البحث الرقم: 354 التاريخ: 17 ذو القعدة 1429 هـ المشاهدات: 8623
معركة الزلاقة من المعارك الحاسمة التي خاضها المسلمون في الأندلس، واستطاعوا إنقاذ ذلك القطر من السقوط بيد الأسبان مدة أربعة قرون (1086 ـ 1492 م). وقد قاد الجيشُ الإسلامي الأمير المرابطي يوسف بن تاشفين الصنهاجي الحميري، فبعد سقوط الحكم الأموي، انقسمت الأندلس إلى ثلاث وعشرين دويلة سمِّيت بدول الطوائف (1)، وشكّلت كل مدينة دولة قائمة بذاتها، وقد تناحرت هذه الدويلات فيما بينها، وعُرف حكّامها بملوك الطوائف، تلقبوا بالألقاب الخلافية كالمأمون والمعتصم والمتوكل.. وفي ذلك يقول أبو علي الحسن بن رشيق (2): مِمّا يُزَهِّدُني في أرْضِ أندلس * سماعُ مقتدرٍ فيها ومعتضدِ ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها * كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد وقد رأى النصارى الأسبان الظروف سانحة لهم لطرد المسلمين من الأندلس، فشنّوا عليهم حرباً ضروساً نابعة من شعورهم الديني المعادي للعرب والمسلمين، أسموها حرب الاسترداد. وقد اشتدّت هذه الحرب خاصة عندما ارتقى عرش أسبانيا ألفونس السادس بن فرديناند الذي كان يرغب باحتلال الجزيرة الإيبرية وطرد المسلمين منها، وقد توّج أعماله الحربية بالاستيلاء على مدينة طليطلة عاصمة القوط في 25 أيار 1085 م / مستهلّ صفر 478 هـ (3)، وقد أحدث سقوطها بيد الأسبان دوياً هائلاً في العالَم الإسلامي العربي، وأثار الذعر في نفوس المسلمين الذين بدؤوا بمغادرة المناطق المجاورة لألفونس، ولم يحرك حُكّام الأندلس ساكناً، إذ ظلوا منغمسين بملذّاتهم وفسادهم، (وجعل الله بين أولئك الأمراء من التحاسد والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات والعشائر المتغايرات، فلم تتصل لهم في الله يد ولا نشأ على التعاضد عزم) (4). بعد استيلائه على طليطلة شعر ألفونس بأنه أضحى قادراً على تحدّي دول الطوائف والقضاء عليها (5)، وبدأ بالضغط على الدول الكبرى المجاورة له، أي مملكتَي بطليوس التي يحكمها المتوكل بن الأفطس، واشبيلية وملكها المعتمد بن عباد، وأدرك ملوك الطوائف عجزهم عن الوقوف بوجه النصارى، فقرّروا بعد مشاورات فيما بينهم الاستنجاد بالمرابطين الذين أسّسوا دولتهم في المغرب الأقصى من حوض نهر السنغال إلى شواطئ البحر المتوسط، وأرسلوا السفراء إلى أمير المرابطين يوسف بن تاشفين (6)، وكذلك عبرت إلى المغرب وفود شعبية تستغيث به (7)، وكان الأمير يصغي إليهم ويَعِدُهم خيراً. وقد طلب الأمير يوسف ـ بناء على رأي كاتبه ابن اسبط ـ من المعتمد أن يهبه الجزيرة الخضراء لتكون مركزاً لتجميع قواته (8)، وقد وافق المعتمد على ذلك وكتب عقد هبة الجزيرة الخضراء للأمير يوسف أمام القاضي والفقهاء، على الرغم من احتجاج ابنه الرشيد (9). بعد حصوله على الجزيرة الخضراء قرّر الأمير يوسف تلبية نداء أهل الأندلس، واستنفر قواته للجهاد، فبعث إلى مراكش في طلب الجند (10)، وكذلك إلى الصحراء وبلاد الزاب والقبلة (11). وجهّز السفن لعبور هذه القوات، وكانت طليعة العابرين فرقة من الفرسان يُقدّر عددها بسبعة آلاف فارس