موقف الإمام الحسين (عليه السلام) من معاوية بن أبي سفيان
للإمام الحسين (عليه السلام) في موقفه من معاوية صُورتان تَكامُليّتان، وكلتاهما تحكيان مبدأيّته العصماء في لحاظ مصلحة الإسلام العليا: الصورة الأولى: التزامه (عليه السلام) بعهد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام)، ووفاؤه ببنود صلح أخيه المبرم مع معاوية بن أبي سفيان، لاعتقاده (عليه السلام) بأن المصلحة الإسلامية لا زالت في ذلك. ولأن مبادئ الإسلام وأحكامه تأبى عليه نقض العهود والتحلل من الوفاء بالعقود، إلا إذا أُخلّ بشروطه أو انتهَت مُدّته، وذلك لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ) المائدة: 1. فلما استشهدالإمام الحسن (عليه السلام) تحرَّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم وذكر أن بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدة، فإن مات معاوية نظر في ذلك. الصورة الثانية: وفيها سلك الإمام الحسين (عليه السلام) مسلكاً تكامليّاً في مقابل التزامه بما تُملِيه عليه الحكمة الإلهية، والمصلحة الإسلامية، للصلح الذي عقده الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية. والتي من أبرزها كشف حقيقة حكومة بني أمية للمسلمين، فانطلق الإمام (عليه السلام) من نفس هذه الحكمة الإلهية والمصلحة الإسلامية، وعمل جهده لكشف هذه الحقيقة. وهنا يتبيَّن لنا السر في عدم التخالف بين موقفه في الصورة الأولى وموقفه في هذه الصورة الثانية. فهما صورتان لموقف تكاملي هادف، يحفظ في الأولى حدود الصلح المُعلَنَة، ويسعى في الثانية لتكميل تحقيق الأهداف المنشودة لهذا الصلح. وذلك عن طريق إظهار الحق وإعلانه في وجه معاوية بن أبي سفيان، والتصدِّي له بالحُجَّة البالغة، وتَعرِية انحرافه عن كتاب الله وسُنَّة نبيه (صلى الله عليه وآله)، ودرء البدع التي أحدثها في الدين، واستنكار الظلم والجور الذي أوقعه على صفوة الأصحاب والتابعين من شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وسفك دمائهم الطاهرة خلافاً لبنود الصلح المبرم مع الإمام الحسن (عليه السلام). ومن هذه المواقف نذكر ما يلي: الموقف الأول: تصدِّيه (عليه السلام) لأمر معاوية وَوُلاَتِه وعُمَّاله بلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر واضطهاد شيعته، وكذلك قتل من يروي شيئاً من فضائله (عليه السلام). فعن سليم بن قيس قال: نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمَّة ممن يروي حديثاً من مناقب علي (عليه السلام)وفضل أهل بيته (عليهم السلام). وكان أشدّ الناس بليَّة أهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد بن أبيه، وضمَّ إليه العراقيين الكوفة والبصرة، فجعل يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف. فكان يقتلهم تحت كل حجر ومدر، فأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشرَّدهم حتى نُفوا عن العراق. فلم يبقَ بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس، أو طريد أو شريد. وكتب معاوية إلى جميع عُمَّاله في جميع الأمصار أن: لا تجيزوا لأحد من شيعة عليٍّ وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبِّيه، ومحبِّي أهل بيته وأهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه، فادنُوا مجالسهم، وقرّبوهم وأكرِموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته. ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخِلَع والقطائع من العرب والموالي. فكثر ذلك في كل مِصر، وتنافسوا في الأموال والدنيا، فليس أحد يجيء من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلا كُتب اسمه وأُجيز، فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عُمَّاله أنَّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فإن ذلك أحبُّ إلينا وأقرُّ لأعيُنِنا، وأدحضُ لحُجَّة أهل البيت وأشَدُّ عليهم. وكان أشدُّ الناس في ذلك القُرَّاء المراؤون، والمُتَصنِّعون، الذين يُظهرون الخشوع والورع، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وَوَلَّدوها. فحظوا بذلك عند الوُلاة والقُضَاة وأُدنُوا مجالسهم، وأصابوا الأموال والقطائع والمنازل، حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقّاً وصدقاً، فَرَوَوْهَا وقَبلُوها وتعلَّموها وعلّموها، وأحبّوا عليها وأبغضوا مَنْ ردّها أو شَكَّ فيها. إذن، فلما استشهدالإمام الحسن (عليه السلام) ازداد البلاء وَكَثُرَت الفتنة، فلم يبقَ لله ولي إلا هو خائف على نفسه، أو مقتول، أو طريد شريد. فلما كان قبل موت معاوية بسنتين، حجَّ الإمام الحسين (عليه السلام)وعبد الله بن جعفروعبد الله بن عباس معه. وقد جمع الإمام الحسين (عليه السلام)بني