بيان
الآيات تحاج المشركين في عدة من الأحكام في الأطعمة و غيرها دائرة بين المشركين و تذكر حكم الله فيها.
قوله تعالى: «و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا» إلى آخر الآية، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع و كأن الأصل في معناه الظهور، و الحرث الزرع، و قوله: «بزعمهم» في قوله: «فقالوا هذا لله بزعمهم» نوع من التنزيه كقوله: «و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه»: الأنبياء: 26.
و الزعم الاعتقاد و يستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه.
و قوله: «و هذا لشركائنا» أضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين أثبتوها و اعتقدوا بها نظير أئمة الكفر و أئمتهم و أوليائهم، و قيل: أضيفت الشركاء إليهم لأنهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لأنفسهم.
و كيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله: «فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا» من تفريع التفصيل على الإجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا من خلقه، و فيه توطئة و تمهيد لتفريع حكم آخر عليه، و هو الذي يذكره في قوله: «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم».
و إذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله و كونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبحه بقوله: «ساء ما يحكمون» و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم» إلى آخر الآية.
قرأ غير ابن عامر «زين» بفتح الزاي فعل معلوم، و «قتل» بنصب اللام مفعول «زين» و هو مضاف إلى «أولادهم» بالجر و هو مفعول «قتل» أضيف إليه، و «شركاؤهم» فاعل «زين».
و المعنى أن الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين و الحب الوهمي في نفوسهم زينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم و يجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى الآلهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيين و الصابئين، و هذا غير مسألة الوأد التي كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصة.
و قيل: المراد بالشركاء الشياطين، و قيل: خدمة الأصنام، و قيل: الغواة من الناس.
و قرأ ابن عامر: «زين» بضم الزاي مبنيا للمفعول «قتل» بضم اللام نائب عن فاعل زين «أولادهم» بالنصب مفعول المصدر أعني «قتل» تخلل بين المضاف و المضاف إليه «شركائهم» بالجر مضاف إليه و فاعل للمصدر.
و قوله تعالى: «ليردوهم و ليلبسوا عليهم دينهم» الإرداء: الإهلاك، و المراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله و البغي على خلقه، و خلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحق، فضمير «هم» في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين.
و قيل: المراد به الإهلاك بظاهر معنى القتل، و لازمه رجوع أول الضمائر إلى الأولاد و الثاني و الثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و قالوا هذه أنعام و حرث حجر» إلى آخر الآية.
الحجر بكسر الحاء المنع و يفسره قوله بعده: «لا يطعمها إلا من نشاء» أي هذه الأنعام و الحرث حرام إلا على من نشاء أن نأذن لهم، و روي: أنهم كانوا يقدمونها لآلهتهم و لا يحلون أكلها إلا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم.
و قوله: «و أنعام حرمت ظهورها» أي و قالوا: هذه أنعام حرمت ظهورها أو و لهم أنعام حرمت ظهورها، و هي السائبة و البحيرة و الحامي التي نفاها الله تعالى في قوله: «ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام و لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب و أكثرهم لا يعقلون»: المائدة: 103 و قيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة.
و قوله: «و أنعام لا يذكرون اسم الله عليها» أي و لهم أنعام إلخ و هي الأنعام التي كانوا يهلون عليها بأصنام لا باسم الله، و قيل: هي التي كانوا لا يركبونها في الحج، و قيل: أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شأن من شئونها، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و قالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا» إلى آخر الآية، المراد بما في البطون أجنة البحائر و السيب، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون النساء و إن ولدت ميتة أكله الرجال و النساء جميعا، و قيل: المراد بها الألبان، و قيل: الأجنة و الألبان جميعا.
و المراد بقوله: «سيجزيهم وصفهم» سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا و عذابا عليهم ففيه نوع من العناية، و قيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، و قيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم» إلخ، رد لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام المفتراة و هي قتل الأولاد و تحريم أصناف من الأنعام و الحرث و ذكر أن ذلك منهم خسران و ضلال من غير اهتداء.
و قد وصف قتل الأولاد بأنه سفه بغير علم، و كذلك بدل الأنعام و الحرث من قوله ما رزقهم الله و وصف تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لأنهم سفهوا به سفها بغير علم، و خسروا في تحريمهم أصنافا من الأنعام و الحرث افتراء على الله لأنها من رزق الله و حاشاه تعالى أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم.
