البحث الرقم: 514 التاريخ: 25 ذو القعدة 1429 هـ المشاهدات: 6142
إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلغه أنّ بني المُصطَلَق يجمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، فلمّا سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج إليهم، حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له ـ المُرَيسع ـ من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المُصطَلَق وقتل منهم من قتل، ونفل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فبينا الناس على ذلك الماء، إذ وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد، يقود له فرسه، فازدحم جهجاه وسنان الجهنيّ من بني عوف ابن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له ـ جعال ـ وكان فقيراً، فقال عبد الله بن أبي لجعال: وإنّك لهناك؟ فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟، واشتدّ لسان جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والذي يحلف به لأذرنّك ويهمك غير هذا، وغضب ابن أبي، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم حديث السن، فقال ابن أبي: قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ، يعني بالأعزّ نفسه، وبالأذلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم، فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا، فقال عبد الله: اسكت فإنّما كنت ألعب، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرحيل، وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ ، فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قطّ، وإنّ زيداً لكاذب، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار، عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه، فعذره (صلى الله عليه وآله) وفشت الملامة من الأنصار لزيد، ولمّا استقلّ رسول الله فسار لقيه أسيد بن حضير فحيّاه بتحية النبوة، ثمّ قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟، زعم أنّه أن رجع إلى المدينة أخرج الأعزّ منها الأذلّ، فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه أن شئت، هو والله الذليل، وأنت العزيز، ثمّ قال: يا رسول الله أرفق به، فوالله لقد جاء الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، وإنّه ليرى إنّك قد استلبته ملكاً، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أنّه قد بلغني إنّك تريد قتل أبي، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال (صلى الله عليه وآله): طبل ترفّق به وتحسن صحبته ما بقي معنا، قالوا: وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثمّ نزل بالناس فلم يكن إلاّ أن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك ليشتغل الناس عن الحديث الذي خرج من ابن أبي، ثمّ راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له ـ بقعاء ـ فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، وضلّت ناقة رسول الله وذلك ليلاً، فقال (صلى الله عليه وآله): مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة، قيل: من هو؟ قال: رفاعة، فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟، ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبرائيل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر رسول الله بذلك أصحابه، وقال: ما أزعم أنّي أعلم الغيب وما أعلمه، ولكنّ الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي هي في الشعب، فإذا هي كما قال فجاؤا بها وآمن ذلك المنافق، فلمّا قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود قد مات ذلك اليوم، قال زيد بن أرقم: فلمّا وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله، ثمّ أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثمّ قال: يا غلام صدق فوك ووعت أذناك، ووعى قلبك، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا، وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فقال: مالك ويلك؟، قال: والله لا تدخلها إلاّ بإذن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ومن الأذلّ، فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأرسل إليه أنّ خلّ عنه يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم، فدخل فلم يلبث إلاّ أياماً قلائل حتى اشتكى ومات، فلمّا نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له: أنّه نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: أمرتموني أنّ أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمد. فنزل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ـ أي هلمّوا ـ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ ـ أي أكثروا تحريكها استهزاء ـ، وقيل: ـ أمالوها إعراضا عن الحق ـ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ ـ عن سبيل الحق ـ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ـ مظهرون أنّه لا حاجة لهم إلى استغفاره ـ، سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ـ أي يتساوي الاستغفار لهم وعدمه ـ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ـ لأنّهم يبطنون الكفر ـ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ـ أي لا يهدي القوم الخارجين عن الدين والإيمان إلى طريق الجنة ـ). قال الحسن: أخبره سبحانه أنّهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم، (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ـ من المؤمنين المحتاجين ـ حَتَّى يَنفَضُّوا ـ أي يتفرقوا عنه ـ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ـ وما بينهما من الأرزاق والأموال والاعلاق ـ، فلو شاء لأغناهم، ولكنّه تعالى يفعل ما هو الأصلح لهم ويمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليصبروا فيؤجروا ـ ينالوا الثواب ـ، وكريم المآب ـ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ـ ذلك لجهلهم بوجوه الحكمة ـ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ـ من غزوة بني المُصطَلَق ـ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ ـ يعنون نفوسهم ـ مِنْهَا الْأَذَلَّ ـ يعنون رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين ـ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ ـ بإعلاء الله كلمته، وإظهار دينه على الأديان ـ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ـ بنصرته إياهم في الدنيا ـ، وإدخالهم الجنة في العقبى ـ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)، فيظنون أنّ العزة لهم. كانت بعد غزوة بني قريظة غزوة بني المُصطَلَق من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار، وقد تهيأ للمسير إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي غزوة المُرَيسع وهو ماء، وقعت في شعبان سنة خمس للهجرة، وقيل: في شعبان سنة ست للهجرة والله أعلم، قالت جويرية بنت الحارث زوجة الرسول (صلى الله عليه وآله): أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن على المُرَيسع، فأسمعُ أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلمّا أن أسلمت وتزوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجعنا، جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنّه رعب من الله عزّوجلّ يلقيه في قلوب المشركين، قالت: ورأيت قبل قدوم النبي (صلى الله عليه وآله) بثلاث ليال كأنّ القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر بها أحداً من الناس، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا فأعتقني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتزوّجني، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وكان شعار المسلمين يومئذ: (يا منصور أمت)، وسبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الرجال والنساء والذراري والنعم والشياه، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)تزوج جويرية بنت الحارث قالوا: أصهار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المُصطَلَق، فما علم إمرأة أعظم بركة على قومها منها.