البحث الرقم: 108 التاريخ: 24 شوال المكرم 1429 هـ المشاهدات: 8753
للشفاعة أصل واحد يدل على مقارنة الشيئين من ذلك الشفع, خلاف الوتر, تقول كان فردا فشفعته والمراد من الشفاعة في مصطلح المتكلمين هو أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته إلى عباده من طريق أوليائه وصفوة عباده, ووزان الشفاعة في كونها سببا لإفاضة رحمته تعالى على العباد وزان الدعاء في ذلك, يقول سبحانه: (ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) (النساء: 64). وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أن الدعاء بقول مطلق, وبخاصة دعاء الصالحين, من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات الكونية, وعلى هذا ترجع الشفاعة المصطلحة إلى الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) في جلب المغفرة الإلهية إلى العباد. الشفاعة في الكتاب والسنة قد ورد ذكر الشفاعة في الكتاب الحكيم في سور مختلفة لمناسبات شتى كما وقعت مورد اهتمام بليغ في الحديث النبوي وأحاديث العترة الطاهرة, والآيات القرآنية في هذا المجال على أصناف: الصنف الأول: ما ينفي الشفاعة في بادئ الأمر, كقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) (البقرة: 254). الصنف الثاني: ما ينفي شمول الشفاعة للكفار, يقول سبحانه - حاكيا عن الكفار -: (وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين* فما تنفعهم شفاعة الشافعين) (المدثر: 46-48). الصنف الثالث: ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة, يقول سبحانه: (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) (الأنعام: 94). الصنف الرابع: ما ينفي الشفاعة عن غيره تعالى, يقول سبحانه: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (الأنعام: 51). الصنف الخامس: ما يثبت الشفاعة لغيره تعالى بإذنه, يقول سبحانه: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) (طه: 109). الصنف السادس: ما يبين من تناله شفاعة الشافعين, يقول سبحانه: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) (الأنبياء: 28). ويقول أيضا: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) (النجم: 26). هذه نظرة إجمالية إلى آيات الشفاعة, وأما السنة فمن لاحظ الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية يقف على مجموعة كبيرة من الأحاديث الواردة في الشفاعة توجب الإذعان بأنها من الأصول المسلمة في الشريعة الإسلامية, وإليك نماذج منها: 1- قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لكل نبي دعوة مستجابة, فتعجل كل نبي دعوته, واني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي, وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئا) (صحيح البخاري: 8/ 33و9/ 170, صحيح مسلم: 1/ 170). 2- وقال (صلى الله عليه وآله): (أعطيت خمسا وأعطيت الشفاعة, فادخرتها لأمتي, فهي لمن لا يشرك بالله) (صحيح البخاري: 1/ 42 و119, مسند أحمد: 1/ 301). 3- وقال (صلى الله عليه وآله): (إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) (من لا يحضره الفقيه: 3/ 376). 4- وقال الإمام علي (عليه السلام): (ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء, ثم العلماء, ثم الشهداء) (الخصال, للصدوق: باب الثلاثة, الحديث169). 5- وقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (اللهم صل على محمد وآل محمد, وشرف بنيانه, وعظم برهانه, وثقل ميزانه, وتقبل شفاعته) (الصحيفة السجادية, الدعاء: 42. ومن أراد التبسط فليرجع إلى (مفاهيم القرآن): 4/ 287- 311). الشفاعة المطلقة والمحدودة تتصور الشفاعة بوجهين: 1- المطلقة: بأن يستفيد العاصي من الشفاعة يوم القيامة وإن فعل ما فعل, وهذا مرفوض في منطق العقل والوحي. 2- المحدودة: وهي التي تكون مشروطة بأمور في المشفوع له, ومجمل تلك الشروط أن لا يقطع الإنسان جميع علاقاته العبودية مع الله ووشائجه الروحية مع الشافعين, وهذا هو الذي مقبول عند العقل والوحي. وبذلك يتضح الجواب عما يعترض على الشفاعة من كونها توجب الجرأة وتحيي روح التمرد في العصاة والمجرمين, فان ذلك من لوازم الشفاعة المطلقة المرفوضة, لا المحدودة المقبولة. والغرض من تشريع الشفاعة هو الغرض من تشريع التوبة التي اتفقت الأمة على صحتها, وهو منع المذنبين عن القنوط من رحمة الله وبعثهم نحو الابتهال والتضرع إلى الله رجاء شمول رحمته إليهم, فإن المجرم لو اعتقد بأن عصيانه لا يغفر قط, فلا شك أنه يتمادى في اقتراف السيئات باعتقاد أن ترك العصيان لا ينفعه في شيء, وهذا بخلاف ما إذا أيقن بأن رجوعه عن المعصية يغير مصيره في الآخرة, فإنه يبعثه إلى ترك العصيان والرجوع إلى الطاعة. وكذلك الحال في الشفاعة, فإذا اعتقد العاصي بأن أولياء الله قد يشفعون في حقه إذا لم يهتك الستر ولم يبلغ إلى الحد الذي يحرم من الشفاعة, فعند ذلك ربما يحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة حتى لا يحرمها. شرائط شمول الشفاعة قد تعرفت على أن الشفاعة المشروعة هي الشفاعة المحدودة بشروط, وقد عرفت مجمل تلك الشروط, وينبغي لنا أن نذكر بعض تلك الشروط تفصيلا على ما ورد في الروايات: 1- منها عدم الإشرال بالله تعالى: وقد تقدم ذلك فيما نقلناه من أحاديث الشفاعة. 2- الإخلاص في الشهادة بالتوحيد: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا, يصدق قلبه لسانه, ولسانه قلبه) (صحيح البخاري: 1/ 36, مسند أحمد: 2/ 307 و518). 