بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علّم الإنسان، والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين. قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ) (1). قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «كلّكم راع، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته». إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق برحمته، وقد كتب على نفسه الرحمة، فمن باب اللطف الواجب عليه عقلا، أرسل الرسل، وبعث الأنبياء، وأنزل الكتب، لهداية الناس وليقيموا بالقسط، فقاموا بواجبهم على أحسن ما يرام، يدعون الناس إلى ربّهم وخالقهم، وجعل لكلّ نبيّ شرعةً ومنهاجاً، يتلائم ويطابق عصره، ثمّ ختم النبوّة بمحمّد خاتم النبيّين وسيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، وأمره بالاستقامة وبدعوة الناس إلى سبيل ربّه، وهذا خطاب عامّ لا يختصّ برسول الله، بل خطاب إلهي لكلّ الأنبياء ثمّ الأوصياء والأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل من ورثة الأنبياء من العلماء الصالحين والخطباء الرساليين، وكلّ مؤمن ومؤمنة، وكلّ مسلم رسالي يحسّ بالمسؤولية، ويرى على عاتقه فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالخطاب لكلّ المسلمين لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كلّ مسلم بالغ عاقل فإنّه مكلّف بفروع الدين كما أ نّه مكلّف باُصوله. وقد عيّن النبيّ مسؤولية كلّ فرد بأنّه راع، وأنّه مسؤول عن رعيّته، فالمسلم إنّما يرعى نفسه أوّلا لقوله تعالى: (قُوا أنفُسَكُمْ) (2)، فالنفس التي يحملها الإنسان في وجوده هو المراعى الأصغر، ثمّ يجب رعاية الاُسرة (وَأهْلِيكُمْ)، فالعائلة هي المراعى الصغير، ثمّ لا بدّ أن يرعى المسلم مجتمعه الصغير من المحلّة والقرية والدولة وهو المراعى الأكبر، وهذه المراعاة جارية على مرّ الدهور والأحقاب، وفي كلّ الأمصار. فيلزم على كلّ واحد منّا، أن يكون داعية إلى الله سبحانه، ويرغب في دولة كريمة فيقود الناس إلى سبيل الله، ويدعوهم باُسلوب رزين، وطريقة صحيحة، وصراط مستقيم. والله سبحانه يؤدّب عباده اُولئك الدعاة إلى الله سبحانه، ويعلّمهم اُسلوب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ: أوّلا: بالحكمة، ثمّ الموعظة، ثمّ الجدل بالتي هي أحسن. قال المحقّق نصير الدين الطوسي (3)، في قوله تعالى: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ...) (4): إنّ الآية الشريفة تشير إلى فنون ثلاثة من الصناعات الخمسة في علم المنطق، تشير إلى فنّ البرهان وفنّ الخطابة وفنّ الجدل. وبنظري أنّ الناس إمّا أن يكونوا من الطبقة الخاصّة ذات مستوى رفيع من الثقافة والحضارة، أو من الطبقة العامة ـ عامّة الناس ـ ثمّ كلّ طبقة إمّا أن تكون موافقة لك في أفكارك ومبادئك وعقائدك أو تكون من المخالفين، فاُسلوب البرهان الذي يتألّف قياسه من الموادّ الأوليّات كاليقينيّات، إنّما جعل للطبقة الخاصّة سواء المخالفة أو الموافقة، وأمّا الجدل فقد قرّر للخصوم وإلزامهم، وأمّا الخطابة فهي للطبقة