مع إطلالة عاشوراء من كل عام، يتزايد اهتمام البحاثة والكتاب بتقاليد محرم المتعارف عليها.. من إقامة مآتم وشعائر دينية متميزة، يحكمها نظام فني يميل إلى الإتقان في إظهار الفاجعة المحزنة، وبطريقة مبتكرة عمقت من تأثير وانتشار مراسم محرم الحرام، والذي يبدأ من إلقاء الخطيب محاضرة تميل في العادة إلى التوجيه العقائدي، والإرشاد الأخلاقي يربطها الخطيب المتمرس بجانب من جوانب أحداث عاشوراء، تليها مراسم العزاء والمواكب العاشورائية. تتضمن حادثة عاشوراء، ووقائع المقتل، جملة من المفردات التي تكاد تغطي كل جوانب الخير والإباء والسمو الأخلاقي والتضحية والإيثار، وصدق الإيمان، والإعراض عن الدنيا، والتمسك بجوهر الدين، والاستشهاد في سبيل الله بكل عزة، ورضا في الإقبال على الآخرة، وهي المفردات التي قلما تجتمع في حادثة واحدة، ولعل هذه الفرادة هي أحد أسباب استمرار جذوة النهضة الحسينية متأججة في نفوس المؤمنين. ومع مرور الزمن طرأت تطورات كبيرة على أداء المنبر الحسيني، الذي انتقل من خصوص التوجيه العقائدي، والإرشاد الأخلاقي، إلى الاهتمام بجوانب أخرى لا تقل أهمية وشأنا عن سابقاتها، فوجدنا المنبر الذي يعتني بقضايا التاريخ ودراستها بشيء من التعمق، والمنبر الذي يركز على القضايا التربوية الهادفة، إضافة إلى المنبر السياسي والاجتماعي، وقد لعب المنبر في العديد من المجتمعات دورا مهما في حركيته وتطوره، لكنه مثل كل الوسائل الأخرى يتأثر بالمناخ والثقافة السائدين في كل مجتمع. لقد تحولت قضية الإمام الحسين عليه السلام إلى قضية عالمية، ومن المؤكد أن المنبر لعب دورا مهما في توسعة هذا الانتشار إلى كل بقعة من بقاع الأرض، وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن قضية استشهاد الإمام الحسين استطاعت أن تتحول من حادثة مفجعة جرت في لحظة زمنية محددة، ومكان محدد، إلى قضية لا يحدها زمان، ولا يُقلل من وهجها مكان. تتجدد الذكرى كل عام وكأنها غضة طرية، وكأن الإمام الحسين قُتل بالأمس القريب، وقد استطاعت “النهضة الحسينية” بهذه الميزة أن تواصل دعمها للقيم العليا، حتى تحدث بعض البحاثة والمؤرخون عن دعم النهضة الحسينية للحركات الاجتماعية والسياسية، وعن مساهمتها المباشرة في تجنيد الناس وتحفيزهم نحو قضايا وحوادث محورية، وصعود نجم علماء ومناضلين بإسم كربلاء، وبدفقها الروحي والمعنوي، انطلقت عدة حركات تحررية لم يربطها بالحسين دين، بقدر ما ربطها معه المعنى العميق للكرامة في مفهوم الشهداء الأبرار، فالحسين عليه السلام لم يهتم بعدد الذين تخندقوا ضده يوم العاشر من محرم، ولم يحرص على عد الرَّجّالة أو إحصاء عدد الخيَّالة أو مُعاقبتهم على موقفهم المُذل، لكنه اهتم بضرورة أن يُقدر الناس ذواتهم ويكونوا أحرارا في دنياهم. وهي أيضا، ومن دون مواربة، بلورت نهجا جامعا لعدد كبير من المؤمنين، وحافظت على توهج قيم أهل البيت، وتألق مبادئهم، على رغم تقادم الزمن، وكان للمنبر الحسيني سبق التوجيه والإرشاد الثقافي في هذا الخصوص، ولاسيما ان الكثير من المفاهيم لم يكن بالإمكان تداولها