البحث الرقم: 604 التاريخ: 17 ذو الحجّة 1429 هـ المشاهدات: 7075
إن الحديث عن سياسة الإمام علي (عليه السلام) وعن مواقفه الخالدة في مجال حقوق الإنسان، لابد أن يتنزل ضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام. فقد كانت مواقفه (عليه السلام) مُعبِّرة أصدق تعبير عن هذه الرؤية، مستميتاً في الدفاع عنها قولاً وعملاً إلى آخر لحظة في حياته. ولما تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي، وأصبح الناس كما وصفهم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (رحمه الله) قائلاً: كان الناس ورداً بلا شوك، فأمسوا شوكاً بلا ورد، ازداد تمسكه الشديد بهذه الحقوق والذَّودِ عنها، وخصوصاً بعد بيعته بالخلافة. وقد اتضح ذلك من خلال ممارسته اليومية للسلطة، ومن خلال تربيته للمسلمين، وغرس مبادئ الإسلام في نفوسهم، وفي مقدمتها مبادئ حقوق الإنسان. ولما ظهرت محاولات الحزب الأموي لتحويل مؤسسة الخلافة إلى ملك عضوض، يحرم الناس حقوقَهم، ويُسلِّط عليهم ألواناً من القهر والتعَسُّف، تَفطَّن الإمام علي (عليه السلام) إلى محاولات الانحراف، وإلى الخطر الداهِم. فازداد تمسكه (عليه السلام) بمبادئ حقوق الإنسان والدفاع عنها، ولا غرابة في ذلك، فقد تشبَّع بروحها من القرآن الكريم، ومن السيرة النبوية الشريفة، وهو أعلم الناس بهما دون منازع. ولا بد في هذا الصدد إبداء الملاحظات الأساسية التالية: الملاحظة الأولى: امتزاج مفهوم حقوق الإنسان عند الإمام علي (عليه السلام) بحقوق الأمة، فلا يمكن أن تُحترم حقوق الإنسان وتُصَان إلا في مجتمع الحق والحرية والعدل الاجتماعي. ومن هنا فإن السلطة لم تكن أبداً في نظره (عليه السلام) غاية في حَدِّ ذاتها، ولم يَسْعَ إليها في يوم من الأيام، بل كان من أزهد الناس فيها. ولما جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية، لتكون أداة المقاومة مظاهر الحيف والانحراف، ولإرجاع الحقوق إلى أصحابها، دخل عليه تلميذه عبد الله بن عباس يوماً، فوجده يخصف نعله، فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين (عليه السلام) نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم، فقال (عليه السلام) لابن عباس: ما قيمة هذه ـ مشيراً إلى نعله ـ؟ قال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (عليه السلام): والله لَهِيَ أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً. فالسلطة تعني عنده (عليه السلام) إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله. الملاحظة الثانية: قد يقول قائل: إن الإمام علي (عليه السلام) قد خاض حروباً طاحنة، وقاتل طيلة أربعين سنة، وأصاب سيفه مئات الناس، فكيف نوفِّقُ بين هذا وبين دفاعه عن حقوق الإنسان؟ وقد يشتبه الأمر عند البعض لهذا التساؤل، ونجيب عليه ضمن النقطتين التاليتين: 1 ـ إن الدفاع عن حقوق الإنسان اقتضى بالأمس ويقتضي اليوم أيضاً مقاومة أهل الظلم والبغي، وكل قوى الشر المعادية للإنسان ولحقوقه. 2 ـ تُجمِع الروايات التاريخية على أن الإمام (عليه السلام) لم يقاتل إلا دفاعاً عن العدل ليقيم الحق، ويقاوم الظلم بِشَتَّى مظاهره، وبخاصة الظلم السياسي والاجتماعي. الملاحظة الثالثة: إنه من المعروف تاريخياً أن تمسكه (عليه السلام) بالحق، وصرامته في تطبيقه، قد جَعَلَت كثيراً من سادة قريش وزعماء العرب يعادونه، ويلتحقون بصفوف معاوية. وقد ضاقوا خصوصاً بالتسوية في القسمة بينهم وبين العامة وهم الرؤساء، وقد كان واعياً بذلك، ولكنه لم يتنازل قَيد أَنْمُلَةٍ، فقال (عليه السلام) عنهم: وَقد عَرفُوا