العامة الموافقة غالباً، وفي بعض الموارد ينتفع منها الإنسان للعامّة المخالفة. ومقصود هذه العجالة يدور حول فنّ الخطابة، وطبيعة البحث يستلزم أن يكون حول معالمها وفنّها وآدابها وقواعدها ونماذج ناجحة في مقام الخطابة، فإنّه لا بدّ أوّلا من تعلّم الفنّ كما هو المطلوب، ثمّ التطبيق، فإنّ النظرية الناجحة والاُسلوب الصحيح ذلك الذي يطبّق بعد دراسته وتحليله ووعيه، كما أنّ التطبيق الناجح ذلك الذي يتقدّمه الفكر الواعي والعلم النافع والمعرفة التامّة والإدراك الصحيح والفهم السليم والتعقّل الكامل والنظرية القويّة والدراسة الحكيمة، وإلاّ فإنّه يقسم ظهر الإمامة ـ كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ـ عالم متهتّك لا يعمل بعلمه، وجاهل متنسّك يعمل بلا علم ولا دراية. فمن الإجحاف لمن يصعد المنبر ويلقي الخطب، لم يتعلّم فنّ الخطابة واُسلوبها الصحيح، ولم يقرأ ولا كتاب في علم الخطابة، وكيف يكون التطبيق وصعود الأعواد من دون خلفيّة ثقافية، ودراية تامة في فنّ الخطابة، فهذا ما يعوزنا اليوم في حوزاتنا العلمية، فإنّه سرعان ما يصعد طالب العلم المنبر ولم يدرس فنّ الخطبة، ولو في كتاب واحد ـ كمنطق المرحوم المحقّق المظفّر (قدس سره) ـ فهذا ممّـا يقطع أنياط القلب. فعلينا أوّلا أن ندرس الخطابة جيّداً، ثمّ نطبّق ما درسناه تحت إشراف مدرّس خبير صاحب علم وتجربة في وادي المنبر والخطابة. واعلم أنّ الخطابة من المطالب المهمّة والقيّمة، يبحث عنها في علوم مختلفة، فإنّها تارةً من مسائل علم الفقه وذلك في صلاة الجمعة والعيدين وخطبتهما، فإنّ الفقيه يبحث عن الخطبة وشرائطها وأركانها. واُخرى يبحث في علم النفس من حيث تأثير الخطيب في نفوس الجماهير، وثالثة في علم الاجتماع من جهة تأثّر المجتمع بكلمات الخطيب وأفعاله، وكيف يتحمّس للجهاد من خطبه وما شابه ذلك، وربما يبحث عنها في علم التفسير أيضاً باعتبار الآية الشريفة ونصائح لقمان ومواعظه وخطب الأنبياء وإرشاداتهم، كما يبحث عنها في علم الحديث باعتبار صفات الوعّاظ وبيان المواعظ وما جاء في نهج البلاغة وغيره من خطب الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وربما يبحث عن الخطابة والخطباء في علم التأريخ، وكذلك في علم الرجال وطبقات الخطباء، وأشهرهم في العالم على مرّ العصور، كما يبحث عن الخطابة في الفلسفة والحكمة أيضاً، بأنّها من أيّ مقولة؟ كما يبحث عنها الساسة في علم السياسة، بأنّ الخطابة السياسية لها دور كبير في قلب المعادلات السياسية والتأثير على الجمهور في قبول فكرة سياسية أو رفضها، كما أنّ علماء الاقتصاد يلوذون بفنّ الخطابة لتعجيل حركة دولاب الإقتصاد وتحريك العمّـال لمصالحهم الاقتصادية، وأخيراً يبحث عن الخطابة كفنّ من الفنون وصناعة من الصناعات في علم المنطق الذي يعدّ اُمّ العلوم وأساسها، فعلماء المنطق يبحثون في الأقيسة وموادّها عن الخطابة واُصولها وقواعدها وأركانها، وما ينفع طالب العلوم الدينية إنّما في هذا العلم، وإنّه يجري في كلّ العلوم والميادين كجري الدم في العروق، فإنّ من يتعلّم فنّ الخطابة من علم المنطق يكفيه