لا يخفى أن الاستغاثة بالمخلوق على أنه الفاعل المختار مدخل للمستغيث في أقسام الكفار، وإنّما المراد منه طلب الشفاعة، وسؤال الدعاء. وقد روى النسائي، والترمذي في حديث الأعرابي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) علّمه قول: يا محمد إني توجّهت بك إلى الله، ونحوه ما في حديث ابن حنيف (1). وروى البيهقي في خبر صحيح أنه في أيام عمر جاء رجل إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا محمد استسق لأمتك فسقوا (2). وروى الطبراني، وابن المقري، وأبو الشيخ أنهم كانوا جياعاً، فجآؤا إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله الجوع، فأشبعوا. وروى البيهقي عن مالك الدار خازن عمر، قال: أصاب الناس قحط، فذهب إلى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: استسق لأمتك فقد هلكوا، فأتاه النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام، وقال له: قل لعمر أنهم سقوا. ومن ذلك قوله تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (3). وعن معاذ أنه لما كان في اليمن جاءه نعي النبي (صلى الله عليه وآله)، فرجع وهو يقول: يا محمداه، يا أبا القاسماه، وبقي على ذلك برهة من الزمان. وفيه ظهور بالاستغاثة. وعن أبي بكر بن محمد بن الفضل أنّ (بلالاً) لما أخذ في النزع، قالت إمرأته: واويلاه واحزناه، فقال لها: لا تقولي واحزناه، فأني قصدت الذهاب إلى محمد، وحزبه. وروى الكازروني ندبة الزهراء (عليها السلام)، وروى ندبة معاذ النبي (صلى الله عليه وآله). وعن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي وتقول: واجبلاه (4). وما روي عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه ما من ميت يموت، فيقوم باكيه ويقول: واجبلاه، واسيداه إلا وكّل الله به ملكين يلهزانه ويقولان له: أكان هكذا. فمبني على النهي عن العزاء والبكاء. وفي قصة إدريس أنّ المطر انقطع عن قومه عشرين سنة، فجاؤا إليه يدعو لهم. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ ملكاً غضب الله عليه، فأهبط من السماء، فأتى إدريس، فاستشفع به، فدعا له، فأذن له في الصعود، فصعد. وفي الحقيقة أن المستغيث بالمخلوق إن أراد طلب الدعاء والشفاعة من المستغاث به، فلا بأس به، وإن أراد إسناد الأمور بالاستقلال إليه، فالمسلمون منه براء. على أنّا بيّنا فيما سبق أن الاستغاثة بدار (زيد)، وصفاته، وغلمانه، وخدمه، ربما أريد بها الاستغاثة به، فيكون هذا أولى في بيان ذل المستغيث، وإنه لا يرى لسانه أهلا لأن يجري عليه اسم المولى، ولهذا ترى أن طاعة الله تذكر بعدها طاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورضاه يذكر بعد رضى الله ورسوله، وإذا انفردت أحداهما دخلت فيها الأخرى. روى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني (5). وكيف يستغاث حقيقة بمن لا يدفع عن نفسه ضرّاً ولا شرّاً، ولا يملك رزقاً، ولا موتا، ولا حياة ولا نشوراً، المبدأ من تراب، ثم نطفة مودعة في الأصلاب، ثم جسم معرّض للبليات، ثم بعدها يكون من الأموات. وإنّما شرفه بالعبودية والانقياد للحضرة القدسية، ولولا أمر الله ما سمع له كلام، ولا رفع له مقام، وليس بيننا وبينه ربط سوى أمر الملك العلام. فليس المراد بالاستغاثة إلا طلب الدعاء من المستغاث به، لما في الحديث القدسي: يا موسى ادعني بلسان لم تعصني فيه، يا رب وأين ذلك؟ فقال: لسان الغير. فالمستغيث إن طلب أصالة واستقلالاً من المستغاث به، كان معولاً عليه في كل أمر يرجع إليه، وإلا فالمستغاث به حقيقة هو الذي تنتهي إليه الأمور. وكذلك الدعاء إن قصد أن المدعو هو الفاعل المختار الذي تنتهي إليه الأشياء، فذلك كفر برب السماء، وإن أريد المجاز، فلا يدخل تحت حقيقة الدعاء. ولا ريب أنّ كلّ من قال لشخص: أعنّي على بناء الدار، أو قضاء الدين، أو قال: أعطني، أو غير ذلك، بقصد الدعاء، أعني: طلب المربوب من الرب، فهو كفر وإشراك. وإن قصد الطلب لا على ذلك النحو، لم يكن كفراً. ولو كان المدار على هذه الصورة، لكفّرت الخلائق من يوم آدم إلى يومنا هذا، بل صدور هذه العبارات عن الأنبياء والأوصياء أبين من الشمس. وكذلك (الاستجارة)، و (الندبة)، ونحوهما، فأن كانت على الطور المعهود، كقوله تعالى: ((وإن أحد من المشركين إستجارك فأجره)) (6) ((فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه)) (7) ((فادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض)) (8) فلا محيص عن القول بجوازه. فتفاوت العبارات باختلاف النيات. فمن كان داعياً دعاء الأصنام وسائر الأرباب، أو مستغيثاً كذلك، فهو كافر مشرك. وإن أراد المتعارف بين سائر الناس، فليس به بأس. فبحق من شقّ سمعك وبصرك، أن تمعن في هذا المقام نظرك، وتصفّي نفسك عن حب الانفراد، كما يلزمنا التخلية عن حب متابعة الآباء والأجداد. ولا فرق بين الأحياء والأموات، لأنّ من استغاث بالمخلوق أو استجار، على أنه فاعل مختار، فقد دخل في أقسام الكفار، فالاستغاثة بعيسى أو بمريم، حيّين أو ميّتين، تقع على القسمين. واعتقاد أن الميت يسمع أو لا يسمع، ليس من عقائد الدين التي تجب معرفتها على المسلمين، فمن اعتقدها: فأما أن يكون مصيباً مأجوراً، أو مخطأً معذوراً. ومن ذلك القبيل الألفاظ التي تفيد الرّجاء، والتوكّل، والاعتماد، والتعويل، والالتجاء، والاستغاثة بغير الله، فأن هذه العبارات لو بني على ظاهرها لم يبق في الدنيا مسلم، إذ لا يخلو أحدٌ من الاستعانة على الأعداء، والاعتماد على الأصدقاء، والالتجاء إلى الأمراء، ونحو ذلك. إلاّ أنه إن قصد الملتجأ إليه والمعول عليه من المخلوقين له اختيارٌ وتدبير في العالم لنفسه لا عن أمر الله، فذلك كفر بالله، وإلا فلا بأس. ومما يناسب نقله في هذا المقام ما نقله القتيبي، قال: كنت جالساً عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجآء أعرابي، فسلّم على النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف، وفيه الجود والكرم ثم قال: ها أنا ذا يا رسول الله، فقد ظلمت نفسي، وأنا أستغفر الله وأسألك يا رسول الله أن تستغفر لي. قال القتيبي: ثم نمت، فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام، فقال: يا قتيبي أدرك الأعرابي وبشره أنه قد غفر الله له، قال: فأدركته وبشرته.
الهوامش
1- سنن الترمذي (كتاب الدعوات)، باب 118؛ وسنن ابن ماجه (كتاب اقامة الصلاة والسنّة فيها)، باب 189، حديث 1385. وابن حنيف هو عثمان بن حنيف الأنصاري، سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية. 2- سنن البيهقي: 3/326. 3- القرآن الكريم: 28/15 (سورة القصص). 4- سنن البيهقي: 4/64. 5- صحيح البخاري (كتاب الجهاد)، باب 109؛ صحيح مسلم (كتاب الأمارة)، باب 23؛ سنن النسائي (كتاب البيعة)، باب 27؛ ابن ماجه (المقدمة)، باب (1). وقد رويت (الأمام)، (أميري). 6- القرآن الكريم: 28/15 (سورة القصص). 7- القرآن الكريم: 2/61 (سورة البقرة). 8- القرآن الكريم: 9/6 (سورة التوبة).