بيان
آيات تبين أن الأعمال إنما تكون حية مرضية إذا صدرت عن حقيقة الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر و إلا فإنما هي حبط لا تهدي صاحبها إلى سعادة، و إن من لوازم الإيمان بحقيقته قصر الولاية و الحب و الوداد في الله و رسوله.
و هي ظاهرة الاتصال و الارتباط فيما بينها أنفسها، و أما اتصالها بما تقدمها من الآيات فليس بذاك الوضوح، و ما ذكره بعض المفسرين في وجه اتصالها بما قبلها لا يخلو من تكلف.
قوله تعالى: «ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر» العمارة ضد الخراب يقال: عمر الأرض إذا بنى بها بناء، و عمر البيت إذا أصلح ما أشرف منها على الفساد، و التعمير بمعناه و منه العمر لأنه عمارة البدن بالروح، و العمرة بمعنى زيارة البيت الحرام لأن فيها تعميره.
و المسجد اسم مكان بمعنى المحل الذي يتعلق به السجدة كالبيت الذي يبنى ليسجد فيه الله تعالى، و أعضاء السجدة التي تتعلق بها السجدة نوع تعلق و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و رءوس إبهامي القدمين.
و قوله: «ما كان للمشركين» الآية لنفي الحق و الملك فإن اللام للملك و الحق، و النفي الحالي للكون السابق يفيد أنه لم يتحقق منهم سبب سابق يوجب لهم أن يملكوا هذا الحق و هو حق أن يعمروا مساجد الله و يرموا ما استرم منها أو يزوروها كقوله تعالى: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى:» الأنفال: - 67 و قوله: «و ما كان لنبي أن يغل:» آل عمران: - 161.
و المراد بالعمارة في قوله: «أن يعمروا» إصلاح ما أشرف على الخراب من البناء و رم ما استرم منه دون عمارة المسجد بالزيارة فإن المراد بمساجد الله هي المسجد الحرام و كل مسجد لله و لا عمرة في غير المسجد الحرام، و الدخول في المساجد للعبادة فيها و إن أمكن أن يسمى عمارة و زيارة لكن التعبير المعهود من القرآن فيه الدخول.
على أن في قوله في الآية الآتية: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام» تأييدا ما لكون المراد بالعمارة هو إصلاح البناء دون زيارة البيت الحرام.
و المراد بمساجد الله بيوت العبادة المبنية لله لكن السياق يدل على أن المراد نفي جواز عمارتهم للمسجد الحرام، و يؤيده قراءة من قرأ «أن يعمروا مسجد الله» بالإفراد.
و لا ضير في التعبير بالجمع و المقصود الأصيل بيان حكم فرد خاص من أفراده لأن الملاك عام، و التعليل الوارد في الآية غير مقيد بخصوص المسجد الحرام فالكلام في معنى: ما كان لهم أن يعمروا المسجد الحرام لأنه مسجد و المساجد من شأنها ذلك.
و قوله: «شاهدين على أنفسهم بالكفر» المراد بالشهادة أداؤها و هو الاعتراف إما قولا كمن يعترف بالكفر لفظا، و إما فعلا كمن يعبد الأصنام و يتظاهر بكفره فكل ذلك من الشهادة و الملاك واحد.
فمعنى الآية: لا يحق و لا يجوز للمشركين أن يرموا ما استرم من المسجد الحرام كسائر مساجد الله و الحال أنهم معترفون بالكفر بدلالة قولهم أو فعلهم.
قوله تعالى: «أولئك حبطت أعمالهم و في النار هم خالدون» في مقام التعليل لما أفيد من الحكم في قوله: «ما كان» إلخ و لذلك جيء به بالفصل دون الوصل.
و المراد بالجملة الأولى بيان بطلان الأثر و ارتفاعه عن أعمالهم، و العمل إنما يؤتى به للتوسل به إلى أثر مطلوب، و إذ كانت أعمالهم حابطة لا أثر لها لم يكن ما يجوز لهم الإتيان بها، و الأعمال العبادية كعمارة مساجد الله إنما تقصد لما يطمع فيه و يرجى من أثرها و هو السعادة و الجنة، و العمل الحابط لا يتعقب سعادة و لا جنة البتة.
و المراد بالجملة الثانية بيان ظرفهم الذي يستقرون فيه لو لا السعادة و الجنة و هو النار فكأنه قيل: أولئك لا يهديهم أعمالهم العبادية إلى الجنة بل هم في النار الخالدة، و لا تفيد لهم سعادة بل هم في الشقاوة المؤبدة.
و في الآية دلالة على أصلين لطيفين من أصول التشريع: أحدهما: أن تشريع الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجبات و المستحبات و المباحات يتوقف على أثر في الفعل ينتفع به فاعله فلا لغو مشروعا في الدين، و هذا أصل يؤيده العقل، و هو منطبق على الناموس الجاري في الكون: أن لا فعل إلا لنفع عائد إلى فاعله.
و ثانيهما: أن الجواز في جميع موارده مسبوق بحق مجعول من الله لفاعله في أن يأتي بالفعل من غير مانع.