أن يضيف إليه طابعاً سياسياً حتّى يدخل خطابه في الخطب السياسية، ويبحث عنه في علم السياسة، وهكذا باقي العلوم والفنون. وأغلب الكتب المنطقيّة تبحث عن الخطابة، كجوهر النضيد، وشرح المطالع وحاشية اليزدي على تهذيب المنطق، والشمسية، ومنطق المظفّر عليه الرحمة. الخطابة لغةً واصطلاحاً: إذا أردنا أن نعرف المعنى كما هو المطلوب، فلا بدّ أن نطرق أبواب اللغة أوّلا لنعرف المعنى اللغوي، ثمّ ما نقل إلى المعنى، الجديد والمصطلح. الخطابة لغةً: من خطب يخطب خطبة وخَطباً وخطابةً: وعظ، قرأ الخطبة على الحاضرين. خاطب: كالمه اختطب على المنبر خطب، الخطيب جمعه خطباء، من يقرأ الخطبة يقال رجل خطيب أي حسن الخطبة، والخطب جمع خطبة بالضمّ ـ ضمّ الخاء المعجمة ـ وهي تختصّ بالموعظة والكلام المخطوب به، وبالكسر وهي خطبة الرجل من النساء وطلب الزواج. والخطابة اصطلاحاً: عبارة عن الكلام الذي يُلقى على المسامع لإقناعهم أو لتهييجهم، وفنّ الخطابة: تعليم صناعة الإقناع وأساليبه، والمقصود من الخطابة أن ينفعل المستمع بقول الخطيب وفعله، فالخطابة بين الفعل والانفعال، ومقدّمات قياسها ـ أي الصغريات والكبريات ـ تكون من المشهورات والقضايا المظنونة والمقبولات عند الناس، فالخطيب يستشهد على كلامه ومقوله ومدّعاه بأقوال الأنبياء والأولياء مثلا، مع لحن خاصّ متناسب بين المفاهيم والألفاظ ومع حركات خاصّة، فيدخل كلامه في القلوب وينفذ في العقول، بل مع المهارة في الفنّ بإمكانه أن يقلع القلوب من أماكنها ويثير الجماهير، ويجعل الداني عالياً، والعالي دانياً، والوضيع شريفاً والشريف وضيعاً، ممّـا يدهش العقول ويحيّر ذوي الألباب، حتّى قال المحقّق الطوسي في تأثير الخطابة: لا صناعة من الصناعات الخمس ـ البرهان والخطابة والشعر والجدل والسفسطة ـ كصناعة الخطابة في إفادة التصديق الإقناعي، فإنّ عقول العامة قاصرة عن إدراك القياسات البرهانية، بل من الجدل أيضاً، فإنّ الجدل في تعلّق الكليات مجراه مجرى القياس البرهاني. فالصناعة المتكفّلة لإقناع الجمهور ليست إلاّ الخطابة، وهذا حقّ لا ينكر، فإنّ البرهان إنّما يتقبّله الخواصّ والطبقة المثقّفة ـ إن صحّ التعبير ـ أمّا العوام وجمهور الناس إنّما يتأثّرون بالخطابة، ويقول المعلّم الأوّل أرسطو: «إيمان بعض بظنوناتهم لا يقلّ عن إيمان بعض بيقينياتهم». ثمّ من العوامل المؤثّرة في الخطابة وحسن أدائها: التمثيل ونقل القصص والحكايات، فإنّ التمثيل أقرب لطبع العوام من القياس، وصفّ الصغرى والكبرى وأخذ النتائج. فالخطابة اصطلاحاً ـ كما جاء في جوهر النضيد ـ: صناعة علمية يمكن إقناع الجمهور فيما يراد أن يصدّقوا به بقدر الإمكان، وتقرير تلك القواعد لا يمكن بالقياس البرهاني والجدلي، لقصور العامة عن إدراكهما، فدعت الضرورة إلى وضع هذه الصناعة المتكفّلة بذلك، وهي في الإقناع أنجح من غيرها، كما أنّ الجدل في الإلزام أنفع. وجاء في مطالع الأنوار (5): والقياس الخطابي ما يؤلف من المظنونات أو منها ومن المقبولات، وصاحبه يسمّى خطيباً واعظاً، والغرض منه ترغيب الجمهور إلى فعل الخير، وتنفيرهم عن الشرّ. وقال