الحج
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » الحج

 البحث  الرقم: 697  التاريخ: 15 محرّم الحرام 1430 هـ  المشاهدات: 9914
قال تعالى في محكم كتابه المجيد: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين* فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} آل عمران/96-97
مع إطلالة موسم الحج من كل عام تتعلق قلوب الملايين من المسلمين بأطراف قوافل الحجيج شوقا إلى الديار المقدسة، لتلبي بذلك نداء أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث أمر من قبل الله سبحانه بأن يرفع الأذان بالحج وذلك في قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.
هذا الأمر الإلهي الذي دوى عبر التاريخ، وتعاقب الأنبياء على سماعه والخضوع له، على فترات ضيق وسعة، إلى أن انحسرت الأقدام وقل الوراد وسادت فترة شح في القاصدين وذلك في الفترة بين نبي الله عيسى (ع) والرسول الأعظم محمد (ص)، حيث أن الوراد وإن كانوا كثرة من حيث العدد إلا أنهم ما كانوا لله قاصدين بل أكثرهم كان عابد صنم أو ممن يشرك مع الله سواه، واستمرت هذه الفترة ما شاء الله الى أن بعث الله نبيه محمدا (ص) بالدين الخالد والشرعة الخاتمة {إن الدين عند الله الإسلام}، وبانبعاث هذا الدين وبزوغ هذا الفجر الجديد تجدد النداء وتجدد الأمر تحت راية الإسلام وعادت للبيت مكانته بعيدا عن تخرصات المتخرصين فجاء الوحي متحدثا عن مكانة هذا البيت ومبينا صفاته بقوله: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
وهكذا كان هذا النداء إمضاء لما شرع لنبي الله إبراهيم (ع)، وبادرت بذلك قوافل الحجيج إلى تلبية النداء الذي استمر صداه إلى يومنا هذا، ولنبي الله إبراهيم قصة مع هذه البقعة المباركة فقد هبط فيها بصحبة زوجته هاجر وابنه إسماعيل، وكانت في ذلك الوقت لا تزيد عن واد جديب وأرض قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، وفي هذا المكان وبقرب تلك الصخور الصماء يرفع نبي الله إبراهيم يديه بالضراعة الى الله ويقول: {ربنا اني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}، وبعد هذا التضرع والدعاء ومرورا بالابتلاء والامتحان الإلهي، تتحقق الآمال ويولد ذلك الصرح على تلك البقعة المباركة {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم}.
وهكذا يصبح بيت الله الحرام رمزا لالتفاف كل الجهود الخيرة حول نقطة واحدة، هي (التوحيد)، ويتمحور هذا المعنى حول رمز واحد ألا وهو (الكعبة المشرفة)، وتنهال بعد ذلك حشود الحجاج رافعة أصواتها بمفتاح تلك الشعائر والمناسك، رافعة أصواتها بالتلبية لله وحده، تلبية محفوفة بالإخلاص له سبحانه (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك).
يتميز الحج كعبادة بأمرين: الأول كونه من العبادات الاجتماعية، التي يكون السمو والانتقال إلى الله فيها جماعيا يضم كل المسلمين على اختلاف أجناسهم ومشاربهم، والأمر الثاني هو اشتراك جميع العناصر في أدائه: الجسم والروح، المال والجهد، النفس والمشاعر، بخلاف العبادات الأخرى التي منها ما يعد ماليا، ومنها ما يعد بدنيا وهكذا.
إن الحج الخالص يعتبر فرصة للتخلص من أدران الذنوب، ورجس الخطايا، بل أن النية بتركها قد تكون شرطا معنويا في اكتمال الحج بمعناه الكامل، وإلا فان قول الإمام الصادق (ع): (ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج)، سينطبق لا محالة، ولنستمع معا إلى هذه المحادثة بين الإمام علي بن الحسين (ع) وحاج اسمه شبلي، والتي تتجلى فيها بوضوح أهمية الأفعال الروحية والمعنوية المتصلة بتطهير النفس: (قال عليه السلام: فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثياب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ وحين اغتسلت نويت انك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ ونويت حين وقفت مقام إبراهيم انك وقفت على كل طاعة، وتخلفت عن كل معصية؟
وحيث كان جواب شبلي بالنفي، قال (ع): إذن ما دخلت الميقات ولا لبيت، وماتنظفت ولا أحرمت ولا عقدت الحج، وما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صليت فيه ركعتين)، أي أن كل تلك الأعمال التي قمت بها كأن لم تكن.
وبعد النزول إلى ذلك المحل الطاهر وأداء مناسكه، تسهم كل هذه المناسك في تخليص المسلم ولو من الجزء الأكبر من الخطايا والذنوب والتفكير فيما لا يرضي الله، وهناك خطوة أخرى تعطي الفرصة مرة ثانية للقضاء على النوازع السيئة في النفس وبطريقة تجمع بين المادة والروح، وبين الشعائر الظاهرية ومقاصد الشريعة ألا وهي عملية رمي الجمرات، حيث يقوم الحاج برمي الجمرات الثلاث: الشيطان الأصغر، والأوسط، والأكبر، وهو بذلك يعلن براءته من الشيطان وإغوائه وأحابيله.
 الجمرة الأولى: هي الشهوة، وتعد الشيطان الأصغر.
 الجمرة الوسطى: هي الثروة، وتعد الشيطان الأوسط.
 الجمرة الكبرى: هي السلطة، وتعد الشيطان الأكبر.
وهذه الجمرات متدرجة في الخطورة على الحركة التكاملية للإنسان، ابتداءا من أسهلها مقاومة وانتهاءا بأعنفها وأشدها.
وهكذا تعطي مناسك الحج دروسا ومواعظ تجعل الحاج بعد خروجه من هذه الدورة التربوية الإلهية مرتفع المعنويات، مقبلا على استئناف عمله بكل جد ونشاط مخلصا في تحركاته لله سبحانه، وقد بين الإمام الصادق (ع) أصناف الحجاج عند انتهائهم من هذه الرحلة المباركة، فقال:
(الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله فذلك أدنى ما يرجع به الحاج).
في الختام نتمنى للجميع التوفيق لأداء هذه الشعيرة العظمى، والرجوع من هذه المدرسة وقد فهموا مقاصدها واستفادوا من دروسها على الصعيدين الدنيوي والأخروي.

الروابط
الأشخاص: آية الله السيد فاضل الحسيني الميلاني [المترجم]
مواقع الإنترنيت: مكتب سماحة آية الله السيد فاضل الميلاني

الفهرسة