البكاء على موتى المؤمنين
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » البكاء على موتى المؤمنين

 البحث  الرقم: 709  التاريخ: 17 محرّم الحرام 1430 هـ  المشاهدات: 18064
قائمة المحتويات

فكرة عامّة حول البكاء

البكاء تعبير عن حاجة إنسانية يلجأ إليها الإنسان بطبيعته، عندما تكتنفه صعوبات الحياة وآلامها، فلا يملك إزاءها حولاً ولا قوة تعينه على الفرار منها خصوصاً في اللحظات الحرجة فيتنفس عبر البكاء، أو عندما يفاجأ بفقدان حبيب أو خسارة مادية أو معنوية، فيختل توازنه النفسي فيندفع تلقائياً وبلا شعور فيستفرغ احتصاره وكبته عن طريق البكاء، وهذه الحاجة لا تختص بعقيدة دون أُخرى، لأن منشأ البكاء نفسي وفطري.
فإذا كان البكاء فطرياً يلجأ إليه الإنسان عند الاختناق والهلع النفسي، فيكون أداة لتفريغ الهموم والصدمات النفسية، فهل يا ترى للبكاء فوائد أُخرى يتضمنها، أم يقتصر على هذا الحد؟
أوّلاً: لا يخلو البكاء من فوائد كثيرة منها الصحية والنفسية والسياسية، نذكر فيما يلي قسماً منها على سبيل الاختصار.
أ ـ إن البكاء يمثل منهجاً لتزكية النفس من الأدران والذنوب، خصوصاً عندما يكون بدافع الندم والتوبة.
ب ـ إن البكاء يرفع الإنسان إلى درجة التحسس بآلام المحرومين والمظلومين في الأرض، لأن البكاء يوقظ الضمير وينبّه الوجدان، في حالة الاعتراف بالتقصير أمام الله والخشية منه.
ج ـ البكاء يعالج قسوة القلب المذمومة في الشريعة، مثل الطبع على القلب والختم عليه.
قال تعالى: (ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة) (1).
وقال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) (2).
د ـ إن البكاء له بُعد سياسي، لأنه الطريق الأفضل لرفع الظلم واستنكار ممارسات الظالمين في الظرف الذي لا يسمح بالمواجهة، وعندما يشعر الإنسان بأنه لا يقدر على فعل شيء فيكون البكاء تعبيراً عن الرفض والمعارضة.
ثانياً: ذكروا أن للبكاء الذي يلجأ إليه الإنسان ذاتياً دوافع، فقد يبكي الإنسان عندما يُفاجأ بخبر مفرح لم يتوقع تحققه إطلاقاً، كما يبكي الإنسان عندما يتعرض لحزن شديد، أو لفزع، أو لمداهمة من غريب، أو وجع مؤلم، أو رياء، أو شكر، أو بكاء من خشية الله.
ثالثاً: والبكاء من الناحية الشرعية له عدة أقسام:
أ ـ البكاء من خشية الله:
فقد جاء في الحثّ على هذا القسم عدد من الآيات والروايات نذكر منها:
1 ـ قوله تعالى: (إن الذين أُوتوا العلمَ من قبله إذا يُتلى عليهم يخرّون للأذقان سُجّداً * ويقولون سبحان ربّنا إن كان وعدُ ربّنا لمفعولاً * ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً) (3).
2 ـ قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرّية آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذريّة إبراهيم وإسرائيل وممّن هدينا واجتبينا إذا تُتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سُجداً وبكياً) (4).
3 ـ وحثّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على البكاء فقال: (لا ترى النار عينٌ بكت من خشية الله ولا عين سهرت في سبيل الله) (5).
4 ـ وجاء عنه (صلى الله عليه وآله) (ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دم في سبيل الله وقطرة دموع قطرت من عين رجل في جوف الليل من خشية الله) (6).
ولما كان البكاء مطلوباً ومحبوباً عند الله سبحانه، فقد نجد الأنبياء (عليهم السلام) قد بكوا في مواطن متعددة.
5 ـ بكى آدم على خطيئته مائة سنة، وما رفع رأسه إلى السماء بعد ذلك حياءً من ربه (7).
وقيل بأن نوحاً النبيّ (عليه السلام) إنما سُمّي نوحاً لأنه كان نوّاحاً (8).
6 ـ أما كثرة البكاء عند النبي داود (عليه السلام) فنسبتها (لو عدل بكاء داود بكاء أهل الأرض بعد آدم، لعدل بكاء داود بكاء أهل الأرض) (9).
7 ـ وأما المثل الذي ضربه النبيّ يحيى في البكاء فهو كما قيل: (كان يحيى بن زكريا له خطّان في خديه من البكاء، فقال له أبوه زكريا: إنما سألت الله ولداً تقرُّ به عيني. فقال: يا أَبَه! إن جبرائيل أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلاّ كُلّ بكّاء) (10).
ب: البكاء أثناء العبادات:
منها البكاء عند قراءة القرآن والبكاء عند الصلاة والبكاء عند الدعاء.
ج: البكاء عند فقدان الأحبّة والشهداء والصُلحاء والمؤمنين.
والبكاء على موتى المؤمنين هو أحد الموارد المشروعة التي ندبت إليها الشريعة ولا يمكن تجزئته عن أنواع البكاء الأُخرى، لكن البعض ذهب إلى حرمته وعدم جوازه محتجاً ببعض الروايات التي لم يثبت صدورها عن رسول الله أو أنها حملت على الحرمة.
من هنا سوف نتناول هذه المسألة ضمن عدد من المباحث في منشأ الخلاف في حرمة البكاء، وفي سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبكائه على موتى المؤمنين، وفي سيرة المسلمين قبل وفاة الرسول وبعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله). وما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البكاء، ثم أحكام البكاء عند الإمامية وأدلتها الشرعية لندرك بعد ذلك الطريق الصحيح الذي ينسجم مع أصول الشريعة الغرّاء.

