبهم على قولهم مؤاخذا لهم فحلفوا بالله ما قالوا كما تقدم في قوله: «و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب» إلى آخر الآية إنهم كانوا يعتذرون بذلك عن عملهم أنه كان خوضا و لعبا لا غير ذلك.
و الله سبحانه يكذبهم في الأمرين جميعا: أما في إنكارهم القول فبقوله: «و لقد قالوا كلمة الكفر» و فسره ثانيا بقوله: «و كفروا بعد إسلامهم» للدلالة على جد القول فيتفرع عليه الكفر بعد الإسلام.
و لعله قال هاهنا: «و كفروا بعد إسلامهم» و قد قيل سابقا: «قد كفرتم بعد إيمانكم» لأن القول السابق للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجاري على ظاهر حالهم و هو الإيمان الذي كانوا يدعونه و يتظاهرون به، و القول الثاني لله العالم بالغيب و الشهادة فيشهد بأنهم لم يكونوا مؤمنين و لم يتعدوا الشهادتين بلسانهم فهم كانوا مسلمين لا مؤمنين، و قد كفروا بقولهم و خرجوا عن الإسلام إلى الكفر، و في هذا إيماء إلى أن قولهم كان كلمة فيه الرد على الشهادتين أو إحداهما.
أو لأن القول الأول في قبال عملهم الذي أرادوا إيقاع الشر بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و العمل الخالي من القول و هو لم يصب الغرض لا يضر بالإسلام الذي هو نصيب اللفظ و الشهادة، و إنما يضر بالإيمان الذي هو نصيب الاعتقاد، و القول الثاني في قبال قولهم الذي تفوهوا به، و هو ينافي الإسلام الذي يكتسب باللفظ دون الإيمان الذي هو نوع من الاعتقاد القلبي.
و أما في إنكارهم العمل السيىء الذي أتوا به و تأويلهم إياه إلى الخوض و اللعب فبقوله: «و هموا بما لم ينالوا».
ثم قال في مقام ذمهم و تعييرهم: «و ما نقموا إلا أن أغناهم الله و رسوله من فضله» أي بسبب أن أغناهم الله و رسوله، أي كان سبب نقمتهم هذه أن الله أغناهم من فضله بما رزقهم من الغنائم و بسط عليهم الأمن و الرفاهية فمكنهم من توليد الثروة و إنماء المال من كل جهة، و كذا رسوله حيث هداهم إلى عيشة صالحة تفتح عليهم أبواب بركات السماء و الأرض، و قسم بينهم الغنائم و بسط عليهم العدل.
فهو من قبيل وضع الشيء موضع ضده: وضع فيه الإغناء و هو بحسب الطبع سبب للرضى و الشكر موضع سبب النقمة و السخطة كالظلم و الغضب و إن شئت قلت: وضع فيه الإحسان موضع الإساءة، ففيه نوع من التهكم المشوب بالذم نظير ما في قوله تعالى: «و تجعلون رزقكم أنكم تكذبون:» الواقعة: - 82 أي تجعلون رزقكم سببا للتكذيب بآيات الله و هو سبب بحسب الطبع لشكر النعمة و الرضا بالموهبة على ما قيل: إن المعنى: و تجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون.
و الضمير في قوله: «من فضله» راجع إلى الله سبحانه، قال في المجمع،: و إنما لم يقل: من فضلهما لأنه لا يجمع بين اسم الله و اسم غيره في الكناية تعظيما لله، و لذلك قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن سمعه يقول: «من أطاع الله و رسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى»: بئس خطيب القوم أنت فقال: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قل: و من يعص الله و رسوله، و هكذا القول في قوله سبحانه: «و الله و رسوله أحق أن يرضوه» و قيل: إنما لم يقل من فضلهما لأن فضل الله منه و فضل رسوله من فضله، انتهى كلامه.
و هناك وراء التعظيم أمر آخر قدمنا القول فيه في تفسير قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة:» المائدة: - 73 في الجزء السادس من الكتاب، و هو أن وحدته تعالى ليست من سنخ الوحدة العددية حتى يصح بذلك تأليفها مع وحدة غيره و استنتاج عدد من الأعداد منه.
