بحث قيّم ألقاه سماحة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد مهدي شمس الدّين، بمناسبة المؤتمر العالمي الذي عقد في مشهدالإمام الرضا (عليه السلام). أهداف المأمون من مشروع إسناد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام)، وأسباب قبوله، وخطة الإمام في إحباط مشروع المأمون واستغلاله لصالحه.
الهدف والأسلوب
فيما نقدّر، كان هدفُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد استشهادالحسين (عليه السلام) يتقوّم بأمرين: الأول: حفظ الإسلام من التحريف والتزوير والتأويل الفاسد، وذلك بعدة طرق، في مقدمتها التركيز على السنة الصحيحة في مقابل الدعاوى الأخرى التي كانت تتأثر في قليل تارة وفي كثير أخرى بتيارات الحكم القائم وأهواء القيّمين عليه في العصرين الأموي والعباسي. لقد كانت رواية الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كذباً أو تحريفاً أخطر ما يواجه الإسلام من الداخل بعد استحالة تحريف القرآن، كما تم التسلل إلى قدس القرآن لتشويه دلالة قسم من آياته ـ خاصة في المبادئ السياسية والاجتماعية الكبرى ـ عن طريق الحديث الموضوع والمحرّف. ولذا فقد توجّه الأئمة (عليهم السلام) إلى بذل كل جهودهم واستفراغ وسعهم في نشر الحديث بين الناس، واتخاذ جميع الوسائل لتوسيع دائرة انتشاره في الآفاق. الثاني: حفظ أتباع الخط الإسلامي الصحيح والأقرب بالأقرب من المسلمين، حفظهم من الجهل، وحفظهم من الفتنة، وحفظهم من القتل. فكان حفظهم من الجهل بالتركيز الشديد على نشر المعارف الإسلامية بينهم، ونشر المبلغين فيهم، ووضع قاعدة الحوزات العلمية في الآفاق، وتأسيس المرجعية الرشيدة لهم، وذلك بتكون نسبتهم إلى خط أهل البيت (عليهم السلام) نسبة واعية، قائمة على المعرفة والاقتناع. وذلك هو ضمان الاستمرار والصمود أمام المحن والصعاب، لا على العاطفة وحدها والتقليد وحده، لأن ذلك لا يضمن استمرار ومناعة مؤسسة فكرية سياسية ثورية كما هو خط أهل البيت (عليهم السلام). وكان حفظهم من الفتنة بالنهي المتكرر الملح عن الاندماج في هيكليات السلطة الظالمة أو الكافرة، والأمر بالابتعاد عنها، دون الخروج من المجتمع الإسلامي، والأمر بالتواصل مع سائر المسلمين على قاعدة التعايش مع تملك السلطات، دون الدخول في بنيتها والمساهمة في تكوينها، بالمقدار الذي لا يخل بالنظام العام للمجتمع ولا يخل بالمصالح الأساسية الحيوية للجماعة المنضوية في خط أهل البيت (عليهم السلام). وكان حفظهم من الفتنة أيضاً بالنهي المتكرر عن الدخول في التحزب لهذا المتسلط أو ذاك من أهل الجور حين ينتازعون السلطان. وكان حفظهم من القتل والتشريد كأفراد أو كجماعات معزولة عن عمقها، محاصرة في مناطقها بتشريع التقية الذي نفهمه على أساس انه تشريع لحفظ حياة الأفراد ومصالحهم الشخصية، حين لا يؤدي ذلك إلى المساس بالقضية المبدئية والالتزام السياسي للمجتمع السياسي، أما حين تؤدي التقية إلى التخلي عن المبدأ أو الانحراف عنه في القضية السياسية وفي الالتزام السياسي للمجتمع، فإنها لا تكون مشروعة، لأنها شرعت لحماية الأفراد حاملي المبدأ والمحافظين عليه بما هم متصفون بهذه الحيثية. وإذن، فالملحوظ في تشريعها هو حفظ المبدأ وإمكانات نجاحه وانتصاره في المستقبل، فلا يعقل أن تكون سبباً لإضعافه أو القضاء عليه من أجل حفظ مصالح الأفراد. هذا الهدف تشخص على المستوى الواقعي التطبيقي بعد استشهادالحسين (عليه السلام) من خلال معادلة بين ثلاثة عناصر: 1ـ التقية على مستوى الأفراد. 2ـ حفظ النظام العام للمجتمع الإسلامي وللجماعة المسلمة في الشأن الإداري والخدمات العامة للمجتمع. 3ـ رفض إعطاء الشرعية السياسية للنظام الجائر. وقد تعامل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مع الواقع القائم ضمن المساحة التي تحدها هذه الحدود. لقد أنتجت هذه المعادلة أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تعاملوا مع الواقع القائم على المستوى الإداري بمقدار ما يتصل بتوفير عناصر ومقومات حفظ النظام العام للمجتمع، ويوفر مستوىً ملائماً من حرية التحرك الآمن لهم ولأصحابهم، لتحقيق هدف حفظ انجاز النبوة من التحريف، ويبقي الموقف السياسي المعارض للنظام الجائر حياً وفعالاً. ويبقي المشروع السياسي لخط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ في مقابل النظام الجائر ـ حياً ومتحركاً. إن مكابدة حال كهذه هي دائماً مشكلة أليمة لمن يعمل في الحقل السياسي العام من الإسلاميين، في مرحلة اجتماعية سياسية لا تسمح بثورة كاملة فورية، ويتحمل مسؤوليات متنوعة تجاه المجتمع من خلال موقعه. فيجب التنبّه لئلا تنعكس المعارضة السياسية على بنية المجتمع إخلالا بالنظام العام من جهة، ولئلا تنكشف مقاتل العمل الإسلامي المستقبلي لمن يتربص به الدوائر من جهة أخرى، ولئلا تتعرض قواعد العاملين لضربات انتقامية تتجاوز طاقة احتمالها من جهة ثالثة. وفي مقابل ذلك ينبغي التحلي بالوعي الكامل في كل خطوة وموقف، لئلا تؤدي الاستجابة لتلك الضرورات إلى الانزلاق نحو إعطاء الشرعية السياسية للنظام الجائر أو الكافر. إن الاستهداء بسيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في إدارة العملية السياسية على مستوى الأمة تارة، وعلى مستوى مجتمعات معينة داخل الأمة تارة أخرى، يعصم العامل من الوقوع في الخطأ والالتباس في رؤية الحدود التي يجب أن يقف عندها. وحين نفحص طبيعة هذا الهدف الذي سجلته وبيّنت معالمه سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بشقّيه، نجد أنه من جهة ذو طابع تأسيسي بنائي، وذلك فيما يعود إلى حماية إنجاز النبوة في التبليغ وحراسة الإسلام من التحريف، ومن جهة أخرى نجد انه ذو طابع دفاعي يتشخص في حفظ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من الجهات التي ذكرناها. وقد كان المغزى الأعمق لهذا الهدف بشقيه هو إعداد الأمة وإعادة بنائها من جديد بعد النكسة التي نزلت بها في صدر الإسلام، وما ترتب عليها من انحراف في المسألة السياسية وقضية الحكم، تبعه انحراف في الجانب التشريعي، من حيث مصدرية ومرجعية السُنّة التي هي المصدر الثاني للتشريع في الإسلام بعد كتاب الله عزّ وجلّ. وغاية هذا الإعداد هي حفظ النواة السلمية التي تتمثل بأتباع خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والعمل على تأهيلها وتوسعتها باجتذاب