بيان
غرض السورة الإنذار و تسلك إليه بالإشارة إلى اختلاف مساعي الناس و أن منهم من أنفق و اتقى و صدق بالحسنى فسيمكنه الله من حياة خالدة سعيدة و منهم من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسيسلك الله به إلى شقاء العاقبة، و في السورة اهتمام و عناية خاصة بأمر الإنفاق المالي.
و السورة تحتمل المكية و المدنية بحسب سياقها.
قوله تعالى: «و الليل إذا يغشى» إقسام بالليل إذا يغشى النهار على حد قوله تعالى: «يغشى الليل النهار»: الأعراف: 54، و يحتمل أن يكون المراد غشيانه الأرض أو الشمس.
قوله تعالى: «و النهار إذا تجلى» عطف على الليل، و التجلي ظهور الشيء بعد خفائه، و التعبير عن صفة الليل بالمضارع و عن صفة النهار بالماضي حيث قيل: «يغشى» و «تجلى» تقدم فيه وجه في تفسير أول السورة السابقة.
قوله تعالى: «و ما خلق الذكر و الأنثى» عطف على الليل كسابقه، و «ما» موصولة و المراد به الله سبحانه و إنما عبر بما، دون من، إيثارا للإبهام المشعر بالتعظيم و التفخيم و المعنى و أقسم بالشيء العجيب الذي أوجد الذكر و الأنثى المختلفين على كونهما من نوع واحد.
و قيل: ما مصدرية و المعنى و أقسم بخلق الذكر و الأنثى و هو ضعيف.
و المراد بالذكر و الأنثى مطلق الذكر و الأنثى أينما تحققا، و قيل: الذكر و الأنثى من الإنسان، و قيل: المراد بهما آدم و زوجته حواء، و أوجه الوجوه أولها.
قوله تعالى: «إن سعيكم لشتى» السعي هو المشي السريع، و المراد به العمل من حيث يهتم به، و هو في معنى الجمع، و شتى جمع شتيت بمعنى المتفرق كمرضى جمع مريض.
و الجملة جواب القسم و المعنى أقسم بهذه المتفرقات خلقا و أثرا أن مساعيكم لمتفرقات في نفسها و آثارها فمنها إعطاء و تقوى و تصديق و لها أثر خاص بها، و منها بخل و استغناء و تكذيب و لها أثر خاص بها.
قوله تعالى: «فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى» تفصيل تفرق مساعيهم و اختلاف آثارها.
و المراد بالإعطاء إنفاق المال لوجه الله بقرينة مقابلته للبخل الظاهر في الإمساك عن إنفاق المال و قوله بعد: «و ما يغني عنه ماله إذا تردى».
و قوله: «و اتقى» كالمفسر للإعطاء يفيد أن المراد هو الإعطاء على سبيل التقوى الدينية.
و قوله: «و صدق بالحسنى» الحسنى صفة قائمة مقام الموصوف و الظاهر أن التقدير بالعدة الحسنى و هي ما وعد الله من الثواب على الإنفاق لوجهه الكريم و هو تصديق البعث و الإيمان به و لازمه الإيمان بوحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية، و كذا الإيمان بالرسالة فإنها طريق بلوغ وعده تعالى للثواب.
و محصل الآيتين أن يكون مؤمنا بالله و رسوله و اليوم الآخر و ينفق المال لوجه الله و ابتغاء ثوابه الذي وعده بلسان رسوله.
و قوله: «فسنيسره لليسرى» التيسير التهيئة و الإعداد و اليسرى الخصلة التي فيها يسر من غير عسر، و توصيفها باليسر بنوع من التجوز فالمراد من تيسيره لليسرى توفيقه للأعمال الصالحة بتسهيلها عليه من غير تعسير أو جعله مستعدا للحياة السعيدة عند ربه و دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة التي يأتي بها، و الوجه الثاني أقرب و أوضح انطباقا على ما هو المعهود من مواعد القرآن.
قوله تعالى: «و أما من بخل و استغنى و كذب بالحسنى فسنيسره للعسرى و ما يغني عنه ماله إذا تردى» البخل مقابل الإعطاء، و الاستغناء طلب الغنى و الثروة بالإمساك و الجمع، و المراد بالتكذيب بالحسنى الكفر بالعدة الحسنى و ثواب الله الذي بلغه الأنبياء و الرسل و يرجع إلى إنكار البعث.
و المراد بتيسيره للعسرى خذلانه بعدم توفيقه للأعمال الصالحة، بتثقيلها عليه و عدم شرح صدره للإيمان أو إعداده للعذاب.
و قوله: «و ما يغني عنه ماله إذا تردى» التردي هو السقوط من مكان عال و يطلق على الهلاك فالمراد سقوطه في حفرة القبر أو في جهنم أو هلاكه.
