وهي انقياد قوة الشهوة للعقل في الإقدام على ما يأمرها به من المأكل والمنكح كمّاً وكيفاً، والاجتناب عمّا ينهاها عنه، وهو الاعتدال الممدوح عقلاً وشرعاً، وطرفاه من الإفراط والتفريط مذمومان، فإن المطلوب في جميع الأخلاق والاحوال هو الوسط، إذْ خير الامور أوساطها، وكلا طرفيها ذميم. والعفة هي أنبل السجايا، وأرفع الخصائص الدالة على سمو الايمان وشرف النفس وعزّ الكرامة، وقد اشادت بفضلها الآثار، فقد قال الإمام الباقر (عليه السّلام): «ما مِن عبادة افضل عند الله من عفة بطن وفرج» [جامع السعادات: 1/296]، وقال رجل للإمام الباقر (عليه السّلام): إنّي ضعيف العمل قليل الصلاة قليل الصيام، ولكني أرجو أن لا آكل إلاّ حلالاً ولا انكح إلاّ حلالاً، فقال له (عليه السّلام): «وأيّ جهاد افضل من عفة بطن وفرج» [الوافي: 3/65، عن الكافي].
حقيقة العفة
ليس المراد بالعفة حرمان النفس من اشواقها ورغائبها المشروعة من المطعم والجنس، وإنّما الغرض منها هو القصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذْ كل إفراط أو تفريط مضرٌّ بالانسان، وداعٍ إلى شقائه وبؤسه، فالافراط في شهوات البطن والجنس يفيضان به إلى المخاطر الجسيمة والأضرار الماحقة، والتفريط فيها كذلك باعث على الحرمان من مُتع الحياة ولذائذها المشروعة، وموجب لهزال الجسد وضعف طاقاته ومعنوياته.
الاعتدال المطلوب
من الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد وطاقاتهم، فالاعتدال في الشخص قد يعتبر إفراطاً أو تفريطاً في آخر، والاعتدال النسبي في المأكل هو أن يتناول كل فرد ما يقيم إوَدَه ويسدّ حاجته من الطعام، متوقيّاً الجشع المقيت والامتلاء المرهق، وخير مقياس لذلك هو ما حدّده أمير المؤمنين (عليه السّلام) وهو يحدث ابنه الحسن (عليه السّلام): «يا بني، ألا اعلّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، قال: لا تجلس على الطعام إلاّ وانت جائع، ولا تقم عن الطعام إلاّ وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب» [سفينة البحار: 2/79، عن دعوات الراوندي]. وقد قيل: ان الاعتدال ان يكتفي في اليوم والليلة بأكلة واحدة في وقت السحر، وبعد الفراغ عن التهجّد أو بعد صلاة العشاء، أو بأكلتين: التغدي والتعشي إن لم يقدر على الواحدة.
مدح العفة
الاخبار الواردة في مدح العفة وفضيلتها كثيرة. قال أميرُ المؤمنين (عليه السّلام): «افضل العبادة العفاف» [جامع السعادات: 1/296]، وقال النبي (صلّى الله عليه وآله): «أكثر ما تلج به اُمتي النار: الاجوفان البطن والفرج» [بحار الانوار: 2/184، عن محاسن البرقي]. ولا ريب أن العفة هي أنبل السجايا، وارفع الفضائل المعربة عن سموّ الايمان وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد، وهي الخلّة المشرّفة التي تزين الانسان، وتسمو به عن مزريات الشره والجشع، وتصونه عن التملق لللئام، استدراراً لعطفهم ونوالهم، وتحفزه على كسب وسائل العيش ورغائب الحياة، بطرقها المشروعة وأساليبها العفيفة. واعلم ان الاعتدال في الأكل أن يأكل بحيث لا يحسّ بثقل المعدة ولا بألم الجوع، بل ينسى بطنه، فلا يؤثّر فيه أصلاً، فإن المقصود من الأكل بقاء الحياة وقوّة العبادة، وثقل الطعاميمنع العبادة، وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها، فالمقصود أن يأكل أكلاً معتدلاً بحيث لا يبقى للأكل فيه أثر، ليكون متشبّهاً بالملائكة المقدّسين عن ثقل الطعام وألم الجوع.