الآن، انقشعت غبرة يوم الطف عن أجساد مقطعة وأجزاء مبعثرة، وبصمة مضمخة بدماء عترة النبي الطاهرة، وهمسة من الحوراء زينب “إن كان هذا يرضيك - يا رب- فخذ حتى ترضى”، فالموت عادة وكرامة آل محمد من الله الشهادة، فالحياة مع الظالمين برماً، ولا قيمة للموت إن لم يأت في سبيل تعزيز المبادئ والقيم، ولا حياة للمبادئ إن لم يتقدم المرء للتضحية من اجلها. الآن، تحقق الهدف وانتصر الحق على الباطل، وتقدمت الحرية على الاستبداد، ولم يشهد الناس مقتولا حقق كل هذا الانتصار، وظل اسمه يعبر من زمان إلى آخر، ويزداد المصطفون إلى جانبه، ويبحث الناس عن أفكاره ويتساءل الأحرار عن قضيته، وترتفع مبادئه عاليا، وتتحول أقواله إلى حكم، وأفعاله إلى أنموذج مثل الحسين عليه السلام. الآن، قدم الحسين كل ما لديه، دمه وماله وعياله، في سبيل الله ولمصلحة الناس، وصفه الأديب جبران خليل جبران بالقول “لم أجد في تاريخ البشرية كلها رجلاً جعل دمه الطاهر وقفاً لاسترجاع كرامات الناس كالحسين بن علي”، لكنها تضحية ليست غريبة على رجل أذن النبي في أذنه كما يؤذن للصلاة. إذ بهذه المبادرة ـ كما يقول العلامة مفتي جبل لبنان الراحل الشيخ د. عبد الله العلايلي. “أفرغ النبي بعضاً من روحه في سريرة الفتى المبارك والمختار ليعطي بعضاً من النبوة في بعض من أعمال الناس”. الآن هنا، بدأت مهمة الأمة ومسؤوليتها الثقيلة في الحفاظ على تلك الكرامة، وفي تفعيل مبادئ الشهيد والمحافظة عليها، فكل الأمة بحاجة إلى استحضار كربلاء من جديد، استحضار ذلك الأنموذج والمبدأ والقدوة، لتقرأ الحدث التاريخي بوصفه ملحمة من أجل الحق والحرية، ومن اجل تحقيق العدالة، فكم تحتاج الأمة لاسترجاع دروس كربلاء؟! العفّة الثورية أرادوا الدين رسما وأراده الحسين جوهرا، فهموا الدين أداة للمنفعة الشخصية، وتدعيم النفوذ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفهمه الحسين ضوءا يستهدي به الإنسان لخدمة الحق والعدالة، وخدمة الناس بالضرورة، فاستخدام الدين مرفوض، واستغلاله كغطاء لتحقيق المكاسب الذاتية تشويه لقيم الدين وأهدافه العليا، هكذا يمكن أن نفهم كيف قطع الحسين طوافه وتوجه إلى كربلاء، ليقطع الطريق أمام من يتمسك بقشور الدين على حساب الجوهر، وليعطي أنموذجا ودرسا بليغا وعمليا لعلماء الدين حول فقه الأولويات. الآن، على المؤسسة الدينية أن تعتني بجوهر الدين ومقاصده وأبعاده التي تتجاوز المظاهر والقشور، عليها أن تتحمل مسؤوليتها في وقف الفتاوى التي تبيح هدر دماء الأبرياء من الأطفال والمسنين والمغايرين في العقيدة، ووقف حركة تصنيف الناس، بما يبرر ممارسة العنف ضدهم، وكم تحتاج المؤسسة الدينية لقراءة العفة الثورية التي وسمت حركة الحسين، والتي قدمت وحدة الأمة ومصالحها على كل المصالح. دافع عن مبادئه من دون أن يبدأ بقتال، ومن دون أن يقطع شجرة، أو يرهب طفلا بريئا، أو يروّع امرأة في خدرها. حركة مدروسة قتلوا الحسين في كربلاء، لكنه انتصر في كشف كل الذين خرجوا على شرعية الأمة، وتنكروا لوحدتها، بينما انهزم القاتل، وسقط سيفه المسلط على رقبة الناس. فإن كانت عاشوراء معركة قيم ومبادئ وأفكار، وهي كذلك، فهزيمة الذين خرجوا على الوحدة هو انتصار للإمام الحسين اليوم، وكلما ترفعنا عن الانقسامات المذهبية والطائفية والعنصرية، تقدمنا أكثر في طريق الحسين، وكلما اصطففنا إلى جانب بعضنا بعضا إخوانا، عمقنا من ذلك الانتصار ومنحناه ديمومة البقاء والقوة والمنعة. لقد كشفت كربلاء عن الخلل الذي اعترى المؤسسة الدينية، وسلط الإمام الحسين الضوء على أخطاء رجال الدين المرتبطين بمصالحهم الذاتية، واستطاع أن يحرك الساكن بصرخة لاتزال أصداؤها تتردد حتى اليوم، وإلى يوم الدين، وهو ما يؤكد أن النهضة الحسينية لم تكن عبثية، ولم تأت من خلال ردة فعل عشوائية، وإنما هي حركة مدروسة منذ جده محمد، وأبيه علي، وأخيه الحسن، فقد كانت حركة الإمامين الحسن والحسين وجهان لرسالة واحدة، فكربلاء كانت حسينية التخطيط حُسينية الانطلاقة، وهكذا يجب أن تستمر،، وهكذا يجب أن نكون، فالسلام على الحسين وعلى أبناء الحسين وعلى أصحاب الحسين، ولا يوم كيومك يا أبا عبدالله. بقلم: أحمد شهاب المصدر: شبكة النبأ المعلوماتية