التفتازاني في تهذيب المنطق: القياس إمّا برهاني يتألف من اليقينيات واُصولها: الأوّليات والمشاهدات والتجربيّات والحدسيّات والمتواترات والفطريات، ثمّ إن كان الأوسط ـ أي الحدّ الوسط بين الأصغر والأكبر في مقدّمتي الصغرى والكبرى ـ مع علّيته للنسبة في الذهن علّة لها في الواقع فبرهان لمّي ـ أي نصل من العلّة إلى المعلول ـ وإلاّ فإنّي ـ أي نصل من المعلول إلى العلّة ـ وإمّا جدلي يتألف من المشهورات والمسلّمات، وإمّا خطابي يتألف من المقبولات والمظنونات. وجاء في الحاشية: المشهورات هي القضايا التي تطابق فيها آراء الكلّ، كحسن الإحسان وقبح العدوان، وذلك لاشتمالها على مصلحة عامة كالمثالين المذكورين، أو لموافقتها لطبائعهم كقولهم مواساة الفقير محمودة، وإعانة الضعفاء مرضيّة، أو لموافقتها لحميّتهم كقولنا: كشف العورة مذموم. أو لتطابق آراء طائفة خاصّة كقبح ذبح الحيوانات عند أهل الهند، وذلك بحسب عاداتهم، أو مشهورات من جهة الشرائع كاستحباب النكاح وحرمة السفاح، أو من جهة الآداب كالاحترام للكبار والرفق بالصغار، ولكلّ قوم مشهورات بسبب عاداتهم وتقاليدهم وآدابهم الخاصّة، وكذلك لكلّ أهل صناعة بحسب صناعاتهم. ثمّ ربما تبلغ الشهرة إلى درجة يحصل الاشتباه بينها وبين الأوّليات، إلاّ أنّ الفرق أ نّه إذا خلّى النفس وطبعه يحكم بالأوّليات، ولا يحكم بالمشهورات، كما أنّ المشهورات قد تكون صادقة وقد لا تكون، بخلاف الأوّليات فإنّها صادقة أبداً، كاجتماع النقيضين محال. والمقبولات هي القضايا التي تؤخذ عمّن يُعتقد فيه كالأولياء والصلحاء والعلماء والحكماء، والمظنونات هي قضايا يحكم العقل بها حكماً راجحاً غير جازم، كقولنا: فلان يطوف بالليل، وكلّ من يطوف بالليل فهو سارق، ففلان سارق. ومقابلة المظنونات مع المقبولات من قبيل مقابلة العام بالخاص، فكلّ مقبول هو مظنون ولا عكس. فالمراد منه ما سوى الخاصّ أي المظنونات غير المقبولة. أركان الخطابة: ثمّ الهدف المنشود من فنّ الخطابة وفائدتها: إنّما هو ترغيب الناس فيما ينفعهم من اُمور معاشهم ومعادهم كما يفعله الخطباء والوعّاظ. ومن أركانها وشرائطها: وحدة الخطبة من البداية إلى النهاية، فإنّ الخطيب الناجح من يتسلسل في كلامه، ولا يطير من غصن لآخر، بل عليه أن يهذّب كلامه، ويرتّبه بتنسيق خاصّ، وترتيب متناسق ومتجانس، حتّى قال أفلاطون: الخطابة بمنزلة موجود حيّ له رأس وصدر وأيدي وأرجل، ولا بدّ من التناسب بين الأعضاء ومن الترابط. وتشتمل الخطابة على عمود وأعوان، والعمود الكلام الذي يثبت المطلوب مستقيماً، والأعوان الأقوال والأحوال الخارجة عن العمود. فالخطابة من أفضل الأدوات والوسائل التي يتمكّن بها الإنسان من ترويج الفضائل ورفع مستوى الناس، وتثقيف نفوسهم وتقويم أودهم، ومن أحسن الوسائط في نشر الدعوة: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ) (6)، وتبليغ الحجّة وبثّ المواعظ والحكم والقيم والمثل الإنسانية. والخطابة كالشعر من أقدم الآثار الأدبية عهداً وتأريخاً، وإنّها أجلّ قدراً وأعظم قدرةً من الشعر، وأقوى أثراً، لذهابها في الدفاع مذهب التأثير