ثم بين تعالى ضلالهم في تحريم الحرث و الأنعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا بالاحتجاج من ناحية العقل و مصلحة معاش العباد بقوله: «و هو الذي أنشأ جنات» إلى تمام أربع آيات، ثم من ناحية السمع و نزول الوحي بقوله: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه» إلى تمام الآية.
فيكون محصل الآيات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث و الأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجة فلا العقل و رعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك، و لا الوحي النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.
قوله تعالى: «و هو الذي أنشأ جنات معروشات و غير معروشات - إلى قوله - و غير متشابه» الشجرة المعروشة هي التي ترفع أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم و أصل العرش الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم و نحوها، و الجنات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم.
و قوله: «و الزرع مختلفا أكله» أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة و الشعير و العدس و الحمص.
و قوله: «و الزيتون و الرمان متشابها و غير متشابه» أي متشابه كل منها و غير متشابه على ما يفيده السياق، و التشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك.
قوله تعالى: «كلوا من ثمره إذا أثمر» إلى آخر الآية، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الذي يدل عليه إنشاء الجنات و النخل و الزرع و غيرها، و السياق يدل على أن تقدير الكلام: و هو الذي أنشأ جنات و النخل و الزرع إلخ، و أمركم بأكل ثمر ما ذكر و أمركم بإيتاء حقه يوم حصاده، و نهاكم عن الإسراف.
فأي دليل أدل من ذلك على إباحتها؟ و قوله: «و آتوا حقه يوم حصاده» أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع إلى الثمر و أضيف إليه الحق لتعلقه به كما يضاف الحق أيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم و ربما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الذي بعده في قوله: «إنه لا يحب المسرفين» و إضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.
و هذا إشارة إلى جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب و الفواكه يؤدي إليهم يوم الحصاد يدل عليه العقل و يمضيه الشرع و ليس هو الزكاة المشرعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الآية زكاة.
على أن الآية مكية و حكم الزكاة مدني.
نعم لا يبعد أن يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية نازلة على وجه الإجمال و الإبهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات عند تعداد كليات المحرمات: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم إلى أن قال - و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن»: الأنعام: 151.
و قوله: «و لا تسرفوا» إلخ، أي لا تتجاوزوا الحد الذي يصلح به معاشكم بالتصرف فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله و هكذا، و لا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه و نحو ذلك، ففي الكلام إطلاق، و الخطاب فيه لجميع الناس.
و أما قول بعضهم: إن الخطاب في «لا تسرفوا» مختص بأرباب الأموال، و قول بعض آخر: إنه متوجه إلى الإمام الآخذ للصدقة، و كذا قول بعضهم: إن معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، و قول بعض آخر: إن المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، و قول ثالث: إن المعنى لا تنفقوه في المعصية، كل ذلك مدفوع بالإطلاق و السياق.
قوله تعالى: «و من الأنعام حمولة و فرشا» إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل، و الفرش أصاغرها لأنها كأنها تفترش على الأرض أو لأنها توطأ كما يوطأ الفرش، و قوله: «كلوا مما رزقكم الله» إباحة للأكل و إمضاء لما يدل عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة: «كلوا من ثمره»، و قوله: «لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله، و قد تقدم أن المراد باتباع خطوات الشيطان تحريم ما أحله الله بغير علم.
قوله تعالى: «ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين» إلى آخر الآية، تفصيل للأنعام بعد الإجمال و المراد به تشديد اللوم و التوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة من الصور و الوجوه، فقوله: «ثمانية أزواج» عطف بيان من «حمولة و فرشا» في الآية السابقة.
و الأزواج جمع زوج، و يطلق الزوج على الواحد الذي يكون معه آخر و على الاثنين، و أنواع الأنعام المعدودة أربعة: الضأن و المعز و البقر و الإبل، و إذا لوحظت ذكرا و أنثى كانت ثمانية أزواج.
و المعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر و الأنثى و من المعز زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن و المعز حرم الله أم الأنثيين منهما أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن و المعز نبئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.
قوله تعالى: «و من الإبل اثنين و من البقر اثنين - إلى قوله - الأنثيين» معناه ظاهر مما مر، و قيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهلي و الوحشي.
قوله تعالى: «أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا» إلى آخر الآية.