قوله تعالى: «إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر» الآية السياق كاشف عن أن الحصر من قبيل قصر الإفراد كان متوهما يتوهم أن للمشركين و المؤمنين جميعا أن يعمروا مساجد الله فأفرد و قصر ذلك في المؤمنين، و لازم ذلك أن يكون المراد بقوله: «يعمر» إنشاء الحق و الجواز في صورة الإخبار دون الإخبار، و هو ظاهر.
و قد اشترط سبحانه في ثبوت حق العمارة و جوازها أن يتصف العامر بالإيمان بالله و اليوم الآخر قبال ما نفى عن المشركين أن يكون لهم ذلك و لم يقنع بالإيمان بالله وحده لأن المشركين يذعنون به تعالى بل شفع ذلك بالإيمان باليوم الآخر لأن المشركين ما كانوا مؤمنين به، و بذلك يختص حق العمارة و جوازها بأهل الدين السماوي من المؤمنين.
و لم يقنع بذلك أيضا بل ألحق به قوله: «و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش إلا الله» لأن المقام مقام بيان من ينتفع بعمله فيحق له بذلك أن يقترفه، و من كان تاركا للفروع المشروعة في الدين و خاصة الركنين: الصلاة و الزكاة فهو كافر بآيات الله لا ينفعه مجرد الإيمان بالله و اليوم الآخر و إن كان مسلما، إذا لم ينكرها بلسانه، و لو أنكرها بلسانه أيضا كان كافرا غير مسلم.
و قد خص من بينها الصلاة و الزكاة بالذكر لكونهما الركنين الذين لا غنى عنهما في حال من الأحوال.
و بما ذكرنا من اقتضاء المقام يظهر أن المراد بقوله: «و لم يخش إلا الله» الخشية الدينية و هي العبادة دون الخشية الغريزية التي لا يسلم منها إلا المقربون من أولياء الله كالأنبياء قال تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله:» الأحزاب: - 39.
و الوجه في التكنية عن العبادة بالخشية أن الأعرف عند الإنسان من علل اتخاذ الإله للعبادة الخوف من سخطه أو الرجاء لرحمته و رجاء الرحمة، أيضا يعود بوجه إلى الخوف من انقطاعها و هو السخط فمن عبد الله سبحانه أو عبد شيئا من الأصنام فقد دعاه إلى ذلك أما الخوف من شمول سخطه أو الخوف من انقطاع نعمته و رحمته فالعبادة ممثلة للخوف و الخشية مصداق لها لتمثيلها إياها، و بينهما حالة الاستلزام، و لذلك كني بها عنها، فالمعنى - و الله أعلم - و لم يعبد أحدا من دون الله من الآلهة.
و قوله: «فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين» أي أولئك الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و لم يعبدوا أحدا غير الله سبحانه يرجى في حقهم أن يكونوا من المهتدين، و هذا الرجاء قائم بأنفسهم أو بأنفس المخاطبين بالآية، و أما هو تعالى فمن المستحيل أن يقوم به الرجاء الذي لا يتم إلا مع الجهل بتحقق الأمر المرجو الحصول.
و إنما أخذ الاهتداء مرجو الحصول لا محقق الوقوع مع أن من آمن بالله و اليوم الآخر حقيقة و حققه أعماله العبادية فقد اهتدى حقيقة لأن حصول الاهتداء مرة أو مرات لا يستوجب كون العامل من المهتدين، و استقرار صفة الاهتداء و لزومها له، فالتلبس بالفعل الواقع مرة أو مرات غير التلبس بالصفة اللازمة فأولئك حصول الاهتداء لهم محقق، و أما حصول صفة المهتدين فهو مرجو التحقق لا محقق.
و قد تحصل من الآية أن عمارة المساجد لا تحق و لا تجوز لغير المسلم أما المشركون فلعدم إيمانهم بالله و اليوم الآخر، و أما أهل الكتاب فلأن القرآن لا يعد إيمانهم بالله إيمانا قال تعالى: «إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا:» النساء: - 151، و قال أيضا في آية 29 من السورة: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب» الآية.
قوله تعالى: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله» الآية، السقاية كالحكاية و الجناية و النكاية مصدر يقال: سقى يسقي سقاية.
و السقاية أيضا الموضع الذي يسقى فيه الماء، و الإناء الذي يسقى به قال تعالى: «جعل السقاية في رحل أخيه:» يوسف: - 70، و قد رووا في الآثار أن سقاية الحاج كانت إحدى الشئونات الفاخرة و المآثر التي يباهى بها في الجاهلية، و أن السقاية كانت حياضا من آدم على عهد قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توضع بفناء الكعبة، و يستقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل، و يسقي الحاج فجعل قصي أمر السقاية عند وفاته لابنه عبد مناف و لم يزل في ولده حتى ورثه العباس بن عبد المطلب.
و سقاية العباس هو الموضع الذي كان يسقى فيه الماء في الجاهلية و الإسلام و هو في جهة الجنوب من زمزم بينهما أربعون ذراعا، و قد بني عليه بناء هو المعروف اليوم بسقاية العباس.
