خطبة الإمام الحسين (عليه السلام) الأولى يوم عاشوراء
بعد أن صفّ ابن سعد جيشه للحرب، دعا الإمام الحسين (عليه السلام) براحلته فركبها، ونادى بصوت عال يسمعه جلّهم: (أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتهم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوني النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين). فلمّا سمعت النساء هذا منه صحن وبكين، وارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس، وابنه علياً الأكبر، وقال لهما: (سكتاهن، فلعمري ليكثر بكاؤهن). ولمّا سكتن، حمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء، وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره، ولم يسمع متكلم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه، ثمّ قال: (الحمد لله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربّنا، وبئس العبيد أنتم. أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين. أيها الناس: انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الطيار عمّي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: (هذان سيّدا شباب أهل الجنّة)، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت، أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني، فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟). فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول. فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك. ثمّ قال الحسين (عليه السلام): (إن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكّون فيّ أنّي ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص جراحة؟). فأخذوا لا يكلّمونه، فنادى (عليه السلام): (يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم، قد أينعت الثمار، واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟). فقالوا: لم نفعل. فقال (عليه السلام): (سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم). ثمّ قال (عليه السلام): (أيها الناس: إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض). فقال له قيس بن الأشعث: أو لا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال (عليه السلام): (أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إني عذت بربّي وبربّكم إن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب).