استراتيجية الصلح عند الإمام الحسن (عليه السلام)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » استراتيجية الصلح عند الإمام الحسن (عليه السلام)

 البحث  الرقم: 642  التاريخ: 27 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 7525
قائمة المحتويات

التمهید

قبل التحدث عن مبرّرات صُلح الإمام الحسن (عليه السلام)، لا بد من توضيح معنى الاستراتيجية، وقد شاع تعريفها على أنها: فن توظيف عناصر القوة للأمّة أو الأمّم، لتحقيق أهداف الأمّة، أو التحالف في السلم والحرب، وهو أيضاً فن القيادة العسكرية في ساحة المعركة.

لماذا الصلح؟

قَبِل الإمام الحسن (عليه السلام) الصلح مع معاوية للأسباب التالية:
السبب الأول: إن نظرة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الحكم كانت تنبع من أنه وسيلةً لتحقيق قيم الرسالة.
فإذا مالَ الناس عن الدين الحق، وغلبَت المجتمع الطبقات الفاسدة، وأرادت تحويل الدين إلى مطية لمصالحهم اللاَّمشروعة.
فليذهب الحكم إلى الجحيم، لتبقى شعلة الرسالة متّقدة، ولتصب كلُّ الجهود في سبيل إصلاح المجتمع أولاً، وبشتى الوسائل المُتاحة.
وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) عن أسلوب الحكم قائلاً: والله ما معاوية بأدهى منِّي، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس.
ولكن كلّ غُدرة فُجرة وكلّ فُجرة كُفرة، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يُعرف به يوم القيامة، والله ما استُغفِل بالمكيدة، ولا استُغمِز بالشديدة.
أما عن نظرته (عليه السلام) إلى الحكم ذاته، فقد رُوي عن عبد الله بن العباس أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يخصف نعله، فقال (عليه السلام) لي: مَا قِيمَة هذا النعل؟.
فقلت: لا قِيمَة لها.
فقال (عليه السلام): والله لَهِيَ أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلاَّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً.
السبب الثاني: لقد عاش الإمام الحسن (عليه السلام) مَرحلة هبوط الروح الإيمانية عند الناس، وبالذات في القبائل العربية التي خرجت من جَوِّ الحجاز، وانتشرت في أراضي الخير والبركات، فنسيت رسالتها أو كادت.
فهذه كوفة الجند التي تأسست في عهد الخليفة الثاني لتكون حامية الجيش، ومنطلقاً لفتوحات المسلمين الشرقية، أصبحت اليوم مركزاً لصراع القبائل، وتسيس العسكر، وأخذ يُتبَع من يُعطِي أكثر.
فبالرغم من وجود قبائل عربية حافظت على ولائها للإسلام والحق، ولخط أهل البيت (عليهم السلام) الرسالي، إلاَّ أنَّ مُعظم القبائل التي استوطَنَت أرض السواد حيث الخصب والرفاه بدأت تبحث عن العطاء.
حتى أنَّهم تفرّقوا عن القيادة الشرعية، وبدأوا يراسلون المتمردين في الشام حينما عرفوا أنَّ معاوية يبذل أموال المسلمين بلا حساب.
بل إنَّك تجد ابن عمِّ الإمام الحسن (عليه السلام) عبيد الله بن العباس قائد قوَّات الطليعة في جيشه (عليه السلام) يلتحق بمعاوية طَمَعاً في دراهمه، البالغة مليون درهمٍ.
ونجد الكوفة تَخون مرة أخرى الإمام الحسين (عليه السلام)، حينما يبعث إليهم ابن عَمِّه مسلم بن عقيل، فيأتيهم ابن زياد ويمنِّيهم بأن يزيد في عطائهم عشرة.
فإذا بهم يميلون إليه، ويُقاتلون سِبط رسول الله وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بِأبْشَع صورة.
ودون أن يسألوا ابن زياد عمَّا يعنيه بكلمة عشرة، فإذا به يزيد في عطائهم عشرة تُميرات فقط، ولعلَّهم كانوا يمنون أنفسهم بعشرة دنانير.
لقد تعبت الكوفة من الحروب، وبدأت تفكر في العيش الرغيد، وغاب عنهم أهل البصائر الذين كانوا يحومون حول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويذكِّرون الناس باليوم الآخر، ويبيِّنون للناس فضائل إمامهم الحق.
لقد غاب عنهم اليوم عمَّار بن ياسر الذي كان ينادي بين الصفيْن في معركة صِفِّين: الرواحَ إلى الجنة.
ومالك الأشتر الذي كان لعليٍ (عليه السلام) مثلما كان عليٌّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بطلاً مقداماً، وقائداً ميدانيّاً مُحنَّكاً.
وغاب ابن التيهان الذي يعتبره الإمام علي (عليه السلام) أخاً له، ويتأوَّه لغيابه.