و المراد بالسقاية في الآية - على أي حال - معناها المصدري و هو السقي، و يؤيده مقابلتها في الآية عمارة المسجد الحرام و المراد بها المعنى المصدري قطعا بمعنى الشغل.
و قد قوبل في الآية سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام بمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله، و لا معنى لدعوى المساواة بين الإنسان و بين عمل من الأعمال كالسقاية و العمارة أو نفيها فالمعادلة و المساواة إما بين عمل و عمل أو بين إنسان ذي عمل و إنسان ذي عمل.
و لذلك اضطر المفسرون إلى القول بأن تقدير الكلام: أ جعلتم أهل سقاية الحاج و أهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله و اليوم الآخر حتى يستقيم السياق.
و أوجب منه النظر في قيود الكلام المأخوذة في الآية الكريمة فقد أخذ في أحد الجانبين سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام وحدهما من غير أي قيد زائد، و في الجانب الآخر الإيمان بالله و اليوم الآخر و الجهاد في سبيل الله و إن شئت فقل: الجهاد في سبيل الله مع اعتبار الإيمان معه.
و هو يدل على أن المراد: السقاية و العمارة خاليتين من الإيمان، و يؤيده قوله تعالى في ذيل الآية: «و الله لا يهدي القوم الظالمين» على تقدير كونه تعريضا لأهل السقاية و العمارة لا تعريضا لمن يسوى بينهما كما يتبادر من السياق.
و هذا يكشف أولا عن أن هؤلاء الذين كانوا يسوون بين كذا و كذا و بين كذا إنما كانوا يسوون بين عمل جاهلي خال عن الإيمان بالله و اليوم الآخر كالسقاية و العمارة من غير أن يكون عن إيمان، و بين عمل ديني عن إيمان بالله و اليوم الآخر كالجهاد في سبيل الله عن إيمان، أي كانوا يسوون بين جسد عمل لا حياة فيه و بين عمل حي طيب نفعه فأنكره الله عليهم.
و ثانيا: أن هؤلاء المسوين كانوا من المؤمنين يسوون بين عمل من غير إيمان، كان صدر عنهم قبل الإيمان أو صدر عن مشرك غيرهم، و بين عمل صدر عن مؤمن بالله عن محض الإيمان حال إيمانه كما يشهد به سياق الإنكار و بيان الدرجات في الآيات.
بل يشعر بل يدل ذكر نفس السقاية و العمارة من غير ذكر صاحبهما على أن صاحبيهما كانا من أهل الإيمان عند التسوية فلم يذكرا حفظا لكرامتهما و هما مؤمنان حين الخطاب و وقاية لهما بالنظر إلى التعريض الظاهر الذي في آخر الآية من أن يسميا ظالمين.
بل يدل قوله تعالى في الآية التالية في مقام بيان أجر هؤلاء المجاهدين في سبيل الله عن إيمان: «الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله» على أن طرفي التسوية في قوله: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن» الآية كانا من أهل مكة، و أن أهل أحد الطرفين و هو الذي آمن و جاهد كان ممن أسلم و هاجر، و أهل الطرف الآخر أسلم و لم يهاجر فإن هذا هو الوجه في ذكره تعالى أولا الإيمان و الجهاد في أحد الطرفين ثم إضافة الهجرة إلى ذلك عند ما أعيد ثانيا، و قد ذكر تعالى السقاية و العمارة في الجانب الآخر و لم يزد على ذلك شيئا لا أولا و لا ثانيا فما هذه القيود بلاغية في قوله الفصل.
و هذا كله يؤيد ما ورد في سبب نزول الآية أن الآيات نزلت في العباس و شيبة و علي (عليه السلام) حين تفاخروا فذكر العباس سقاية الحاج، و شيبة عمارة المسجد الحرام، و على الإيمان و الجهاد في سبيل الله فنزلت الآيات و ستجيء الرواية في البحث الروائي المتعلق بالآيات.
و كيف كان فالآية و ما يتلوها من الآيات تبين أن الزنة و القيمة إنما هو للعمل إذا كان حيا بولوج روح الإيمان فيه و أما الجسد الخالي الذي لا روح فيه و لا حياة له فلا وزن له في ميزان الدين و لا قيمة له في سوق الحقائق فليس للمؤمنين أن يعتبروا مجرد هياكل الأعمال، و يجعلوها ملاكات للفضل و أسبابا للقرب منه تعالى إلا بعد اعتبار حياتها بالإيمان و الخلوص.
و من هذه الجهة ترتبط الآية: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام» و ما بعدها من الآيات بالآيتين اللتين قبلها: «ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر» إلى آخر الآيتين.
و بذلك كله يظهر أولا أن قوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين» جملة حالية تبين وجه الإنكار لحكمهم بالمساواة في قوله: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام كمن آمن» الآية.
