يقول المفسرون في سبب نزول سورة الكوثر: أن أحد أقطاب المشركين، وهو العاص بن وائل، التقى يوماً برسول الله (صلى الله عليه وآله) عند باب المسجد الحرام، فتحدّث مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك بمرأى من جماعة من صناديد قريش، وهم جلوس في المسجد الحرام، فما أن أتمَّ حديثه مع الرسول (صلى الله عليه وآله) وفارقه، جاء إلى أولئك الجالسين، فقالوا له: من كنت تُحَدِّث؟. قال (صلى الله عليه وآله): ذلك الأبتر، وكان مقصوده من هذا الكلام أن النبي (صلى الله عليه وآله) ليس له أولاد وعقب، إذن سينقطع نسلُه، فكان هذا سبباً لنزول سورة الكوثر وهي: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) سورة الكوثر. رَدّاً على العاص الذي زعم أن النبي (صلى الله عليه وآله) أبتر. أما المعنى، فهو أن الله سوف يُعطيك نسلاً في غاية الكثرة، لا ينقطع إلى يوم القيامة. وقال فخر الدين الرازي في تفسيره: الكوثر أولاده (صلى الله عليه وآله)، لأن هذه السورة إنما نزلت رَدّاً على مَن عَابَهُ (صلى الله عليه وآله) بعدم الأولاد. فالمعنى أنَّه سيعطيه نسلاً يبقون على مَرِّ الزمان، فانظر كم قُتل من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لكن العالم ممتلئٌ منهم، بينما لم يبق من بني أمية أحد يُعبَأُ به. هذا وإنَّ للمفسرين آراءً أخرى في معنى الكوثر تصل إلى ـ26ـ رأياً، منها: العِلْم، النبوَّة، القرآن، الشفَاعة، شَرَف الجنة، الحوض، إلى غيرها من الأقوال في معنى الكوثر، لكنَّ جميع ما قيل في معنى الكوثر يندرج تحت عنوان الخير الكثير، فلا تناقض بين الأقوال إذن. وممّا يؤيِّد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قد فَسَّر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: ان أناساً يقولون هو نهر في الجنة. فقال: هو من الخير الكثير. ولعلَّ أحسن الأقوال وأكثرها إنطباقاً على سبب نزول السورة هو ما قيل بأن المراد من الكوثر كثرة النسل والذرية. وقد ظهر ذلك في نسله (صلى الله عليه وآله) من ولد فاطمة (عليها السلام)، إذ لا ينحصر عددهم، بل يتَّصل بحمد الله إلى آخر الدهر مَدَدهم، وهذا يطابق ما ورد في سبب نزول السورة. بل وهذا الرأي أرجحُ في ميزان التحليل العلمي المُحايِد، لأن الآية جاءت رداً على تعيير النبي (صلى الله عليه وآله) بعدم استمرار نسله، فنزلت الآية لكي تُقرِّر في الحقيقة أمرين: الأول: أنَّ البنت هي كالابن، من حيث اعتبارها من الذرِّية والنسل والعقب. الثاني: إن الله (عَزَّ وجَلَّ) سَيرزُقُ النبي (صلى الله عليه وآله) من هذه البنت نسلاً وذرية، وإن اسمه (صلَّى الله عليه وآله) سيبقى حياً ومتألقاً على مرِّ العصور، وعلى طول التاريخ. والمتأمِّل في التأريخ الإسلامي على امتداده إلى يومنا هذا، يتيقَّن عمق الأصالة الإيمانية، والروح المحمدية في مذهب أهل البيت (عليهم السلام). ولذا نجد أن حقَّهم (عليهم السلام) من الحقوق الواجب على المؤمنين والمؤمنات معرفتها، كمعرفتهم وطاعتهم وموالاتهم، وغير ذلك من الحقوق الأخرى. ولم يوجب الله تعالى علينا أداء حقوقهم (عليهم السلام) إلاَّ لأنهم أهل الحق، والنجاة، والصراط المستقيم، وباب الله العظيم. ولقد تكرَّم الله تعالى على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) بفيوضات كثيرة، وَنِعَمٍ متعدِّدة، وهباتٍ جزيلة، ذكرها في كتابه الكريم. ويكفيه ما أعطاه من نعمة الرضا فقال: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]. ولكن مع ذلك لا يفوتنا أن نذكر ما تحصل عليه (صلى الله عليه وآله) من خير هو أساس الخير كله على الأمة الإسلامية عامة، وعلى الأمة الشيعية خاصة, ألا وهو الكوثر.
النتیجة
أخيراً: وبناءً على ما مرَّ نقول: إنَّ كلَّ المعاني التي جاءت لتوضيح الكوثر ـ وإن اختَلَفَت في ألفاظها ـ إلا أنَّ لها اتِّحاد في المعنى، وتُصَبُّ تحت قالب واحد، وهو كون تَمَتَّع النبي (صلى الله عليه وآله) بالخير السخِي المُستمر. والله تعالى إضافة للبُشرى المستمرة في بقاء هذه النعمة واستمرارها ليوم القيامة، يشير سبحانه إلى قضية الإخبار بالمستقبل أيضا، وهذا إخبار إعجازي يدل ويثبت ظهور الخير بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله)، سواء بَعُدَ أم قَرُب. ولو رجعنا إلى سبب نزول السورة لعرفنا أن القوم وسموا النبي (صلى الله عليه وآله) بالأبتر، أي الشخص المَعْدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر: 1]. إذن فالخير الكثير، أو الكوثر هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لماذا؟، لأن نسل الرسول (صلى الله عليه وآله) انتشر بواسطة الزهراء (عليها السلام)، مع العلم أن امتداد الذرية الطيِّبة لم يكن فقط جسماني، بل رساليٌ أيضاً. وبما أن علماء الأمة الإسلامية هُم حُمَاة الشريعة، والذين يدفعون عنها كل الشُبُهات فما كان عِلمهم إلاَّ من نتاج هذا الكوثر. وكون المذهب الشيعي منبثق من أهل البيت (عليهم السلام)، وهُم درٌّ مستخرج من بحر فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولؤلؤ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والعلماء يأخذون من فيض هذا البحر العميق بلا قاع. فيمكن القول أيضاً: إن من مصاديق الكوثر هو ما يقدّمه العلماء الكرام من خدمات رسالية جليلة للإسلام.