المبحث الأوّل: منشأ الخلاف في حرمة البكاء على موتى المؤمنين

إنّ منشأ الخلاف في مسألة حرمة البكاء على موتى المؤمنين يرجع لرواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: (إن الميت يعذّب ببكاء أهله عليه).
وقد نقلت هذه الرواية بعدة ألفاظ منها ببعض بكاء أهله عليه، ومنها ببكاء الحيّ عليه، ومنها يعذّب في قبره بما نيح عليه.
ولا عبرة باختلاف الألفاظ لأن هذه الروايات كلها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله (11).
ووقف الصحابة من هذه الرواية موقف المعارض ونعتوا راويها بالخطأ أو النسيان، لأنها تعارض القرآن الكريم وأن رسول لله (صلى الله عليه وآله) لم يقل ذلك، وإنّما قال: (إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه) إلى غير ذلك من الردود.

موقف عائشة من الرواية ومن حرمة البكاء

عن ابن أبي مليكة قال: (توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة فجئنا نشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، وأني لجالس بينهما، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان ـ وهو مواجهه ـ: ألا تنهى عن البكاء؟! فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه؟!).
فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدّث فقال: صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء، فإذا هو بركب تحت ظل شجرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا هو صهيب قال: فأخبرته، فقال: اُدعه، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل، فالحقْ بأمير المؤمنين، فلما أن أُصيب عمر: دخل صهيب يبكي، يقول: وآ أخاه، واصاحباه! فقال عمر: يا صهيب، أتبكي عليّ وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الميت ليعذّب ببعض بكاء أهله عليه؟
فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدّث رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الميّت يُعذّب ببكاء أهله عليه، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه.
وقالت عائشة: حسبكم القرآن: (ألاّ تَزِرُ وازرة وزِر أُخرى).
قال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى.
قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئاً (12).
وفي رواية قال ابن أبي مليكة: ذكرت الحديث لعائشة فقالت: أما والله ما تُحدّثون هذا الحديث عن كاذبين مكذّبين، ولكن السمع يخطئ وإنّ لكم في القرآن لَمَا يُشفيكم: (ألاّ تزر وازرة وزر أُخرى) (13) ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه (14).
وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: سمعت عائشة وذُكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: (إن الميت ليعذّب ببكاء الحي عليه) نقول يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما أنه لم يكذب ولكنه نسي أو خطأ، وإنما مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على يهودية يُبكى عليها، فقال: (إنه ليُبكى عليها، وأنها لتُعَذّب في قبرها) أخرجه الجماعة إلاّ أبا داود) (15).
وفي رواية قالت: يرحمه الله، لم يكذب ولكنّه وهم، إنما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل مات يهودياً: إنّ الميت ليعذبّ وإنهم ليبكون عليه.
وكانت عائشة مع عمر في هذه المسألة على طرفيّ نقيض فقد ناحت على أبيها يوم وفاته خلافاً لنهي عمر.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها، فنهاههن عن البكاء عليه فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: اُدخل فأخرج إليَّ ابنة أبي قحافة، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أُحرّج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: اُدخل فقد أذنت لك، فدخل هشام فأخرج أُم فروة أُخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها بالدرة فضربها ضربات فتفرق النوح حين سمعوا ذلك (16).