و ثانيا: أن المراد بالظلم هو ما كانوا عليه من الشرك في حال السقاية و العمارة لا حكمهم بالمساواة بين السقاية و العمارة و بين الجهاد عن إيمان.
و ثالثا: أن المراد نفي أن ينفعهم العمل و يهديهم إلى السعادة التي هي عظم الدرجة و الفوز و الرحمة و الرضوان و الجنة الخالدة.
قوله تعالى: «الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم» إلى آخر الآية بيان لحق الحكم الذي عند الله في المسألة بعد إنكار المساواة، و هو أن الذي آمن و هاجر و جاهد في سبيل الله ما استطاع ببذل ما عنده من مال و نفس، أعظم درجة عند الله و إنما عبر في صورة الجمع - الذين آمنوا إلخ - إشارة إلى أن ملاك الفصل هو الوصف دون الشخص.
و ما تقدم من دلالة الكلام على أن الأعمال من غير إيمان بالله لا فضل لها و لا درجة لصاحبها عند الله، قرينة على أن ليس المراد بالقياس الذي يدل عليه أفعل التفضيل في قوله: «أعظم درجة» إلخ هو أن بين الفريقين اشتراكا في الدرجات غير أن درجة من جاهد عن إيمان أعظم ممن سقى و عمر.
بل المراد بيان أن النسبة بينهما نسبة الأفضل إلى من لا فضل له كالمقايسة المأخوذة بين الأكثر و الأقل فإنها تستدعي وجود حد متوسط بينهما يقاسان إليه فهناك ثلاثة أمور أمر متوسط يؤخذ مقياسا معدلا و آخر يكون أكثر منه، و آخر يكون أقل منه فإذا قيس الأكثر من الأقل كان الأكثر مقيسا إلى ما لا كثرة فيه أصلا.
فقوله: «أعظم درجة عند الله» أي بالقياس إلى هؤلاء الذين لا درجة لهم أصلا، و هذا نوع من الكناية عن أن لا نسبة حقيقة بين الفريقين لأن أحدهما ذو قدم رفيع فيما لا قدم للآخر فيه أصلا.
و يدل على ذلك أيضا قوله: «و أولئك هم الفائزون» بما يدل على انحصار الفوز فيهم و ثبوتها لهم على نهج الاستقرار.
قوله تعالى: «يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان و جنات» إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ما يعده من الفضل في حقهم بيان و تفصيل لما ذكر في الآية السابقة من فوزهم جيء به بلسان التبشير.
فالمعنى «يبشرهم» أي هؤلاء المؤمنين «ربهم برحمة منه» عظيمة لا يقدر قدرها «و رضوان» كذلك «و جنات لهم فيها» في تلك الجنات «نعيم مقيم» لا يزول و لا ينفد حالكونهم «خالدين فيها أبدا» لا ينقطع خلودهم بأجل و لا أمد.
ثم لما كان المقام مقام التعجب و الاستبعاد لكونها بشارة بأمر عظيم لم يعهد في ما نشاهده من أنواع النعيم الذي في الدنيا، رفع الاستبعاد بقوله: «إن الله عنده أجر عظيم».
و سيوافيك الكلام في توضيح معنى رحمته تعالى و رضوانه فيما سيمر من موضع مناسب و قد تقدم بعض الكلام فيهما.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء» إلى آخر الآية نهى عن تولي الكفار و لو كانوا آباء و إخوانا فإن الملاك عام، و الآية التالية تنهى عن تولي الجميع غير أن ظاهر لفظ الآية النهي عن اتخاذ الآباء و الإخوان أولياء إن استحبوا الكفر و رجحوه على الإيمان.
و إنما ذكر الآباء و الإخوان دون الأبناء و الأزواج مع كون القبيلين و خاصة الأبناء محبوبين عندهم كالآباء و الإخوان لأن التولي يعطي للولي أن يداخل أمور وليه و يتصرف في بعض شئون حياته، و هذا هو المحذور الذي يستدعي النهي عن تولي الكفار حتى لا يداخلوا في أمورهم الداخلية و لا يأخذوا بمجامع قلوبهم، و لا يكف المؤمنون و لا يستنكفوا عن الإقدام فيما يسوؤهم و يضرهم، و من المعلوم أن النساء و الذراري لا يترقب منهم هذا الأثر السيىء إلا بواسطة، فلذلك خص النهي عن التولي بالآباء و الإخوان فهم الذين يخاف نفوذهم في قلوب المؤمنين و تصرفهم في شئونهم.
و قد ورد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء في مواضع من كلامه تقدم بعضها في سورة المائدة و آل عمران و النساء و الأعراف و فيها إنذار شديد و تهديدات بالغة كقوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم:» المائدة: - 51، و قوله: «و يحذركم الله نفسه»: آل عمران: - 28، و قوله: «و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء:» آل عمران: - 28، و قوله: «أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا:» النساء: - 144.
و أنذرهم في الآية التي نحن فيها بقوله: «و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» و لم يقل: «و من يتولهم منكم فإنه منهم» إذ من الجائز أن يتوهم بعض هؤلاء أنه منهم لأنهم آباؤه و إخوانه فلا يؤثر فيه التهديد أثرا جديدا يبعثه نحو رفض الولاية.