هذا شق من ترديد حذف شقه الآخر على ما يدل عليه الكلام، و تقديره: أ علمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك و شافهتموه فادعيتم ذلك.
و قوله: «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» إلخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب و على ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، و يكون قوله: «ممن افترى» إلخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاري و التقدير: لا أظلم منكم لأنكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم، و إذ ظلمتم فإنكم لا تهتدون إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه» إلخ، معنى الآية ظاهر، و قد تقدم في نظيره الآية من سورة المائدة آية 3، و في سورة البقرة آية 173 ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: «و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» إلخ، الظفر واحد الأظفار و هو العظم النابت على رءوس الأصابع، و الحوايا المباعر قال في المجمع:، موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور و تقديره: أو ما حملت الحوايا، و يحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله: «إلا ما حملت» فأما قوله: «أو ما اختلط بعظم» فإن ما هذه معطوفة على ما الأولى انتهى و الوجه الأول أقرب.
ثم قال: ذلك في قوله - ذلك جزيناهم - يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنه يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، و هذا إنما يجوز في ضرورة الشعر.
انتهى.
و الآية كأنها في مقام الاستدراك و دفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بني إسرائيل من طيبات ما رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلا بحسب طبعه الأولى كما يشير إلى ذلك قوله: «كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة»: آل عمران: 93 و قوله: «فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم و بصدهم عن سبيل الله كثيرا»: النساء: 160.
قوله تعالى: «فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة» إلى آخر الآية، معنى الآية ظاهر، و فيها أمر بإنذارهم و تهديدهم إن كذبوا بالبأس الإلهي الذي لا مرد له لكن لا ببيان يسلط عليهم اليأس و القنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، و لذلك قدم عليه قوله: «ربكم ذو رحمة واسعة».
قوله تعالى: «سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شيء» الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها و إنما يركنون فيها إلى الظن و التخمين، و الكلمة كلمة حق وردت في كثير من الآيات القرآنية لكنها لا تنتج ما قصدوه منها.
فإنهم إنما احتجوا بها لإثبات أن شركهم و تحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك و التحريم لكنا مضطرين على ترك الشرك و التحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك و التحريم فلا بأس بهذا الشرك و التحريم.
و هذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة و إنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار و الإجبار فهم مختارون في الشرك و الكف عنه و في التحريم و تركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به و رفض الافتراض فلله الحجة البالغة و لا حجة لهم في ذلك إلا اتباع الظن و التخمين.
قوله تعالى: «قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين» كأن الفاء الأولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم «لو شاء الله ما أشركنا» إلخ، و الفاء الثانية للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها.
و المعنى أن نتيجة الحجة قد التبست عليكم بجهلكم و اتباعكم الظن و خرصكم في المعارف الإلهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك و ترك الافتراء عليه، و أن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين و أجبركم على الإيمان و ترك الشرك و التحريم، و إذ لم يجبركم على ذلك و أبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك و التحريم.
و بعبارة أخرى: يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لأنه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين، و لم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.
و قد بين تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الإيمان و لم يشأ منهم ذلك بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه و هذا الإذن الذي هو رفع المانع التكويني هو اختيار العباد و قدرتهم على جانبي الفعل و الترك، و هذا الإذن لا ينافي الأمر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الأساس الذي يبتني عليه الأمر و النهي.
قوله تعالى: «قل هلم شهداءكم الذين يشهدون» إلى آخر الآية.
هلم شهداءكم أي هاتوا شهداءكم و هو اسم فعل يستوي فيه المفرد و المثنى و المجموع، و المراد بالشهادة شهادة الأداء و الإشارة بقوله: «هذا» إلى ما ذكر من المحرمات عندهم، و الخطاب خطاب تعجيزي أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم.
و قوله: «فإن شهدوا فلا تشهد معهم» في معنى الترقي، و المعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم و لا يعبأ بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون أهواءهم.
فقوله: «و لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا» إلخ، عطف تفسير لقوله: «فإن شهدوا فلا تشهد معهم» أي إن شهادتك اتباع لأهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع الأهواء، و كيف لا؟ و هم قوم كذبوا بآيات الله الباهرة، و لا يؤمنون بالآخرة و يعدلون بربهم غيره من خلقه كالأوثان، و لا يجترىء على ذلك مع كمال البيان و سطوع البرهان إلا الذين يتبعون الأهواء.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله» الآية قال: إنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا: الله أغنى، و إذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، و إذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا: الله أغنى: عن ابن عباس و قتادة، و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و كذلك زين لكثير من المشركين» الآية قال: قال: يعني أن أسلافهم زينوا لهم قتل أولادهم.