والإقناع. والخطابة هي من مستودعات سرّ البلاغة، ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في مشاهدهم، وبها نطقت الخلفاء والاُمراء على منابرهم، وبها يتميّز الكلام، ويخاطب الخاصّ والعامّ، فمن قديم الأيام كان يعتنى بالخطابة أكثر من اعتنائهم بالشعر. فالخطابة ضرب من الكلام غايتها: التأثير في الجمهور من طرق السمع والبصر، وهي فطرية في الإنسان كالنطق، تخاطب الوجدان وتثير الإحساس والشعور ليذعن المخاطب للحكم ويسلّم به. وأوّل من كتب في علم الخطابة اليونانيّون، فقد استنبطوا قواعده وأشادوا أركانه ووضعوا اُسسه واُصوله. وقيل: أوّل من وضع قواعد للخطابة، ثلاثة من أعلام السوفسطائيين، وهم: پرويكوس (ت سنة 430 ق م)، وبروتاغوراس (485ـ 411 ق م)، وجروجباس (485ـ 380 ق م)، ثمّ جاء أرسطو فجمع قواعد الخطابة وضبطها في كتاب سمّـاه (الخطابة)، فيعدّ كتابه هذا اللبنة الاُولى في علم الخطابة والكتاب الأوّل، فمنه أخذوا واستقوا، وعليه عوّلوا واعتمدوا، وقد ترجمه إلى العربية إسحاق ابن حنين، وشرحه الفارابي المعلّم الثاني، ونقل الشيخ الرئيس ابن سينا في كتابه الشفاء لباب كتاب الخطابة لأرسطو مع تصرّف غير ضارّ (7). وجاء في كتاب (تاريخ گويندگان اسلام) بقلم الشيخ أحمد بيان الإصفهاني (8): إنّ أوّل من خطب هو آدم (عليه السلام) أبو البشر بعد هبوطه إلى الأرض وعند قرب موته، بعد 936 سنة من هبوطه، فجمع أهله وأولاده، وقيل: كان عددهم أربعين ألفاً، فقال: «الحمد لله ربّ العالمين، الذي خلقني بيده، وسوّى خلقي، وصوّرني وأحسن صورتي، وأكرمني بسجود ملائكته، وعلّمني الأسماء كلّها، وأسكنني جنّته، إلاّ أ نّه لم يكن خلقني للعاجل لها، فمضت مشيّته فيّ كما شاء من قدره، فله الحمد حين أقالني عثرتي، ورحم صولتي وبكائي، وتاب عليّ، وهداني لطاعته وقوّاني عليها بعد معصيته، وأيّدني على محاربة عدوّي إبليس بعد طاعتي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الباقي بعد فناء خلقه، يا بنيّ، عليكم بتقوى الله، ولزوم طاعته، وإيّاكم وطاعة النساء، فإنّها ينبت الوزيرة وينسب الشريكة، ولا بدّ منها، وعليكم بمناقب الخير فالزموها»، ثمّ مات ليلة السادس من نيسان الموافق لأحد عشر محرّم الحرام. ثمّ كان الخطيب بعد آدم شيت هبة الله، ثمّ إدريس (عليه السلام) وكان من ألقابه مثلّث النعمة، حيث جمع بين السلطنة والنبوّة والحكمة، ثمّ عبد الغفّار المسمّى بنوح (عليه السلام)، ثمّ لقمان الحكيم بعد الطوفان: (وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لإ بْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُـنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (9). ثمّ قيس بن ساعدة الإيادي خطيب العرب، فهو أوّل من قال: أمّا بعد، واعتمد على السيف، ثمّ سحبان، ويضرب به المثل. آداب الخطيب: وكثير من كتب الخطابة ومصنّفاتها يذكر فيها ما يلزم الخطيب، حتّى يكون خطيباً ناجحاً بارعاً في فنّها وغايتها وغرضها. جاء في (خطباء المنبر الحسيني) لحيدر صالح المرجاني ما ينبغي للخطيب مراعاته، نذكر ذلك إجمالا واقتباساً مع بعض الملاحظات: 1ـ أن يأخذ الخطيب من أفضل الكتب المعوّل عليها في التأريخ والسير والتراجم والفقه والحديث والتفسير والمجادلة ونحو ذلك. 2ـ أن يكتب خلاصة ما يراه وينتقيه، ولو كرؤوس أقلام، ثمّ يتفهّم ذلك جيّداً ويستوعبه حتّى يصبح له ملكة فيها. 3ـ أن يتحرّى المعاني التي يلقيها، ولا يشغل ذهنه في الألفاظ، فإنّ الألفاظ تأتي من نفسها. 