بسم الله الرحمن الرحيم * البحث المقـّدم إلى المؤتمر الدولي للتقريب بين المذاهب الإسلامية المنعقد بالمركز الإسلامي في انكلترا 8-9/ جمادي الثانية/ 1428هــ - 23-24/ 6/ 2007
تمهيد
ما دامت العصمة محصورة في الأنبياء والأوصياء، لا يحق لأحد ٍ أن يحتكر الحق ّ فيدعي أن كل ما يدّعيه هو الصواب، وأن ما يعتنقه الآخرون هو الباطل، فهذا هو التعصب الذي جرّ على المسلمين ويلات ٍ كثيرة وصدع وحدتهم. لقد قرأنا واستمعنا إلى الكثير من أمراض التعصب المذهبي، حيث الإصرار على الموقف، ورفض الآخر، ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا معارك جدلية تثير الإشمئزاز وتدعو إلى الدهشة وما اثاره علماء الكلام في القرون السابقة من مسائل حديّة ُتخرج الشخص من الملة بمجرد عدم قبوله بها وتمنع حتى من الصلاة عليه لو مات، أو دفنه في مقابر المسلمين نماذج من تمزيق المسلمين وتوسيع شقة الخلاف بينهم. مثلا ً نقرأ كلاما ً لمحمد بن اسحاق بن خزيمة أنه كان يقول: (القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، لا تقبل شهادته، ولا يُعاد إن مَرِض، ولا يصلّى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين...) لقد باعدت مقولات كهذه بين المسلمين، وأدّت إلى تكفير بعضهم البعض، حيث التعصّب الأهوج بلغ أقصى درجاته، وأنتهكت الحرمات، وسُفكت الدماء بغير حق. إننا نؤمن بأن الخلافات والفوارق بين الأفراد والجماعات في الأمة الإسلامية قد تكون جزئية وهامشية، إلا أن سيطرة الأهواء وانعدام الوعي يدفعان الفرد نحو المغالاة والعناد، وتأجيج نار الحقد والعداء. وقد يكون منشأ تلك الخلافات سوء الفهم الناشئ من مصادمات فكرية غير ناضجة، يترسخ في الأذهان حتى يصبح جزءا ً من أساسيات الفكر والعقيدة، والحل ّ الوحيد هو الانفتاح النابع من صدق النية، والرغبة في الإجتماع والألفة كي يأخذ العقل والمنطق دورهما في حسم الأمور العالقة، ويحّل ذلك محل التراشق بالتهم وتبادل سوء الظن. الحوار المعتدل المستند إلى المحبة وصفاء القلوب وصدق النوايا هو العلاج الوحيد للخروج من مأزق التعصب، كي يقلّل من أهمية المسائل الفرعية، ويؤكد على القواسم المشتركة، فما يجتمع عليه المسلمون على اختلاف مذاهبهم أكثر بكثير ممّا يختلفون فيه.
ضوابط قرآنية للحوار: فما هو الحوار المعتدل؟ وما هي أساليبه ومناهجه؟
فما هو الحوار المعتدل؟ وما هي أساليبه ومناهجه؟ إنه الكلمة الطيبة التي قرنها الله جل وعلا بالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهو الذي قال عنه في موضع آخر من كتابه العزيز (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (1). يرسم القرآن الكريم للمؤمنين جميعا ً ضوابط للحوار، وآدابا ً للموعظة، تحدّد آلية هذا النشاط الإنساني بغية أن يكون له أطيب الأثر في الأفراد والجماعات. 1. يقول عزمن قائل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2). 2. لقد أمر اللّه عباده الصالحين أن يلتزموا بأفضل ما يملكون من منطق فقال: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (3). 3. ويبقى القول الحسن، والتكلم بما هو حسن ٌ من الألفاظ والمعاني شعارا ً عاما ً للجميع، نعم لجميع الناس بغض ّ النظر عن اعتقادهم، قال جل وعلا: (وقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) (4). 4. إن اختيار الألفاظ المهذبة والتعابير الجميلة البعيدة عن الاستفزاز نهج قرآني حتى في التعامل مع غير الموحّدين، يقول عز ّ من قائل: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (5). 5. ولما كان اللفظ ربما يحتمل أكثر من معنى، فيستعمل الشخص كلمة وهوغافل عن الآثار السلبية التي تترتب على كلامه، جاء الخطاب القرآني صريحا ً في اجتناب تعبير، وتبديل ذلك بتعبير آخر، ففي عصر الرسول (ص) كان بعض المسلمين يطلب من هذا القائد العظيم أن ينظر إليهم حين يحدّثهم، ولكنهم كانوا يقولون (راعنا) التي قد تدل على الرعاية لكنها في اللغة العبرية – وهي لغة اليهود- كانت تدّل على الشتم والسخرية، لذا جاء الوحي صريحا ً في النهي عن استعمال هذه اللفظة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا) (6) ولكي يزيد هذا الأمر بيانا ً قال جل وعلا (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) (7). وهكذا نلاحظ أن لفظة واحدة قد تغّير مجرى الحوار إلى ما لا يرتضيه الله جل وعلا، بل ينهى عنه. 6. ولا بد أن يكون الحوار مستندا ً إلى اللين والرفق بعيدا ً عن العنف والشدة، قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام (اذهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (8) 7. والمؤمنون مأمورون بأن يكون الكلام الصادر منهم سديدا ً بعيدا ً عن الفضول، خاليا ً من الأقاويل الفارغة، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (9)
مطابقة الكلام لمقتضى الحال
التركيز على جوهر البحث والابتعاد عن الأمور الهامشية أمر مهم في التحاور، لكن الأهم من ذلك هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: (إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) (10). لا فائدة في مخاطبة الجماهير بما هو بعيد عن أفهامهم، كما أن ضرب الأمثلة التي لا تنسجم مع المستوى العلمي للناس في البيئة التي يعيشونها لا يعود بالفائدة أبدا ً. لاحظوا كيف أن شركات صنع الأدوية تصنع الأقراص التي يراد بها علاج الأطفال في حجم أصغر وقد تغلفها بلبوس حلو المذاق كي تكون مقبولة لصغار السن الذي لا يفهمون فلسفة العلاج والدواء.... كذلك ينبغي أن يكون الخطاب الموجّه إلى الأحداث حلوا ًوجميلا ً وهادئا.. و (حسن الاختيار) مفردة أخرى من مفردات هذا الخط، فحينما هاجر المسلمون إلى الحبشة وقام جعفر الطيّار في مجلس حاكم تلك المنطقة شارحا ً أهداف الإسلام، اختار سورة مريم وتلا على القساوسة في ذلك المجلس الآيات القرآنية التي تبين عفة السيدة مريم وطهارة مولد عيسى عليهما السلام، وكان لذلك أطيب الأثر في الذين كانوا يستمعون إليه بلهفة وشوق. يتعرض الناس لأجواء طبيعية من حسن الإستماع أحيانا ً، والملل أحيانا ً أخرى، وكما يقول الإمام علي (ع) (إن للقلوب شهوة وإقبالا ً وإدبارا ً، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها فإن القلب إذا أ ُكرِه عمي) (11) وكما أن الأراضي تختلف من حيث قابليتها للزراعة، فمنها ما هو صالح ومؤهل للانبات فيكتفي بنزول المطر وسقي الزرع ليثمر على أحسن وجه، ومنها ما يكون سبخا ً لا يصلح إلا للشوك والحشيش... كذلك القلوب والأرواح فمنها ما هو مستعد لقبول الحق، ومنها ما بُني على العناد واللجاجة.. لذلك فإن اسلوب الحديث مع أولئك يختلف عن غيرهم... وحتى القرآن الكريم الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين، لا يزيد الظالمين والمعاندين إلا ابتعادا ً عن جادة الهداية... هنا تظهر أهمية مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
الإعتماد على البرهان في الحوار
قد يحلو للمحاور أن يغرق في الأماني ويركب زورق الخيال، لكن نظرة ثاقبة في الأسلوب القرآني تدلنا على أهمية استناد الحوار إلى براهين جلية لا تقبل الرد. 1. خذوا مثلا ً على ذلك إدعاء بعض المسيحيين أو اليهود أنهم وحدهم يستحقون دخول الجنة: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (12)، وحيث كانت هذه الدعوى خالية من أي برهان، كانت ساقطة من تلقاء نفسها. 2. وبالنسبة إلى الذين اتخذوا آلهة من دون الله جل وعلا، يقرّر القرآن الكريم أن أي موقف ٍ من هذا القبيل يحتاج إلى برهان: (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) (13) 3. ويقول جلا وعلا في موضع آخر (فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) (14)، فالمطالبة بالبرهان العقلي والمنطقي، والنص الجلّي من القرآن والسنة ينبغى أن توضع في أساسيات الحوار، فإذا استوفى المحاور هذا الأمر كان واثقا ً من سلامة النتائج في البحث، كما كان يفعل الرسول (ص) في ما أمر به (قُل إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) (15). الحكمة هي ضالة المؤمن يأخذها ويتمسك بها حيث وجدها، والعناد خصلة من لم يشم رائحة الإيمان، لقد وصف الله جل وعلا المعاندين في آيتين بليغتين، فقال مرة: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) (16)، وقال أخرى: (بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (17). إن من اشد ما يبتلى به الانسان في الحوار هو الابتعاد عن البرهان والركون إلى الرواسب والتراكمات الناشئة من تقليد الآباء والأجداد.