أكبر عدد من المسلمين إلى دائرتها، تمهيداً لإقامة دولة على قاعدة الإسلام ونهجه، بعد إيجاد أوسع قاعدة إسلامية لها ملتزمة بفكرها ونهجها، تحميها من جهة، وتكون مرتكز انطلاق لها من ناحية أخرى، إلى أن يحقق الله تعالى وعده الأكمل والأشمل بظهور بقية الله في الأرض (سلام الله عليه وعجّل فرجه). النقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية: على هدى هذا الهدف ينبغي أن ندرس الحياة التشريعية الاجتماعية لكل إمام من أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام). وعلى هذا الهدى ندرس جانباً من الحياة السياسية للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، ولعله أكبر وأخطر محطة في حياته السياسية هي ولاية العهد للمأمون العباسي وما يتصل بها، وسنرى أن الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه المحطة من حياته كان قطباً فاعلاً في الأحداث موجهاً لها، حتى في حالات كونه في موقع رد الفعل، فان رد فعله ينطلق من مخطط دقيق وعام لا للتصدي للمشكلة التي تواجهه فحسب، وإنما لمهمته القيادية العليا في الأمة أيضاً. ويدور البحث هنا حول جوهر مسألة ولاية العهد، وهو النقطة المركزية فيها وفي المشكلة السياسية الإسلامية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه المشكلة التي نمت وتعاظمت في خط تصاعدي، إلى أن بلغت ذروتها بعد استشهادأمير المؤمنين (عليه السلام)، وتفجّرت بثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، في سلسلة متواصلة الحلقات من أزمات الحكم، طيلة عهد حضور وظهور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والى حين غيبة الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، وأخذت في عصر الغيبة مناحي أخرى في التعبير عن نفسها. ما هي النقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية؟ في العهد الأموي وفي العهد العباسي، وفيما زامن العهد العباسي ـ في دولة الخلافة الشرقية ـ من أنظمة حكم أخرى كالحكم الأموي في الأندلس والخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا، وما تلا هذه الكيانات من دول في شتى أنحاء العالم الإسلامي مروراً بجميع العهود إلى عهد الدولة العثمانية (الخلافة) والسلطنة الصفوية، كان جميع الحاكمين والهيئات الحاكمة تعتبر أنها إسلامية الهوية والانتماء، تحكم باسم الإسلام، وتمارس سلطانها على الناس في السلم والحرب والاقتصاد والسياسية والقضاء وتنظيم المجتمع، وغير ذلك من شؤون حياة المجتمع السياسي، على اعتبار أنها أنظمة إسلامية تطبق أحكام الإسلام. وتقوم شرعية هذه الحكومات على دعوى كونها مستمدة من الإسلام، ولكن كيف؟ ما هو مصدر شرعية القيادة على المستوى التطبيقي؟ إن المسألة على المستوى النظري والتجريدي محلولة, فالكل يدعي الإسلامية، ويطبق الإسلام من منطلق هذا الفهم أو ذاك بدرجات متفاوتة من عدم الأمانة للنص الشرعي، وبانتهاك فاضح في أغلب الأحيان لروح النص الشرعي. أما على المستوى التطبيقي بشأن مصدر شرعية القيادة، فقد ثَمّةَ موقفان متباينان: الأول: الموقف المرتكز على صيغة النص. الثاني: الموقف المتجاهل لصيغة النص، والمرتكز على مبدأ البيعة. وقد حكم التعارض بين هذين الموقفين وضع الأمة الإسلامية منذ وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أواخر العهد الأموي حين بدأت الدعوة العباسية. وقد تأصلت صيغة النص في ذهنية الأمة عمقاً وشمولاً، نتيجة لعمل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم في تثقيف الأمة بمسألة النص من جهة، وبسبب فساد الحكم الأموي وانحرافاته عن الإسلام على مستوى النظر والتطبيق من جهة ثانية، وبسبب ممارسة الحكام الأمويين لصيغة النص على طريقتهم الخاصة من جهة ثالثة, فمنذ عهد معاوية مورست صيغة النص عن طريق ولاية العهد والبيعة المسبقة، لكل ذلك غدت صيغة النص في ذهنية الأمة هي الأساس الوحيد المعترف به عند فريق كبير من المسلمين، والخيار الأفضل عند بقية المسلمين مصدراً لشرعية السلطة على المستوى القيادي الواقعي والتطبيقي، وسقطت صيغة البيعة باعتبارها مصدراً وحيداً لشرعية السلطة، ولم تعد سوى مظهر مكمل لصيغة النص. وقد واجهت الدعوة العباسية ـ حين بدأت ـ هذا الواقع في الحياة السياسية للأمة وفي ذهنيتها، فاستعملت جميع الرموز والمقولات التاريخية والفكرية للإيحاء بصيغة النص دون التورط في الالتزام الصريح بها، حذراً من الالتزام بما يقتضيه ذلك من تسليم السلطة إلى صاحبها الشرعي. فاستعمل الدعاة العباسيون إسم العلويين وأهل البيت ومصطلح العترة، واستعملوا باستمرار مصطلحاً غامضاً كان بعض الثوار على الأمويين ـ بعد ثورة الحسين ـ قد استعملوه، وهو مصطلح الدعوة إلى (الرضا من آل محمد). لقد كان هذا المصطلح تظهيراً جديداً للموقف المرتكز على صيغة النص، يهدف إلى الانتفاع بكل الرصيد السياسي لصيغة النص في الأمة، دون الالتزام الصريح بها، ليتمكنوا من الانقلاب عليها في عملية تضليل كبرى للرأي الإسلامي العام. لقد مشت الدعوة العباسية خطاها في ظل هذا الشعار، وحين أنجزت مشروعها السياسي بإسقاط النظام الأموي وإقامةالدولة العباسية، أنجزته باعتباره المشروع السياسي الذي يرتكز على صيغة النص. لقد ادعى العباسيون منذ أول خطبة لأبي العباس السفاح بعد بيعته في الكوفة أنهم أنجزوا المشروع السياسي لآل البيت، آل علي، بني هاشم، ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). بانجاز المشروع العباسي تداول الفكر السياسي الإسلامي ثلاث صيغ للإجابة على السؤال المركزي في المشكلة السياسية الإسلامية في عهد حضور الإمام المعصوم، وهو السؤال المتعلق بمصدر شرعية القيادة على مستوى التطبيق، بعد الفراغ عن كون جميع الكيانات السياسية الإسلامية تنتمي إلى الإسلام وتدعي تطبيقه. 1ـ صيغة النص: وهي صيغة خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي دأبوا على تأصيلها في ذهنية الأمة، وتوعية الأمة بها، بحيث غدت ـ كما أشرنا ـ موضع قناعة عامة عند جميع المسلمين، إما باعتبار الصيغة الشرعية الوحيدة لشرعية القيادة، أو باعتبارها أفضل الصيغ لذلك. 2ـ صيغة البيعة: وهي تتجاهل صيغة النص إطلاقاً، فلا تعترف بشرطية النص مباشرة ولا مداورة. لقد كان النظام الأموي يقوم على هذه الصيغة، وبعد سقوطه في المشرق أعاد تكوين نفسه في الأندلس على أساس أن مصدر شرعية القيادة فيه هو البيعة. 