ينهض حين تنام عيون الناس والأشياء، ويسلب الكرى إنتباهتها فتطرق خطاه الارض بتوئدة وهدوء ووقار؛ فعين مثل عينيه لن يجد طريقه إليهما نعاس وخمول، خاصة في مثل هذه الساعة المباركة بعد انتصاف الليل وقروب بزوغ الفجر الاول وهو في طريقه للزيارة وإقامةصلاة الصبح عند ضريح جده. فتروح عيناه في رحلة تفقدها للمدينة المقدسة، وتجوب قدماه اديم طرقات الليل، فيمضي وحيداً يتبعه ظل وحشة حائرة ولهاث الطرقات، وصدى صوت اصطدام حبيبات المسبحة في ما بينها او بين أنامله العلوية وهي تتحرك نازلة، تطرق السكون بقوة، فيجسّم صمت الليل ذاك الصوت ويحيله إلى رجعٍ بعيد كقطرات المياه النازلة ببطء في بئر عميق وفمه متمتماً بالاذكار، مقتفياً حرارة الحرقة في إبتهالات الأرواح المتهجدة المتوحدة مع ذاتها، القائمة لله والمتوجهة نحوه والمنقطعة إليه في هذي الساعة من طهر السكون وحلكة ليل دامس. فيتتبع أثر مسارب دعوات القلوب المؤمنة، وهي تبرق صاعدة نحو عنان السماء كأرواح خضر من جوف الظلمة عبر مديات السكينة بإتجاه البهجة في توهج كرنفالات النجوم واحتفائها بطلوع البدر. فالسماء تشرع أبواب رحمتها وتفتح نوافذ استجابتها في هذه اللحظات على مصراعيها للداعين في ليالي هذا الشهر العظيم بالذات؛ شهر رمضان المبارك، والملائكة تتراص صفوفاً في استقبال إفاضات الأفئدة، ونداءٌ علويٌ يطرق الأرواح المؤمنة، ويحث الناس، يستصرخهم؛ أن أدعوا مخلصين له النوايا، وتوجهوا بصدقكم إليه يستجاب لكم فإنه شهر المحبة والخير والبركة والسلام وقد نسبه الله ـ جلّ جلاله ـ إلى نفسه من دون أيام الله وشهوره جميعاً. فيطوف بأرجاء المدينة القديمة وبين ازقتها واسواقها وشوارعها كالنسمة النديّة على جسد الحياة المحموم بالهموم وشتى الآلام ويتفقدها، فتلتقط آذان سكون الليل وصمت لحظاته الخرساء هذه؛ وقع خطاه الخافت على أديم الطرقات، فيشيع الألفة في الأجواء، ويعبق في الهواء طهر رائحة قدسيّة ليس كمثلها عطر ورائحة في الحياة، فتتمايل جذلى بعض الأغصان وأوراق الشجر، وسعفات نخيل باسق، وترتل مصابيح الليل أنشودتها النعسى على مشارف فجر جديد قادم ـ لا محالة ـ وهي تنشر على الكون بقايامن ذبالة ضوء خابٍ في ظل غياب يستطيل على الكون دون نهاية. ويظلّ يتفقد معالمها ليلاً ما دام هناك متسع من الوقت اذ لم يحن اذآن الفجر بعد، كي يزرع في خطوته المباركة؛ حدائق أمل في الأرواح المتعبة ويبث فرجاً قريباً مهما استطال أمد الانتظار، وينثر على جسد الأيام بذار الصبر، فيروي ظمأ عشقها الأزلي للحظة الخلاص القادمة عبر المشيئة العليا، ويزق في رحم الأشياء مصل الشوق كي تدفعه نحو نسغ الحياة الصاعد، ويتجدد فيها العهد والبيعة، ويرهف سمعه ليلتقط همس الأصوات وهي تقيم طقوس تعبدها منفردة مع بارئها بلحظة صفاء ونقاء، ويتحسس خفقات الإيمان في أدعيتهم ومناجاتهم بإخلاص توجههم لله وحسن التوكل عليه وصدق التسليم لمشيئته الحكيمة التي تكمن في صميم الأشياء، والأحداث ومن ورائهما، ودليل توجههم افاضات الدموع في عيونهم، وخشوع جوارحهم، يترا عليهم خفق اجنحة الملائكة. فما من شيء يدعو لفرجة في غيبته ووحشته وخوفه مثلما يفرحه صيام هذا الشهر الفضيل والقيام بمثل هذه الساعات الموحية للإفشاء بالأسرار وبثّ لواعج الذوات المرهفة، فترنو العيون وهي لم تزل مغرورقة بالدمع حزناً وشوقاً وأملاً من أجل كشف الكربات وغفران عظيم الخطايا. وتبديل سوء الحال بحسن المآل حزنا لتكالب الهموم والآلام وشوقاً للقاء صاحب الامر واملا بالخلاص على يديه. فيظل يطوف فتطرق خطى اديم الارض وصمت الطرقات الخالية إلا من همس الريح على الأبواب والشرفات وجثوم الليل على صدر الحياة، بينما تبزغ الأنوار الساطعة للحرم الحسيني المطهّر فجأة عبر الأفق حينما يصل مقام الحوراء في نهاية سوق تل الزينبية، ويتعالى صوت أذان الصبح عبر سكون الليل، فيبعث في الأجواء روح محبة وصفاء وإيماناً مطلقاً بجمال الحياة والإنسان. بقلم: طالب عباس