المؤاخاة.. من السياسة الداخلية الحكيمة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)
البحث الرقم: 504 التاريخ: 24 ذو القعدة 1429 هـ المشاهدات: 8380
لا شك في أن هجرة المسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة كانت تمثّل ذروة فدائهم في سبيل العقيدة والقضية الإسلامية، لأن هؤلاء المسلمين قد تركوا عائلاتهم وأولادهم وممتلكاتهم في مكة موطنهم، وأقبلوا على الدين الجديد، يطلبون فقط رضا الله والشهادة في سبيله، والله تعالى يذكّر بشكل خاص بهذه الجماعة ويقول في كتابه الكريم: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمَوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ) (1). وبالهجرة من مكة إلى المدينة بدّل الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) سياسته الداخلية، من مرحلة تبليغ الإسلام والدعوة بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة فقط، إلى مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية وتدعيم أُسسها، واستفاد في هذا المجال من المناهج المختلفة التي صرَّح بها القرآن الكريم، فطبقها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا طوال إحدى عشر سنة، من الهجرة الشريفة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى، بناءً على هذا لم يكن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة رسولاً لله فقط، بل كان حاكماً وآمراً أيضاً. لذلك وجب لترتيب أمور ومسائل الناس أن تُبنى المؤسسات والدوائر الحكومية بالقدر الممكن، وقد أعقب ذلك انتشار تعاليم الإسلام داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. وللوصول إلى هذه الأهداف، استخدم الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مناهج في الحكومة وإدارة المجتمع لم يكن معمولاً بها قبله، هذه المناهج كانت تعتمد في السياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية والعسكرية والتربوية على المفاهيم والأصول الإسلامية الجديدة. فالسياسة الداخلية للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تعتمد على الأصول التالية: أ ـ مساعدة ومعاونة المسلمين، وأنموذجه نظام الأخوّة بين المهاجرين والأنصار. ب ـ بناء المسجد الجامع كموضع للصلاة وكمركز للحكومة والقيادة الإسلامية. ج ـ تحديد وتمتين الروابط بين جميع العناصر المشكّلة لمجتمع المدينة. نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: المهاجرون وبسبب ابتعادهم عن موطنهم تحمّلوا في بداية دخولهم إلى المدينة صعوبات كثيرة، وبشكل خاص أولئك الذين أُبعدوا عن عائلاتهم وأولادهم، ولم يكن لديهم قدرة على تحمل مناخ يثرب المتغير، لأن طبيعة الصحراء الجافة والخالية من الماء والزراعة كانت حاكمة على مناخ مكة الصافي والنقي، في حين انه كان للمدينة مناخ رطب ومزارع وأشجار وظلال بسبب وجود آبار الماء والبرك في إطرافها. صيفها كان حاراً ورطباً، وشتاؤها كان بارداً وممطراً، لذلك لم يستطع بعضُ المهاجرين مثل عائشة بنت أبي بكر وعامر بن مهيرة وغيرهما أن يتحملوا هذا المناخ، وأُصيبوا بالضعف والحمى (2). فبلال كان يقول: اللهمّ العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف، اللذين أخرجانا من أرضنا إلى ارض الوباء (3). ولكن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب من الله تعالى أن يجعل وضع المدينة مقبولاً لدى المهاجرين، وأن يعطيهم البركة فيها، وأن يبعد عنهم الوباء والحمى. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم حَبِّب إلينا المدينة كما حببّت إلينا مكة، وبارك لنا في مُدِّها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة (4). ويظهر إن المشكلة الاقتصادية أيضاً كان لها أكبر تأثير على بعض المسلمين الذين هاجروا من بيوتهم ومنازلهم، وأتوا إلى أرض مجهولة لم يكن لهم فيها حبيب أو صديق. هذه المشكلة الاقتصادية اشتدّت وتفاقمت مع ازدياد عدد المهاجرين في يثرب، إلى حد انه عندما كان يأتي إليهم ضيف ويرسله الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه وعائلته، فإنهم كانوا لا يجدون لديهم الغذاء الكافي لهذا الضيف، وإذا سأل مسلمٌ مسلماً طعاماً لسدّ الجوع، فكان يراه وقد التصقت بطنه بظهره من شدة الجوع، وكانت تمرّ ليالٍ على الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشعل في بيته ناراً ولا يطبخ طعاماً، إلى حد انه في يوم من الأيام اضطرّ أن يرهن درعه عند