و كيف كان فقوله: «و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون» بما في الجملة من المؤكدات كاسمية الجملة، و دخول اللام على الخبر و ضمير الفصل يفيد تحقق الظلم منهم و استقراره فيهم، و قد كرر الله في كلامه أن الله لا يهدي القوم الظالمين، و قال في نظير الآية من سورة المائدة: «و من يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين» فهؤلاء محرومون من الهداية الإلهية لا ينفعهم شيء من أعمالهم الحسنة في جلب السعادة إليهم، و السماحة بالفوز و الفلاح عليهم.
قوله تعالى: «قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم» إلى آخر الآية التفت من مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء إلى الإعراض عنهم لما يستشعر من حالهم أن قلوبهم مائلة إلى الاشتغال بما لا ينفع معه النهي عن تولي آبائهم و إخوانهم الكافرين، و إيجاد الداعي في نفوسهم إلى الصدور عن أمر الله و رسوله، و قتال الكافرين جهادا في سبيل الله و إن كانوا آباءهم و إخوانهم.
و الذي يمنعهم من ذلك هو الحب المتعلق بغير الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله، و قد عد الله سبحانه أصول ما يتعلق به الحب النفساني من زينة الحياة الدنيا، و هي الآباء و الأبناء و الإخوان و الأزواج و العشيرة - و هؤلاء هم الذين يجمعهم المجتمع الطبيعي بقرابة نسبية قريبة أو بعيدة أو سببية - و الأموال التي اكتسبوها و جمعوها، و التجارة التي يخشون كسادها و المساكن التي يرضونها - و هذه أصول ما يقوم به المجتمع في المرتبة الثانية -.
و ذكر تعالى أنهم إن تولوا أعداء الدين، و قدموا حكم هؤلاء الأمور على حب الله و رسوله و الجهاد في سبيله فليتربصوا و لينتظروا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين.
و من المعلوم أن الشرط أعني قوله: «إن كان آباؤكم» إلى قوله: «في سبيله» في معنى أن يقال: إن لم تنتهوا عما ينهاكم عنه من اتخاذ الآباء و الإخوان الكافرين أولياء باتخاذكم سببا يؤدي إلى خلاف ما يدعوكم إليه، و إهمالكم في أمر غرض الدين و هو الجهاد في سبيل الله.
فقوله في الجزاء: «فتربصوا حتى يأتي الله بأمره» لا محالة إما أمر يتدارك به ما عرض على الدين من ثلمة و سقوط غرض في ظرف مخالفتهم، و إما عذاب يأتيهم عن مخالفة أمر الله و رسوله و الإعراض عن الجهاد في سبيله.
غير أن قوله تعالى في ذيل الآية: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين» يعرض لهم أنهم خارجون حينئذ عن زي العبودية، فاسقون عن أمر الله و رسوله فهم بمعزل من أن يهديهم الله بأعمالهم و يوفقهم لنصرة الله و رسوله، و إعلاء كلمة الدين و إمحاء آثار الشرك.
فذيل الآية يهدي إلى أن المراد بهذا الأمر الذي يأمرهم الله أن يتربصوا له حتى يأتي به أمر منه تعالى، متعلق بنصرة دينه و إعلاء كلمته فينطبق على مثل قوله تعالى في سورة المائدة بعد آيات ينهى فيها عن تولي الكافرين: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع عليم:» المائدة: - 54.
و الآية بقيودها و خصوصياتها - كما ترى - تنطبق على ما تفيده الآية التي نحن فيها.
فالمراد - و الله أعلم - إن اتخذتم هؤلاء أولياء، و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيل الله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، و يبعث قوما لا يحبون إلا الله، و لا يوالون أعداءه و يقومون بنصرة الدين و الجهاد في سبيل الله أفضل قيام فإنكم إذا فاسقون لا ينتفع بكم الدين، و لا يهدي الله شيئا من أعمالكم إلى غرض حق و سعادة مطلوبة.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: «فتربصوا حتى يأتي الله بأمره» الإشارة إلى فتح مكة، و ليس بسديد فإن الخطاب في الآية للمؤمنين من المهاجرين و الأنصار و خاصة المهاجرين، و هؤلاء هم الذين فتح الله مكة بأيديهم، و لا معنى لأن يخاطبوا و يقال لهم: إن كان آباؤكم و أبناؤكم «إلخ» أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فواليتموهم و استنكفتم عن إطاعة الله و رسوله و الجهاد في سبيله فتربصوا حتى يفتح الله مكة بأيديكم و الله لا يهدي القوم الفاسقين، أو فتربصوا حتى يفتح الله مكة و الله لا يهديكم لمكان فسقكم فتأمل.