و «ما» استفهامية أو نافية أي أي شيء يغنيه ماله إذا مات و هلك أو ليس يغني عنه ماله إذا مات و هلك.
قوله تعالى: «إن علينا للهدى و إن لنا للآخرة و الأولى» تعليل لما تقدم من حديث تيسيره لليسرى و للعسرى أو الإخبار به بأوجز بيان، محصله أنا إنما نفعل هذا التيسير أو نبين هذا البيان لأنه من الهدى و الهدى علينا لا يزاحمنا في ذلك شيء و لا يمنعنا عنه مانع.
فقوله: «إن علينا للهدى» يفيد أن هدى الناس مما قضى سبحانه به و أوجبه على نفسه بمقتضى الحكمة و ذلك أنه خلقهم ليعبدوه كما قال: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: الذاريات: 56 فجعل عبادته غاية لخلقهم و جعلها صراطا مستقيما إليه كما قال: «إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم»: آل عمران: 51، و قال: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله»: الشورى: 53 و قضى على نفسه أن يبين لهم سبيله و يهديهم إليه بمعنى إراءة الطريق سواء سلكوها أم تركوها كما قال: «و على الله قصد السبيل و منها جائر»: النحل: 9، و قال: «و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل»: الأحزاب: 4 و قال: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا»: الإنسان: 3 و لا ينافي ذلك قيام غيره تعالى بأمر هذا المعنى من الهدى بإذنه كالأنبياء كما قال تعالى: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم»: الشورى: 52، و قال: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني»: يوسف: 108.
و قد تقدم لهذه المسألة بيان عقلي في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
هذا في الهداية بمعنى إراءة الطريق و أما الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب - و المطلوب في المقام الآثار الحسنة التي تترتب على الاهتداء بهدى الله و التلبس بالعبودية كالحياة الطيبة المعجلة في الدنيا و الحياة السعيدة الأبدية في الآخرة - فمن البين أنه من قبيل الصنع و الإيجاد الذي يختص به تعالى فهو مما قضى به الله و أوجبه على نفسه و سجله بوعده الحق قال تعالى: «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى»: طه: 123، و قال: «و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»: النحل: 97، و قال: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا»: النساء: 122.
و لا ينافي انتساب هذا المعنى من الهداية إليه تعالى بنحو الأصالة انتسابه إلى غيره تعالى بنحو التبع بتخلل الأسباب بينه تعالى و بين ما ينسب إليه من الأثر بإذنه.
و معنى الآية - إن كان المراد بالهدى إراءة الطريق - أنا إنما نبين لكم ما نبين لأنه من إراءة طريق العبودية و إراءة الطريق علينا، و إن كان المراد به الإيصال إلى المطلوب أنا إنما نيسر هؤلاء لليسرى من الأعمال الصالحة أو من الحياة السهلة الأبدية و دخول الجنة لأنه من إيصال الأشياء إلى غاياتها و علينا ذلك.
و أما التيسير للعسرى فهو مما يتوقف عليه التيسير لليسرى «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعضه فيركمه جميعا فيجعله في جهنم»: الأنفال: 37 و قد قال سبحانه في القرآن الذي هو هدى للعالمين: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: إسراء: 82.
و يمكن أن يكون المراد به مطلق الهداية أعم من الهداية التكوينية الحقيقية و التشريعية الاعتبارية - على ما هو ظاهر إطلاق اللفظ - فله تعالى الهداية الحقيقية كما قال: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50، و الهداية الاعتبارية كما قال: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا»: الإنسان: 3.
و قوله: «و إن لنا للآخرة و الأولى» أي عالم البدء و عالم العود فكل ما يصدق عليه أنه شيء فهو مملوك له تعالى بحقيقة الملك الذي هو قيام وجوده بربه القيوم و يتفرع عليه الملك الاعتباري الذي من آثاره جواز التصرفات.
فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة فلا يملك شيء منه شيئا فلا معارض يعارضه و لا مانع يمنعه و لا شيء يغلبه كما قال: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41 و قال: «و الله غالب على أمره»: يوسف: 21، و قال: «و يفعل الله ما يشاء»: إبراهيم: 27.
قوله تعالى: «فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب و تولى» تفريع على ما تقدم أي إذا كان الهدى علينا فأنذرتكم نار جهنم و بذلك يوجه ما في قوله: «فأنذرتكم» من الالتفات عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده أي إذا كان الهدى مقضية محتومة فالمنذر بالأصالة هو الله و إن كان بلسان رسوله.
و تلظى النار تلهبها و توهجها، و المراد بالنار التي تتلظى جهنم كما قال تعالى: «كلا إنها لظى»: المعارج: 15.