بقيادة داوود بن عائشة (12)، وقد أمر الأمير يوسف بعبور الجمال بأعداد كثيرة (13). وأخيراً عبر الأمير المضيق إلى الأندلس بموكب من قادة المرابطين، وقد دعا الله أن يسهِّل عليه هذا العبور، ونزل في الجزيرة الخضراء بعد ظهر يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479 هـ / حزيران 1086 م (14)، فصلّى بها الظهر، واستقبله سكّانها بالترحاب، وقدّموا للجيش القادم الأقوات والضيافات (15)، ثم توجه الأمير إلى اشبيلية، واستقبله المعتمد بالترحاب وقدّم له الهدايا (16)، واستعرض المعتمد الجيش المرابطي، فرأى (عسكراً نقياً ومنظراً بهياً) (17). أقام الأمير يوسف في اشبيلية ثلاثة استراح بها (18)، وقال للمعتمد: (إنما جئت ناوياً جهاد العدو، فحيثما كان توجّهت) (19)، وأثناء إقامته القصيرة في اشبيلية بعث إلى حكام الأندلس يستنفرهم للجهاد (20)، وسار الجيش الإسلامي من مرابطين وأندلسيين إلى سهل الزلاّقة (21)، وهو سهل حرجي فسيح على مسافة ثمانية أميال إلى الشمال الشرقي من بطليوس، وهناك نظّم الأميرُ الجيش، فجعل الأندلسيين جيشاً قائماً بذاته أسند قيادته إلى المعتمد بن عباد الذي تولّى في الوقت ذاته المقدمة، وعيّن على الميمنة المتوكّل بن الأفطس، وجعل أهل شرق الأندلس في الميسرة، وحشد بقية الأندلسيين في الساقة (22)، وكان مركز الجيش الأندلسي أمام المرابطين، ونظّم كذلك الجيش المرابطي، فولّى على الفرسان داوود بن عائشة، وعلى الحشم سير بن أبي بكر، وتولّى قيادة الجيش الإسلامي بنفسه، وعسكر المرابطون خلف الأندلسيين تفصل بين الجيشين تلّة بقصد التمويه (23)، وقد بلغ عدد الجيش الإسلامي 24 ألف جندي (24). كانت أنباءُ عبور المرابطين إلى الأندلس قد وصلت إلى ألفونس السادس وهو يحاصر سرقسطة (25)، فعاد مسرعاً إلى طليطلة للاستعداد لدفع الخطر الذي دهمه على غفلة، وقد أمْلَتْ عليه الظروف الجديدة التحالف مع أمراء أسبانيا النصرانية، فبعث إلى سانشو راميرز ملك أرجوان يستدعيه لنجدته، وكان سانشو يحاصر طرطوشة، وإلى الكونت برنجار ريموند صاحب بنبلونة، وإلى قائده البرهانس يستدعيه من بلنسية (26). استنفر الكبير والصغير، لم يترك في أقاصي مملكته من يقدر على حمل السلاح إلاّ استنهضه (27)، جاء يجرّ الشوك والحجر (28)، وطلب النجدة من ولايات فرنسا الجنوبية من لانجْدوك وجويانة وبرجونية وبروفانس (29)، وتدفق إليه المتطوعون الأوروبيون (30). وقسم ألفونس جيشه إلى قسمين، أسند قيادة الجيش الأول إلى ابن عمه الكونت غارسيا ورودريك، وما لبث غارسيا أن انسحب قبل بدء المعركة إثر خلاف مع ألفونس الذي أبقى رودريك في القيادة، واحتفظ بقيادة الجيش الثاني وعيّن على جناحيه سانشوراميرز والكونت برنجار ريموند وتولّى هو القلب (31). استعرض ألفونس جيشه فأعجبتْه كثرته وأخذه الغرور، فقال: بهذا الجيش ألقى محمداً وآل محمد والإنس والجن والملائكة (32). وتقدم الرهبان والقسّيسون أمامه وهم يرفعُون الأناجيل والصلبان لإذكاء الحماس الديني في نفوس الجنود (33) الذين بلغ عددهم أكثر من ستين ألفاً (34)، وسار ألفونس بجيشه لملاقاة الجيش الإسلامي، فوصل إلى