بلى، لقد غاب أهل البصائر من أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنصار علي (عليه السلام)، الذين كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتمد عليهم في إدارته للحروب.
وغاب القائد المقدام، البطل الهمام، الإمام علي (عليه السلام) أيضاً، بعد أن أنهى سيف الغدر حياته الحافلة بالأسى.
فإنه (عليه السلام) كان قد صعد المنبر قبيل استشهاده، وقد نشر المصحف فوق رأسه، وهو يدعو ربّه ويقول: مَا يُحبَس أَشقاكم أن يَجيء فيقتلني، اللَّهُمَّ إني قد سئِمتُهم وسئِمُوني، فأَرِحْهم منِّي، وأَرِحْني مِنهم.
وبالرغم من أن الإمام عليّاً كان قد جهَّز جيشاً لمقارعة معاوية قبيل استشهاده، وهو ذلك الجيش الذي قاده من بعده الإمام الحسن (عليه السلام).
إلاَّ أنَّ خَور عزائم الجيش، واختلاف مذاهبه، وخيانة قُوَّاده، كان كفيلاً بهزيمته، حتى ولو كان الإمام علي (عليه السلام) هو الذي يقوده بنفسه.
إلاَّ أن التقدير كان في استشهاد البطل، وأن يتمَّ الصلح على يد نَجلِه العظيم الذي أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله)، أنَّ الله سوف يُصلح به بين طَائِفَتين من أُمَّته.
ويشهد على ذلك ما جاء في حديث مأثور عن الحارث الهمداني، قال: لما مات علي (عليه السلام) جاء الناس إلى الحسن (عليه السلام) وقالوا: أنت خليفة أبيك ووصيِّه، ونحن السامعون المطيعون لك، فمرنا بأمرك.
فقال (عليه السلام): كَذبتُم، والله ما وفيتُم لِمَن كان خيراً منِّي، فكيف تَفُون لي؟، وكيف أطمئنُّ إليكم ولا أثق بكم؟ إن كنتُم صادقين فموعدٌ ما بيني وبينكم مُعَسكر المدائن، فَوافوا هناك.
وماذا كان يمكن للإمام الحسن (عليه السلام) أن يصنعه في مثل هذه الظروف المعاكسة؟ فهل يسير في جيشه بسيرة معاوية، ويوزع عليهم أموال المسلمين، فمن رغب عنه عالجه بالعسل المسموم؟.
أم يسير (عليه السلام) بسيرة أبيه حتى ولو كلَّفه ذلك سُلطته.
لقد ترك (عليه السلام) السلطة حين علم بأنها لم تعد الوسيلة النظيفة لأداء الرسالة، وأن هناك وسيلة أفضل وهي الإنسحاب إلى صفوف المعارضة، وبَثِّ الروح الرسالية في الأمّة من جديد، عبر تربية القيادات، ونشر الأفكار، وقيادة المؤمنين الصادقين، المعارضين للسلطة، وتوسيع نطاق المعارضة، وهكذا فعل (عليه السلام).
السبب الثالث: إن شروط الصُلح التي أملاها الإمام (عليه السلام) على معاوية، وجعلها مقياساً لسلامة الحكم، تشهد على أنه (عليه السلام) كان يخطط لمقاومة الوضع الفاسد، ولكن عبر وسائل أخرى.
لقد جاء في بعض بنود الصُلح ما يلي:
1ـ أن يعمل معاوية بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وسيرة الخلفاء الصالحين.
2ـ ليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً بل يكون الأمر من بعده له (عليه السلام) ثم لأخيه الحسين (عليه السلام).
3ـ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شَامِهِم، وعِرَاقِهم، وحِجَازهم، ويَمَنِهم.
4ـ أنَّ أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم، وأموالهم، ونسائهم، وأولادهم.
5ـ أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) غائلة، لا سِرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.
فإن نظرة خاطفة لهذه الشروط تهدينا إلى أنها اشتملت على أهم قواعد النظام الإسلامي من دستورية الحكم على هدى الكتاب والسُّنَّة.
وأنه مسؤول عن توفير الأمن للجميع، وبالذات لقيادة المعارضة، وهم أهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله).
وقد قبل معاوية بهذه الشروط، مما جعلها أساساً للنظام عند الناس، وقد وجد الإمام (عليه السلام) بذلك أفضل طريقة لتبصير الناس بحقيقته، وتأليب أصحاب الضمائر والدين عليه، حين كان يخالف بعض تلك الشروط.
وقد تحمَّل الإمام الحسن (عليه السلام) عناءً كبيراً في إقناع المسلمين بالصلح مع معاوية، حيث أنَّ النفوس التي كانت تلتهب حماساً، والتي كانت معبأة نفسيّاً ضد معاوية، كانت تأبى البيعة معه.
على أنَّ القشريين من طائفة الخوارج كانت ترى كفر من أسلم الأمر إلى معاوية، وقد قالوا للإمام الحسن (عليه السلام): كَفَرَ والله الرَّجُلُ.