بحث روائي
في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية: عن أمالي الشيخ بإسناده عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد يرفعه إلى أبي ذر في حديث الشورى: فيما احتج به علي (عليه السلام) على القوم: و قال لهم في ذلك: فهل فيكم أحد نزلت فيه هذه الآية «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر و جاهد في سبيل الله» غيري؟ قالوا: لا و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام): «الذين آمنوا و هاجروا إلى قوله الفائزون» ثم وصف ما لعلي (عليه السلام) عنده فقال. يبشرهم ربهم برحمة منه و رضوان و جنات لهم فيها نعيم مقيم».
و في المجمع، روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما شيبة و العباس يتفاخران إذ مر عليهما علي بن أبي طالب قال: بما تفتخران؟ قال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد سقاية الحاج، و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام، و قال علي: و أنا أقول لكما لقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا فقالا: و ما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله تبارك و تعالى و رسوله. فقام العباس مغضبا يجر ذيله حتى دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أ ما ترى ما استقبلني به علي؟ فقال: ادعوا لي عليا، فدعي له فقال: ما حملك يا علي على ما استقبلت به عمك؟ فقال: يا رسول الله صدقته الحق فإن شاء فليغضب، و إن شاء فليرض. فنزل جبرئيل (عليه السلام) و قال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر» إلى قوله: «إن الله عنده أجر عظيم».
و في تفسير الطبري، بإسناده عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة و العباس و علي بن أبي طالب فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، و قال العباس: و أنا صاحب السقاية و القائم عليها، فقال علي: ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، و أنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية كلها. و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة فقال للعباس: أي عم أ لا تهاجر؟ أ لا تلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أعمر المسجد الحرام و أحجب البيت فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية، و قال لقوم قد سماهم: أ لا تهاجرون؟ أ لا تلحقون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا و عشائرنا و مساكننا فأنزل الله تعالى: «قل إن كان آباؤكم» الآية كلها و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام و الهجرة و الجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام و نسقي الحاج و نفك العاني فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية، يعني أن ذلك كان في الشرك فلا أقبل ما كان في الشرك. و فيه، أخرج مسلم و أبو داود و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبان و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، و قال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، و قال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم. فزجرهم عمر و قال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ذلك يوم الجمعة، و لكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» إلى قوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين».
أقول: قال صاحب المنار في تفسيره بعد إيراد هذه الروايات الأربع الأخيرة: و المعتمد من هذه الروايات حديث النعمان لصحة سنده و موافقة متنه لما دلت عليه الآيات من كون موضوعها في المفاضلة أو المساواة بين خدمة البيت و حجابته - من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة - و بين الإيمان و الجهاد بالمال و النفس و الهجرة، و هي أشق العبادات النفسية البدنية المالية، و الآيات تتضمن الرد عليها كلها.
انتهى.
أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها بصحة السند ففيه أولا أن رواية القرظي أيضا في مضمونها موافقة لرواية الحاكم في المستدرك و قد صححها.
و ثانيا: أن روايات التفسير إذا كانت آحادا لا حجية لها إلا ما وافق مضامين الآيات بقدر ما يوافقها على ما بين في فن الأصول فإن الحجية الشرعية تدور مدار الآثار الشرعية المترتبة فتنحصر في الأحكام الشرعية و أما ما وراءها كالروايات الواردة في القصص و التفسير الخالي عن الحكم الشرعي فلا حجية شرعية فيها.
و أما الحجية العقلية أعني العقلائية فلا مسرح لها بعد توافر الدس و الجعل في الأخبار سيما أخبار التفسير و القصص إلا ما تقوم قرائن قطعية يجوز التعويل عليها على صحة متنه، و من ذلك موافقة متنه لظواهر الآيات الكريمة.
فالذي يهم الباحث عن الروايات غير الفقهية أن يبحث عن موافقتها للكتاب فإن وافقتها فهي الملاك لاعتبارها و لو كانت مع ذلك صحيحة السند فإنما هي زينة زينت بها و إن لم توافق فلا قيمة لها في سوق الاعتبار.
و أما ترك البحث عن موافقة الكتاب، و التوغل في البحث عن حال السند - إلا ما كان للتوسل إلى تحصيل القرائن - ثم الحكم باعتبار الرواية بصحة سندها ثم تحميل ما يدل عليه متن الرواية على الكتاب، و اتخاذه تبعا لذلك كما هو دأب كثير منهم فمما لا سبيل إليه من جهة الدليل.
و أما ما ذكره من رجحان رواية النعمان على غيرها من جهة المتن مبينا ذلك بأن الآيات تدل على أن موضوع المساواة أو المفاضلة كان بين خدمة البيت أو حجابته و هي من أعمال البر البدنية الهينة المستلذة، و بين الإيمان و الجهاد و الهجرة و هي من أعمال البر النفسية و البدنية الشاقة، و الآيات تتضمن الرد عليها كلها.
انتهى.
ففيه أولا: أن الذي ذكره من مدلول الآيات مشترك بين جميع ما أورده من الروايات: أما رواية ابن عباس التي مضمونها وقوع الكلام في المساواة أو المفاضلة حين أسر العباس يوم بدر بين العباس و بين المسلمين حيث عيروه فقد ذكر فيها صريحا المقايسة بين الإسلام و الهجرة و الجهاد و بين سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك العاني، و هناك روايات أخر في معناه.