إلتزام الانصاف والحذر من عوامل الحب والبغض
لا بد ان يكون الحوار ابتغاء ً لإتضاح الحق ّ بصورته الناصعة، وبعيدا ً عن الأهواء والرغبات الفردية والفئوية، إن أشرف ما يمتاز به الإنسان المنصف هو قول الحق حتى لو كان على نفسه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) (18). يجب إسقاط كل حسابات القرابة والصداقة والرغبات والأهواء في مجال الدفاع عن الحق، والحوار الهادف، لأن التزام الحق هو المعيار الأول، قال تعال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) (19). ودرس قرآني آخر نستفيده من سيرة نبي اله موسى عليه السلام، حيث كلّف بالذهاب إلى فرعون والقاء الحجة عليه، فكان من إنصافه أن يعترف بفضيلة لأخيه هارون، فقال كما ورد في القرآن الكريم على لسانه- (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً) (20). وحين دخل الرسول الأعظم (ص) مكة المكرمة بعد الفتح، لم يؤثرعمّه رغم اصراره على (عثمان بن طلحة) بل سلّم مفاتيح الكعبة الشريفة إلى هذا الأخير وهو يتلو قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (21)
آفات الحوار والمناظرة
الآفة الأولى: التي ينبغي أن يتجنبها المُناظر هي: المراء، فقد روي عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وأنس قالوا: (خرج علينا رسول الله (ص) يوما ً ونحن نتمارى في شئ من أمر الدين، فغضب غضبا ً شديدا ً لم يغضب مثله ثم قال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة...) (22). هناك من يناقش ويتجادل لغرض النقاش والجدل فقط ولا يهمه البحث عن الحقيقة، وهذا هو المراء. الآفة الثانية: هي الرياء، الذي هو الداء العضال والعلة المهلكة، وقد ورد في تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (23)، إنهم أهل الرياء، والمقصود من الرياء هنا بذل المحاور كل جهده لجلب عواطف الحاضرين لتأييده لكي يدعموه في موقفه من خصمه. لقد ورد في الحديث: (ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحب أن يحمد في جميع أموره). الآفة الثالثة: هي الغضب، ففي الحديث (الغضب يُفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل) وعنه صلى الله عليه وآله: (من كفّ غضبه ستر الله عورته). والآفة الرابعة: هي: الحقد والحسد وهما متلازمان غالبا ً. ولقد شاهدنا مناظرات كثيرة على شاشات بعض الفضائيات سواء ما كان محورها أمرا ً سياسيا ً أو موضوعا ً عقائديا ً وفكريا ً لا تخلو من هذه الآفات الأربعة. وفي هذا يقول رسول الله (ص): (دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تتحابوا) (24). فلكي ينجح الحوار ويكون منسجما ً مع النهج القرآني يجب أن يرتكز على الإنصاف وقول الحق ويبتعد عن السلبيات التي ذكرناها.