إلا من خلال المنبر، وعبر رجاله من علماء وخطباء، باعتباره الوسيلة الوحيدة المتوافرة للتعبير عن الرأي والفكر والعقيدة دونما تقييد يذكر. ومن المؤكد أنه مهما طرح البعض من نقد على دور المنبر، وهو نقد مطلوب ومفيد يثري التجربة المنبرية ويعمقها، إلا أنه من جهة أخرى لا يقلل من أهمية وحجم الدور الذي لعبه المنبر في تدعيم قيم دينية راسخة في أبعادها ودروسها الاستثنائية. في الآونة الأخيرة ارتفعت الأصوات المطالبة بضرورة أن يجدد المنبر الحسيني خطابه، ليواكب العصر، ويصل إلى آفاق أوسع، وقد برر البعض دعوته هذه بالضرورة الحضارية التي تفرض التطوير والتجدد كسنّة من سنن الحياة السليمة، فحاجات الناس وهمومهم واهتماماتهم المتجددة تلزم الخطباء طرح خطاب عقلاني معاصر يميل إلى الإقناع والاستدلال ويوازن ما بين الطرح العقلائي والطرح العاطفي. بينما انطلق البعض الآخر من دعوته التجديدية وفق اعتقاد راسخ منه بضرورة أن يندفع الخطاب المنبري إلى الخارج بصورة أكبر، فاختصاص المنبر بتوجيه أبناء الطائفة الشيعية لم يعد له مبررات قوية تسنده مع اتساع رقعة انتشاره، ومع توافر وسائل إعلام تنقل الخطاب الشيعي إلى العالم كله، وعلى الهواء مباشرة، ويدعم هؤلاء رأيهم بالقول إن الرسالة الحسينية رسالة عالمية تتجاوز الخصوصية المذهبية. ومن البيّن أن النهضة الحسينية تحمل في داخلها مخزونا هائلا من القيم والمبادئ، التي لو استثمرت بصورة ملائمة، لأمكن تحرير الإنسان، بغض النظر عن دينه، أو مذهبه، من الأغلال التي تقيده، ويتحمل الخطيب دورا أساسيا في هذا المجال، فالإمام الحسين (ع) بشخصيته وبطولته الفريدة، وبالصور العظيمة التي قدمها في حياته منذ أيام جده النبي وأبيه، وفي فترة حكم أخيه وحتى ثورته في كربلاء، استطاع أن يمتلك قلوب الملايين من البشر، من داخل الإسلام ومن خارجه، ولو استفاد الخطباء من هذه الإرث الحسيني، ومن تدفق المشاعر والمعنويات بالصورة الصحيحة، ورفعوا الراهن نحو الأهداف العليا للإسلام، لأصلحوا جانبا كبيرا من العالم، بخاصة وأن المنبر استطاع أن يلعب دور الوسيط بين الفكر الفلسفي المتخصص وبين الثقافة العامة، فمن نقاط القوة التي تُحسب للمنبر، هي قُدرته على تبسيط الكثير من القيم والنظريات الكبرى، وتحويلها إلى ثقافة قابلة للتداول بين جميع الناس، بمختلف مستوياتهم العلمية والمعرفية، ولذا نجح إلى حد كبير في استقطاب شريحة واسعة من المجتمع، وحقق تقاربا مع المنهج النبوي في تبسيط الدعوة إلى الله، والإرشاد إلى الخير بلغة مقبولة ومحببة. وثمة كثير من المفاهيم الأخرى المعاصرة والجديدة والتي أثبتت حضورا وحيوية في الآونة الأخيرة، وهي لا تزال حبيسة المناقشات النخبوية الضيقة، على رغم أنها جديرة بالطرح والحوار العام، لكنها تنتظر من يحررها إلى أفكار وثقافة صالحة للتداول بصورة سلسة وبعيدا عن تعقيداتها واصطلاحاتها العلمية، ومحاولة الاستفادة منها في معالجة المشكلات الراهنة، واعتقد أن المنبر قادر على تحقيق هذه المعادلة في وقت قريب نسبيا بقلم: أحمد شهاب المصدر: شبكة النبأ المعلوماتية