البحث الرقم: 13 التاريخ: 13 شعبان المعظم 1430 هـ المشاهدات: 6101
كانت حياة الأنبياء والأولياء مكرسة في الدفاع عن الفقراء والمستضعفين، أما حياة الطواغيت فقد كانت مكرسة في إحباط آمال البائسين والمحرومين، فظل الصراع يدور بين محوري الحق والباطل، حتى خُتمت الرسالات السماوية جميعها برسالة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعبر المسيرة البشرية كان الإلهيون يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإقامته، وتثبيت العدالة وتحكيمها، حتى كانت شهادة الوصي المظلومالإمام الحسن العسكري (سلام الله عليه)، فادّخر اللهُ تبارك وتعالى وليَّه الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف)، ينتظر الإذن ليحقق ما لم يتسن تحقيقه بسبب معوقات الطواغيت وانحراف الأمة. فكان مولد الإمام المهدي (عليه السلام) باعثاً لآمال البشرية المتطلعة إلى نور العدل، وكان يوم ذلك المولد الشريف موضعاً لرجاء اليائسين ومحطا لرحال المشردين وشاداً لهمم المستضعفين، وذكرى لخلاص المظلومين من أيدي الظلمة والجائرين. كم هو مبارك ولادة شخصية كبيرة ستقيم العدل الذي بعث الأنبياء (عليهم السلام) من أجل إقامته، كم هو مبارك ولادة رجل عظيم سيطهّر الأرض من شر الظالمين والدجالين، حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجورا، وسوف يقضي على مستكبري العالم، ويجعل المستضعفين وراثي الأرض. إذن، فالشيعي المصدّق بما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله): المهدي من ولدي، اسمه اسمي وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخلقا، تكون له غيبة وحيرة تضل فيه الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب، فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا. إنسان تفور في عروقه دماء العزيمة، وتنهض في قلبه همة العمل، ولا تنطبق عيناه على جفني يأس أبدا، ولا يعشو ناظره عن آفاق الأمل، لأنه منتظِر لذلك المنتظَر (أرواحنا فداه). والانتظار يعني هو الترقب المقرون بالتهيؤ للقاء، ويترتب عليه: أولاً: حث الأذهان وإعمال الفكر للوصول إلى الحقائق ومقتضيات العمل بموجبها. وثانياً: علو الصبر وتحمل النكبات، توقعاً للفرج بعد الشدة. وثالثاً: العمل على إصلاح النفس، استعداداً لتحمل المهمات الشريفة التي تقع على العواتق في زمن الغيبة. فالمؤمن لا يكتفي أن يرجو ظهور المولى (صلوات الله عليه)، بل يرى ضميره يدفعه للنهوض بالمسؤوليات الكبيرة، والتي يراها تكليفاً شرعياً ملزما.. ولا نكتفي أن يعلم أن انتظار الفرج من العبادات العظيمة، إنما يرى بعمق بصيرته أن الانتظار يعني العمل، فالمنتظر الحقيقي من وقف عند مكان الموعد وقد هيأ نفسه للقاء، ورأى في ذاته اللباقة للحديث والمضي مع من ينتظره. ومن التكاليف التي ينبغي أن يعرفها المؤمن في زمن الغيبة: النصرة، ليس حينما يظهر الحجة (سلام الله عليه) فحسب، بل قبله هنالك نصرة له في صور عديدة: منها: في إثبات وجوده الشريف، وعرض الأدلة العقلية والنقلية الدالة على حياته وغيبته وظهوره. ومنها: تهيأة النفوس والقلوب لانتظاره، وتأييد نهضته الإلهية الكبرى إذا ظهر. ومنها: تأييد الوجودات الشيعية والكيانات الشيعية المؤمنة به والمناصرة له. ذكر النبيُّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) يوماً بلاءً يلقاه أهل البيت (عليهم السلام) حتى يبعث الله راية من المشرق سوداء، من نصرها نصره الله ومن خذلها خذله الله، قال (صلى الله عليه وآله): حتى يأتوا رجلاً اسمه كاسمي، فيولوه أمرهم، فيؤيده الله وينصره. وروى الكابلي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر. ومن التكاليف التي ينبغي أن يؤديها المؤمن أيضا: العمل الملائم لانتظار من سيقوم لله (تبارك وتعالى)، ويكون في صور عديدة: منها: التمهيد لظهوره المبارك بخلق قاعدة مناسبة وساحة مهيئة للنهضة الشريفة. ومنها: السعي لبلوغ حالة الاستعداد لتصديق المولى وتأييده، حيث نكون في مستوى الدعاء الشريف (دعاء العهد)، والذي نقرأ فيه: اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه والممتثلين لأوامره والمحامين عنه والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه. وفي مستوى الدعاء النير (دعاء الغيبة) والذي نقرأ فيه: واجعلنا يا رب من أعوانه ومقوية سلطانه والمؤتمرين لأمره والراضين بفعله والمسلمين لأحكامه... . فالانتظار إذن تكليف وعمل، وبذل للجهود والأموال والأنفس أحياناً، وسعي لتقريب الإسلام من العقول والقلوب، للعمل به وتطبيقه. قال الشيخ الكبير محمد رضا المظفر (رضوان الله عليه) في (عقائد الإمامية) باب عقيدتنا في المهدي (سلام الله عليه): ومما يجدر أن نذكره ونذكر أنفسنا به أنه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي) أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته والجهاد في سبيله والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. بل المسلم أبداً مكلف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفاً ولا يؤجل عملا ولا يجعل الناس هملا كالسوائم. وقال الصافي الكلبايكاني في (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، ص 499): إن معنى الانتظار ليس تخلية سبيل الكفار والأشرار وتسليم الأمور إليهم والمداهنة معهم وترك الأمر بالمعروفوالنهي عن النكر والإقدامات الإصلاحية. إذن كيف يجوز ايكال الأمور إلى الأشرار مع التمكن من دفعهم عن ذلك والمداهنة معهم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المعاصي. لم يقل أحد من العلماء بإسقاط التكاليف قبل ظهوره، ولا يرى منه عين ولا أثر في الأخبار. نعم، تدل الآيات والأحاديث الكثيرة على خلاف ذلك، بل تدل على تأكد الواجبات والتكاليف، والترغيب إلى مزيد الإهتمام في العمل بالوظائف الدينية كلها في عصر الغيبة. فهذا ـ أي القعود ـ توهم لا يتوهمه إلا من لم يكن له قليل من البصيرة والعلم بالأحاديث والروايات.