دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية (1)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية (1)

 البحث  الرقم: 507  التاريخ: 25 ذو القعدة 1429 هـ  المشاهدات: 12483
قائمة المحتويات

المقدمة

ترجع أهمية الحروب الصليبية بالنسبة لنا إلى أنها تشكل تجربة في تاريخ المسلمين جميعاً، سواء في المشرق أو المغرب، وهذه التجربة ليست من التجارب العابرة المحدودة الأثر والنتائج، وإنما هي تجربة كبرى خطيرة مليئة بالدروس والعظات، مما يتطلب منا أن نتأملها ونبحثها في كل وقت ـ الآن وفي المستقبل ـ، لنستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها، ونواجه أخطار الحاضر ونتغلب عليها. والواقع أن هذه الظاهرة تسترعي الانتباه وتستحق منا التفكير العميق، فقد تكون الحروب الصليبية في حد ذاتها مسؤولة عن الانهيار الذي تعرّضت له بلادنا في أواخر العصور الوسطى، بعد أن استنفدت جهود هذه البلدان في الدفاع عن كيانها، وكرّست مواردها ونشاطها للقضاء على الإخطبوط الصليبي (1).

ماهية الحركة الصليبية

ولعلّ السؤال الذي يواجهنا بعد ذلك هو: ما المقصود بالحركة الصليبية؟
الواقع أن الأجوبة على هذا السؤال تعدّدت بتعدّد النوافذ التي أطلّ منها المؤرَّخون على الموضوع، فهناك من المؤرّخين من نظر إلى الحروب الصليبية على أنها حلقة من حلقات الصراع بين المشرق والمغرب، وهو الصراع التقليدي القديم الذي ظهر بوضوح في النزاع بين الفرس واليونانيين، ثم بين الفرس والروم (2).
ومن الواضح أن هذا الصراع القديم لا يمكن ربطه بأيّ عامل ديني، حيث أنه دار في عصور كان الشرق والغرب فيها وثنيين، وربما بدا من الأرجح ربطه بالعامل الحضاري بوصفه صراعاً بين حضارتين مختلفتين وعقليتين متباينتين وأسلوبين في الحياة متباعدين (3).
وهناك فريقٌ آخر من المؤرخين رأى أن الحركة الصليبية وما ارتبط بها من محاولات كبرى ومشاريع عديدة لغزو الوطن الإسلامي ـ وخاصة في الشرق الأدنى ـ، ليست في حقيقة أمرها إلاّ الحلقة الأخيرة في سلسلة الهجرات الكبرى التي صحبت سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية (4).
وهناك فريق ثالث من المؤرخين يرى أن الحركة الصليبية ليست إلاّ انطلاقة كبرى decumanus Fluctus نتجت عن عملية الإحياء الديني التي بدأت في غرب أوروبا في القرن العاشر، والتي بلغت أشدّها في القرن الحادي عشر، ذلك أن حركة الإصلاح الكلونية (نسبة إلى دير كلوني في شرقي فرنسا) كانت في حقيقة أمرها حركة إحياء ديني بكل معاني الكلمة، ترتب عليها عودة البابوية إلى سطوتها القديمة السابقة، وتقوية الجهاز الكنسي وتدعيمه، وربط أطرافه بالمركز الرئيسي في روما، ثم إثارة نوع من الحماسة الدينية بوجه عام في الغرب الأوروبي.
وإذا كان الغربيون قد عرفوا الحج وزيارة الأماكن المقدسة ببلاد الشام منذ القرنين الرابع والخامس، إلا أن مشاريع الحج ظلّت فردية، أما القرن الحادي عشر فقد عرف لأول مرة ظاهرة الحج الجماعي «en Masse»، فكان يخرج للحج بضع مئات تحت زعامة أسقف أو نبيل، ويتجهون سوياً من غرب أوروبا في صورة مظاهرة دينية سلمية قاصدين الأراضي المقدسة ببلاد الشام (5).
ويرى هذا الفريق من المؤرخين أنّ الحروب الصليبية التي بدأت الدعوة لها سنة 1095 م ليست إلا استمراراً لحركة الحج الجماعي إلى بيت المقدس، مع حدوث تطوّر في الأسلوب، وهو أن الحج الجماعي صار حربياً بعد أن كان سلمياً، أما ذلك التطور في الأسلوب فمرجعه تلك الأخبار التي أخذت تصل إلى الغرب الأوروبي عن سوء معاملة الحجاج بعد استيلاء السلاجقة على بيت المقدس سنة 1071 م، ثم استيلائهم على أنطاكية سنة 1085 م وطرد البيزنطيين منها، مما جعل الغرب يؤمن بأنه لابدّ من استخدام القوة لتأمين عملية الحج إلى بلاد الشام (6).
وأخيراً فإن هناك رأياً رابعاً أخذ به بعضُ الباحثين، ورأى في الحروب الصليبية الوسيلة التي تحايل بها الغرب الأوروبي للخروج من أوضاع العصور الوسطى، والانطلاق إلى حياة أوسع أفقاً، ذلك أن الغربيين ظلّوا طوال العصور الوسطى يعيشون داخل دائرة معينة حّددت أفقها الكنيسة تحديداً ضيقاً، وكان كل من يحاول الخروج على هذه الدائرة يتعرض لغضب الكنيسة وطرده من رحمتها وبئس المصير!
على أن الاتصالات التي تمّت بين الغرب الأوروبي والمسلمين ـ سواء المسلمين في الأندلس أو في المشرق ـ، أظهرت للأوروبيّين أن الحياة أوسع أفقاً مما يظنون، وكان من المتعذر في ظل الظروف التي أحاطت بالناس في غرب أوروبا آنذاك تحقيق أُمنيتهم إلاّ بالمشاركة في حركة ضخمة مثل الحركة الصليبية.
هذه هي أهم النوافذ التي أطلّ منها الباحثون على الحروب الصليبية (7)، ونستطيع نحن على ضوء الآراء السابقة وغيرها أن نعرّف الحركة بأنها: (حركة كبرى نشأت من الغرب الأوروبي المسيحي في العصور الوسطى، واتخذت شكل هجوم حربي استعماري على بلاد المسلمين، وبخاصة في الشرق الأدنى بقصد امتلاكها، وقد انبعثت هذه الحركة في ظل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي سادت غرب أوروبا في القرن الحادي عشر، واتخذت من استغاثة المسيحيين في الشرق ضد المسلمين ستاراً دينياً للتعبير عن نفسها تعبيراً عملياً واسع النطاق) (8).
وسنحاول أن نلقي نظرة سريعة على البواعث أو الدوافع التي أدّت بغرب أوروبا إلى القيام بحركة من أهم الحركات في تاريخ البشرية بوجه عام، وفي تاريخ العصور الوسطى على وجه التحديد.