3- عدم كونه ناصبيا: قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن المؤمن ليشفع لحميمه إلا أن يكون ناصبا, ولو أن ناصبا شفع له كل نبي مرسل وملك مقرب ما شفعوا) (ثواب الأعمال للصدوق: 251). 4- عدم الاستخفاف بالصلاة: قال الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة) (الكافي: 3/ 270, 6/ 401). 5- عدم التكذيب بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله): قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): (قال أمير المؤمنين (عليه السلام)): (من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله) (عيون أخبار الرضا: 2/ 66). ما هو أثر الشفاعة؟ إن الشفاعة عند الأمم, مرفوضها ومقبولها يراد منها حط الذنوب ورفع العقاب, وهي كذلك عند الإسلام كما يوضحه قوله (صلى الله عليه وآله): (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) (سنن أبي داود: 2/ 537, صحيح الترمذي: 4/ 45). ولكن المعتزلة ذهبت إلى أن أثرها ينحصر في رفع الدرجة وزيادة الثواب, فهي تختص بأهل الطاعة, وما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة, حيث حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة, فلما رأوا أن القول بالشفاعة التي أثرها هو إسقاط العقاب, ينافي ذلك المبنى, أولوا آيات الله فقالوا إن أثر الشفاعة إنما هو زيادة الثواب وخالفوا في ذلك جميع المسملين. قال الشيخ المفيد: (اتفقت الإمامية على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته, وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته, وأن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله) يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين, ووافقهم على شفاعةالرسول (صلى الله عليه وآله) المرجئة سوى ابن شبيب, وجماعة من أصحاب الحديث, وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعمت أن شفاعةرسول الله (صلى الله عليه وآله) للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين) (أوائل المقالات: 54, الطبعة الثانية). وقال أبو حفص النسفي: (والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق اهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار) (شرح العقائد النسفية: 147. ولاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 152, ومفاتيح الغيب للرازي: 3/ 56, ومجموعة الرسائل الكبرى, لابن تيمية: 1/ 403, وتفسير ابن كثير: 1/ 309). هل يجوز طلب الشفاعة؟ ذهب ابن تيمية, وتبعه محمد بن عبد الوهاب - مخالفين الأمة الإسلامية جمعاء - إلى أنه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن أن يقول: (يا رسول الله اشفع لي يوم القيامة). وأنما يجوز له أن يقول: (اللهم شفع نبينا محمدا فينا يوم القيامة). واستدلا على ذلك بوجوه تالية: 1- أنه من أقسام الشرك, أي الشرك بالعبادة, والقائل بهذا الكلام يعبد الولي (الهدية السنية: 42). والجواب عنه ظاهر, بما قدمناه في حقيقة الشرك في العبادة, وهي أن يكون الخضوع والتذلل لغيره تعالى باعتقاد أنه إله أو رب, أو أنه مفوض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه, لا مطلق الخضوع والتذلل. 2- أن طلب الشفاعة من النبي يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة, يقول سبحانه: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (يونس: 18). وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير (كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 6). ويرده أن المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري بل المعيار هو البواطن والعزائم, وإلا لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت شركا, لقيام المشركين به في الجاهلية, وهؤلاء المشركون كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنها آلهة أو أشياء فوض إليها افعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة. وأين هذا ممن طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنهم عباد الله الصالحون, فعطف هذا على ذلك جور في القضاء وعناد في الاستدلال. 3- ان طلب الشفاعة من الغير دعاء له ودعاء غيره سبحانه حرام, يقول سبحانه: (فلا تدعوا مع الله أحدا) (الجن: 18). ويرده أن مطلق دعاء الغير ليس محرما وهو واضح, وإنما الحرام منه ما يكون عبادة له بأن يعتقد الألوهية والربوبية في المدعو, والآية ناظرة إلى هذا القسم بقرينة قوله: (مع الله) أي بأن يكون دعاء الغير على وزان دعائه تعالى وفي مرتبته, ويدل عليه قوله سبحانه - حاكيا قولهم يوم القيامة-: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين* إذ نسويكم برب العالمين) (الشعراء: 97- 98). 4- إن طلب الشفاعة من الميت أمر باطل. ويرده ان الإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم, والقرآن يصرح بحياة جموع كثيرة من الشهداء, وغيرهم, ولو لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) حياة فما معنى التسليم عليه في كل صباح ومساء وفي كل صلاة: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)؟! والمؤمنون لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم, بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند الله سبحانه, بأبدان برزخية.