مُعارضة الصحابة

خطب الإمام الحسن (عليه السلام) بعد صلحه مع معاوية في الناس قائلاً: أيُّها الناس، إنكم لو طلبتم ما بين جابلقا وجابرسا رَجُلاً جَدُّه رسول اللـه (صلى الله عليه وآله) ما وجدتم غيري وغير أخي.
وإنَّ معاوية نازعني حقّاً هو لي، فتركتُه لصلاح الأمّة، وحقن دمائها.
وقد بايعتموني على أن تسالموا من سَالَمتُ، وقد رأيت أن أُسالمه، وأن يكون ما صنعتُ حجةً على من كان يتمنَّى هذا الأمر، وإنْ أَدري لعلَّه فتنة لكم، ومتاع إلى حين.
ومع ذلك فقد عارضه بعض أفضل أصحابه في ذلك، فقال حجر بن عدي له: أما والله لَوَددتُ أنك مُتَّ في ذلك اليوم، ومتنا معك ولم نَرَ هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبُّوا.
ويبدو أن الإمام (عليه السلام) كره أن يجيبه في الملأ، إلاَّ أنه حينما خلا به قال (عليه السلام): يا حجر، قد سمعتُ كلامك في مجلس معاوية، وليس كلُّ إنسان يُحب ما تُحب، ولا رأيه كرأيك، وإنِّي لم أفعل ما فعلتُ إلاَّ إبقاءً عليكم، والله تعالى كلَّ يوم هو في شأن.
وكان سفيان من شيعة أمير المؤمنين والحسن (عليهما السلام)، ولكنَّه دخل على الإمام (عليه السلام) وعنده رهط من الناس فقال له: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين.
فقال (عليه السلام) له: وعليكَ السَّلام يا سفيان.
يقول سفيان: فنزلتُ فعقلت راحلتي، ثم أتيته فجلست إليه، فقال (عليه السلام): كيفَ قُلتَ يا سفيان؟.
قال: قلتُ: السلام عليك يا مُذِلَّ المؤمنين.
والله بأبي أنت وأمِّي أذلَلْتَ رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة، وسَلَّمت الأمر إلى اللَّعين ابن آكلة الأكباد، ومعك مئة ألف كلُّهم يموت دونك، وقد جمع الله عليك أمر الناس.
فقال (عليه السلام): يا سفيان، إنَّا أهل بيت إذا علمنا الحقَّ تمسَّكنا به، وإنّي سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
لا تذهب الأيَّام واللَّيالي حتَّى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم، ضخم البلعوم، يأكل ولا يشبع، لا ينظر الله إليه.
ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، وإنَّه لمعاوية، وإنّي عرفتُ أنَّ الله بالغ أمره.
ثم أذَّن المؤذِّن، فقمنا إلى حالبٍ يحلبُ ناقته، فتناول الإناء فشرب قائماً، ثمَّ سقاني، وخرجنا نمشي إلى المسجد، فقال (عليه السلام) لي: ما جاء بك يا سفيان؟.
قلت: حُبُّكم والذي بعث محمدّاً بالهدى ودين الحق.
فقال (عليه السلام): فأبشِرْ يا سفيان، فإنِّي سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
يرد عليَّ الحوض أهل بيتي ومَن أحبَّهم من أُمَّتي كهاتين ـ يعني السبّابتين ـ، أو كهاتين ـ يعني السبابة والوسطى ـ، إحداهما تفضل على الأخرى.