الدافع الديني

إعتاد مؤرخو المدرسة القديمة أن ينظروا إلى الحروب الصليبية من زاوية واحدة، وهي زاوية الدين، متجاهلين الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، من ذلك أن ريان (Rian) (9) عرّف الحروب الصليبية بأنها: (حروب دينية استهدفت عن طريق مباشر أو غير مباشر الاستيلاء على الأراضي المقدّسة ببلاد الشام).
ويقول مكسيموس مونروند: (إن من أهداف الحرب الصليبية حصرُ المسلمين في حدودهم الرملية وخلاص إيطاليا وأسبانيا من غزواتهم، وأخيراً استنقاذ أوروبا كلها استنقاذاً مؤبداً من المعتقد المحمدي) (10). حقيقة إن الحركة الصليبية لها في اسمها وطريقة الدعوة لها والروح التي كيّفت بعض أحداثها ما يجعل الصفة الدينية واضحة فيها، ولكن ليس معنى ذلك أن التيار الديني هو المسؤول الوحيد عن إثارة تلك الحركة والقوة الوحيدة الموجَّهة لها، وأن المدقق في تاريخ الحروب الصليبية ليسترعي نظره أن الروح الصليبية ذاتها كثيراً ما فترت في بعض حلقاتها، وأن الباعث الديني كثيراً ما ذاب وسط التيارات السياسية والاقتصادية بوجه خاص.
والواضح أن كثيراً من المؤرخين السابقين الذين اعتادوا أن يستفتحوا كلامهم عن الحروب الصليبية، بالمبالغة في سوء أحوال المسيحيين في البلاد الإسلامية في العصور الوسطى، وما تعرّضوا له من اضطهادات وحشية، وكيف أنّ كنائسهم خربت وأديرتهم أغلقت وطقوسهم عطّلت... فضلاً عما لاقاه حجّاج بيت المقدس المسيحيون من عقبات وما تعرّضوا له من معاملة سيئة من حكام البلاد الإسلامية التي مرّوا بها! (11)
إنّ القول بأن الحروب الصليبية أتت كردّ فعل للاضطهاد الذي تعرّض له المسيحيون ـ الشرقيون والغربيون ـ في البلدان الإسلامية إنما هو ادّعاء باطل لا يتفق وروح الإسلام وطبيعة الدعوة إليه، وما أحاط به القرآنُ أهل الكتاب من رعاية وعناية وما أمر الله به محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (12). ويثبت التاريخ أن المسيحيين عاشوا دائماً في كنف الدولة الإسلامية عيشة هادئة هانئة تشهد عليها الرسالة التي بعث بها ثيودسيوس بطرق بيت المقدس سنة 869 م إلى زميله إجناثيوس بطرق القسطنطينية، والتي امتدح فيها المسلمين وأثنى على قلوبهم الرحيمة وتسامحهم المطلق، حتى أنهم سمحوا للمسيحيين ببناء الكنائس دون أي تدخل في شؤونهم الخاصة، وذكر بطرق بيت المقدس بالحرف الواحد في رسالته: إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت (13).
حقيقة إن التاريخ يشير إلى تعرض المسيحيين أحياناً في بعض البلدان الإسلامية لنوع من الضغط أو الاضطهاد، ولكن هذه الضغوط تشكّل حالات فردية شذّت عن القاعدة العامة التي حرص الإسلام دائماً عليها، وهي التسامح المطلق مع أهل الكتاب.
وإذا كان دعاة الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي العشر قد دأبوا على الدعاية لحركتهم في غرب أوروبا عن طريق المناداة بأن أحوال المسيحيين في آسيا الصغرى والشام قد ساءت تحت حكم السلاجقة، فإن هناك أكثر من مؤرخ أوروبي مسيحي منصف قرروا بصراحة تامة أن السلاجقة لم يغيروا شيئاً من أوضاع المسيحيين في الشرق، وأن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها، وأن ما اعترى المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى من متاعب في ذلك العصر إنما كان مردّه الصراع بين السلاجقة والبيزنطيين، لأنه لا يوجد أيّ دليل على قيام السلاجقة باضطهاد المسيحيين الخاضعين لهم (14).
أما عن البابوية فكانت قد بلغت في القرن الحادي عشر درجة خطيرة من القوة واتساع النفوذ، مما فتح أمامها آفاقاً واسعة لتجعل سلطاتها عالمية، بمعنى أن يكون البابا ـ بوصفه خليفة المسيح والقديس بطرس ـ الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب (15)، والمعروف أن البابوية ظلت دائماً ترغب في إخضاع الكنيسة الشرقية الاورثوذكسية لزعامتها، وأخيراً جاء استنجاد الأباطرة البيزنطيين بالغرب الأوروبي ضد السلاجقة في القرن الحادي عشر، ليتيح فرصة ذهبية للبابا للظهور في صورة الزعيم الأوحد للمسيحيين كلهم في صراعهم ضد المسلمين، ولمحاولة إدماج الكنيسة الشرقية بالكنيسة الغربية، على أن يتم ذلك كله تحت ستار محاربة المسلمين وحماية البيزنطيين واسترداد الأرض المقدسة في فلسطين (16).
هذا عن البابوية، أما عن جمهرة الصليبين الذين استجابوا لنداء البابوية وخرجوا قاصدين الشرق الأدنى، فلم يكن الهدف الديني هو الباعث الرئيسي الذي دفع الغالبية العظمى منهم إلى المشاركة في الحركة الصليبية، وقد اعترف كثير من المؤرخين الأوروبيين الذين عالجوا هذا الموضوع بأن غالبية الصليبيين الغربيين الذين ساهموا في الحركة الصليبية تركوا بلادهم، إما بدافع الفضول أو لتحقيق أطماع سياسية، وإما للخلاص من حياة الفقر التي كانوا يحيونها في بلادهم في ظل النظام الإقطاعي، وإما للهرب من ديونهم الثقيلة أو محاولة تأجيل سدادها، وإما فراراً من العقوبات المفروضة على المذنبين منهم (17). وأي وازع ديني كان عند ألوف الصليبين الذين شاركوا في الحملة الصليبية الرابعة، والذين اتجهوا نحو القسطنطينية ـ وهو البلد المسيحي الكبير ـ لينهبوا كنائسها ويسرقوا أديرتها ويعتدوا على أهلها بالقتل والضرب، وهم جميعاً إخوانهم في الدين؟! وهكذا يبدو أنه إذا أردنا أن نعرف الأسباب الحقيقية للحركة الصليبية فعلينا بالبحث في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في غرب أوروبا خلال القرن الحادي عشر (18).