بطحاء الزلاقة وخيّم على بُعد ثلاثة أميال عن الجيش المسلم، يفصل بينهما نهر بطليوس يشرب منه المتحاربون (35). كانت الأحوال تنذر بأن المعركة ستكون حاسمة بالنسبة للأندلس، فقد بلغت القوى النصرانية ذروة قوتها، تذكيها نزعةٌ صليبية تهدف إلى طرد العرب من اسبانيا، وبالمقابل فإنّ الحماس الذي بثّه المرابطون قد جدد عزائم الأندلسيين وأحيى موات الآمال فيهم. كان ألفونس يهدف إلى ضرب القوى الأندلسية المحلية، لأنهم سكان البلاد الأصليين، وبالقضاء عليهم تخلوله الساحة من أية قوة مناوِئة في المستقبل، فيستولي على الجزيرة، وبذلك يحقق الهدف من حرب الاسترداد. وكان ينظر إلى الأندلسيين نظرة احتقار وازدراء، فهو الذي اقتضى منهم الجزية سنين عدداً، وتلاعب بمصيرهم مترقباً الفرصة السانحة لاستئصالهم من الأندلس، وها هي قد أتت! أما المرابطون فبنظره طارئون على الأندلس، ولا بدّ لهم من العودة إلى وطنهم الأصلي المغرب، وإنهم وإن كانوا مقاتلين أشدّاء، فإنه بالقضاء على الأندلسيين تنفتح الطريق أمامه لهزيمتهم، بسبب جهلهم بالطبيعة الجغرافية للبلاد. في المقابل كان الأندلسيون يُظهرون حماسهم للقتال، ولكنّ الخنوع والحياة الهنيئة بلغت منهم مبلغاً، كانوا حريصين على حياتهم ولا يرغبون في الاستشهاد، فقد خضعوا للنفوذ النصراني ودفعوا للأسبان الجزية لقاء المحافظة على عروشهم، فهم لا جدوى منهم ولا يمكن الاعتماد عليهم، ما عدا البعض منهم كالمعتمد بن عباد ملك اشبيلية والمتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس اللذين رفضا الانصياع لمتطلبات ألفونس المتكرِّرة، وقررا امتشاق الحسام، وبعض الأندلسيين كان يريد أن يضرب النصارى بالمرابطين، وبذلك يتخلّصون من أعدائهم المحليين بأسهل الطرق وعلى يد غيرهم، ويعود المرابطون بعد ذلك إلى المغرب، فتبقى لهم الأندلس خالصة وتسلم لهم دويلاتهم دون خسائر تذكر. أما المرابطون وهم المضطرمون حماساً دينياً فكانوا متشوقين إلى الاستشهاد، معتمدين في القتال على أنفسهم، خاصة وأنهم غرَباء في بلاد بعيدة. وقد أدرك يوسف أن لا جدوى من الأندلسيين ولا يمكن الاعتماد عليهم بعد ما لمس من أكثرهم التردّد والمماطلة. كانت جميع الدلائل تشير إلى تفوّق الجيش الأسباني على الجيش الإسلامي عدة وعدداً، ومن الميّزات التي تجعله متفوّقاً أن بلاده قريبة، بحيث تأتيه النجدات حتى من بلاد الفرنجة والبابوية، وكانت تحميه من الوراء سلسلة من الحصون المنيعة يلجأ إليها في حال الهزيمة. أما الجيش المرابطي فقد كان محدود العدد وليس باستطاعة الأمير يوسف استدعاء المزيد من الجنود من المغرب، فقد زجّ في المعركة كامل قوّاته التي استطاع تجنيدها، خاصة وأنه لا يرغب بإخلاء المغرب من المرابطين وقد أخضعه بالقوة، وأعداؤه لم يزولوا نهائياً عن مسرح الأحداث المغربية، واعتماده على الأندلسيين كان ضعيفاً، فلم يستطيعوا تجنيد عددٍ كبير من المقاتلين (36)، وكانوا في حالة من الانهيار المعنوي أمام ألفونس الذي أذلهم، وقد عوّض الأمير يوسف عن هذا الضعف في جيشه بالحماس الذي بثّه في نفوس الجنود. وعلى مقتضى الآداب الإسلامية قدّم الأمير يوسف إلى ألفونس كتاباً يعرض عليه الدخول في الإسلام أو دفع الجزية أو الحرب، وهي الطريقة الإسلامية المتّبعة مع أهل الكتاب. ومما جاء في كتاب الأمير (37): بلغنا يا أذفونش أنك نحوت (38) الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك فُلك تَعبر البحر عليها إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وترى عاقبة ادّعائك، (وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال) (39). قرأ ألفونس الكتاب، فزاد من غضبه وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل ملّته منذ ثمانين سنة؟! (40) وقال لرسول الأمير يوسف: قل للأمير لا تُتعب نفسك، أنا أصل إليك، وإننا سنلتقي في ساحة المعركة (41)، ومعنى ذلك أنه اختار الحرب، والحرب خدعة، فقد حاول ألفونس بمكره الشديد أن يخدع الأمير يوسف في تحديد يوم المعركة، فكتب إليه (42): انّ غداً يوم الجمعة لا نحب مقابلتكم فيه لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود وهم كُثر في محلتنا، وبعده الأحد عيدنا، فنحترم هذه الأعياد ويكون اللقاء يوم الاثنين.. فكان جواب الأمير: اتركوا اللعين وما أحبّ (43). تنبّه المعتمد إلى خديعة ألفونس، وقال للأمير: إنها حيلة منه وخدعة، إنما يريد غدْرنا فلا تطمئن إليه، وقصْده الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النهار (44). وأخذت جواسيس الفريقَين تتردّد بين المعسكرين، وأرسل ابن عباد طلائع من جيشه لرصد تحركات العدو، وأثناء الليل عاد بعض الجواسيس ليخبر المعتمد بأن ألفونس يوصي أصحابه بالمعتمد، لأنه أشعل هذه الحرب فيجب القضاء عليه (45)، وعند السحر من يوم الجمعة أقبل فارسان من فرقة الاستطلاع يخبران المعتمد ببدء تحرك العدو نحوهم، إذ أن الضوضاء وقعقعة السلاح تملآن أرجاء المعسكر (46). بدء المعركة: انقضّ الجيش الذي يقوده رودريك بمنتهى العنف على معسكر الأندلسيين، فاصطدم بفرسان المرابطين الذين يقودهم داوود بن عائشة، أرسلهم الأمير يوسف على عجلٍ لدعم الأندلسيين، وصمد داوود أمام الهجوم، وأرغم رودريك على التراجع إلى خط الدفاع الثاني، ولكنّ ذلك كلّفه خسائر فادحة (استأثر الله فيها بأرواح شهدت لها الرحمة وخطبتْها الجنة) (47)، فاضطر إلى التراجع، وفي الوقت نفسه زحف ألفونس ببقية جيشه نحو المسلمين، واقترن زحفُه بصياح هائل أثار الذعر في قلوب الأندلسيين قبل خوْضهم المعركة، فلاذوا بالفرار حتى أسوار بطليوس للاحتماء بها، ولم يصمدْ منهم إلاّ المعتمد، ومعه الاشبيليون (48) استطاعوا إنقاذ شرف المسلمين، وأُصيب المعتمد بجراح حتى قيل إن ثلاث أفراس قد عُقرت تحته (49). ودارت معركة رهيبة صمد فيها داوود والمعتمد، حتى فلّت السيوف وتكسّرت الرماح، وصبر المسلمون في المعركة (صبرالكرام لحرب اللئام) (50)، وأيقن ألفونس بالنصر معتقداً أنّ هذه هي قوة المسلمين المقاتلة وقد أخذت تضعف، واشتدّت حركة الفرار منها، ولم يعلَمْ ببقية الجيش المرابطي الذي يقوده الأمير يوسف، ففي تلك اللحظة الحاسِمة وثب الجيش المرابطي إلى ميدان المعركة في وقت أخذت فيه القوى النصرانية بالانهيار نتيجة الخسائر