الأدب الإسلامي في التعامل مع من يخالفنا في الرأي
يرسم القرآن الكريم ضابطة دقيقة في كيفية التعامل مع الآخرين، بغية ضمان المجتمع السليم، فينهى عن الغيبة والكذب والنميمة وقول الزور والبهتان تجاه من يخالفك في الرأي العلمي والفقهي أو في السلوك الإجتماعي والسياسي. وحريّ بالجماعات الإسلامية أن تلتزم بهذه الضابطة التي لم تُنسخ ولا تقبل الإستثناء لتغيّر الظروف والعصور، قال تعال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (25). (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (26). وينبغى أن نتذكر دائما ً أن القرآن الكريم ينهى عن التفرقة والتنازع فيقول الله جل وعلا: (إن الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعا ً لست منهم في شئ، إنما أمرهم إلى الله، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (27). ويقول عز من قائل: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (28).
قيمة الرأي الآخر
وهنا تبرز أهمية الاعتراف بآراء الآخرين وعدم استبعادها لمجرّد أنها لا تلتقي مع ما اعتدنا عليه. يقول الشيخ محمد الغزالي: (الشئ الذي نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين، وأن ما عداه ليس بدين، وأن يجمد على ما عنده جمودا ً قد يضر ّ بالإسلام كله ويصدع وحدته، وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبي ما يثير الإشمئزاز ويدعو إلى الدهشة، وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصدا ً إلى تمزيق المسلمين، وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة) (29). إن اساس الخليقة قائم على التعدد والاختلاف، والقرآن الكريم يؤسس لهذا المبدأ في آيات عديدة منها: 1. قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (30)، فاختلاف الألوان والألسنة والثقافات والرؤى من آيات الله التي بينها لمن يعقل ويتدبر!! فكيف يسوغ للون معين أو مجموعة خاصة أن تنكر على الآخرين رؤاهم وتطلعاتهم؟!. 2. (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.... إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (31)، إن الله خلق الخلق وفطرهم على الإختلاف والتلّون، فلماذا يحاول بعض الدعاة إلى الإسلام أن يزيلوا الفوارق ويحصروا الناس في مسار ٍ واحد، ومذاقٍ يرونه هو الصواب وما عداه باطلا ً؟ أليس هذا عملا ً مخالفا ً للفطرة الإنسانية؟ 3. وحتى الهداية – وهي الهدف الأسمى من إرسال الرسل- يصرّح الله جل وعلا بأنه لم تتعلق مشيئته بأن يسير الجميع في هذا الخط، فقال سبحانه: (... وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (32). 4. ورغم أن الإسلام هو دين الحق، وإن محمدا ً (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه، فتكون الصورة الكاملة للتشريع المنسجم مع الفطرة السليمة، يأمر الله جل وعلا رسوله الكريم بأن يخاطب الملحدين والمشركين بهذا التعليم الناصع: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (33)، هذا هو الأدب القرآني (وإنّا أو أياكم)... غاية في الإنصاف وتحملّ الرأي الآخر. 5. إن أساس التكليف قائم على حرية العباد في سلوك طريق الطاعة أو المعصية، والاختبار والابتلاء الرباني هو معيار تمييز المحق من المدعي زيفا ً، وحتى في مجال العبادة نجد قوله تعالى: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي....) (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) (34). إن تعدد الآراء يُثري الفكر الإسلامي، ويؤدي إلى فتح آفاق جديدة لدى الباحثين ولقد أجاد أستاذنا الحجة السيد محمد تقي الحكيم حين اعتبر من فوائد البحث المقارن: (إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية، وتقريب شقة الخلاف بين المسلمين. إن تلاقح الأفكار يؤدي إلى تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والإعتقادية بلا ريب) (35).