شخص يهودي، لأن الجوع كان يؤلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن في بيته حتى قليل من الشعير (5). ولإزالة هذه المشكلة أو على الأقل للتخفيف منها، وضع الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نظاماً جديداً على أساس تعاون ومشاركة كافة الفئات. خاصية هذا النظام كانت المشاركة العملية في كل الأمور، المشاركة الكاملة في الأفكار والعقائد، المشاركة الحقيقية في الأفراح والأتراح، المشاركة الكاملة في شؤون المأكل والملبس والمسكن… وسمّي هذا النظام بـ (المؤاخاة)، والله تعالى يذكر هذه الظاهرة أيضاً في القرآن الكريم: (وَالّذِينَ تَبَوّءُوْا الدّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (7). الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أجرى بنفسه نظام المؤاخاة بين المسلمين لخمسة أشهر بعد الهجرة (8)، وهذا النظام طُبّق على مرحلتين: في المرحلة الأولى عَقَدَ الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عَقْدَ الأخوة بين بعض المهاجرين مع بعضهم الآخر، وفي المرحلة الثانية طبق نظام الأخوة بين المهاجرين والأنصار (9). والهدفُ من إجراء المرحلة الأولى كان إيجاد روح الالفة والأنس بين المهاجرين، وإزالة ألم الغربة عن قلوبهم (10). وقد شرع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فقال لأصحابه: تآخوا في سبيل الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي ابن أبي طالب فقال: هذا أخي. ثم أجرى عقد الأخوة بين عمه الحمزة بن عبد المطلب وغلامه زيد بن حارثة، إلى حد أن حمزة أوصى في يوم أحد انه إذا قتل فإن أمواله تؤول لزيد بن حارثة (11). وفي المرحلة الثانية التي عقد فيها عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، خاطب الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصار: إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم… ، فأجاب الأنصار بصوت واحد: أموالنا بيننا قطيع يا رسول الله (12). وقد عقد الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار على أساس رعاية الحق والعدالة والإرث بين بعضهم البعض بعد الموت، طبعاً غير الأرحام، وهذا الأمر قد كان قبل معركة بدر الكبرى (13)، ولكن بعد معركة بدر وانتصار المسلمين حصل المسلمون على غنائم كثيرة ووجدوا حياة الراحة والوفرة (14). ثمّ نزلت الآيةُ الكريمة: (وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ وأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (15)، فنُسخ حكم الإرث عن طريق عقد المؤاخاة، واعتبر إرث كل مسلم منوطاً برابطة قرابته، بحيث أن قرابة وأقارب المتوفى السببيين والنسبيين هم فقط الذين يرثونه. وقد وصل التعاون الإسلامي الأخوي إلى حد أن مجتمع المدينة تحوّل إلى ما يشبه المدينة الفاضلة التي عرفها الفلاسفة وعلماء الاجتماع مثل افلاطون والفارابي وآخرون، فكان الأنصاري يُشرك أخاه المهاجر في بيته وماله، وكان راضياً ومسروراً عن هذا العمل، إلى حد أن سعد بن ربيع الأنصاري اقترح على عبد الرحمن بن عوف أن يشركه في ماله، وأن يطلق احد زوجتيه حتى يتزوجها عبد الرحمن، وهذه الواقعة أصبحت مضرباً للمثل بين الأنصار، حيث لا مثيل لها في كل تاريخ البشر، فقال سعد لعبد الرحمن: أنت أخي… وأنا أكثر الناس في المدينة مالاً، فانظر شطر مالي فخذه... وتحتي امرأتان، فانظر أيهما أعجب لك حتى أطلقها، فأجابه عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك يا أخي، فإني لا أريد منك إلا أن تساعدني في معرفة السوق هنا حتى أبيع وأشتري (16). سلوك بقية الأنصار مع إخوانهم المهاجرين لم يكن بعيداً عن سلوك سعد بن ربيع، فهم أيضا كانوا يتعاملون مع المهاجرين بإنصاف، وكانوا يقدمونهم على عائلاتهم، وقد أشركوهم في كل أموالهم وفي بيوتهم وممتلكاتهم وأراضيهم وأشجارهم. في يوم من الأيام أتوا إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا نبي الله! لقد بذلنا ما في وسعنا لنواسي إخواننا المهاجرين فيما آتانا الله من مال، ولم يبق لنا إلاّ النخيل، فاقسمه يا رسول الله بيننا وبينهم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا، ويشركونكم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا يا رسول الله (17). المهاجرون أيضا قدّروا محبة وعواطف الأنصار الكريمة، ولم يكونوا يثقلون عليهم، وكانوا يسعون بأنفسهم لطلب المعاش والكسب اليومي، فالبعض عمل بالتجارة مثل عثمان بن عفانوعبد