ثم بين الله سبحانه لهؤلاء المنافقين أن لهم مع هذه الذنوب المهلكة و صريح كفرهم بالله و همهم بما لم ينالوا أن يرجعوا إلى ربهم، و بين عاقبة أمر هذه التوبة و عاقبة التولي و الإعراض عنها فقال: «فإن يتوبوا يك خيرا لهم» لأدائه إلى المغفرة و الجنة «و إن يتولوا» و يعرضوا عن التوبة «يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا» بالسياسة و النكال أو بإغراء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم أو بالمكر و الاستدراج، و لو لم يكن من عذابهم إلا أنهم مخالفون بنفاقهم نظام الأسباب المبني على الصدق و الإيمان فتقادمهم سلسلة الأسباب و تحطمهم و تفضحهم لكان فيه كفاية، و قد قال الله: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين:» التوبة: - 24 «و الآخرة» بعذاب النار.
و قوله تعالى: «و ما لهم في الأرض من ولي و لا نصير» معناه أن هؤلاء لا ولي لهم في الأرض يتولى أمرهم و يصرف العذاب عنهم، و لا نصير ينصرهم و يمدهم بما يدفعون به العذاب الموعود عن أنفسهم لأن سائر المنافقين أيضا منهم و كلمة الفساد يجمعهم و أصلهم الفاسد منقطع عن سائر الأسباب الكونية فلا ولي لهم يتولى أمرهم و لا ناصر لهم ينصرهم و لعل هذه الجملة من الآية إشارة إلى ما أومأنا إليه في معنى عذاب الدنيا.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة» الآية، قيل: نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، و أمره أن يرسل إليهم و يضرب وجوه رواحلهم. و عمار كان يقود دابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و حذيفة يسوقها فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم فلما نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه فلان و فلان حتى عدهم كلهم فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم: عن ابن كيسان. و روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): مثله إلا أنه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنما كنا نخوض و نلعب، و إن لم يفطن نقتله.
و قيل: إن جماعة من المنافقين قالوا في غزوة تبوك: يظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام و حصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك فقال: احبسوا على الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا و كذا.
فقالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض و نلعب و حلفوا على ذلك فنزلت الآية: «و لئن سألتهم ليقولن» إلخ، عن الحسن و قتادة.
و قيل: كان ذلك عند منصرفه من غزوة تبوك إلى المدينة و كان بين يديه أربعة نفر أو ثلاثة يستهزءون و يضحكون، و أحدهم يضحك و لا يتكلم فنزل جبرئيل و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فدعا عمار بن ياسر و قال: إن هؤلاء يستهزءون بي و بالقرآن أخبرني جبرئيل بذلك، و لئن سألتهم ليقولن: كنا نتحدث بحديث الركب فاتبعهم عمار و قال: مم تضحكون؟ قالوا: نتحدث بحديث الركب فقال عمار: صدق الله و رسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتذرون فأنزل الله تعالى الآيات.
عن الكلبي و علي بن إبراهيم و أبي حمزة.
و قيل: إن رجلا قال في غزوة تبوك: ما رأيت أكذب لسانا و لا أجبن عند اللقاء من هؤلاء يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت و لكنك منافق، و أراد أن يخبر رسول الله بذلك فجاء و قد سبقه الوحي فجاء الرجل معتذرا، و قال: إنما كنا نخوض و نلعب ففيه نزلت الآية، عن ابن عمر و زيد بن أسلم و محمد بن كعب.
و قيل: إن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا و كذا و ما يدريه ما الغيب؟ فنزلت الآية، عن مجاهد.
و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي و رهطه، عن الضحاك.
و في المجمع، أيضا: في قوله تعالى: «يحلفون بالله ما قالوا» الآية، اختلف في من نزلت فيه هذه الآية فقيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني الشيطان، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله: ما قالوا فأنزل الله هذه الآية: عن ابن عباس.
و قيل: خرج المنافقون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك فكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه و طعنوا في الدين فنقل ذلك حذيفة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: ما هذا الذي بلغني عنكم فحلفوا بالله: ما قالوا شيئا من ذلك.
عن الضحاك.
و قيل: نزلت في جلاس بن سويد بن الصامت، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب ذات يوم بتبوك و ذكر المنافقين فسماهم رجسا و عابهم، فقال الجلاس: و الله لئن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل و الله إن محمدا لصادق و أنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله.
فأمرهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر فحلف بالله ما قال ثم قام عامر فحلف بالله: لقد قال، ثم قال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا الصدق، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل (عليه السلام) قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ: «فإن يتوبوا يك خيرا لهم».
فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قال لك لقد قلته و أنا أستغفر الله و أتوب إليه، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك منه.
عن الكلبي و محمد بن إسحاق و مجاهد.
و قيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» عن قتادة.
و قيل: نزلت في أهل العقبة فإنهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عقبة عند مرجعهم من تبوك، و أرادوا أن يقطعوا أنساع راحلته ثم ينخسوا به فأطلعه الله على ذلك، و كان من جملة معجزاته لأنه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلا بوحي من الله تعالى.
فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة، و عمار و حذيفة معه، أحدهما يقود ناقته و الآخر يسوقها و أمر الناس كلهم بسلوك بطن الوادي، و كان الذين هموا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه عرفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سماهم واحدا واحدا، عن الزجاج و الواقدي و الكلبي، و القصة مشروحة في كتاب الواقدي.
و قال الباقر (عليه السلام): كانت ثمانية منهم من قريش و أربعة من العرب.
أقول: و الذي ذكره رحمه الله مما جمعه و اختاره من الروايات مروية في كتب التفسير بالمأثور و جوامع الحديث من كتب الفريقين و هناك روايات أخرى تركها و أحرى بها أن تترك فتركنا أكثرها كما ترك.
و أما الذي أورده من الروايات فشيء منها لا ينطبق على الآيات غير حديث العقبة الذي أورده تارة في تفسير الآية الأولى: «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة الآية، و تارة في تفسير الآية: «يحلفون بالله ما قالوا» الآية.
و أما سائر الروايات الواردة فإنما هي روايات تتضمن من متفرقات القصص و الوقائع ما لو صحت و ثبتت كانت من قصص المنافقين من غير أن ترتبط بهذه الآيات و هي كما عرفت في البيان السابق إحدى عشرة آية متصل بعضها ببعض مسرودة لغرض واحد، و هو الإشارة إلى قصة من قصص المنافقين هموا فيها باغتيال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تكلموا عند ذلك بكلمة الكفر فحال الله سبحانه بينهم و بين أن ينالوا ما هموا به فسألهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أمرهم و ما تفوهوا به فأولوا فعلهم و أنكروا قولهم و حلفوا على ذلك فكذبهم الله تعالى فيه.
فهذا إجمال ما يلوح من خلال الآيات، و لا ينطبق من بين الروايات إلا على الروايات المشتملة على قصة العقبة في الجملة دون سائرها.
و لا مسوغ للاستناد إليها في تفسير الآيات إلا على مسلك القوم من تحكيم الروايات بحسب مضمونها على الآيات سواء ساعدت على ذلك ألفاظ الآيات أو لم تساعد على ما فيها - أعني الروايات - من الاختلاف الفاحش الذي يوجب سوء الظن بها كما يظهر لمن راجعها.
على أن في الروايات مغمزا آخر و هو ظهورها في تقطع الآيات و تشتت بعضها و انفصاله عن بعض بنزول كل لسبب آخر و تعقيبه غرضا آخر، و قد عرفت أن الآيات ذات سياق واحد متصل ليس من شأنه إلا أن يعقب غرضا واحدا.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و أبو الشيخ عن الكلبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أقبل من غزوة تبوك و بين يديه ثلاثة رهط استهزءوا بالله و رسوله و بالقرآن قال: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له: يزيد بن وديعة فنزلت: «إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة» فسمى طائفة و هو واحد.
أقول: و هذا هو منشأ قول بعضهم: إن الطائفة تطلق على الواحد كما تطلق على الكثير مع أن الآية جارية مجرى الكناية دون التسمية و نظير ذلك كثير في الآيات القرآنية كما تقدمت الإشارة إليه.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت، و رجل من أشجع حليف لهم يقال له: مخشي بن حمير كانوا يسيرون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أ تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم و الله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال. قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ينجو من أن ينزل فينا قرآن فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا فإن هم أنكروا و كتموا فقل: بلى قد قلتم كذا و كذا فأدركهم فقال لهم فجاءوا يعتذرون فأنزل الله: «لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أن نعف عن طائفة منكم» الآية فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن، و سأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله فقتل باليمامة لا يعلم مقتله و لا من قتله و لا يرى له أثر و لا عين.
أقول: و قصة مخشي بن حمير وردت في عدة روايات غير أنها على تقدير صحتها لا تستلزم نزول الآيات فيها على ما بينها و بين مضامين الآيات من البون البعيد.