الأبتعاد عن الآراء والفتاوى الشاذة
نحن نعرف أن الرضاع يكون سببا ً لإحداث علقة شبيهة بعلقة النسب، ومستند ذلك قوله تعالى في تعداد النساء المحارم: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) (سورة النساء / آية 23)، وحديث رسول الله (ص): (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) (36). وقد ذهب المشهور من فقهاء المسلمين إلى أن الرضاع المحرم لا بد أن يقع خلال العامين الأوّلين من حياة الرضيع، فلو رضع بعدها لا تثبت به الحرمة، لقول رسول الله (ص): (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) رواه الدار قطني عن ابن عباس (37)، أما رضاع الكبير فهو شاذ لا يعتمد عليه. وبوقوع الرضاع خلال الحولين أفتى فقهاء الإمامية استنادا ً إلى أحاديث صريحة عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) حيث قال: (لا رضاع بعد فطام) وحين سأل الراوي عن الفطام قال: (الحولين اللذين قال الله عز وجل عنهما) (38). أما الإمام مالك فقد أضاف شهرين آخرين لمدة العامين، لأن الطفل قد يحتاج لهذه المدة للتدرج في تحويل غذائه من اللبن إلى الطعام (39). وقدّر الإمام أبو حنيفة مدة الرضاع بسنتين ونصف، ليتدرج الطفل في نصف العام على تحويل غذائه من اللبن إلى غيره. وإزاء هذا المبنى المشهور لدى فقهاء المسلمين استند أحد علماء مصر أخيرا ً إلى رأي شاذ ّ فأجاز أن ُترضع الموظفة في الدائرة زميلها بخمس رضعات فيصبح أخا ً لها بالرضاعة، ولذلك فلا تحتاج إلى أن تراعي الحجاب معه، وكأنه بهذا حل ّ مشكلة الإختلاط في الدوائر والشركات. لقد أثارت هذه الفتوى الشاذة ضجّة عظيمة بين أوساط المسلمين، وأدت إلى سخرية عجيبة، وأتصور أنّـا في غنى ً عن هذا كله، إذ كيف يجوز للرجل البالغ أن يمصّ ثدي امرأة لم تصبح أخته بعد، ويلمس صدرها، ويكرر ذلك خمس مرات على الأقل بغية نشر الحرمة بينه وبين تلك المرأة؟ ورأي آخر تطالعنا به جريدة (الرياض) بتاريخ 23/3/2007، حيث التقى فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد المطلق عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الطلاب المبتعثين إلى شرق آسيا، وقال لهم: (يجوز للمبتعث الزواج من بلد الإبتعاث بنيّة الطلاق إذا خشى المبتعث على نفسه، على أن لا يخبر الزوجة بنيته) ناهيك عن فتاوى التكفير للمسلمين التي يصدرها من لم يذق طعم الإيمان. إن الإبتعاد عن الآراء والفتاوى الشاذة يساعد كثيرا ً على تجنّب سوء الفهم لديننا وعقيدتنا، لكن- ونحن في مجال الحوار المعتدل- نعتقد بأن التركيز على نقاط الضعف هذه والبحث عن الآراء الشاذة لا يمكن أن يعاب عليه كل المذهب. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1 - سورة فاطر/ أية 10. 2 - سورة النحل / آية 125. 3 - سورة الإسراء/ آية 53. 4 - سورة البقرة/ آية 83. 5 - سورة الأنعام/ آية 108. 6 - سورة البقرة / آية 104. 7 - سورة النساء/ آية 46. 8- سورة طه/آية43- 44. 9 - سورة الأحزاب: آية 70-71. 10 - أصول الكافي للكليني. 11 - نهج البلاغة / الكلمات القصار رقم 193. 12 - سورة البقرة: آية 111 13 - سورة الأنبياء: آية 24. 14 - سورة القصص: آية 75. 15 -سورة الأنعام: أية 75. 16 - سورة ص: آية 2. 17 -سورة الملك: آية 21. 18 -سورة النساء: آية 135. 19 -سورة الأنعام: ية 152. 20 - سورةالقصص: آية 34 21 -سورة النساء: آية 58. 22 -منية المريد في آداب المفيد والمستفيد: ص 158. 23 -سورة فاطر: آية 10. 24 -منية المريد ص163. 25 -سورة الحجرات: آية 11. 26 -سورة الحجرات: آية 12. 27 -سورة الأنعام: آية 159. 28 -سورة الأنفال: آية 46. 29 - شرعية الأختلاف / ص 148. 30 -سورة الروم: آية 22 31 -سورة هود: آية 118-119. 32 -سورة الانعام: آية 35. 33 -سورة سبأ: آية 24. 34 - سزرة الزمر: آية 13-14. 35 - راجع: الأصول العامة للفقه المقارن/ ص 14- طبعة دار الأندلس بيروت. 36 - جامع الأصول 12/ 146- ونيل الأوطار ج 6/ ص 317 37 - نيل الأوطار: ج6- ص 315. 38 - الكافي للكليني: ج5/ص443- والتهذيب للشيخ الطوسي: ج7/ص318. 39 - الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي ج7/ ص 140.