موقف ابن عباس

اتّضح موقف ابن عباس في مسألة البكاء على موتى المؤمنين ومعارضته لرواية عمر بقوله السابق الذكر (17).

موقف أبي هريرة

أما أبو هريرة، فقد قال: (مات ميت من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهنّ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (دعهنّ يا عُمر، فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب) (18).

تعارض روايات تحريم البكاء مع روايات جوازه

ورد عدد من الروايات التي اُدّعي أنّها تدلّ على نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن البكاء، فمع قطع النظر عن ضعفها وعدم صلاحيتها للتعارض، تبقى لا تنهض بدليلها حتى لو سلّمنا فرض صحتها، لأنّها بطبيعة الحال تتعارض مع الروايات القائلة بجواز البكاء، وكونه من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) على من رآه مشرفاً على الموت وعلى من توفي شهيداً، أو غير شهيد وعلى قبر المتوفى.
وأن استدراك عائشة، وأقوال الصحابة من كون روايات النهي محصورة بالخليفة الثاني وابنه عبد الله، وأنها ناشئة من الخطأ والنسيان، وأن رسول الله لم ينهَ عن البكاء، يجعلنا أن نعرض عن روايات النهي ونتمسك بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) القائمة على جواز البكاء.

تعارض مضمون روايات تحريم البكاء مع مفاهيم القرآن الكريم

والذي يلاحظ مضمون روايات تحريم البكاء، يجد أن هذه الروايات تنسب العقوبة لغير فاعل الذنب، وهي بذلك تخالف نصوص القرآن الكريم، التي لا تحمل الذنب إلاّ على فاعله.
قال تعالى: (ألاّ تزر وازرة وزر أُخرى) (19).
الوزر: هنا بمعنى الإثم والذنب المُثقل للظهر، والوازرة النفس المذنبة التي تذنب. والمراد: لا يحمل أحد من المذنبين ذنب غيره (20).
وقال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى) (21).
وقال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) (22).
وقال تعالى: (لتجزى كل نفس بما تسعى) (23).
وقبل أن نختتم البحث نذكر بأن هناك روايات استدلّ بها البعض على جواز البكاء قبل الموت لا بعده، جاءت بألفاظ متقاربة في معناها من كون البكاء محرماً بعد الموت.
منها: ما جاء عن عبد الله بن عمير، عن جَبْر: (أنه دخل مع النبي (صلى الله عليه وآله) على ميت فبكى النساء، فقال جبرٌ: أتبكين؟ لا تبكين ما دام رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالساً.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (دعهن يبكين ما دام بينهن، فإذا وجب فلا تبكينَّ عليه باكية) (24).
ويحمل هذا الحديث على رفع الصوت عالياً وخمش الوجوه، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) لما بكى وقال عبد الرحمن: أولم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: (لا ولكن نهيت عن صوتين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب، ورنّة شيطان) (25).