و المراد بالأشقى مطلق الكافر الذي يكفر بالتكذيب و التولي فإنه أشقى من سائر من شقي في دنياه فمن ابتلي في بدنه شقي و من أصيب في ماله أو ولده مثلا شقي و من خسر في أمر آخرته شقي و الشقي في أمر آخرته أشقى من غيره لكون شقوته أبدية لا مطمع في التخلص منها بخلاف الشقوة في شأن من شئون الدنيا فإنها مقطوعة لا محالة مرجوة الزوال عاجلا.
فالمراد بالأشقى هو الكافر المكذب بالدعوة الحقة المعرض عنها على ما يدل عليه توصيفه بقوله: «الذي كذب و تولى» و يؤيده إطلاق الإنذار، و أما الأشقى بمعنى أشقى الناس كلهم فمما لا يساعد عليه السياق البتة.
و المراد بصلي النار اتباعها و لزومها فيفيد معنى الخلود و هو مما قضى الله به في حق الكافر، قال تعالى: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة: 39.
و بذلك يندفع ما قيل: إن قوله: «لا يصلاها إلا الأشقى» ينفي عذاب النار عن فساق المؤمنين على ما هو لازم القصر في الآية، وجه الاندفاع أن الآية إنما تنفي عن غير الكافر الخلود فيها دون أصل الدخول.
قوله تعالى: «و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى» التجنيب التبعيد، و ضمير «سيجنبها» للنار، و المعنى سيبعد عن النار الأتقى.
و المراد بالأتقى من هو أتقى من غيره ممن يتقي المخاطر فهناك من يتقي ضيعة النفوس كالموت و القتل و من يتقي فساد الأموال و من يتقي العدم و الفقر فيمسك عن بذل المال و هكذا و منهم من يتقي الله فيبذل المال، و أتقى هؤلاء الطوائف من يتقي الله فيبذل المال لوجهه و إن شئت فقل يتقي خسران الآخرة فيتزكى بالإعطاء.
فالمفضل عليه للأتقى هو من لا يتقي بإعطاء المال و إن اتقى سائر المخاطر الدنيوية أو اتقى الله بسائر الأعمال الصالحة.
فالآية عامة بحسب مدلولها غير خاصة و يدل عليه توصيف الأتقى بقوله: «الذي يؤتي ماله» إلخ و هو وصف عام و كذا ما يتلوه، و لا ينافي ذلك كون الآيات أو جميع السورة نازلة لسبب خاص كما ورد في أسباب النزول.
و أما إطلاق المفضل عليه بحيث يشمل جميع الناس من طالح أو صالح و لازمه انحصار المفضل في واحد مطلقا أو واحد في كل عصر، و يكون المعنى و سيجنبها من هو أتقى الناس كلهم و كذا المعنى في نظيره: لا يصلاها إلا أشقى الناس كلهم فلا يساعد عليه سياق آيات صدر السورة، و كذا الإنذار العام الذي في قوله: «فأنذرتكم نارا تلظى» فلا معنى لأن يقال: أنذرتكم جميعا نارا لا يخلد فيها إلا واحد منكم جميعا و لا ينجو منها إلا واحد منكم جميعا.
و قوله: «الذي يؤتي ماله يتزكى» صفة للأتقى أي الذي يعطي و ينفق ماله يطلب بذلك أن ينمو نماء صالحا.
و قوله: «و ما لأحد عنده من نعمة تجزى» تقرير لمضمون الآية السابقة أي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى تلك النعمة بما يؤتيه من المال و تكافأ و إنما يؤتيه لوجه الله و يؤيد هذا المعنى تعقيبه بقوله: «إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى».
فالتقدير من نعمة تجزى به، و إنما حذف الظرف رعاية للفواصل، و يندفع بذلك ما قيل: إن بناء «تجزى» للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين.
قوله تعالى: «إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى» استثناء منقطع و المعنى و لكنه يؤتي ماله طلبا لوجه ربه الأعلى و قد تقدم كلام في معنى وجه الله تعالى و في معنى الاسم الأعلى.
قوله تعالى: «و لسوف يرضى» أي و لسوف يرضى هذا الأتقى بما يؤتيه ربه الأعلى من الأجر الجزيل و الجزاء الحسن الجميل.
و في ذكر صفتي الرب و الأعلى إشعار بأن ما يؤتاه من الجزاء أنعم الجزاء و أعلاه و هو المناسب لربوبيته تعالى و علوه، و من هنا يظهر وجه الالتفات في الآية السابقة في قوله: «وجه ربه الأعلى» من سياق التكلم وحده إلى الغيبة بالإشارة إلى الوصفين: ربه الأعلى.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): قول الله عز و جل «و الليل إذا يغشى» «و النجم إذا هوى» و ما أشبه ذلك؟ فقال: إن لله عز و جل أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلا به:. أقول: و رواه في الفقيه، بإسناده عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام):.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و الليل إذا يغشى» قال: حين يغشى النهار و هو قسم.