الرحمن بن عوف، وذلك في أسواق المدينة، والبعض الآخر مثل أبي بكر وعمر بن الخطابوعلي ابن أبي طالب (عليه السلام) اشتغل في أراضي الأنصار بالزراعة، والآخرون توجّهوا إلى أعمال أخرى كانت صعبة وقاسية. وقد قال الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار: من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه (18). والمهاجرون على الرغم من هذه المساعي أتوا خائفين ومضطربين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مؤاساة في قليل، ولا أكثر بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا في الأجر كلّه، فقال الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم): لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم (19). أهل يثرب لم يكونوا قد رأوا سابقاً نظاماً للأخوة كهذا، لذلك كان بالنسبة إليهم وإلى مجتمع العرب الذين قطعت الحروب والنـزاعات القبلية علاقاتهم وروابطهم، وأيضاً بالنسبة إلى المجتمعات البشرية المعتمدة على العصبية، كان ذا فائدة ومنافع مادية ومعنوية، بحيث أن نظام الاخوة كان نظاماً فريداً وظاهرة جديدة. وعلى كل حال، طبّق الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نظام المؤاخاة في أمتّه، وأجاز للأشخاص الذين لا يملكون أرضاً أن يبنوا بيوتاً لهم في الأرض غير المملوكة، أو الأراضي التي أعطاها الأنصار له (صلى الله عليه وآله وسلم). ولأن عدد المهاجرين ازداد في المدينة، وأكثرهم كانوا من الفقراء، مثل أبي ذر الغفاري، حيث لم يكن لديهم لا مسكن ولا طعام، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاهم مكاناً في صفّة المسجد (20)، ولذلك اشتهروا بأهل الصفّة، والرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطعم بعضهم بنفسه، وأوكل طعام البعض الآخر إلى عهدة الصحابة الذين كان لديهم القدرة على ذلك (21)، ويظهر إن أهل الصفّة كانوا الأكثر استفادة من إقامتهم الدائمة في مسجدالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم كانوا حاضرين هناك معظم الأوقات في خدمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن ناحية النظر العلمي والفقهي فقد أدركوا الكثير من فيضه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى حد انه ظهر منهم العلماء والفقهاء الذين خدموا الإسلام والمسلمين. بشكل عام، نظام المؤاخاة هذا جعل المهاجرين يتحملون مصاعب الهجرة، كالغربة ونقص الأموال والفقر، وأوجد الوحدة بين المسلمين في يثرب، حيث بدّل المصاعب الحياتية إلى يسر وسعة، والعداوة إلى مودة، ولذلك تحّول المسلمون إلى قوة عظيمة في مقابل كفار مكة والمشركين. وكان هذا هو الانجاز الكبير والفريد من نوعه الذي حققه الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في سياسته الداخلية، على طريق إرساء القواعد الإيمانية السليمة للمجتمع الإسلامي، الذي بدأت نواته الأولى في المدينة المنورة. ــــــــــ 1ـ الحشر/ 8. 2ـ أبو الحسن البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، بيروت، 1978، ص25. 3ـ أمين دويدار، صور من حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ط4، القاهرة، ص283. 4ـ ابن هشام، ج2، ص239. ط. بيروت. دار إحياء التراث العربي. محمد رضا، محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بيروت، ص143. 5ـ محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، ج1، بيروت، ص286 ـ 306. 6ـ م. ن.، ص299. 7ـ سورة الحشر/9. 8 ـ محمد رضا، محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص149. 9ـ أبو عبد اللهمحمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق الدكتور سترستين، بيروت 1957، ص238. 10ـ محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ص149. 11ـ ابن هشام، ج2، ص151، دار إحياء التراث، بيروت. 12ـ سميح عاطف الزين، خاتم النبيّين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، بيروت 1983، ج2، ص31 ـ 32. 13ـ البداية والنهاية، ج2، ص226. تقي الدين احمد المقريزي، إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق الأستاذ محمد شاكر، القاهرة 1941، ج1، ص49. 14ـ طبقات ابن سعد، ص238. 15ـ الأنفال/75. 16ـ محمد خاتم النبييّن (صلى الله عليه وآله وسلم): ج2، ص36. 17ـ المصدر نفسه، ص38. 18ـ م. ن.، ص37. 19ـ م. ن.، ص39. 20ـ محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ص154. 21ـ طبقات ابن سعد: ج1، ص255.