3ـ صيغة (الرضا من آل محمد): وهي الصيغة التي قامت عليها الدعوة العباسية وحققت إنجازها السياسي على أساسها. إن هذه الصيغة التي تستبطن في جوهرها صيغة البيعة، تمثل ـ كما قلنا ـ إلتفافاً على صيغة النص للاستفادة من قوتها السياسية من جهة, والفرار من لازمها السياسي من جهة أخرى. إن اللازم السياسي لصيغة النص هو تولّي الإمام المعصوم، وهذا ما عمل العباسيون جهدهم لتفاديه، مع حاجتهم الماسة ـ لأجل نجاح دعوتهم ـ إلى الرصيد السياسي لصيغة النص في الأمة، فكانت صيغة (الرضا من آل محمد). وتعبيراتها الأخرى: العلويون، الهاشميون، آل البيت، ذرية النبي، العترة، هي الأداة النظرية الإيديولوجية السياسية لتحقيق هدفهم. وقد تم لهم ذلك على أساس الآلية التالية: لقد اقترنت صيغة النص في ذهنية الأمة بأهل البيت (عليهم السلام)، فكان ذكر النص ينقل الذهن رأساً إلى أحقية أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكان ذكر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معرض العمل السياسي يستحضر في الذهنية العامة للأمة صيغة النص. وقد استغلت الدعوة العباسية هذا التلابس والتلازم بين صيغة النص وبين عنوان أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، باعتباره التشخيص المادي لصيغة النص في المجتمع الإسلامي. ومنذ انتصارهم طوّر العباسيون نظريتهم التي استندوا إليها، لمواجهة حالة الصدمة التي تولدت عن انكشاف الحقيقة لدى بعض كبار قادة الدعوة وقيادات الأمة الذين كانوا يعتقدون أنهم يعملون ضد الأمويين على أساس صيغة النص. فاستعمل العباسيون مقولة: (الثأر لآل محمد)، لتبرير الإمساك بالسلطة سياسياً، كما استعملوا مصطلح: (الحق، الإرث) لتبرير وضعهم أيديولوجياً، باعتبار أن هذا الأسلوب هو الخطاب السياسي المفهوم شعبياً لمظهر لصيغة النص عند بعض الفئات الشعبية، التي لم تكن وثيقة الصلة بتيار أهل البيت (عليهم السلام) في الأمة، ويمكّن علماء السوء والمفكرين المأجورين من المناورات الفكرية والكلامية لتضليل الرأي عن المدلول الحقيقي لصيغة النص.
المواجهة التحريفية الجديدة ومأزق الحكم العباسي
أمام انتصار العباسيين وانجاز مشروعهم لم يتوقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم عن عملهم السياسي في الأمة على أساس صيغة النص، ولم تعد المواجهة مع صيغة البيعة وحدها.. لقد دخل عنصر مفهومي سياسي جديد هو مقولة: (الرضا من آل محمد)، والشرعية التي يدّعي العباسيون اكتسابها على أساس هذه الصيغة بالوصية من إبراهيم بن محمد بن الحنفية. لقد واجه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم هذه الحالة الجديدة بقوة، ولعل دراسة معمّقة لنصوص الإمامة بعد قيام الدولة العباسية تكشف عن تطور في كمية هذه النصوص محتواها الفكري، من حيث مقدار العناصر الفكرية العقيدية التي اشتملت عليها، ومن حيث التشديد على مركزية الإمامة في عقيدة الأمة. إن عمل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم في توعية الأمة وتثقيفها في المسألة السياسية على قاعدة النص، وانكشاف حقيقة الحكم العباسي المزورة من حيث مصدر شرعية القيادة على مستوى التطبيق، وانكشاف الالتباس الذي استغل وراء ستار شعار: (الرضا من آل محمد)... كل ذلك أعاد الوعي إلى ذهنية الأمة بالنسبة إلى صيغة النص ومقولة الإمامة. وقد أدت هذه الثقافة من جهة, ومظالم الحكم العباسي من جهة أخرى، إلى تغذية الحالة الثورية في الأمة على أساس النص، وفي كثير من الحالات تحت شعار: (الرضا من آل محمد)، نفس الشعار الذي قامت في ظله دولة العباسيين واكتسبت شرعيتها من إيحاءاته، مما يعني تجريداً كاملاً للسلطة العباسية من شرعية القيادة، ويطرح فكرة التغيير الجذري الكامل بدلاً من فكرة الإصلاح. بهذا يتضح لنا المأزق الذي بدأت تعاني منه الدولة العباسية بشكل خطير على مستوى أساس الشرعية للقيادة، في نطاق نوع ثان من المآزق السياسية النابعة من الصراعات السياسية والعسكرية داخل الدولة بين القوى الكبرى التي تكوّن دولة الخلافة، إضافة إلى صراعات الأجنحة داخل البيت العباسي نفسه. وقد واجهت السلطة العباسية منذ عهد مبكر ـ منذ أيام المنصور ـ مأزقها الشرعي بسياسة قمع العلويين بصورة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، إضافة إلى جانب استخدام المقولات الفكرية والفقهية في المسألة السياسية، مثل مقولة: الحق، والإرث، والقرابة، وأقربية بني العم من بني البنت. لقد استخدم الفقه والفكر والأدب وعلم الكلام في هذا الصراع السياسي، وأُنشئت بعض الفرق الكلامية الوهمية لطرح بعض الأفكار والمقولات المستخدمة في هذا الصراع من خلالها. ولكن أثبتت التجارب المريرة دائماً أن نتائج المعالجة السياسية والقمعية لم تقتصر على الفشل فقط، وإنما كانت تغذ الاتجاهات الثورية الرافضة للحكم العباسي بمزيد من المبررات للانتشار والاستمرار. وقد أدرك المأمون عقم هذا الأسلوب في المواجهة مع المأزق الذي ولدته صيغة النص. لقد أدرك أنه يستطيع أن يعالج المأزق الناشئ من صراع الأجنحة داخل البيت العباسي وصراع القوى الكبرى داخل النظام ـ بالوسائل السياسية والعسكرية بنجاح ـ، ولكنه لا يستطيع أن يعالج المأزق الأول ـ مأزق صيغة النص ـ بالوسائل نفسها، لأن له طبيعة أخرى تجعله عصياً على هذه الوسائل. إن الوسيلة السياسية لا تجدي بالنسبة إليه نفعاً، والوسيلة العسكرية تزيده احتداماً وتأججاً. والعباسيون أكثر الناس خبرة بعدم فعّالية الوسائل السياسية في هذا النوع من المآزق، وبالتأثر العكسي للوسائل العسكرية، ويكفي أن يتذكروا كيف عالج الأمويون مشكلة خراسان في بداية الثورة العباسية ليتعلموا منها درساً. لقد واجه المأمون المأزقين معاً، وقد استمر في معالجة المأزق الثاني بالوسائل السياسية والعسكرية المألوفة، ولكنه واجه المأزق الأول والأساس ـ مأزق الشرعية ـ بعقلية مدركة لطبيعة ولأسلوب معالجته. لقد أدرك المأمون إن هذا المأزق يجب أن يعالج بوسيلة منسجمة مع طبيعته. انه مأزق إيديولوجي له مفاعيل سياسية, فلا يعقل أن تعالج مفاعيله دون أن يعالج من أساسه، ووسيلته المناسبة يجب أن تكون إيديولوجية أيضاً. وهكذا ولد في ذهنه الحل الإيديولوجي لمأزقه الإيديولوجي، وهو إسناد ولاية العهد للإمام علي بن موسى بن جعفر (عليهما السلام) بلقب الرضا. إن البراعة في الحل هي أنه يعيد الدعوة العباسية من