العدلَ وَرَأوهُ، وسَمعُوه وَوَعَوْهُ، وعَلِمُوا أن الناس عندنا في الحَقِّ أسوَة (سواء)، فَهَربُوا إلى الأثرة، فَبُعداً لهم وَسُحقاً. فكان (عليه السلام) شديداً في الحق حتى مع أقرب الناس إليه. كتب (عليه السلام) مرة إلى أحد عماله مؤنِّباً، وقد بلغه أنه أصاب شيئاً من بيت المال وزعم أنه حقه، وختم رسالته قائلاً: فَوَالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلتَ، ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما. الملاحظة الرابعة: إن نموذج الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان يتجاوز المجتمع الإسلامي ليشمل المجتمع البشري كله. فإذا أصبح موضوع حقوق الإنسان اليوم معروفاً (ويخطئ البعض عندما يربطه بالثورة الفرنسية)، ويتجاهل تراث الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، وهي حضارة تفخر بأنها أنجبت نموذجاً نادراً في مقاومة جميع مظاهر الحيف، ونصرة حقوق الإنسان.. هذا النموذج القدوة هو الإمام علي (عليه السلام)، سيسجل تاريخ الإنسانية المواقف الخالدة التي وقفها الإمام علي (عليه السلام) في الدفاع عن حقوق الإنسان. رحمك الله يا أبا الحسن، فقد عشت ما يربو عن أربعين سنة حاملاً لواء العلم والسيف في مقاومة البغي والظلم، وفي الذود عن حقوق الإنسان. إن الدارس لمواقف الإمام علي (عليه السلام) من قضايا حقوق الإنسان، يلمس بسهولة بأن جُلَّ أقواله والقيمَ التي آمنَ بها وَعَلَّمها المسلمين، كانت تخدم حقوق الإنسان وحريته، وتناهض كل سلطة تحاول أن تظلم الإنسان وتغتصب حقوقه، وخصوصاً حقوقه السياسية والاجتماعية. وهو ما يوضح لنا صَرَامة المدرسة السياسية الفكرية التي أسَّسَها في نضاله (عليه السلام)، من أجل بناء مجتمع العدل السياسي والاجتماعي. ولقد نبَّه المسلمين إلى خطر الانحراف الذي بدأت تبرز معالمه في خلافة عثمان، فقد خطب الإمام (عليه السلام) في المدينة إثر بيعته قائلاً: أَلا وَإِنَّ بَلِيَّتَكُم قد عادت كَهيئتِهِا يوم بعث الله نبيَّه، والذي بعثه بالحق لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَة، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غربلة، وَلَتُسَاطُنَّ سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وَلَيَسْبِقَنَّ سابقون كانوا قَصَّروا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُون كانوا سَبَقُوا. وجاء حق الأمة والمجتمع مرتبطاً بحقوق الفرد في نضال الإمام (عليه السلام) من أجل حقوق الإنسان، وجاءت ممارسته للسلطة بعد بيعته إماماً تطبيقاً لمواقفه (عليه السلام) التي عُرف بها في هذا المجال منذ عهد الصبا. فقد رُوي عن ابن عباس؛ أن علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إنَّ كل قِطعة أقطعها عثمان، وكلَّ مالٍ أعطاه من مالِ الله، فهو مَردُودٌ في بيت المال، فإن الحقَّ القديم لا يُبطله شيء. واللهِ لو وَجَدتُه وقد تُزُوِّج به النساء، وفُرِّق في البلدان، لَرَدَدتُه إلى حاَلِهِ، فإن في العَدلِ سِعَة، ومن ضاق عنه الحقُّ فالجورُ عليه أَضْيَق. إن هذا الوضع الذي بلغه انتهاك حقوق الإنسان، هو الذي جعل زعيماً عربياً معروفاً مثل عبد الله بن الزبير يقول: لو شَايَعَني التُركُ والديلَم على محاربة بني أمية لَشَايعتُهُم وانتصرتُ بِهم. وجدير بالذكر أن الإمام (عليه السلام) قد كان واعياً بأن المدافعين عن حقوق الإنسان في عصره قد أصبحوا قلَّة، فقد قال (عليه السلام): اِعلَمُوا رَحِمَكُم الله أَنَّا في زمانٍ القَائِلُ فيه بالحق قليلٌ، واللِّسانُ عنِ الصِّدق كَلِيل، والَّلازم لِلحقِّ ذَلِيل.