الفادحة التي أصابتها لدى الهجوم الأول، وأرسل الأمير يوسف القائد سير بن أبي بكر على رأس الحشم لمساندة القوات الإسلامية (51)، فتقوّت بذلك معنوياتهم في معركة مالت إلى هزيمتهم، وزحف الأمير بحرسه الخاص، وقام بعملية التفاف سريعة باغت فيها معسكر العدو من الخلف، ووصل إلى خيامه وأحرقها واباد حراسها ولم ينجُ منهم إلاّ القليل، وكانت طبول المرابطين تدقّ بعنف فترتج منها الأرض، ورغاء الجمال يتصاعد إلى السماء فبثّ الذعر في نفوس الأعداء وهلعت قلوبهم (52). في هذه الأثناء كان ألفونس يدفع بجيشه إلى الأمام لانتزاع النصر، فذُهل عندما رأى بعض حرس معسكره فارّين، وأتته الأخبار من داخل المعسكر باستيلاء المرابطين عليه (53) وأنه خسر حوالي عشرة آلاف قتيل (54)، وألفى ألفونُس نفسه محاصراً من قبل المسلمين، فاضطر للقتال متقهقراً نحو معسكره المحترق، ولكن الأمير لم يترك له فرصة لالتقاط الأنفاس، فانقضّ عليه كالسيل، وقاتل ألفونس عند ذلك قتال المستميت، وبلغ قلب الجيش المرابطي، حتى أنّ الأمير يوسف ارتاب بنتيجة المعركة (55)، فبدأ يبثّ الحماس في نفوس المسلمين قائلاً: يا معشر المسلمين، اصبروا لجهاد أعداء الله الكافرين، ومن رزق منكم الشهادة فله الجنة، ومن سلم فقد فاز بالأجر العظيم والغنيمة (56). ولم يقتصر يوسف على تشجيع الجنود وبثّ الحماس في نفوسهم، فقد كان يُقاتل في مقدمة الصفوف وهو ابن التاسعة والسبعين (وكأن العناية الإلهية كانت تحميه) (57) على حد قول أشباخ، وانتدت كذلك الفقهاء لوعظ الجنود وتشجيعهم (58). وفي هذا الجوّ الرهيب من القتال الذي دام بضع ساعات سقط خلاله آلاف القتلى وغمر الدم ساحة المعركة، عندها دفع الأمير يوسف حرسه الخاص من السودان إلى القتال (59)، فترجّل منهم حوالي أربعة آلاف كانوا مسلحين بدروق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الزان (60)، اندفعوا اندفاع الصاعقة لتحطيم المقاومة النصرانية، فطعنوا الخيل حتى رمحت بفرسانها، وانقضّ أسوَد شجاع من الحرس على ألفونس والتصق به ومنعه من استعمال سيفه وطعنه بخنجر يسمى الأطاس (61) كان متمنطقاً به، فهتك درعه ونفذ في فخذه (62)، وبقي أثره بادياً في ألفونس ما بقي حياً. وقبل دخول الظلام لاحت تباشير النصر للأمير يوسف، فقد لاذ من بقي من النصارى بالفرار، واشتدّت الهزيمة على ألفونس الذي تمنى الموت على العيش وطلب ماء لإرواء غليله فلم يجد منه قطرة واحدة، وأخيراً وقع بعض أتباعه على قليل من النبيذ فسقوه إيّاه (63)، ولجأ مع خمسمائة فارس من فرسانه الذين أفلتوا من أظفار المنية إلى تل قريب بانتظار الظلام للنجاة من سيوف المرابطين (64)، وحاول المسلمون اللحاق به فمنعهم الأمير يوسف قائلاً: الكلب إذا وهم لابد أن يعض، وقد سلّم الله المسلمين من معركة ولم يُقتل منهم إلاّ القليل، فإن هجمتم على هؤلاء أبلوا بلاءً عظيماً، ولكن اتركوهم ولاحظوا حالهم (65). امتثل المسلمون لأوامر الأمير وكانت مناسبة لألفونس، فقد انسلّ مع مَنْ بقي معه إلى مدينة قورية، ومنها تابع سيره إلى طليطلة، ودخلها بمائة فارس بعد أن مات الباقون في الطريق (66). وهناك