المبحث الثاني: بكاء الرسول والأنبياء (عليهم السلام) على موتى المؤمنين

1 ـ لقد بكى النبي (صلى الله عليه وآله) على عمّه حمزة وحث المسلمين على البكاء عليه.
قال ابن سعد: (لما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد غزوة اُحد البكاء من دور الأنصار على قتلاهم، ذرفت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبكى وقال: (لكن حمزة لا بواكي له) فسمع ذلك سعد بن معاذ فرجع إلى نساء بني عبد الأشهل فساقهنّ فدعا لهن. فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة، ثم بكت على ميّتها) (26).
ولم يتضمن هذا الحديث فعل النبي (صلى الله عليه وآله) فحسب، وإنما يتضمن تقريره وأمره بالبكاء أيضاً، كما يكتشف منه بأن البكاء على موتى المؤمنين في عصر الرسالة، قد شكّل ظاهرة تعاطاها المسلمون آنذاك.
2 ـ لما أُصيب جعفر وأصحابه في غزوة مؤتة دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيته، وطلب بني جعفر، فشمّهم ودمعت عيناه، فقالت زوجته أسماء: بأبي وأُمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أُصيبوا هذا اليوم. فقالت أسماء: فقمتُ أصيح وأجمع النساء، ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول: وا عمّاه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): على مثل جعفر فلتبكِ البواكي) (27).
ولا ريب أن هذا الحديث قد تضمّن بكاء النبي (صلى الله عليه وآله) بل وقوله: (على مثل جعفر فلتبك البواكي) وتقريره لبكاء أسماء، وكلها دلائل واضحة على مشروعية البكاء على موتى المؤمنين والشهداء.
3 ـ وبكى الرسول (صلى الله عليه وآله) على الشهداء في الغزوة المذكورة.
كما جاء في صحيح البخاري: أن النبي نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، وقال:
(أخذ الراية زيد، فأُصيب، ثم أخذ جعفر فأُصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأُصيب)، وعيناه تذرفان... (28).
4 ـ وبكى النبي (صلى الله عليه وآله) على أبنه إبراهيم.
قال أنس: (دخلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)... وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: (يا بن عوف، إنها رحمة) ثمّ أتبعها بأُخرى فقال (صلى الله عليه وآله): (إنّ العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلاّ ما يرضي ربّنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) (29).
في هذا الحديث وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) تساقط الدموع بأنها رحمة. ومن هذا التعبير يفهم أن البكاء حسن.
ثم أراد بقوله (صلى الله عليه وآله): (إن العين تدمع، إلى آخر الحديث) أن لا إثم بدمع العين وحزن القلب، وإنما الإثم بقول ما يسخط الربّ كالاعتراض عليه سبحانه.
5 ـ وبكى الرسول (صلى الله عليه وآله) على أُمّه عند قبرها.
عن أبي هريرة قال: (زار النبي (صلى الله عليه وآله) قبر أُمه فبكى وأبكى من حوله) (30).
6 ـ وبكى الرسول (صلى الله عليه وآله) في مرض سعد بن عبادة.
عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: (أقَضى؟) قالوا: لا يا رسول الله! فبكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رأى القوم بكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بكوا، فقال: (ألا تسمعون أن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أو يرحم) (31).
7 ـ بكاء الرسول (صلى الله عليه وآله) على سبطه الإمام الحسين بن علي (عليه السلام).
عن أُم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلماً منكراً الليلة، قال: (وما هو؟ قالت: إنه شديد، قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رأيت خيراً، تلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك. فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدخلت يوماً إلى رسول الله فوضعته في حجره، ثم حانت منّي التفاتة، فإذا عينا رسول الله تهرقان من الدموع، قالت: فقلت: يا نبيّ الله! بأبي وأُمي، ما لك؟! قال: أتاني جبرائيل فأخبرني أن أُمتي ستقتل ابني هذا، فقلت: هذا؟! قال: نعم، وأتاني بتربة من تربته حمراء).
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (32).
وهناك روايات أُخرى لا يسعنا ذكرها تؤكد كون الرسول (صلى الله عليه وآله) قد بكى في أكثر من مناسبة على الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) (33).
ولم يكن البكاء وليد عصر الرسالة، وإنّما له عمقه التاريخي حيث نجد عدداً من الأنبياء قد بكوا في مناسبات مختلفة:
قال تعالى عن نبيّه يعقوب (عليه السلام): (وتولّى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) (34).
فقد بكى يعقوب على ولده يوسف حتى: (قالوا تالله تفتَؤُا تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين) (35).
قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل: قد عمي بصره. وقيل: كان يدرك إدراكاً ضعيفاً، قرئ من الحزن ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض فكأنه حدث من الحزن.
قيل: ما جفّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقاءه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه سأل جبرائيل (عليه السلام): ما مبلغ من وجد يعقوب على يوسف؟
قال: وجد سبعين ثكلى.
قال: فما كان له من الأجر؟
قال: أجر مائة شهيد. وما أساء ظنّه بالله ساعة قط.
فإن قلت: كيف جاز لنبيّ الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يملك نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.
ولقد بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ولده إبراهيم وقال: (القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون).
وإنّما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل: يا رسول الله تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ فقال: (ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين: صوت عند الفرح وصوت عند الترح).
وعن الحسن (عليه السلام) أنه بكى على ولده أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال: (ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب فهو كظيم فهو مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم) (36).