و عن الحميري في قرب الإسناد، عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: في تفسير «و الليل إذا يغشى» إن رجلا كان لرجل في حائطه نخلة فكان يضر به فشكى ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه فقال: أعطني نخلتك بنخلة في الجنة فأبى فسمع ذلك رجل من الأنصار يكنى أبا الدحداح فجاء إلى صاحب النخلة فقال: بعني نخلتك بحائطي فباعه فجاءه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله قد اشتريت نخلة فلان بحائطي فقال رسول الله: لك بدلها نخلة في الجنة. فأنزل الله تعالى على نبيه «و ما خلق الذكر و الأنثى - إن سعيكم لشتى فأما من أعطى» يعني النخلة «و اتقى و صدق بالحسنى» هو ما عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسنيسره لليسرى إلى قوله تردى»:. أقول: و رواه القمي في تفسيره، مرسلا مضمرا:، و قوله: الزوجين تفسير منه (عليه السلام) للذكر و الأنثى.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و سيجنبها الأتقى» قال: أبو الدحداح.
أقول: هذا ما من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و روى الطبرسي في مجمع البيان، القصة عن الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس و فيه أن الأنصاري ساوم صاحب النخلة في نخلة في نخلته ثم اشتراها منه بأربعين نخلة ثم وهبها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوهبها النبي لصاحب الدار، ثم روى الطبرسي عن عطاء أن اسم الرجل أبو الدحداح:، و روى السيوطي في الدر المنثور، القصة عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس و ضعفه.
و قد ورد من طرق أهل السنة أن السورة نزلت في أبي بكر قال الرازي في التفسير الكبير،: أجمع المفسرون منا على أن المراد منه - يعني من الأتقى - أبو بكر، و اعلم أن الشيعة بأسرهم ينكرون هذه الرواية، و يقولون إنما نزلت في حق علي بن أبي طالب و الدليل عليه قوله تعالى: «و يؤتون الزكاة و هم راكعون» فقوله: «الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى» إشارة إلى ما في تلك الآية من قوله: «و يؤتون الزكاة و هم راكعون» ثم أخذ الأتقى بمعنى أفضل الخلق أي أتقى الناس جميعا و قد تقدم الكلام فيه.
أما ما نسب إلى الشيعة بأسرهم من القول فالمعتمد عليه من طرقهم صحيح الحميري المتقدم و ما في معناه من الروايات الدالة على نزولها في أبي الدحداح الأنصاري.
نعم ورد في رواية ضعيفة عن البرقي عن إسماعيل بن مهران عن أيمن بن محرز عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) و فيها، و أما قوله: «و سيجنبها الأتقى» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و من تبعه، و «الذي يؤتي ماله يتزكى» قال: ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام) و هو قوله: «و يؤتون الزكاة و هم راكعون» و قوله: «و ما لأحد عنده من نعمة تجزى» فهو رسول الله الذي ليس لأحد عنده من نعمة تجزى و نعمته جارية على جميع الخلق (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الرواية على ضعف سندها من قبيل الجري و التطبيق دون التفسير و من واضح الدليل عليه تطبيقه الموصوف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصف على علي (عليه السلام) ثم الآية التالية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لو كانت من التفسير لفسد بذلك النظم قطعا.
هذا لو كانت الواو في قوله: «و الذي يؤتي ماله يتزكى» من الرواية و لو فرضت من الآية كانت الرواية من روايات التحريف المردودة.
و عن الحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال، قلت: قول الله تبارك و تعالى «إن علينا للهدى» قال: إن الله يهدي من يشاء و يضل من يشاء. فقلت له: أصلحك الله إن قوما من أصحابنا يزعمون أن المعرفة مكتسبة و أنهم إن ينظروا من وجه النظر أدركوه. فأنكر ذلك و قال: ما لهؤلاء القوم لا يكتسبون الخير لأنفسهم؟ ليس أحد من الناس إلا و يجب أن يكون خيرا ممن هو خير منه هؤلاء بنو هاشم موضعهم موضعهم و قرابتهم قرابتهم و هم أحق بهذا الأمر منكم أ فترى أنهم لا ينظرون لأنفسهم؟ و قد عرفتم و لم يعرفوا.
قال أبو جعفر: لو استطاع الناس لأحبونا.
أقول: أما الهداية - و المراد بها الإيصال إلى المطلوب - فهي لله تعالى لأنها من شئون الربوبية، و أما الإضلال و المراد به الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي الذي لا يضاف إليه تعالى فهو الله أيضا لكونه إمساكا عن إنزال الرحمة و عدما للهداية و إذا كانت الهداية له فالإمساك عنه أيضا منسوب إليه تعالى.
|