سأل عن خيرة فرسانه ورجاله فلم يسمع إلاّ نواح الثكالى، فحزن عليهم حزناً شديداً (67)، وفقد ألفونس في الزلاقة القسم الأعظم من جيشه. وأمر يوسف بضم رؤوس القتلى من النصارى (68)، فعمل منها المسلمون مآذن يؤذِّنون عليها (69). وخسر المسلمون عدداً كبيراً، ولكن المنتصر دائماً يقلّل من خسائره، فقد ذكر ان مكان المعركة لم يكن فيه موضع قدم إلاّ على ميت أو دم (70)، وقضى في الزلاقة عددٌ من العلماء والفقهاء والقضاة، منهم قاضي مراكش عبد الملك المصمودي والفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي (71)، وأقام الجيش الإسلامي أربعة أيام يجمع الأسلاب والغنائم التي تركها الاسبان وراءهم في ساحة المعركة (72)، وآثر الأمير يوسف بها ملوك الأندلس، وقد عرّفهم أن هدفه الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام (73). وأرسل الأمير يوسف إلى المغرب كتاباً يزفّ إليهم البشرى السعيدة بالنصر المبين، ويحدد فيه زمان ومكان المعركة وخسائر العدو، وكذلك أرسل بدوره المعتمد بن عباد كتاباً إلى ابنه الرشيد في إشبيلية يزفّ إليه البشرى بالنصر، وكان الناس بانتظار الأنباء على أحرّ من الجمر، وقد حمل الرسالة الحمام الزاجل، وهذا نصّها (75): أعلم أنه التقت جموع المسلمين بالطاغية أذفنش اللعين ففتح الله للمسلمين، وهزم على أيديهم المشركين، والحمد لله رب العالمين، فأعلِمْ بذلك من قِبَلك من إخواننا المسلمين، والسلام. وقُرئت الرسالة بمسجد إشبيلية فعمّها السرور، وكذلك أرسل المعتمد كتاباً إلى سائر أنحاء مملكته وهو من إنشاء الكاتب ابن عبد الله بن عبد البر العمري، وفيه يحدّد تاريخ المعركة وسيرها وما أظهره ألفونس من الغدر، والآخرة للصالحين (76). وجعل الأندلسيون يوم الزلاقة نظير اليرموك والقادسية، (يوم لم يسمع بمثله من القادسية واليرموك، فيا له من فتحٍ ما كان أعظمه، يوم كبير ما كان أكرمَه، فيَوم الزلاقة ثبتت قدم الدين بعد زلاقها وعادت ظلمة الحق إلى إشراقها، نفست مخنق الجزيرة بعض التنفس واعتزّ به رؤوس الأندلس، فجزى الله أمير المسلمين وناصر الدين أفضل جزاء المسلمين بما بلّ من إرماق ونفس من خناق، ووصل لنصر هذه الجزيرة من حل وتجسم إلى تلبية دعائها واستبقاء دمائها من حزن وسهل، حتى هزموا المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون) (77). ـــــــــــــــ (1) البستاني: دائرة المعارف / م5/ ص238. (2) المراكشي: المعجب / ص70 ـ ابن الكردبوس / ص89. (3) ابن الكردبوس ص 85 ـ الضبي: بغية الملتمس / ص31 ـ دوزي: ملوك الطوائف / ص 272 وتاريخ مسلمي اسبانيا / جـ 2/ ص118. (4) ابن الخطيب: أعمال الأعلام / ص241. (5) ابن الكردبوس / ص89. (6) السلاوي: الاستقصا / جـ 1 / ص114 ـ الحميري: الروض المعطار / ص87 ـ المقري: نفح الطيب / جـ 6/ ص72. (7) الاستقصا / جـ 1/ ص114 ـ نفح الطيب / جـ 1/ ص92. (8) الحلل الموشية في الأخبار المراكشية / ص32. (9) الحلل الموشية / 33. (10) المعجب / ص131 ـ ابن الأثير الكامل / جـ 10/ ص152 ـ الحلل الموشية / ص31. (11) الاستقصا / جـ 1/ ص111. (12) المعجب / ص131 / وهو الذي حدد