أولها، ويعيد الفعّالية والإقناع إلى شعار: (الرضا من آل محمد) بأسلوب جديد يتجسد في الشخص الذي يمثل (الرضا من آل محمد) في الذهنية العامة للأمة، لا بصورة سديمية وغامضة، وإنما في الشخص المحدد الذي يمثل في مرحلته التاريخية صيغة النص بأكمل صفائها. وان براعة الفكرة هي في أنها تقدم حلاً نموذجياً للمأزق ملائماً لأقصى أماني المأمون. إنها ـ من جهة ـ تعطي الشرعية للقيادة، ومن ثَمّ تقضي على المأزق الإيديولوجي السياسي، ومن ثم توفر الشرعية لكل المواجهات السياسية والعسكرية مع حركة الثورة. ومن جهة أخرى تؤجل الاستحقاق, فهي ولاية عهد وليست نقلاً للسلطة، وهي ولاية عهد مشكوكة التحول إلى ولاية حكم، إذا لاحظنا أن الإمام الرضا (عليه السلام) كان أسن من المأمون بـ (22) عاماً. وان براعة الفكرة أيضاً في أنها تقلب المعادلة تماماً, فبينما المأزق الإيديولوجي هو مأزق المأمون والسلطة العباسية، إذا هو يتحول إلى كونه مأزق أصحاب صيغة النص ورمزهم الذي يجسد صيغة النص، وهو الإمام الرضا (عليه السلام).
الجانب المشكل في قضية ولاية العهد
إن المسألة من جانب واحد، ذلك أن من الطبيعي جداً والمفهوم تماماً أن يعهد حاكم يتولى السلطة بدون شرعية، ويعاني من مصاعب ويواجه أخطاراً بسبب ذلك، بتولي السلطة من بعده لصاحب الحق الشرعي الذي يزيد عمره اثنين وعشرين عاماً، وأن يتم ذلك في عملية محسوبة بدقة من قبل الحاكم الفعلي الذي يريد أن يتغلب على مصاعبه بهذا الأسلوب. إن تفسير المسألة من هذا الجانب سهل ميسور، بعد وضوح ملابساتها وأهدافها واحترازتها، وعلى ضوء معرفتنا بالنقطة المركزية في المشكلة السياسية الإسلامية، ولكن من غير الطبيعي وغير المفهوم أن يقبل صاحب الحق المسن بولاية العهد هذه، التي تتضمن مخاطرة الاعتراف بشرعية الحاكم الفعلي، وتساعده على التخلص من مصاعبه، مقابل وعد بتولي الحكم في ظروف تقضي طبيعة الأشياء فيها بأنه وعد غير ممكن التحقق، نظراً لفارق السن بين الحاكم وولي عهده، ونظراً لإمكانات الاغتيال المتوفرة دائماً، ومع وعي هذه الحقيقة الذي يدل عليه قول الإمام الرضا (عليه السلام): إنه أمر لا يتم، ومع وعيه إن خطوة المأمون لم تتخذ نتيجة لاقتناع برد الحق إلى أهله، وإنما نتيجة لضغط الضرورة. إن هذا الجانب هو المشكل في المسألة. وفهم هذا الجانب المشكل يقتضينا إن نعود إلى الهدف الأساس لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعد استشهادالإمام الحسين (عليه السلام)، فعلى ضوئه نفهم لماذا امتنع الإمام الرضا (عليه السلام) أولاً، وقبل بعد ذلك البيعة بولاية العهد للمأمون، بيعة الموت. قلنا: إن هذا الهدف يتقوم بأمرين: الأول: حفظ الإسلام من التحريف والتزوير والتأويل الفاسد. والثاني: حفظ أتباع الخط الإسلامي الصحيح, أتباع صيغة النص والأقرب إليه فالأقرب من المسلمين، من الجهل والفتنة والقتل. لقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) في امتناعه وقبوله وطريقة حياته ولياً للعهد، يتخذ المواقف المناسبة لهذا الهدف، ويتخذ الخطوات المؤدية إليه، وسط دهشة المدهوشين وسخط الساخطين وتربص المتربصين. لقد كان يعي أن البيعة المعروضة عليه هي بيعة الموت، وكان يعي مأزق المأمون والخلافة العباسية، وكان يعي أهداف المأمون من عرض ولاية العهد، وكان يعي مأزقه هو بهذا العرض الذي يحمل خطر الاعتراف بشرعية حكم المأمون، ومن ثم الاعتراف بشرعية الخلافة العباسية، وكان يعي طبيعة الشراك التي ستنصب في طريقه، وليس أقلها شأنهاً وخطراً محاولة إدخاله في جهازي حكم وإدارة لم يشكلهما هو، ولا يتلاءمان مع توجهاته في الفكر والسياسة والأخلاق. لقد كان يعي كل ذلك, ولذا فقد كان موقفه الأول من العرض هو الرفض والإباء، واستمرت محاولات المأمون وبطانته في الإقناع، واستمر هو على امتناعه إلى أن واجه التهديد المبطن والصريح بالقتل، فقبل ولاية العهد (وهو باك حزين) كما تقول كثير من الروايات، وقد شرح الإمام الرضا (عليه السلام) قبوله لبعض أصحابه وفي مناسبات متنوعة بهذا التعليل. إن الرفض مفهوم، لأنه ينسجم مع وضعه العام ومع فهمه لأهداف المأمون، ومع وعيه لأهدافه هو من حياته، ولكن القبول يحتاج إلى تفسير إن التهديد بالقتل ـ بما هو تهديد للحياة الشخصية ـ ليس سبباً كافياً بنظرنا لفهم القبول. إن موقف الإمام الرضا (عليه السلام) يشبه من وجوه موقف الإمام الحسين (عليه السلام) بصيغة تناسب شخصية المأمون وعصره، وقد تحمّل الإمام الحسين (عليه السلام)خيارالشهادة. إن علينا أن نبحث عن سبب أعمق من المحافظة على الحياة الشخصية وراء قبول الإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وأوفق بشخصيته كإمام معصوم، وأوفق بالهدف الثابت للأئمة المعصومين (عليهم السلام). بل إننا نرى إن المحافظة على الحياة الشخصية لا تدخل في الأسباب الحقيقية للقبول، لأننا نرى أن مجرد ولادة فكرة ولاية العهد في ذهن المأمون كانت حكماً بالقتل على الإمام الرضا (عليه السلام)، ونقدّر أن الإمام كان يعي هذا، ولعله لذلك لم يصحب أحداً من آله إلى (مرو) ظناً بهم أن ينزل بهم ما سينزل به. لقد كان محكوماً بالقتل إن لم يقبل، وكان محكوماً بالقتل إن قبل، والفرق بين الحالتين هو فعلية التنفيذ وتأجيل التنفيذ. ونقدر أن إباءه ورفضه كان لكشف المزيد من مكنونات خطة المأمون ونواياه، وشبكة العلاقات التي تدير عملية ولاية العهد من خلال أطرافها، ولم يكن رفضه لولاية العهد مجرد رد فعل ساذج وبسيط. إننا نرى في الإمام الرضا (عليه السلام) وموقفه ـ مع ملاحظة اختلاف العصور والعهود وطبيعة الخصم ـ مشابهة قوية من الإمام الحسن (عليه السلام) وموقفه. والفروق بينهما ناشئة من أن الإمام الحسن (عليه السلام) واجه الحكم بالموت بصيغة التعجيل أو بصيغة التأجيل وهو يسلب ما في يده، وواجه الإمام الرضا (عليه السلام) الحكم بالموت بصيغة التعجيل أو بصيغة التأجيل من خلال عرض كاذب بأن يأخذ في المستقبل حقه المسلوب، ولكن ليسلب الآن أساس شرعية هذا الحق، فاختار صيغة التأجيل ـ كالإمام الحسن (عليه السلام) ـ، لأنها أوفق بهدف الأئمة (عليهم السلام) الذي خطا إليه الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال صيغة التعجيل، لأنها أوفق بظروفه وظروف الأمة في عصره، وأوصل إلى الهدف الثابت للأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وأشد تدميراً لخصمه يزيد وللنظام الأموي.