و أما رواية ابن سيرين الدالة على وقوع النزاع بين علي و العباس بمكة حين دعاه إلى الهجرة و اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابه بأن له عمارة المسجد الحرام و حجابة البيت و قد روى هذا المعنى ابن مردويه عن الشعبي و فيها: أن العباس قال لعلي: أنا عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنت ابن عمه، و إلي سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام، فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية. و رواه أيضا ابن أبي شيبة و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عبد الله بن عبيدة و فيها: أن العباس قال لعلي: أ و لست في أفضل من الهجرة؟ أ لست أسقي الحاج و أعمر المسجد الحرام فنزلت هذه الآية.
و على أي حال فالواقع في هذه الرواية أيضا المقايسة بين السقاية و العمارة و بين الهجرة و ما يترتب عليا مما يستلزمه اللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالجهاد و غيره من الأعمال الشريفة الدينية.
و أما رواية القرظي و ما في معناها كالذي رواه الحاكم و صححه، و ما رواه عبد الرزاق عن الحسن قال: نزلت في علي و العباس و عثمان و شيبة تكلموا في ذلك، و كذا رواية النعمان التي تقدمت فكون المنازعة فيها في السقاية و العمارة و الإيمان و الجهاد ظاهر فإذا كان الحال هذا الحال فأي مزية في رواية النعمان بن بشير توجب اختصاصها بموافقة الكتاب من بين سائر الروايات.
و ثانيا: أن قوله: إن موضوع المفاضلة هي أعمال البر الهينة المستلذة كالسقاية و الحجابة و أعمال البر الشاقة كالإيمان و الهجرة و الجهاد لا يوافق ما يدل عليه الآيات فإنها كما تقدم ظاهرة الدلالة على أن المقايسة كانت بينهم بين أجساد الأعمال الخالية عن روح الإيمان و ليست من البر حينئذ و بين أعمال حية بولوج روح الإيمان فيها كالهجرة و الجهاد عن إيمان بالله و اليوم الآخر.
فالآيات تدل على أنهم كانوا يسوون أو يفضلون غير أعمال البر كالسقاية و العمارة من غير إيمان على أعمال البر كالجهاد عن إيمان و هجرة و الهجرة عن إيمان فأين ما ذكره من أعمال البر الهينة قبال أعمال البر الشاقة؟ و دلالة الآيات - بما فيها من القيود المأخوذة - على ذلك بمكان من الظهور و الجلاء فقد قيد الجهاد فيها بالإيمان بالله و اليوم الآخر، و أطلق السقاية و العمارة من غير تقييد بالإيمان ثم قال تعالى: «لا يستوون عند الله» ثم زاد: «و الله لا يهدي القوم الظالمين» و حاشا أن يكون الآتي بأعمال البر عند الله من القوم الظالمين المحرومين عن نعمة الهداية الإلهية.
حتى لو فرض أن المراد بالظالمين أولئك المسوون أو المفضلون من المؤمنين للسقاية و العمارة على الجهاد فإن المؤمن على إيمانه إذا حكم بمثل هذا الحكم فإنما هو خاط يهتدي إذا دل على الصواب لا ظالم محروم من الهداية فافهم ذلك.
و ثالثا: ما تقدم من أن قوله: «كمن آمن بالله» الآية و قوله: «لا يستوون» الآية دليل على أن للشخص دخلا فيما تتضمن الآيات من الحكم.
و التدبر في الآيات الكريمة و التأمل فيما ذكرناه هنا و هناك يوضح للباحث الناقد أن أضعف الروايات و أبعدها من الانطباق على مضمون الآيات هي رواية النعمان بن بشير فإنها لا تقبل الانطباق على الآيات الكريمة بما فيها من القيود المأخوذة.
و يليها في الضعف رواية ابن سيرين و ما في معناها من الروايات فإن ظاهرها أن العباس إنما دعي إلى الهجرة و هو مسلم فافتخر بالسقاية و الحجابة و الآيات لا تساعد على ذلك كما مر.
على أن الواقع في رواية ابن سيرين ذكر العباس للسقاية و حجابة البيت و لم يكن له حجابة إنما هي السقاية.
و يليها في الضعف رواية ابن عباس فظاهرها أن المقايسة إنما كانت بين الأعمال فقط و الآية لا تساعد على ذلك.
على أن فيها أن العباس ذكر فيما ذكر سقاية الحاج و عمارة المسجد و فك العاني و هو الأسير.
و لو كان لذكر في الآية، و قد وقع في رواية ابن جرير و أبي الشيخ عن الضحاك في هذا المعنى قال: أقبل المسلمون على العباس و أصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك. فقال العباس: أما و الله لقد كنا نعمر المسجد الحرام، و نفك العاني، و نحجب البيت و نسقي الحاج فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج» الآية، و الكلام في فك العاني و حجابة البيت الواقعين فيها كالكلام في سابقها.