العدد بسبعة آلاف ـ ابن خلكان: وفيات الأعيان / جـ 5/ ص29 ـ أشباخ: الأندلس في عهد المرابطين / ص79. (13) الروض المعطار / ص87 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص94. (14) الاستقصا / جـ1/ ص111. (15) الروض المعطار / ص87. (16) نفح الطيب / جـ6/ ص95 ـ ابن الأبار القضاعي: الحلة السيراء / ص352. (17) الحل الموشية / ص34. (18) الحلل الموشية / ص34 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص79/ ويشير أن إقامة الأمير كانت ثمانية أيام. (19) المعجب / ص131 ـ 132. (20) مذكرات الأمير عبد الله بن زيري / ص104 ـ بغية الملتمس / ص31. (21) الحلل / ص35 ـ ابن الكردبوس / ص93 ـ تاريخ ابن خلدون: العبر / جـ 6/ ص186 ـ الكامل / جـ 10 / ص153 ـ دوزي: تاريخ مسلمي اسبانيا / جـ2/ ص126 ـ هامت تاريخ المغرب / ص86. (22) الحلل / ص41. (23) ابن أبي زرع: روض القرطاس / ص94 ـ ابن الكردبوس / ص93 ـ دائرة معارف القرن العشرين مادة لثم / ص324. (24) يحدد دوزي العدد بعشرين ألف جندي: تاريخ مسلمي أسبانيا / جـ 2/ ص127. (25) روض القرطاس / ص93 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص111 ـ ابن الكردبوس / ص91 ـ تاريخ المغرب الكبير / ص724 ـ دائرة المعارف / م5 مادة أبو يعقوب / ص238 ـ بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية / ص320 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص79 ـ ملوك الطوائف / ص294. (26) روض القرطاس / ص94 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص80 ـ الاستقصا / جـ1/ ص111. (27) الروض المعطار / ص88 ـ الحلة السيراء / ص352 ـ نفح الطيب / جـ 6. ص95 ـ ابن الكردبوس / ص92. (28) المعجب / ص133. (29) الأندلس في عهد المرابطين / ص80 ـ المغرب الكبير / ص724. (30) الروض المعطار / ص88 ـ الحلة السيراء / ص352 ـ نفح الطيب / جـ 6 / ص95 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص115. (31) الأندلس في عهد المرابطين / ص83. (32) الكامل في التاريخ / جـ 10 / ص153. (33) الروض المعطار / ص88 ـ الحلة السيراء / ص353 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص96. (34) وفيات الأعيان / جـ 5/ ص29 ـ الكامل في التاريخ / جـ 10/ ص153 ـ الروض المعطار / ص88 ـ الحلل / ص35 ـ بغية الملتمس / ص31 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص115 ـ نفح الطيب / جـ 6 / ص96. (35) روض القرطاس / ص94 ـ ابن الكردبوس / ص93 ـ دائرة معارف القرن العشرين / مادة لثم / ص324. (36) لقد كان عدد الجيش الأندلسي قليلاً جداً لا يتجاوز عدة آلاف. (37) الحلل / ص35 ـ وفيات الأعيان / جـ 7/ ص116 ـ الروض المعطار / ص90 ـ الحلة السيراء / ص354 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص97 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص116 ـ ملوك الطوائف / ص298 يذكر عرض يوسف. (38) في وفيات الأعيان كلمة دعوت بدل نحوت / جـ 7/ ص116. (39) القرآن الكريم: سورة غافر / الآية 50. (40) الحلل / ص40 ـ تاريخ مسلمي أسبانيا / ص126/ جـ 2. (41) روض