4ـ أن يتحرّى الألفاظ الجيّدة، وينتقي الكلمات الجذّابة، ولا سيّما العصرية المفهومة لدى كلّ واحد، فلا يستعمل الألفاظ العامية، إلاّ في مقام الضرورة، فإنّ مرتبة الخطابة تسقط بمثل تلك الألفاظ الركيكة، وإن كان أبلغ القوم من تكلّم بلسان قومه. 5ـ أن يعلم جيّداً أنّ رياضة اللسان ورياضة العقل ورياضة الجسم من عناصر الثقافة الحديثة، وما على الخطيب إلاّ أن يمرّن نفسه عليها بالإنشاء والإلقاء والمناظرة زمناً طويلا، من شبابه إلى كهولته، ليمتلك ناصية الخطابة. 6ـ أن يكون سديد الرأي صائب الفكر كيّساً فطناً، يضع الأشياء في مواضعها، فلا بدّ أن يكون له دراسة تامة للموضوع الذي يخطب فيه، فإنّ الرأي المحكم لا يكون إلاّ بدراسة عميقة، وإحاطة تامة، واطلاع واسع، وعلم غزير. 7ـ أن يكون صادق اللهجة، ينبع الصدق من سريرته. 8ـ النطق الحسن، فإنّه الدعامة الاُولى للإلقاء الجيّد، وإذا اعترى النطق ما يفسده فإنّه يضيع الإلقاء، فضاعت الخطبة وضاع أثرها. 9ـ شجاعة القلب ورباطة الجأش، فمن كان ضعيف النفس جباناً يخشى الناس ويهابهم، فإنّه لا يفلح في الخطابة، فعليه أن يحمل في وجوده قوّة القلب، وقوّة البيان، فهما روح الخطابة وقوامها. 10ـ أن يكون الخطيب عارفاً بالله وبدينه وبزمانه وأهله وبيئته ومحيطه الذي يعيش فيه. فالخطابة منصب خطير ومقام شامخ، لا ينالها إلاّ ذو حظٍّ عظيم، فمن لم يكن له مؤهلات الخطابة سرعان ما يفشل ويتراجع أمام النقد الهدّام، فإنّه قد تعترض الخطيب زوابع من كلّ ناحية، وقد يقابل بالسخرية والاستهزاء، وقد يكون المستمعون ممّن يقتصّون عوراته في الكلام والحركات والسكنات وهو على المنبر، ويتسقّطون هفواته، ويكونوا له رقيباً عتيداً، فإذا لم يدرج الخطيب بضبط نفسي وسيطرة تامة على أحاسيسه ومشاعره، لم يستطع السير إلى غاياته وأهدافه... وقديماً قال خطيب عربي: لقد شيّبني ارتقاء المنابر. وقيل: إنّ أحد الخلفاء لمّـا تولّى الخلافة ورقى منبر الخطابة، ارتجّ عليه لهيبة الموقف، فقال: إنّ فلاناً وفلان كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى خطيب، فإنّها طالما أثّرت على الخطباء، فألحنوا وتعتعوا وجهلوا موضع خطاباتهم وعنوان كلامهم. فالخطابة الناجحة لا ينالها يد الفرد، ولا تلمسها قدرة الشخص إلاّ بما ذكر ممّـا يلزم الخطيب. لا سيّما شجاعة القلب التي يتمكّن معها من إلقاء خطبه الصاعقة، غير هيّاب ولا وجِل، ولا متلعثم ولا خائف.
الهوامش
([1]) النحل: 125. (2) التحريم: 6. (3) أساس الاقتباس: 531. (4 النحل: 125. (5) مطالع الأنوار: 335. (6) النحل: 125. (7) راجع كتاب الخطابة تأريخها قواعدها آدابها; للشيخ حسين جمعة العاملي. (8) تاريخ گويندگان اسلام: 20. (9) لقمان: 13.