و ليس من الواجب علينا إذا عثرنا على شيء من القصص الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي قصة كانت أن نلجم بها آية من آيات القرآن الكريم ثم نعود فنفسر الآية بالقصة و نحكمها عليها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما أشبه الليلة بالبارحة: «كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة إلى قوله و خضتم كالذي خاضوا» هؤلاء بنو إسرائيل أشبهناهم، و الذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل رجل جحر ضب لدخلتموه: أقول: و رواه في المجمع، أيضا عنه. و في المجمع، عن تفسير الثعلبي عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ و فيه، أيضا عن تفسير الثعلبي عن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قلنا: و كيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم و هؤلاء أعلنوه. و في العيون، بإسناده عن القاسم بن مسلم عن أخيه عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «نسوا الله فنسيهم» فقال: إن الله تبارك و تعالى لا ينسى و لا يسهو، و إنما ينسى و يسهو المخلوق المحدث أ لا تسمعه عز و جل يقول: «و ما كان ربك نسيا»، و إنما يجازي من نسيه و نسي لقاء يومه أن ينسيهم أنفسهم كما قال عز و جل: «و لا تكونوا كالذين نسوا الله - فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون» " و " قوله عز و جل «فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا» أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا. و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): «نسوا الله» قال: تركوا طاعة الله «فنسيهم» قال: فتركهم. و فيه، عن أبي معمر السعداني قال: قال علي (عليه السلام): في قوله: «نسوا الله فنسيهم» فإنما يعني أنهم نسوا الله في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطاعة و لم يؤمنوا به و برسوله فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا فصاروا منسيين من الخير: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبي معمر عنه (عليه السلام). و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث قلت: «و المؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات» قال: أولئك قوم لوط ائتفكت عليهم أي انقلبت و صارت عاليها سافلها. و في التهذيب، بإسناده عن صفوان بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي و أعرفها بإسلامها ليس لها محرم فأحملها، قال: فاحملها فإن المؤمن محرم للمؤمنة. ثم تلا هذه الآية: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض»: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن صفوان الجمال عنه (عليه السلام). و في تفسير العياشي، عن ثوير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: إذا صار أهل الجنة في الجنة و دخل ولي الله إلى جناته و مساكنه، و اتكأ، كل مؤمن على أريكته حفته خدامه، و تهدلت عليه الأثمار، و تفجرت حوله العيون، و جرت من تحته الأنهار، و بسطت له الزرابي، و وضعت له النمارق، و أتته الخدام بما شاءت هواه من قبل أن يسألهم ذلك قال: و تخرج عليه الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء الله. ثم إن الجبار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنتي في جواري الأهل أنبئكم بخير مما أنتم فيه؟ فيقولون: ربنا و أي شيء خير مما نحن فيه: فيما اشتهت أنفسنا و لذت أعيننا من النعم في جوار الكريم؟. قال: فيعود عليهم القول فيقولون ربنا نعم فأتنا بخير مما نحن فيه فيقول تبارك و تعالى لهم: رضاي عنكم و محبتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه قال: فيقولون: نعم يا ربنا رضاك عنا و محبتك لنا خير و أطيب لأنفسنا. ثم قرأ علي بن الحسين (عليهما السلام) هذه الآية: «وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها و مساكن طيبة في جنات عدن - و رضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم». و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله: هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا و هل بقي شيء؟ إلا قد أنلتناه؟ فيقول: نعم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا.
أقول: و هذا المعنى وارد في روايات كثيرة من طرق الفريقين.
و في جامع الجوامع، عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عدن دار الله التي لم ترها عين و لم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون و الصديقون و الشهداء يقول الله: طوبى لمن دخلك.
أقول: و لا ينافي خصوص سكنة الجنة في الرواية عمومهم في الآية لدلالة قوله تعالى: «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم:» الحديد: - 19 على أن الله سبحانه سيلحق عامة المؤمنين بالصديقين و الشهداء.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين» الآية: قال حدثني أبي عن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاهد الكفار و المنافقين بإلزام الفرائض. و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما نزلت: «يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين» أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد بيده فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر.
أقول: و في الرواية تشويش من حيث ترتب أجزائها فالجهاد بالقلب بعد الجميع و قد تخلل بينها.
|