و فيه،: في قوله تعالى: «و قالوا هذه أنعام و حرث حجر» قال: قال: الحجر المحرم.
و فيه،: في قوله تعالى: «و هو الذي أنشأ جنات» الآيات قال: قال: البساتين.
و فيه، في قوله تعالى: «و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين» الآية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله: «و آتوا حقه يوم حصاده» قال: الضغث من السنبل و الكف من التمر إذا خرص. قال: و سألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.
و فيه، عن أحمد بن إدريس عن البرقي عن سعد بن سعد عن الرضا (عليه السلام): أنه سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شيء.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، و حق تعطيه. قلت: و ما الذي أوخذ به؟ و ما الذي أعطيه؟ قال: أما الذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أما الذي تعطيه فقول الله عز و جل: «و آتوا حقه يوم حصاده» يعني من حصدك الشيء بعد الشيء و لا أعلمه إلا قال: الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.
و فيه، بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن قوله الله عز و جل: «و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا» قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، و كان أبي إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة و الضغث بعد الضغث من السنبل.
و فيه، بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في أرض له و هم يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم و إن أمسكتم فلكم.
و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنى قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و آتوا حقه يوم حصاده و لا تسرفوا - إنه لا يحب المسرفين» فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري و سماه و كان له حرث، و كان إذا أجذ يتصدق به و يبقى هو و عياله بغير شيء فجعل الله عز و جل ذلك إسرافا.
أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإن الآية مكية، و لعل المراد بالأنصاري المذكور ثابت بن قيس بن شماس و قد روى الطبري و غيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى و ليست له تمره فأنزل الله: و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، و الآية كما تقدم مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجري و الانطباق.
و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط.
أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر و أبي عبد الله و أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كثيرة جدا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و النحاس و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «و آتوا حقه يوم حصاده» قال: ما سقط من السنبل.
و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: «و آتوا حقه يوم حصاده» قال: نسخها العشر و نصف العشر.
أقول: ليست النسبة بين الآية و آية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها.
و فيه، أخرج أبو عبيد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن الضحاك قال: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن.
أقول: الكلام فيه كسابقه.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبو الشيخ عن ميمون بن مهران و يزيد بن الأصم قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله: «و آتوا حقه يوم حصاده». و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ثمانية أزواج من الضأن اثنين و من المعز اثنين» الآية: فهذه التي أحلها الله في كتابه في قوله: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج» ثم فسرها في هذه الآية فقال: «من الضأن اثنين و من المعز اثنين و من الإبل اثنين و من البقر اثنين» فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «من الضأن اثنين» عنى الأهلي و الجبلي «و من المعز اثنين» عنى الأهلي و الوحشي الجبلي «و من البقر اثنين» عنى الأهلي و الوحشي الجبلي «و من الإبل اثنين» يعني البخاتي و العراب، فهذه أحلها الله.
أقول: و روي ما يؤيد ذلك في الكافي و الاختصاص و تفسير العياشي عن داود الرقي و صفوان الجمال عن الصادق (عليه السلام).
و يبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله: «ثمانية أزواج من الضأن اثنين» الآية هو الذي في قوله: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج» أو غيره، و سيوافيك إن شاء الله تعالى.
و في تفسير العياشي، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن سباع الطير و الوحش حتى ذكر له القنافذ و الوطواط و الحمير و البغال و الخيل فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، و إنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، و قال: قرأ هذه الآيات «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه - إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به».
أقول: و في معناه أخبار أخر مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و في عدة منها: إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه و لكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها، و هنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش و ذوات المخالب من الطير و غير ذلك، و الأمر في روايات أهل السنة على هذا النحو و المسألة فقهية مرجعها الفقه، و إذا تمت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنما هي مما حرمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخباثا له و قد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه، قال تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث» الآية: الأعراف: 157.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الآية: أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم: ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد (عليهما السلام) و قد سئل عن قوله تعالى: «فلله الحجة البالغة» فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدي كنت عالما؟ فإن قال: نعم قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلا قال: أ فلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة.
أقول: و هو من بيان المصداق.
|