فأسلم الروايات في الباب و أقربها إلى الانطباق على الآيات مضمونا رواية القرظي و ما في معناها كرواية الحاكم في المستدرك و رواية عبد الرزاق عن الحسن و رواية أبي نعيم و ابن عساكر عن أنس الآتية و قد تقدم توضيح ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة و ابن عساكر عن أنس قال: قعد العباس و شيبة صاحب البيت يفتخران فقال العباس: أنا أشرف منك أنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و وصي أبيه، و ساقي الحجيج، فقال شيبة: أنا أشرف منك أنا أمين الله على بيته و خازنه أ فلا ائتمنك كما ائتمنني؟. فاطلع عليهما علي فأخبراه بما قالا فقال علي: أنا أشرف منكما أنا أول من آمن و هاجر فانطلق ثلاثتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه فما أجابهم بشيء فانصرفوا فنزل عليه الوحي بعد أيام فأرسل إليهم فقرأ عليهم: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام» إلى آخر العشر. و في تفسير القمي، عن أبيه عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: نزلت في علي و العباس و شيبة. قال العباس: أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي، و قال شيبة: أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي، و قال علي: أنا أفضل فإني آمنت قبلكما ثم هاجرت و جاهدت فرضوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج إلى قوله - إن الله عنده أجر عظيم»: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، و فيه عثمان بن أبي شيبة مكان شيبة.
و في الكافي، عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر» نزلت في حمزة و علي و جعفر و العباس و شيبة، إنهم فخروا بالسقاية و الحجابة فأنزل الله عز ذكره: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام - كمن آمن بالله و اليوم الآخر» و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و جاهدوا في سبيل الله. لا يستوون عند الله: أقول: و رواه أيضا العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) مثله.
و الرواية لا تلائم ما يثبته النقل القطعي فقد كان حمزة من المهاجرين الأولين لحق برسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم استشهد في غزوة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، و قد كان جعفر هاجر إلى الحبشة قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع إلى المدينة أيام فتح خيبر و قد استشهد حمزة قبل ذلك بمدة فلو كان من الخمسة اجتماع على التفاخر فقد كان قبل الهجرة النبوية و حينئذ فما معنى ما وقع في الرواية: «و كان علي و حمزة و جعفر هم الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و جاهدوا في سبيل الله»؟.
و إن كان المراد بالنزول فيهم انطباق الآية عليهم على سبيل الجري فقد كان العباس مثلهم فإنه آمن يوم أسر ببدر ثم حضر بعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير البرهان، عن الجمع بين الصحاح الستة للعبدي في الجزء الثاني من صحيح النسائي بإسناده قال: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار و العباس بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب فقال طلحة: بيدي مفتاح البيت و لو أشاء بت فيه، و قال العباس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها و لو أشاء بت في المسجد، و قال علي: ما أدري ما تقولان؟ لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس و أنا صاحب الجهاد فأنزل الله: «أ جعلتم سقاية الحاج و عمارة المسجد الحرام» الآية.
أقول: المراد بالصلاة ستة أشهر قبل الناس التقدم في الإيمان بالله على ما تعرضت له الآية و إلا كان من الواجب أن تذكر في الآية، و قد ذكر ثالث القوم طلحة بن شيبة، و قد تقدم في بعضها أنه شيبة، و في بعضها أنه عثمان بن أبي شيبة.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا - لا تتخذوا آباءكم و إخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان» قال: الإيمان ولاية علي بن أبي طالب.
أقول: هو من باطن القرآن مبني على تحليل معنى الإيمان إلى مراتب كماله.
و في تفسير القمي،: لما أذن أمير المؤمنين أن لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك جزعت قريش جزعا شديدا، و قالوا: ذهبت تجارتنا و ضاعت عيالنا و خربت دورنا فأنزل الله في ذلك: «قل يا محمد إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم إلى قوله و الله لا يهدي القوم الفاسقين».
أقول: و على هذا كان من الجري أن يفسر قوله في الآية: «حتى يأتي الله بأمره» بتدارك ما ينزل بهم من الكساد و فتح باب الرزق عليهم من وجه آخر كما وقع مثله في قوله تعالى في ضمن الآيات التالية: «يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا و إن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم:» التوبة: - 28.
بل اتحد حينئذ موردا الآيتين، و لسان الرفق و كرامة الخطاب بمثل قوله: «يا أيها الذين آمنوا» يأبى أن يكون الخطاب بقوله: «إن كان آباؤكم و أبناؤكم» الآية متوجها إليهم بأعيانهم على ما في آخرها من الخشونة في قوله: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين».
على أن الآية تذكر حب الآباء و الإخوان و العشيرة و الأموال التي اقترفوها، و لم يذكر شيء منها في الرواية، و لا حسبت قريش ضيعة بالنسبة إليها فما معنى ذكرها في الآية و التهديد على اختيار حبها على حب الله و رسوله؟ و ما معنى ذكر الجهاد في سبيله في الآية؟ فافهم ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: و الله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه.
|