بسم الله الرحمن الرحيم الجلسة الثالثة ما هي العصمة؟ كثر البحث والكلام حول آية التطهير ومدى دلالتها على عصمة أهل البيت عليهم السلام، فقد تصّور البعض أن التطهير أمر بسيط لأنه يشمل الطهارة من القذارات والنجاسات، وعليه فليس التطهير في الآية 33 من سورة الأحزاب امتيازا ً لأهل البيت عليهم السلام. لذا، علينا أن نتتبع استعمالات الرجس والتطهير في القرآن الكريم لنخرج بدراسة علمية متقنة. الرجس والطهارة متضادان حسب ما ورد في هذه الآية فما هو معنى كلّ منهما بالضبط والدقة؟
الرجس
قال الراغب الأصفهاني في (المفردات في غريب القرآن) والفيروز آبادي في (القاموس المحيط) وابن منظور في (لسان العرب): الرجس هو القذر، والمآثم، والعمل المؤدي إلى العذاب، والشك، والعقاب، والغضب. وقال الفخر الرازي في (التفسير الكبير): الرجس عبارة عن الفاسد، المستقذر، المستكره. إذن يمكن تلخيص معنى الرجس في القذارة التي توجب الاشمئزاز، والتنفّر من الشئ، وعدم الرغبة في لحوق شئ من ذلك بالإنسان. الرجس نوعان: وحينما نستقرئ الآيات القرآنية بهذا الصدد نجد أن الرجس قد يلحق الأمور الظاهرية المادية فتكون اليد قذرة أو اللباس قذرا ً كما قد يلحق الأمور المعنوية الباطنية فتكون الأخلاق قذرة أو السلوك قذرا ً أو العقائد والملكات النفسية مصابة بالرجس والقذارة. مثال الرجس المستعمل في القذارة المادية قوله تعالى (إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) فالميتة والدم ولحم الخنزير تعدّ من النجاسات في الشريعة الإسلامية. ومثال الرجس المستعمل في القذارة المعنوية والباطنية هو ما ورد في الآيات الآتية: (وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ). في هذه الآية اعتبر الباري جل وعلا ضيق الصدر والإعراض عن خط الهداية رجسا ً على الذين لا يؤمنون، ومن الواضح أن هذا الرجس ليس مادّيا ً، فالضلال وعدم الهداية أمران معنويان. قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) فالشك والنفاق ونحو ذلك من الوساوس والظلمات الباطنية اعتبرت رجسا ً يزداد وينقص، ومن الواضح أن ذلك لا يرتبط بالرجس المادي الظاهري بل هو رجس معنوي. قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ) ومن الواضح أن الأوثان بنفسها لا تحمل قذارة ظاهرية فإن أصحاب المعابد الهندوسية والبوذية مثلا ً يهتمون بتنظيف وتعطير الأوثان وصقلها، إذن لا يمكن حمل الرجس في هذه الآية على النجاسة الظاهرية، بل المقصود هو عبادة غير الله عن طريق الأوثان وهو رجس معنوي لا غير، وحتى الإثم _ وهو من معاني الرجس _ يكون ظاهريا ً وباطنه، حيث قال عز وجل (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ). الطهارة وكما كان الرجس على نوعين، فالطهارة بحسب المقابلة بينها وبين الرجس تكون على نحوين: تطهير مادي ظاهري، وتطهير معنوي باطني. تطهير للثوب والبدن، وتطهير آخر للروح والنية والقلب والضمير. مثال الطهارة الظاهرية قوله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ)، وقوله: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ). أما مثال الطهارة المعنوية والتطهير الباطني فقوله تعالى في وصف أصحاب الجنة- وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات-: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) ومن الواضح أن الحديث هنا عن الطهارة المعنوية والنقاء الباطني وكذلك قوله تعالى: (فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ، مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ). فالطهارة المقصودة في آية الأزواج في الجنة، وفي آية الصحف الإلهية طهارة معنوية بلا ريب. ولو تأملنا في آية التيمم وجدنا أن وضع اليد على التراب والغبار، أو الصعيد حسب التعبير القرآني لا يوجب أي نظافة ظاهرية بل على العكس يترك التراب أثرا ً على الوجه واليدين، فحين يقول جل وعلا: (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)، يقصد التطهير الباطني لا المادي الظاهري. ونفس الشئ يقال في التطهير المقصود في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةًتُطَهِّرُهُمْ). والخلاصة: أن أكثر الاستعمالات القرآنية لموضوع الطهارة والتطهير وارد بشأن الطهارة المعنوية، والقرائن الحالية هي التي توضح ذلك، فمن حاول أن يقرن التطهير في الآية 33 من سورة الأحزاب بالتطهير المادي الظاهري كان بعيدا ً عن الصواب، لأن المفعول المطلق (يطهركم تطهيرا ً) وحصر الأمر بأهل البيت حسب دلالة (إنمّا) أقوى دليل على التطهير الكامل. أما الكلام في أن هذه الإرادة هل هي تكوينية أو تشريعية، فيأتي في الأبحاث القادمة إن شاء الله.