القرطاس / ص94 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص82. (42) الحلل / ص35 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص98 ـ الروض المعطار / ص90 ـ ملوك الطوائف / ص299 ـ الاستقصا / ص116. (43) الحلل / ص36. (44) الحلة السيراء / ص354 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص83 ـ ابن الكردبوس / ص93 ـ أعمال الاعلام / ص242. (45) الروض المعطار / ص91 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص98 و99 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص116 ـ بغية الملتمس / ص31. (46) الحلة السيراء / ص355 ـ دائرة معارف القرن العشرين / ص324. (47) الحلل / ص41. (48) روض القرطاس / ص95 ـ الكامل في التاريخ / جـ 1/ ص154 ـ الحلل / ص41 ـ الروض المعطار/ ص92 ـ الحلة السيراء / ص355 ـ تاريخ مسلمي أسبانيا / جـ 2/ ص128 ـ المغرب / ص86. (49) الروض المعطار / ص92 ـ الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة / جـ 1/ ص244 و245 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص117 ـ الحلة السيراء / ص355 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص99. وفي تلك الأثناء تذكر إبنه الصغير وقد تركه مريضاً بإشبيلية فأنشد يقول: أبا هاشم هشمتني الشفار * فلله صبري لذاك الأوار تذكرت شخيصك تحت العجاج * فلم يثنني ذكره للفرار (50) روض القرطاس / ص95. (51) روض القرطاس / ص95 ـ الأندلس في عهد المرابطين / ص84 هامت / ص86. (52) الحلل / ص42. (53) الأندلس في عهد المرابطين / ص84 هامت / ص86. (54) ابن الكردبوس / ص93. (55) الأندلس في عهد المرابطين / ص85. (56) روض القرطاس / ص95 ـ ملوك الطوائف / ص310 وتاريخ مسلمي أسبانيا / جـ 3 / ص128. (57) الأندلس في عهد المرابطين / ص85. (58) نفح الطيب / جـ 6 / ص101 ـ الروض المعطار / ص92 ـ الحلل / ص42 ـ أعمال الأعلام / ص243. (59) الحلة السيراء / ص355 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص117. (60) نفح الطيب / جـ 6/ ص101 ـ الروض المعطار / ص92. (61) الحلل / ص42. (62) نفح الطيب / جـ 6/ ص101 ـ الحلة السيراء / ص335 ـ الروض المعطار / ص93 ـ ابن الكردبوس / ص92. (63) الأندلس في عهد المرابطين / ص86. (64) الاستقصا / جـ 1/ ص117. (65) الحلل / ص43. (66) روض القرطاس / ص96 ـ وفيات الأعيان / جـ 7/ ص118 ـ المعجب / ص134 ـ ملوك الطوائف / ص314. (67) ابن الكردبوس / ص94 ـ الحلة السيراء / ص356 ـ الروض المعطار / ص95. (68) نفح الطيب / جـ 6/ ص102 ـ الاستقصا / جـ 1/ ص117. (69) ابن الكردبوس / ص95 ـ روض القرطاس / ص96. (70) ذكر ابن أبي زرع في روض القرطاس ان عدد قتلى المسلمين ثلاثة آلاف / ص96. (71) الحلة السيراء / ص356 ـ نفح الطيب / جـ 6 / ص103. (72) الحلل / ص46 ـ الكامل / جـ 10 / ص154 ـ وفيات الأعيان / جـ 5/ ص29 وجـ 7/ ص118. (73) نفح الطيب / جـ 6/ ص103 ـ الروض المعطار / ص95. (74) روض القرطاس / ص97 و98. (75) الحلل / ص44. (76) الحلل / ص45 و46 ـ الروض المعطار / ص94 ـ نفح الطيب / جـ 6/ ص102. (77) الحلل / ص47.