المبحث الثالث: سيرة المسلمين في البكاء على موتى المؤمنين

أما سيرة المسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهي الأُخرى خير دليل كاشف عن جواز البكاء، حيث نلمس من خلالها، أن المسلمين وكبار الصحابة قد بكوا على موتاهم من المؤمنين، ورثَوْهم بمختلف القصائد الشعرية (37)، وإليك جملة من الشواهد التاريخية التي تؤكد صحة البكاء وشرعيته واستمرار سيرتهم عليه:
1 ـ وقف الإمام أمير المؤمنين على ضريح النبي (صلى الله عليه وآله) ساعة دفنه فقال: (إن الصبر لجميل إلاّ عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإن المصاب لجلل، وإنّه بعدك لقليل).
2 ـ وللإمام علي (عليه السلام) رثاء في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ألا طرق الناعي بليــل فراعنــي***وأرّقنــي لمّا استقـــــــــل مناديا
فقلت له لما رأيــت الـــذي أتــى***لغير رسول الله كنت ناعيا (38)
3 ـ عن أنس بن مالك قال: كانت فاطمة جالسة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتواكدت عليه كُربُ الموت، فرفع رأسه وقال: واكرباه! فبكت فاطمة وقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه. قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم (39).
4 ـ وَرَثَتْ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام) أباها (صلى الله عليه وآله) عند مماته بأبيات تهيج الحزن، منها:
ماذا على من شــم تربــــــة أحمــــد***أن لا يشم مدى الزمـــــان غواليـــا
صبّــــت علــــيَّ مصائــــب لـو أنها***صبّت علــى الأيام عدن لياليا (40)
5 ـ ولصفية عمّة الرسول (صلى الله عليه وآله) رثاء حزين عند وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وهو قولها:
ألا يا رســـــولَ الله كنــــت رجاءنـــــا***وكنــت بنـــــــا بـــــرّاً ولــم تكن جافيا
وكنت رحيمــــــاً هاديــــــــاً ومعلمــــاً***ليبـك عليك اليوم من كــــــان باكيــــا
لعمــرك ما أبكــي النبــــي لفقــــــــده***ولكن لما أخشى من الهرج آتيا (41)
6 ـ وبكى أبو ذؤيب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين وفاته وأنشد:
لمـــا رأيــت النـــــاس فــي عسلاتهم***ما بيــــن ملحـــــود لــه ومضــــرح
متبادريـــن لشرجـــــع بـأكفهــــــــــم***نـــص الرقـــاب لفقـــد أبيـض أروح
فهنــاك صرت إلى الهموم ومن يبت***جار الهموم يبيت غير مــروح (42)
7 ـ ذكر ابن إسحاق أن أبا سفيان بن الحارث بكى النبي (صلى الله عليه وآله) كثيراً ورثاه فقال:
أرقتُ فبــات ليلــــــي لا يــــــــزول***وليــــل أخــــي المصيبــة فيه يطول
فأسعدنـــــي البـــــكاء وذاك فيمــــا***أُصيــب المسلمــون بـــــــه قليـــــل
لقــــد عظمــــت مصيبتنــــا وجلّــت***عشية قيـل قــد قبض الرسول (43)
8 ـ لمّا نعي النعمان بن مُقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح يا أسفا على النعمان!
ولما استشهد زيد بن الخطاب باليمامة وكان صحبه رجل من بني عدي بن كعب، فرجع إلى المدينة فلما رآه عمر دمعت عيناه وقال:
وخلفت زيداً ثاوياً وأتيتني (44).
ولما توفي خالد بن الوليد أيام عمر بن الخطاب ـ وكان بينهما هجرة ـ امتنع النساء من البكاء عليه، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال: وما على نساء بني المغيرة أن يُرقن من دمعهن على أبي سليمان ما لم يكن نقعاً ولا لقلقة.
وبكى متمّم أخو مالك بن نويرة بمحضر أبي بكر وفي مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان متمّم أعور دميماً فلما بلغه مقتل أخيه، حضر مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلى الصبح خلف أبي بكر، فلما فرغ من صلاته واستند في محرابه قام متمّم فوقف بحذائه واتّكأ على سيّة قوسه، ثم أنشد:
نعم القتيل إذ الرياحُ تناوحت***خلف البيوت قتلت ياابن الأزور
أدعـوتــه بالله ثــم غدرتـــــه***لــو هــو دعاك بذمــة لـم يغدر؟
وأما أبو بكر فقال: والله ما دعوته ولا غدرته ثم بكى وانحطّ على سيّة قوسه، فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أنك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً (45).

