هل تكلم رأس الحسين (عليه السلام)؟ السؤال: حضرة حجة الإسلام والمسلمين وآية الله في العالمين الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ محمد آل كاشف الغطاء دام ظله. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... المعرض لحضرتكم أنّـا كثيراً ما نسمع من الذاكرين أن رأس الحسين عليه السَّلام قد تكلم غير مرة ويروون بذلك أخباراً شتى ورواياتا مختلفة كخبر زيد بن أرقم وابن وكيدة وغيرهما، ويروون انه قد تكلم في مجلس يزيد، فهل هذه الأخبار صحيحة أم لا؟ فإن كانت صحيحة فهل يمكن ان يقع مثل هذه المعجزة العظيمة الخارقة للعادة بمرأى من الناس ومسمع ولا يرتدع منهم أحد؟ أو يرميه بالسحر كما رموا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بذلك؟ أو يغالون فيه كما غالوا في الأمير عليه السَّلام لما ظهرت على يديهما بعض المعاجز؟ فإن التاريخ لم ينقل لنا شيئا من ذلك، وهل يجوز أن يكون جميع الذين شاهدوا ذلك الأمر العظيم معاندين مكابرين؟ هذا ما نرجو الجواب عنه، ولكم جزيل الأجر والثواب. الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك ودعاء لك بالسلامة والتوفيق نعم خبر زيد بن أرقم وابن وكيدة مروى كلاهما في بعض الكتب المعتبرة، والمراد هنا الاعتبار التاريخي لا الاعتبار الذي عليه المدار في الأخبار التي يستنبط منها الأحكام الشرعية من الصحيح والحسن والموثق (1)، بل هو من قبيل قولنا تاريخ الطبري (2) وتاريخ ابن الأثير (3)، معتبران، ويكفي في هذا المعنى من الاعتبار للخبر أن ينقله مثل صاحب البحار (4) والطريحي في المنتخب (5)، فضلا عما لو رواه السيد بن طاووس (6) في اللهوف أو الشيخ المفيد (7)، في الإرشاد ونظرائهم، والظاهر أن مثل هذه الكرامات (ولا تسمى معجزات) على تقدير صحة وقوعها ما وقعت بمرأى من عامة الناس وإنما هي خصوصية لبعض الأفراد الناقلين لها لحكمة هناك إما مجهولة لنا أو معلومة، وعلى تقدير وقوع شيء من ذلك بين امة من الناس وجمهرة من البشر (8)، فلا يلزم من ذلك أن يرتدعوا، وكم وقعت من الأنبياء معجزات بين أممهم فلم يرتدعوا حتى أصابهم العذاب، وعدم ارتداعهم وإصرارهم ليس بأعظم من إصرارهم على القتل من غير جرم ولا جناية، وقد ورد في الأخبار المعتبرة إن رأس يحيى بن زكريا تكلم بعد قتله مع الجبار الذي أمر بقتله وقال له (أنها لا تحل لك) عن المرأة التي تزوجها وأمرته بقتل يحيى فلم يرتدع (9) وسرّ ذلك كله إن الحرص والشهوة والطمع إذا استحكم في النفس وصار خلقها وطبعا فيها لم يكن شيء من العبر والعظات مؤثراً فيها (وحب الشئ يعمي ويصم) فإذا شاهدت النفس من تلك الغرائب شيئا انصرفت عن التفكر فيه وترتيب الأثر عليه أو تصرفت فيه بالتأويلات وصرفته عن وجه الحقيقة، وان أمة تقتل عترة نبيها وتسبى عياله لا تستبعد عليها جهود معجزة له أو كرامة، ولو (10) أعمنت النظر في رجال عصرنا الحاضر وما يرتكبون من الجناية على هذه الأُمة المسكينة وما يقترفون من الخيانة والغدر لحقوقها حتى أسقطوها في هوة الإفلاس والفقر المدقع والهلاك المؤبد لوجدت من أبناء عصرك وسما سرة مصرك المتربعين على دست الحكم بقوة الظالم الغاشم وعدو العرب والإسلام ما هو أشنع وافضع مما يحدثنا التاريخ عنه من أبناء العصور الغابرة وأبناء الملوك الجائرة، فلا تستبعد شيئاً بعد الذي تراه بعينك في زمانك وأوطانك والسلام. -------------------------------------------------------------------------------- 1- انظر في معرفة معاني هذه الاصطلاحات إلى كتاب (مقباس الهداية في علم الدراية) للمجتهد الأكبر العلامة المامقاني رحمه الله المتوفى (1351) هـ وهو ابسط كتاب وانفعه في علم دراية الحديث فراجع. 2- محمد بن جرير الطبري المؤرخ الفقيه من علماء العامة صاحب التاريخ المشهور توفي (310) هـ بغداد. 3- عز الدين أبو الحسن على بن أبي الكرم الجزري المشهور بابن الاثير صاحب تاريخ الكامل وأسد الغابة توفي سنة: (630) بالموصل. 4- المولى محمد باقر بن المولى محمد تقي المجلسي شيخ الإسلام والمسلمين ورئيس المحدثين المتوفى سنة: (1111) هـ صاحب الجامع الكبير = بحار الأنوار الذي هو دائرة معارق في جمع شتات الأخبار ومتفرقات الآثار ولم يلتزم مؤلفه أن كل ما جمعه فيه من الأخبار مما يمكن الركون إليه أو يلزم الاعتماد عليه أو يصح نسبته إلى عالم التشيع. وإنما نظر مؤلفه إلى جمع متفرقات الأخبار صونا لها من التلف والضياع على مرور الأدوار وأما التنقيب والتحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف وفهم معاني بعض الأحاديث والبحث حول مضامينها فهذا كله موكول إلى أنظار أهل البحث والتحقيق والنظر والتحليل وليس غرض شيخنا الأستاذ رحمه الله أن مجرد وجود خبر في البحار يكفي مدركا للاعتبار ودليلاً على الاعتماد سواء كان من قضايا وقعة كربلاء = تلك الكارثة الفجيعة = ومن غيرها ومع هذا كله غير خفي على الباحث الخبير أن كتاب بحار الأنوار من جلائل الكتب ونفائس الآثار ولمؤلفه خدمات جليلة لا تنسى على مر القرون والأدوار انظر إلى كتاب (كارنامه مجلسي) بالفارسية للشيخ الجليل الفاضل الأخ الأمجد (عطائي) الخراساني وهو مطبوع منتشر. 