هاشم، وشيعته، من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتابعين، بمنىً وهم أكثر من ألف رجلا، فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال (عليه السلام): (أمَّا بَعد، فإن الطاغية قد صَنعَ بنا وبشيعتِنا ما قد عَلِمتُم ورأيتم وشَهِدتُم وَبَلَغَكُم، وإنِّي أريدُ أن أسألَكُم عن أشياء، فإن صَدَقتُ فَصدّقُونِي، وإن كَذبتُ فَكَذِّبُوني. إسمعوا مَقَالَتِي، واكتُمُوا قولي، ثم ارجِعُوا إلى أَمصَارِكُم وقبائلكم، مَن أَمِنتُمُوهُ وَوَثِقتُم به فادعوهُم إلى ما تَعلَمُون، فإني أخافُ أن يَندَرِسَ هذا الحق ويذهب، (والله مُتِمُّ نوره وَلَوكَرِهَ الكَافِرُونَ)) الصف: 8. فما ترك الإمام الحسين (عليه السلام) شيئاً أنزله الله فيهم أهل البيت (عليهم السلام) من القرآن إلا قاله وفَسَّره، ولا شيئاً قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) في أبيه وأمِّه وأهل بيته (عليهم السلام) إلا رواه. وفي كل ذلك يقول الصحابة: اللَّهُمَّ نَعَم، قد سمعناه وشهدناه، ويقول التابعون: اللهم قد حدّثَنَا مَن نُصدقه ونأتَمنُه، حتى لم يترك شيئاً إلا قاله. ثم قال (عليه السلام): (أُنشِدُكُم بِاللهِ إلاَّ رَجِعتُم وَحَدّثتُم بِهِ مَن تَثِقُونَ به). ثم نزل (عليه السلام) وتفرَّق الناس على ذلك. الموقف الثاني: استنكاره (عليه السلام) على معاوية قَتلَهُ لِصَفوَةِ من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتابعيهم من شيعة أهل البيت (عليهم السلام). فكتب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية: (… أَلَستَ قاتلَ حِجرَ بن عَدي أخي كندة، وأصحابه الصَّالِحِين المُطِيعِين العَابِدين؟!!، كانوا ينكرون الظلم، ويَستعظِمُون المُنكَر والبدع، وَيُؤثِرُون حُكمَ الكِتاب، ولا يخافون في الله لَومَةَ لاَئمٍ. فقتلتَهُم ظلماً وعدواناً، بعد ما كُنتَ أعطيتَهُم الأَيمان المغلَّظَة والمواثيقِ المُؤَكَّدة، لا تأخذهم بِحَدَثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تَجِدَها في صدرك عليهم. أَوَلَستَ قاتلعمرو بن الحمق صاحب رَسُولِ اللهِ؟!!، العبدِ الصالح الذي أبلَتْهُ العبادة فَصَفَّرتَ لَونَهُ وَنَحَّلتَ جِسمَهُ بعد أن أَمَّنتَهُ وأعطيتَهُ من عهود الله عزَّ وجلَّ وميثاقه ما لو أعطيتَهُ العُصم فَفَهِمتْهُ لَنَزَلَتْ إِليكَ مِن شغفِ الجِبَال، ثم قتلتهُ جُرأَةً على الله عزَّ وجلَّ واستخفافاً بذلك العهد… أَبشِرْ يا معاوية بِقِصَاصٍ، واستَعِدْ للحساب، واعلَمْ أنَّ للهَ عزَّ وجلَّ كتاباً لا يُغَادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها، وليسَ اللهُ تبارك وتعالى بِنَاسٍ أخذَكَ بالظِّنة، وَقَتلَكَ أولياءه بالتُّهمة، وَنَفْيَكَ إيَّاهم من دار الهجرة إلى الغُربَة والوَحشَة… لا أَعْلَمُكَ إلاَّ قَد خَمَّرتَ نفسَك، وَشَريتَ دينَكَ، وغَشَشْتَ رعيّتك، وأخزَيتَ أمانَتَك، وَسَمِعتَ مقالةَ السَّفِيهِ الجاهلِ، وأَخفْتَ التقيَّ الوَرِعَ الحَلِيم). الموقف الثالث: إظهاره (عليه السلام) وإعلانه لفضائل أهل البيت (عليهم السلام) وحقهم في ولاية المسلمين. فعن موسى بن عقبة أنه قال: لقد قيل لمعاوية: إنَّ الناس قد رَمَوا أبصارَهم إلى الحسين، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب، فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة. فقال لهم معاوية: قد ظننَّا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عَظُمَ في أعين الناس وفَضَحَنا. فلم يزالوا به حتى قال للحسين (عليه السلام): يا أبا عبد الله، لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الإمام الحسين (عليه السلام) المنبر، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله)، فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال (عليه السلام): (نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأَقربُون، وأهل بَيتِه الطيِّبُون، وأَحَدُ الثَّقلين الذين جَعَلَنا رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تَفصيلُ كُلِّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلفِه، والمُعوَّلُ علينا في تفسيره لا يبطينا تأويله، بَل نَتَّبع حَقَايِقَه، فأطيعونا فإنَّ طاعتَنَا مفروضة إن كانت بطاعةِ الله ورسولِهِ مقرونة… وأُحذرُكم الإصغاء إلى هتوفِ الشيطان بكم، فإنَّه لكم عدوٌّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليومَ من النَّاس وإنِّي جارٌ لكم. فلما تراءت الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيهِ وقال: إنِّي بريءٌ منكم، فَتلقون للسيوف ضرباً وللرِّماح ورداً وللعمد حطماً وللسِّهام غرضاً، ثم لا يُقبَلُ من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).