الأسباب
لأجل أن نفهم السبب الأعمق لقبول الإمام الرضا (عليه السلام) ببيعة الموت, علينا أن نلتمس الأجوبة على مستويين: مستوى ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يقبل؟ ومستوى إلى ماذا هدف حينما قبل؟ أ ـ ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يقبل الإمام الرضا (عليه السلام) ببيعة الموت؟ ما نقدر انه كان سيحدث هو ما يلي: 1ـ القتل: وكان عليه أن يتفادى القتل، لا للحفاظ على حياته الشخصية، فحياتهم الشخصية (عليهم السلام) لم تكن أثيرة عندهم عزيزة عليهم، وإنما كانت كلها مسخرة من أجل الأمة. إن قتله كان سيفتح باباً واسعاً من البلاء على أتباع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، دون أن يكون لهم ملاذاً أو موجّه، وعلينا أن نربط تفادي القتل بصميم قضية الإمامة وتوقيتها حين نلاحظ صغر سن الإمام الجواد (عليه السلام) في وقت عرض ولاية العهد. إن حياته ترتبط بتحقيق أهداف وتجنب أخطار، وقد علّل قبوله لبعض أصحابه الذين سألوه بقوله: اخترت القبول على القتل، وعلل قبوله لآخر قال له سائلاً: ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ قال: ما حمل جدي على الدخول في الشورى. وعلينا أن نعي انه (عليه السلام) كان مضطراً إلى هذا التعليل البسيط والمقبول من عامة الناس، وهو اتقاء القتل، أو التعليل الغامض الذي يجعل الإمام علياً (عليه السلام) قدوة له، مع الالتفات إلى أنه يتضمن في بعض دلالاته ومضامينه تعليل اتقاء القتل أيضاً. علينا أن نعي انه كان مضطراً إلى هذا الأسلوب من التعليل، لأنه لم يكن في وضع يمكنه من الإفصاح عن الأسباب العميقة لقبوله، لئلا تنكشف خطته، وأسباب ضرورته وهدفه الحقيقي. لقد كان مراقَباً, وكانت أحاديثه ورسائله مراقبة, لقد كان يعيش نفس الظروف التي عاشها الإمام الحسن (عليه السلام) ويحمل غصصها، وهو يسمع من يقول له: السلام عليك يا مذل المؤمنين، دون أن يتمكن من شرح محنته للرأي العام، وحتى للكثير من خاصته، وكيف انه يستشهد في كل يوم وهو حي، حفاظاًً على هؤلاء الذين يحبهم ويحميهم بمهجته، وهم يواجهونه بسوء الفهم وسوء التفسير وسوء التعبير. إن هذا الموقف وأمثاله يكشف لنا كم تكون القيادة المسؤولة وحيدة متوحدة، حتى عن أقرب الناس إليها، حزينة مفجوعة، حتى في ساعات السطوع حين تأخذ قرارات صعبة دون أن تستطيع بيان أسبابها. وكم عانى بعض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الغصص والآلام من ذلك، وأعظمهم نصيباً في هذا الشأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). 2ـ كان من الممكن ألاّ يقتل: ولكن كان من المؤكد حتى في حالة عدم القتل مزيدٌ من الحصار والاضطهاد والمطاردة لاتباع خط أهل البيت (عليهم السلام)، فبهذا كان المأمون قادراً بلا شك على الضغط عليه والانتقام منه. 3ـ كان من الممكن أن يؤدي عدم قبوله لولاية العهد إلى استغلال خصوم المأمون لهذا الموقف, مع ما في الساحة الإسلامية آنذاك من تفاعلات ثورية عاصفة، وإسقاطه لمصلحة الخط العباسي المتصلب في موقفه من العلويين والحاقد على الإيرانيين وهو خط الأمين، لأنه لم يكن لدى خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إمكانية الاستيلاء على الحكم ليكونوا هم البديل في حالة سقوط المأمون. وهذا يكشف لنا عن إن معارضة نظام منحرف بهدف تغييره يجب إن يحسب فيها نوعية البديل, لئلا تكون معارضة غافلة عن حساب المستقبل, فما نفع المعارضة إذا كان البديل أشد سوء من موضوع المعارضة, وأشد خطرا ًعليها. 4ـ كان من الممكن أن يؤدي الامتناع إلى دعاية واسعة النطاق ضد الإمام (عليه السلام) بأنه فوّت فرصة ثمنية, وان يؤدي ذلك إلى بلبلة واضطراب داخل جماهير خط أهل البيت (عليهم السلام) الذي يعاني من الحصار والمطاردة والإرهاب، ويكون السؤال: لماذا لم يقبل وقد عرضت عليه الخلافة وقدمت إليه؟ بدل سؤال: لماذا قبل؟ ونستطيع أن نتذكر ظروفاً مشابهة لهذا فيما حدث بشأن قضية التحكيم بعد صفين، وفيما حدث بشأن قضية الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام). 5ـ وأخيراً.. أليس من حقنا أن نتساءل: ألم يكن المأمون قادراً في حالة إصرار الإمام الرضا (عليه السلام) على الرفض، على أن يجد بديلاً علوياً من أهل الشأن في المجتمع يعهد إليه بولاية العهد؟ فقد كان في الزيدية شخصيات مهيّئة لمهمة كهذه، كما كان هناك شخصيات علوية مستقلة يمكن أن تقبل هذه المهمة. وإذا حدث هذا فقد كان من المؤكد أن تقع جميع النتائج السلبية دون تحقيق أية ثمرة ايجابية جديدة من الرفض. هذا مع ما يمكن أن يؤدي إليه حدث كهذا من تناقضات داخل أتباع صيغة النص. ب ـ إلى ماذا هدف حينما قبل؟ 