أبشِرْ يا سفيان، فإنَّ الدنيا تسع البرَّ والفاجر، حتَّى يبعث الله إمام الحقِّ من آل محمَّد (صلى الله عليه وآله).
وفي بعض الأحيان كان الإمام الحسن (عليه السلام) يصد على أصحابه ببيعة معاوية.
فحين دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ـ صاحب شرطة الخميس الذي أسَّسَه الإمام علي (عليه السلام) ـ على معاوية، قال له معاوية: بايع.
فنظر قيس إلى الحسن (عليه السلام)، فقال: يا أبا محمَّد، بايعت؟.
فقال له معاوية: أما تنتهي؟ أما والله إنِّي....
فقال له قيس: ما شئت، أَمَا والله لَئِن شئت لتناقضت به.
فقام إليه الحسن (عليه السلام)، وقال له: بَايِعْ يا قيس، فبايَعَ.
ما أكرم أبا محمَّدٍ الحسن المجتبى (عليه السلام)، وأسخى تضحيته حين أقدم على الصلح الذي اعتبره بعض حواريِّه ذُلاًّ، وزعَمَهُ أعداؤه جبناً واستسلاماً، ولم يكن إلاَّ أروع صور النصر على الذات، ومقاومة نزوة الهوى، والمحافظة على دماء المسلمين، وتحقيقاً لكلمة الرسول الصادق المصدَّق (صلى الله عليه وآله) حين قال: إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلَّ الله (عزَّ وجلَّ) يصلح به بين فئتين من المسلمين.
فلولا أن الحسن كان قدوة الصلاح، وأسوة التضحيات، وجماع المكرمات، وكان بالتالي الإمام المؤيَّد بالغيب، لتمزَّقت نفسه الشريفة بصعود معاوية أريكة الحكم، وهو الذي قال فيه الرسول (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتُم معاوية هذا على منبري فاقتلوه، ولن تفعلوا.
ولولا اتِّصال قلبه الكبير بروح الربِّ إذاً لمات كمداً، حيث كان يرى تقهقر المسلمين، وصعود نجم الجاهلية الجديدة.
ولولا حلمه (عليه السلام) العظيم، النابع من قوة إيمانه بالله، وتسليمه لقضائه، إذاً ما صبر على معاوية، وهو يرقى منبر جَدِّه، ويمزِّقَ منشور الرسالة، ويسبُّ أعظم الناس بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).
بلى، ولكنَّ الحسن (عليه السلام) آثر الآخرة على الدنيا، لأنها ـ الآخرة ـ دارٌ جعلها الله للذين لا يريدون الفساد والعُلوَّ في الأرض.

الروابط
المقالات: الإمام الحسن (عليه السلام) يجني ثمار الصلح،
صلح الإمام الحسن (عليه السلام)،
صلح الإمام الحسن (عليه السلام) بنود اللاعنف والسلام،
صُلح الإمام الحسن (عليه السلام) *،
حرص الإمام الحسن (عليه السلام) على مصلحة الإسلام *
مواقع الإنترنيت: مركز آل البيت العالمي للمعلومات
مفاتيح البحث: صلح الإمام الحسن،
الإمام الحسن (عليه السلام)
المواضيع: تاريخ أهل البيت
أقسام الموقع: التاريخ

الفهرسة