وهو مخالفة السرّ العلن، سواء كان في الايمان أو في الطاعات أو في المعاشرات مع الناس، وسواء قصد به طلب الجاه والمال أم لا. وعلى هذا فهو اعمّ من الرياء مطلقاً، وإن خصَّ بمخالفة القلب واللسان أو بمخالفة الظاهر والباطن في معاملة الناس ومصاحبتهم، فبينهما عموم وخصوص من وجه. وعلى التقادير، إن كان باعثه الجبن فهو من رذائل القوة الغضبية من جانب التفريط، وان كان باعثه طلب الجاه فهو من رذائلها من جانب الافراط، وإن كان منشأ تحصيل مالٍ أو منكحٍ فهو من رداءة القوة الشهوية، ولا ريب في أنّه من المهلكات العظيمة، وقد تعاضدت الآيات والآخبار على ذمه.
أنواع النفاق
وأشدّ انواع النفاق ـ بعد كفر النفاق ـ كون الرجل ذا وجهين ولسانين، بأن يمدح اخاه المسلم في حضوره ويظهر له المحبة والنصيحة، ويذمه في غيبته ويؤذيه بالسبّ والسعاية إللى الظالمين وهتك عرضه، واتلاف ماله وغير ذلك، بأن يتردد بين متعاديين، ويتكلم لكل واحد بكلام يوافقه، ويحسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه ويمدحه على ذلك، أو يعد كل واحد منهما أنّه ينصره، أو ينقل كلام كل واحد إلى الآخر. وهذا شر من النميمة التي هي النقل من أحد الجانبين، وبالجملة: هو بجميع اقسامه مذموم محرّم.
ذم النفاق
قال رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله): «مَنْ كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة» [جامع السعادات: 2/162]، وقال (صلّى الله عليه وآله): «يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان ناراً حتى يلتهبان خده، ثم يُقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين، يعرف بذلك يوم القيامة» [جامع السعادات: 2/162]، وورد في التوراة: «بطلت الامانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين، يهلك الله يوم القيامة كل شفتين مختلفتين». وعن علي بن أسباط، عن عبد الرحمن بن حماد، رفعه قال: قال اللهُ (تبارك وتعالى) لعيسى: «يا عيسى، ليكن لسانك في السر والعلانية لساناً واحداً، وكذلك قلبك، إنّي احذرك نفسك، وكفى بي خبيراً، لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الاذهان»، وقال الإمام الباقر (عليه السّلام): «لبئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري اخاه شاهداًويأكله غائباً، إن أُعطي حسده، وان ابتلي خذله» [جامع السعادات: 2/162].
النفاق الجائز
ثمَّ لا يخفى ان الدخول على المتعاديين والمجاملة مع كل منهما قولاً وفعلاً لا يوجب كونه منافقاً ولا ذا لسانين إذا كان صادقاً، إذ الواحد قد يصادق متعاديين، ولكن صداقة ضعيفة، إذ الصداقة التامة تقتضي معاداة الاعداء، وكذا من ابتلي بذي شرٍّ يخاف شره، يجوز ان يجامله ويتقيه ويظهر له حضوره من المدح والمحبة مالم يعتقد به قلبه، وهو معنى المداراة، وهو وان كان نفاقاً إلاّ أنّه جائز شرعاً للعذر. قال الله تعالى: «إدفعْ بالتي هي أَحسنُ السَّيئةَ» [سورة المؤمنون: 96]. وروي أنّه استأذن رجلٌ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: «ائذنوا له، فبئس رجل العشيرة»، فلما دخل ألان له القول، حتى ظن ان له عنده منزلة، فلما خرج، قيل له: لمّا دخل قلت الذي قلت، ثمَّ ألنت له القول؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): «إنَّ شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من أكرمه الناس اتقاءً لشره»، ويدل على جواز ذلك جميع اخبار التقية واخبار المداراة. وفي خبرٍ: «ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة»، وقال بعض الصحابة: «كنّا نبشر في وجوه اقوام نلعنهم بقلوبنا». ثمَّ جواز ذلك إنّما إذا اضطر إلى الدخول على ذي الشر ومدحه مظنّة الضرر، أمّا لو كان مستغنياً عن الدخول والثناء أو عن احدهما، ومع ذلك ابدى بلسانه ما ليس في قلبه من المدح، فهو نفاق محرّم [جامع السعادات: 2/162ـ163].
علاج النفاق
ثمَّ ضد النفاق استواء السرّ والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، وهو من شرائف الصفات، وكان الاتصاف به والاجتناب من النفاق أهم مقاصد المؤمنين من الصدر الاول، ومن تأمل فيما ورد في ذم النفاق وفي مدح موافقة الباطن مع الظاهر، وتقدم الرويّة في كل قول وفعل، لم يصعب عليه ان يحفظ نفسه من النفاق.