1ـ تجنب الوقوع في جميع النتائج السلبية لعدم القبول، فقد دفع عن نفسه القتل، وبذا تجنب حدوث تغيير القيادة لخط أهل البيت (عليهم السلام) في فترة حرجة، وتجنب موجة جديدة من الإرهاب والمطاردة والقتل ضد أتباع خط أهل البيت (عليهم السلام)، وحال دون الجناح العباسي المتصلب والتمكن من الاستيلاء على الحكم، بل أوجد الظروف المناسبة لتحطيم هذا الخط، وشل قدرته على التحرك السياسي والتأثير على مجرى الأحداث، وحال دون أي ارتباط واضطراب في الرؤية داخل أتباع خط أهل البيت (عليهم السلام). وأخيراً، حال بين المأمون وبين الإقدام على التعامل مع أي بديل علوي يمارس المأمون من خلاله سياسية القمع ضد نهج أهل البيت (عليهم السلام) تحت ستار صيغة النص نفسها. 2ـ بقبوله استطاع التواصل مع أوساط لم تكن لتجرؤ على الاتصال به فيما لو لم يكن ولياً للعهد، فالتف حوله المرجئة وأهل الحديث والزيدية وأهل السُنة وسائر الفئات الشيعية. وبهذا التواصل استطاع التفاعل معهم على أساس صيغة النص، كما أنه بهذا مكّن قيادات خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من كبار المحدثين والمتكلمين من التواصل الحر الآمن مع هذه الأوساط المخالفة، وطرح القضايا الفكرية والسياسية للمناقشة العلمية الموضوعية الهادئة، وقد مارس الإمام الرضا (عليه السلام) بنفسه هذا اللون من النشاط العلمي الواسع المتنوع، وليس لنا أن نهوّن من الايجابيات الفكرية والسياسية التي تحققت لمصلحة خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من هذا التواصل والتفاعل. 3ـ مكّن القيادات الفكرية لخط أهل البيت (عليهم السلام) من أن تتواصل وتتفاعل بحرية وأمان مع الحالة الشعبية بجميع مستوياتها على أساس صيغة النص، وبذلك غدت صيغة النص أكثر قدرة على التفاعل مع الحالة الشعبية ورسوخاً في وعيها في مواجهة المكر السيّء والتضليل الذي كان يقوم به الحكم وأعوانه من علماء السوء، كما غدت هذه الصيغة أكثر قبولاً لدى الخاصة. ونحن نرى إن هذه الأسباب الايجابية والسلبية لم تكن كلها ذات طابع دفاعي، وإنما كانت مزيجاً من الأسباب الدفاعية والهجومية، في بعضها طابع الدفاع والتوقّي، وفي بعضها الآخر طابع التصدّي والاختراق والفعل. هذا ما يمكن أن يقال في أسباب قبول الإمام الرضا (عليه السلام) لعرض المأمون بإسناد ولاية العهد إليه، بعد أن عرفنا أسباب عرض المأمون. فماذا كانت النتائج على صعيد تحقيق الأهداف؟
النتائج
لقد حقق المأمون أهدافه الملحة العاجلة، ولكنه فشل في تحقيق هدفه الاستراتيجي، وحقق الإمام الرضا (عليه السلام) أهدافه الملحة العاجلة، ونجح في تحقيق هدفه الستراتيجي. 1 ـ لقد حقق المأمون هدفه في لجم الحركات الثورية ضد النظام العباسي، سواء أكانت من داخل الجماعات الموالية لصيغة النص، أو من المعارضة الساخطة غير الموالية لصيغة النص، فان تغذية الثورة بالثوار كان يعتمد في الحالين على عامة الناس من المسلمين العاديين، الذين رأوا في قبول الإمام الرضا (عليه السلام) لولاية العهد علامة واضحة على ضرورة قيام هدنة بينهم وبين النظام، ومن ثمّ على عدم صحة الممارسة الثورية المسلحة في تلك الفترة. ولعل بعض القيادات الثورية اقتنعت بذلك أيضاً، فلم يعد للقيادات المعارضة ذريعة تؤثر بها على القاعدة الشعبية وتجيش للثورة جنودها. 2 ـ وحقق المأمون هدفه بتعميم الاعتراف السياسي بخلافته، حيث إن البيعة للإمام الرضا (عليه السلام) اقتضت تجديد البيعة للمأمون، واقتضت في نطاق ذلك بيعة من لم يبايعه من الناس، وهم كثير، فتوحد الموقف العام في دولة المأمون من الدولة والحاكم نتيجة للبيعة بولاية العهد. ونلاحظ هنا إن المأمون كتب في وثيقة ولاية العهد: فبايعوا أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة من قواده وجنده، وعامة المسلمين، لأمير المؤمنين وللرضا من بعده. فهو طلب صراحة تجديد البيعة له بهذه المناسبة، ولم يقتصر على طلب البيعة بولاية العهد، ورتب على هذا انه طلب من المبايعين الطاعة له وحده، فقال في الوثيقة: وسارعوا إلى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، ولم يذكر ولي عهده فيما يتعلق بمسألة الطاعة، وهذه الملاحظة تكشف عن بعض الثنايا الخفية في خطة المأمون. 3 ـ وحقق هدفه في إدخال ارتباك كبيرعلى خصومه من الأسرة العباسية ومن والاهم من العرب من أشياع الأمين، الأمر الذي أضعفهم عن مقاومته والتصدي لنظامه، وآل أمرهم إلى الشتات لتفرق الناس عنهم، وانفضاض القاعدة الشعبية التي لم يعد لها قضية تحارب من أجلها. لقد كانت هذه هي الأهداف الملحة العاجلة للمأمون، وهي أهدافيتوقف عليها استمرار واستقرار حكم المأمون. إن استمرار الحركات الثورية ضده، وعدم مبايعة فئات كثيرة من المسلمين له في أكثر من إقليم من أقاليم دولة الخلافة، وتآمر البيت العباسي عليه، عوامل كان تفاعلها سيؤدي إلى انهيار نظام حكمه. وقد حقق المأمون هذه الأهداف، فضمن الاستقرار والاستمرار لنظامه، كما حقق الإمام الرضا (عليه السلام) أهدافه الملحة العاجلة من قبوله بولاية العهد بيعة الموت، وأهدافه كانت هي مبرراته، لقد تحققت جميع المبررات أو معظمها. أما على الصعيد الاستراتيجي، فقد فشل المأمون حيث نجح الإمام الرضا (عليه السلام).