5- الشيخ فخر الدين بن محمد على الطريحي النجفي الرماحي العالم العابد الفقيه الورع صاحب مجمع البحرين المتوفى سنة: (1085) هـ وكتابه (المنتخب) في المقتل مشهور ولا يمكن الركون إلى بعض متفرداته اللهم الا ان تكون النسخة صحيحة مأمونة عن تصرف الجاهلين. 6- رضى الدين علي بن طاووس الحسني العلامة الاورع الأتقى قدوة العارفين صاحب الكرامات المتوفى سنة: (664) هـ له تصانيف كثيرة في غاية الإتقان والضبط منها كتاب (اللهوف) في المقتل في نهاية الاعتبار والاعتماد وما ذكره المحدث النوري رحمه الله انه من تصانيف أوائل عمره لا يقدح على اعتباره فانه لم يغيره طيلة حياته ونسخه متحدة من حيث الوضع والأسلوب وقد دحضنا شبهات المحدث النورى رحمه الله حول هذا الكتاب الشريف في كتابنا (تحقيق در أربعين) بالفارسية بما لا مزيد عليه فراجع. 7- أبو عبد اللهمحمد بن محمد بن النعمان البغدادي الملقب: بـ (المفيد) شيخ الإمامية ورئيسهم ومن أركان الإسلام وأعمدة الدين ـ كل من تأخر عنه استفاد منه ـ توفى: (413) هـ وله تصانيف نفيسة وآثار خالدة في تمام الاعتبار وعليها الاستناد في جميع الشؤون الدينية منها كتابه (الإرشاد) من نفائس الكتب وجلائل الآثار وهو في غاية الاعتبار. 8- كما يظهر للقارئ الفطن بعد الفحص والتأمل في معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ان بعضاً نادرا منها لم يكن ظاهر لعموم الناس ومرآهم في كل الأوقات كتظليل الغمامة على رأسه الشريف فانها كانت ظاهرة لبعض الناس دون بعض من غير فرق قبل البعثة وبعدها ويظهر ما ادعيناه واضحاً مكشوفاً لمن تتبع وتأمل معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وسيرته انظر إلى قصة الراهب (بحيرا) في (بصرى) في مناقب ابن شهر آشوب رحمه الله ج 1 ص 36 ـ 37 ط النجف. قال الراهب: اني لارى ما لا ترون واعلم ما لا تعلمون... ولقد رايت له وقد اقبل نورا امامه ما بين السماء والأرض ولقد رأيت رجالاً في ايديهم مراوح الياقوت أو الزبرجد يروحونه وآخرين ينثرون عليه انواع الفواكه ثم هذه السحابة لا تفارقه... الخ يظهر من ملاحظتها ان هذه الخوارق العادات كان يراها الراهب وأبو طالب عليه السَّلام دون غيرهما من قريش ثم شرع الراهب يخبرهم بما رآه. والظاهر أن من هذا القبيل عدم الظل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وانه أيضاً لم يكن بمرأى من عامة الناس في عامة الأوقات. وغير خفي ان خوارق العادات الصادرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة تسمى (ارهاصات) وصدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ارهاصات كثيرة ذكر المؤرخ الشهير فريد وجدى المصري مقدارا منها في (دائرة المعارف) في مادة (رهص) ج 4 ص 300 ط 3 مصر، فراجع. ومما ينبغي لفت النظر إليه هو أن الرأس الاقدس قرأ القرآن في حشد من الناس أيضاً كما نقل انه حينما نصب في موضع الصيارفة وهنا لغط المارة وضوضاء المتعاملين فأراد سيد الشهداء عليه السَّلام توجيه النفوس نحوه ليسمعوا بليغ عظاته فتنحنح الرأس الشريف تنحنحا عاليا فاتجهت إليه الناس واعترتهم الدهشة حيث لم يسمعوا رأساً مقطوعاً يتنحنح قبل يوم الحسين عليه السَّلام فعندها قرأ سورة الكهف إلى قوله تعالى: (انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ولا تزد الظالمين الا ضلالا). انظر مقتل الحسين للمقرم ص 402 ط 2 النجف. 9- كما نقل ان الحجاج بن يوسف الثقفي بعد ما قتل التابعي الكبير جهبذ العلماء وعالم الشهداء ومن لم يكن علي الأرض احد الا وهو محتاج الي علمه اعنى سعيد بن جبير (ض) وسقط رأسه الشريف إلى الأرض قال: (لا اله الا الله). فهل ارتدع ذلك الظالم الغشوم؟ = كلا وكلا. قتله سنة: (95) هـ بواسطة ودفن في ظاهرها وقبره بها. 10- لو انعم القارئ الكريم نظره إلى هذه الكلمات الملتهبة الصادرة عن قلم شيخنا الأستاذ رحمه الله ونظر إليها إلى آخرها ليتفطن منها ان قلبه الشريف كان في غاية الالتهاب من أعمال الجبابرة.