الهوامش

(1) سعيد عاشور: الحركة الصليبية/ ج1/ ص3/ القاهرة 1963.
(2) الحركة الصليبية: / ج1 / ص21؛ محمد المطوي: الحروب الصليبية في المشرق والمغرب/ ص10 تونس 1954.
(3) الحركة الصليبية /ج1/ ص21.
(4) المصدر نفسه.
(5) Setton/ History of the Crusades/ Vol – 1/P76.
(6) Setton/ Vol – 1/P – 78/ Pennsylvania 195.
(7) الحركة الصليبية: / ج1/ ص24، 25
(8) المصدر نفسه.
(9) الكونت ريان Rian هو مؤلف جمعية الشرق اللاتيني Societe de l Orient Latin / راجع حول ذلك السيد باز العريني/ مؤرخو الحروب الصليبية ص8/ القاهرة 1962.
(10) مونروند مكسيموس: / تاريخ الحروب المقدسة/ ص45/ اورشيم 1865.
(11) الحركة الصليبية/ ج1/ ص27، 28.
(12) القرآن الكريم/ سورة آل عمران / 20.
(13) Thompson: Economic and Soccial History of the Middle Ages/ Vol –1/P- 385/ London 1959.
(14) Thompson/ Vol 1-/P –391.
(15) Vasiliev: /History of the byzantine Empire/vol 2 /P- 377/ Madison 1961
(16) Ostrogorky: History of the Byzanrine State/ Oxford, 1956.
(17) Thompson: /Vol – 1/p 302.
(18) الحركة الصليبية/ ج1 / ص354.

الروابط
المقالات: دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية (2)
الأشخاص: الأستاذ عبد الله الدلباني [المراسل]
مواقع الإنترنيت: شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام)
مفاتيح البحث: الحركة الصليبية،
الحروب الصليبية
المواضيع: عام

الفهرسة