النجاح والفشل
لقد كان هدف المأمون الإستراتيجي أن يجعل خلافته هو والخلافة العباسية عموماً، تعبيراً عن صيغة النص في الذهنية الإسلامية العامة، وفي ذهنية أتباع خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بوجه خاص. وهذا مخطط قديم من المخططات التي قامت عليها الدعوة العباسية، ومن بعد ذلك الدولة العباسية، إذ إن من المقولات الأسس في الدعوة والدولة مقولة الوصاية من علي بن أبي طالب إلى محمد بن الحنفية، إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، إلى علي بن عبد الله بن عباس، إلى ولده محمد بن علي، إلى إبراهيم الإمام. وعبّر السفّاح عن هذه المقولة في خطبته الأولى بعد البيعة له في الكوفة. وعبّر عنها في الكوفة والمدينة وغيرهما داود بن علي وغيره من قادة العباسيين. لقد كان هذا هو هدف المأمون الإستراتيجي، وإذا تعذر عليه ذلك فقد كان ثَمّة هدف استراتيجي بديل، هو تجريد صيغة النص من كونها صيغة إيديولوجية عقيدية ترتبط بصميم الإيمان الديني، وتحويلها إلى مجرد صيغة سياسية محضة خالية من أي مضمون إيديولوجي عقيدي، صيغة كسائر صيغ الجماعات والنحل السياسية ـ الدينية المتصارعة على الساحة الإسلامية ـ. تدل على هدف المأمون هذا وقائع ومحاورات كثيرة مع الإمام الرضا (عليه السلام) ومع مجموعات كبيرة من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة والأدباء، أجراها المأمون يلخص هدفه هذا قوله في بعضها للإمام الرضا (عليه السلام): ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك؛ في استحقاق الحكم؛ محمولاً على الهوى والعصبية. إن الصورة الأولى للهدف تتوسل وحدة البيت الهاشمي بجناحيه العلوي والعباسي، ومن ثمّ وحدة المضمون السياسي لهذا البيت، وجعل هذه الوحدة في مظهرها ومعناها حيّة راسخة في الذهنية العامة للأمة. والصورة الثانية للهدف تتوسل إظهار الإمام الرضا (عليه السلام) شخصاً سياسياً دنيوياً ومناوراً. إن تحقيق هذا الهدف يجعل من الممكن التعامل مع صيغة النص على أساس سياسي، فيمكن التحالف معها والدخول معها في تسويات، ويمكن ضربها كأي صيغة سياسية أخرى. كان هذا هو هدف المأمون الإستراتيجي، وكان هدف الإمام الرضا (عليه السلام) الإستراتيجي هو أن يحول بين المأمون وبين بلوغ هدفه. لقد كانت كل أعمال المأمون في قضية ولاية العهد خطوات تتجه نحو هذا الهدف، وكانت كل مواقف الإمام الرضا (عليه السلام) ذات جانب سلبي هو إحباط مؤامرة المأمون على صيغة النص، وجانب ايجابي هو تأصيل صيغة النص في ذهن الأمة بما هي متصلة بالعقيدة الإسلامية، وليست مجرد صيغة سياسية. ونستطيع أن نجد في حياة الإمام الرضا (عليه السلام) ـ قبيل وبعد بيعة الموت ـ مواقف وتصريحات تمثل خطته في الاحتراز من الوقوع في شراك خطة المأمون، تمثل معالم المواجهة في هذه المعركة الصامتة حول الهدف الإستراتيجي لكل منهما. ونعرض فيما يلي بعضها، ويحتاج تكوين صورة كاملة أو مقاربة لجهود الإمام الرضا (عليه السلام) في هذه المعركة، إلى استقصاء شامل لكل آثار الإمام في الحقل التشريعي والفكري التوجيهي العام. 1 ـ الرفض ثم القبول بعد تكرر الرفض حين بلغ الأمر بالمأمون وأعوانه حد التهديد بالقتل، فقبل الولاية بالعهد وهو باك حزين، وكان في ضيق شديد ومحنة عظيمة، لم يزل مغموماً مكروباً حتى قبض، وكان يدعو: اللهّم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت، فعجّل لي الساعة. وقال للمستبشر في مجلس البيعة: لا تستبشر، فانه أمر لا يتم. هذه هي الصورة التي لاحظها المحدثون والمؤرخون عن حال الإمام بعد قرار القبول، وهذه بعض أقواله. وقد دأب بهذا ومثله على التعبيرعن كراهته لهذا الأمر ونفوره منه، ودأب على إشاعة هذه الحقيقة بين الناس قولاً وكتابة إلى خاصته، بحيث غدت مدركة في الوعي العام، وقد عكس المؤرخون والمحدثون شيوعها بين الناس، وهذا أمرٌ نادرٌ في مثل هذه الأمور المتصلة بقضايا النفس والقلب وميوله، إلاّ حين يكون طابعاً ثابتاً في حياة الإنسان، يراه الناس في وجه الإمام وفي تصرفاته اليومية. 2 ـ موقفه في نيشابور الذي أملى فيه على الألوف من العلماء والمحدثين وسائر الناس الحديث المشهور: كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي، ثم قال لهم: بشروطها، وأنا من شروطها. لقد أعلن بذلك للملأ وهو في طريقه إلى ولاية العهد، صيغة النص وموقعه منها، ولنا أن نقدّر عمق وسعة التفاعلات التي أحدثها هذا الإعلان لصيغة النص بهذا الأسلوب في الأوساط العلمية والسياسية والشعبية. 3 ـ اشترط على المأمون إذا بويع بولاية العهد شروطاً جردت ولاية العهد من كل مضمونها السلطوي والسياسي، والذي كان المأمون يأمل أن يحقق هدفه الإستراتيجي من خلال ممارسة الإمام الرضا (عليه السلام) له، فقد اشترط على المأمون ما يلي: أن لا يولّي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغيّر شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد. وقد امتنع الإمامُ بعد ولاية العهد على كل محاولات المأمون لزجّه في أعمال السلطة وقضايا الإدارة العباسية. وكانت ذروة تلك المحاولات عرضه عليه أن يذهب إلى العراق، ليدير أمور الخلاقة من هناك. وقد كانت شروط الإمام نتيجة لإدراك عميق وشامل لطبيعة الموقف، من ناحية موضوعية وأيديولوجية وسياسية. فمن الناحية الموضوعية كان النظام العباسي مكوناً من أجهزة للحكم والإدارة تحكمها وتصل بينها شبكة علاقات يغلب عليها الفساد، هي أجهزة وعلاقات تحمي نفسها ضد كل دخيل متدخل، فإما أن تمتصه أو تحطمه أو تنبذه إذا عجزت عن تحطيمه، وإذ كانت هذه الأجهزة عاجزة عن امتصاص الإمام (عليه السلام)، فإنها كانت ستعمل على تحطيمه أو نبذه عن دائرتها بكل ما يؤدي إليه ذلك من انعكاس سياسي ومعنوي سلبي عليه لدى الرأي العام. ومن الناحية العقيدية السياسية كان اشتراك الإمام (عليه السلام) يعني كونه يتلقى الأمر والتوجيه من المأمون بما هو أمير المؤمنين والحاكم الشرعي للأمة الإسلامية، وهذا هو ما يريده المأمون لتحقيق هدفه في صيغة النص من الدخول فيها واعتبار نفسه تطبيقاً لها، أو تسييسها واعتبار الإمام (عليه السلام) ممثلاً لصيغة سياسية تحالف الحكم القائم معها أو احتواها, وقد أحبطت شروط الإمام الرضا (عليه السلام) خطة المأمون. ونعتقد إن المأمون لم يتوقع هذه الشروط، فلقد كان من ضرورات نجاح خطة المأمون إدخال الإمام في شبكة علاقات السلطة، وتلويثه بمشكلاتها وعداواتها، ليناله من شكوى الناس وسخطهم ما يمس طهارته ونقاوة صورته عندهم، وبذلك يحقق المأمون ـ كما قلنا ـ هدفه في تحويل صيغة النص إلى صيغة سياسية محضة إذا لم يتمكن من الدخول فيها، ويظهر الإمام شخصاً سياسياً دنيوياً ومناوراً. وقد تجنّب الإمام الرضا (عليه السلام) الوقوع في هذا الشرك بهذه الشروط، التي تحول بها من شريك للمأمون ـ كما تقتضي ذلك ولاية العهد ـ إلى شاهد عليه, وضحية من ضحاياه. 4 ـ خطبته في مجلس البيعة بولاية العهد أمام المأمون وأركان الدولة وأهل الحل والعقد وأعيان الناس من قادة الرأي العام وسائر الناس، وقد اقتصر في خطبته على قوله: إن لنا عليكم حقاً برسول الله، ولكم علينا حق به، فان أنتم أديتم لنا ذلك وجب علينا الحق لكم. وقد تكرر هذا المعنى في الكثير من أجوبته ومحاوراته، كتشبيه حاله وحال المأمون بحال يوسف النبي وملك مصر. وكقوله: إن من اخذ برسول الله لحقيق بأن يعطي به. 5 ـ رسائله ومحاوراته التي دأب فيها على تأكيد صيغة النص، وهي كثير، منها قوله في رسالة العقائد التي كتبها تلبية لطلب المأمون: إن الإمام حجة الله على خلقه، ومعدن العلم، ومفترض الطاعة, وصرح فيها بالنص على علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام). هذه نماذج من أقواله وأعماله التي واجه بها خطة المأمون, ولا بُدَّ أن يقع الباحث على كثير غيرها, ومن المفيد جداً لجلاء هذه المسألة وغيرها من وجوه حياة الإمام الرضا (عليه السلام)، استقصاء وتصنيف جميع النصوص التشريعية والتوجيهية التي صدرت عنه في فترة ولاية العهد، ومقارنتها بما سبق هذه الفترة وتحليلها، فإنها ستكشف عن جوانب جديدة من هذه الحياة الشريفة المضيئة. هذه الأقوال والأعمال التي واجه بها الإمام (عليه السلام) خطة المأمون لتحقيق هدفه الإستراتيجي تفاعلت مع أسباب القبول، فأدت إلى النتائج التالية: 1 ـ ترسيخ صيغة النص في ذهنية الأمة. 2 ـ خلق معارضة داخل النظام على الصعيد الإيديولوجي السياسي والجماهيري، ويمكن أن نعتبر الحالة الشعبية التي عبّرت عن نفسها في واقعة صلاة العيد من المؤشرات لهذه الظاهرة. 3 ـ وضع المأمون في موقف دفاعي، فقد رأى المأمون صيغة النص تتفاعل مع المجتمع على الصعيد الشعبي والجماعات الفكرية السياسية. ونقدم شاهداً عظيم الدلالة على مدى النفوذ الفعلي الذي بلغه الإمام الرضا (عليه السلام) على المستوى الشعبي ومارسه، وهو الغضبة الشعبية التي أعقبت قتلالفضل بن سهل، وهجوم القواد والجند على مقر المأمون بالنيران، بعد أن تحصن منهم، وطلب من الإمام (عليه السلام) أن يتدخل لإنقاذه، فخرج الإمام (عليه السلام) إليهم وأمرهم بالتفرق، فتفرقوا. تقول الرواية التاريخية في تصوير هذا المشهد: فأقبل الناس والله، يقع بعضهم على بعض، وما أشار لأحد إلا ركض ومر، ولم يقف. إن هذا الحادث يكشف عن قوة النفوذ التي كان الإمام (عليه السلام) يمارسها على القواد والجند ومن إليهم، مع انه ـ بمقتضى شروطه ـ لم يكن يتدخل في أي شأن من شؤون السلطة ليكون موضوع رجاء أو خوف، فهو إذن نفوذ ناشئ من دواع غير سياسية أو مصلحيه، إنه نفوذ ناشئ من داع عقيدي هو الاعتقاد بصيغة النص، وما تقتضيه من طاعة. لقد أدرك المأمون واكتشف بخبرته السياسية أن ظهور هذه التفاعلات يجب أن يكون الحد النهائي لهذه التجربة، تجربة (ولاية العهد). لقد اكتشف انه فشل في تحقيق هدفه الإستراتيجي بشأن صيغة النص، وان الإمام (عليه السلام) هو الذي انتصر عليه في هذا المجال, فآثر أن يكتفي بما حققه من أهدافه الملحة العاجلة، قبل أن يتفاعل انتصار الإمام (عليه السلام) في مجال صيغ النص، فيخلق وضعاً لا سبيل إلى تداركه يلقي بخلافة المأمون والعباسيين في عاصفة قد تذهب بها في ثورة تحمل شعار صيغة النص بنقائها وصفائها. فأنهى بيعة الموتبقتلالإمام الرضا (عليه السلام) بالسم! وهكذا تحوّل الإمام الرضا (عليه السلام) ثأراً جديداً لله في معركة الصراع بين الإسلام والانحراف، ودمعة ساكبة من العيون، وشجناً في القلوب، وأسوة حسنة للعاملين في سبيل الله والمستضعفين. وإذا كنّا قد رأينا مشابهة بين قبول الإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد وبين قبول الإمام الحسن (عليه السلام) بها، ورأينا مشابهة بين قبول الإمام الرضا (عليه السلام) ببيعة الموت وبين قرار الإمام الحسين (عليه السلام) بالاستشهاد، فإننا في نهاية التجربة (المحنة)، وعند تقويم نتائجها في الحياة وفي المجتمع الإسلامي في عصر الإمام الرضا (عليه السلام) على مستوى الأهداف العاجلة الملحة، وعلى مستوى الأهداف الكبرى لحركة الإسلام في التاريخ على خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، نرى مشابهة بين قبول الإمام (عليه السلام) بولاية العهد وبين صلح الحديبية. لقد استجاب رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعرض قريش ـ كما وافق الإمام الرضا (عليه السلام) على عرض المأمون ـ وسط دهشة الكثيرين من أصحابه، وسخط البعض منهم وتسليم الواعين فيهم. وقد رأى من رأى في فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسليماً لقريش بامتياز لا تستحقه، ولكن عاقبة صلح الحديبية كانت فتحاً قريباً على صعيد الأهداف الإستراتيجية للإسلام, وكان قبول ولاية العهد فتحاً قريباً على مستوى الأهداف العاجلة الملحة، وعلى مستوى الهدف الإستراتيجي للإمام الرضا (عليه السلام) بما هو حارس للإسلام. كانت تلك إحدى معارك الإسلام في مواجهة الكفر على مستوى التنزيل، وكانت هذه إحدى معارك الإسلام في مواجهة الانحراف على مستوى التأويل. سلام الله على الإمام الرضا وآبائه وأبنائه الطاهرين (عليهم السلام)، في الأولين والآخرين، والحمدُ لله ربّ العالمين.