المبحث الرابع: ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البكاء

بكى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وحثّوا شيعتهم على البكاء ضمن الإطار الشرعي، الذي يحقّق غرضه الإلهي المطلوب ولا يدخل في الحرمة، وإليك عدداً من تلك الروايات:
1 ـ عن عبد الله بن العباس، قال: (لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته، فقيل: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذرّيتي، وما تصنع بهم أشرار أُمّتي من بعدي، كأنّي بفاطمة بنتي وقد ظلمت بعدي، وهي تنادي يا أبتاه! يا أبتاه! فلا يُعينها أحد من اُ مّتي. فسمعت ذلك فاطمة فبكت، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكين يا بُنية! فقالت: لست أبكي لما يُصنع بي بعدك، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله، فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنّك أول مَنْ يَلحق بي من أهل بيتي) (46).
2 ـ عن ثوير بن أبي فاختة، قال: سمعت الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) يحدث رجلاً من قريش، قال: (لمّا قرّب أبناء آدم القُربان ـ إلى أن قال ـ... فانصرف آدم فبكى على هابيل أربعين يوماً وليلة...) (47).
3 ـ روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (بكى علي ابن الحسين على الحسين بن علي صلوات الله عليهم أجمعين عشرين سنة، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى على الحسين (عليه السلام) حتى قال له مولىً له: جعلت فداك يا بن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين! فقرأ: (قال إنّما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة) (48).
4 ـ روي عن أبي بصير، قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: (إنّ أبي مرض مرضاً شديداً حتى خفنا عليه، فبكى عند رأسه بعض أصحابه، فنظر إليه وقال: إني لست بميّت في وجعي هذا قال: فبرأ ومكث ما شاء الله من السنين، فبينما هو صحيح ليس به بأس، فقال: يا بنيَّ إنّي ميّت يوم كذا، فمات في ذلك اليوم) (49).
5 ـ عن حمزة بن حمران، قال: دخلت إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال لي: (يا حمزة من أين أقبلت؟ قلت: من الكوفة. قال: فبكى (عليه السلام) حتى بلّت دموعه لحيته، فقلت له: يا ابن رسول الله مالك أكثرت البكاء؟ فقال: ذكرت عمي زيداً وما صُنع به فبكيت. فقلت له: وما الذي ذكرت منه؟ فقال: ذكرت مقتله وقد أصاب جبينه سهم فجاءه ابنه يحيى فانكبّ عليه وقال له: أبشر يا أبتاه فإنّك ترد على رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، قال: أجل يا بُنيّ، ثم دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه، فكانت نفسه معه... ـ إلى أن قال (عليه السلام) ـ فلعن الله قاتله وخاذله والى الله جلّ اسمه أشكو ما نزل بنا أهل البيت...) (50).
6 ـ عن أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) قال: فأنشدته، قال: فقال لي: أنشدني كما تنشدون ـ يعني بالرقة ـ، قال: فأنشدته (شعر):
أمرر على جدث الحسين***فقل لأعظُمِه الزكيّة...
قال: فبكى، ثمّ قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأُولى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر.
قال: فلمّا فرغت قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى عشراً كُتبت لهم الجنّة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى خمسة كُتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى وأبكى واحداً كُتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله ولم يرضَ له بدون الجنة) (51).
7 ـ عن الوشا عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال بخراسان: إنّي حيث أرادوا بي الخروج جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا عليَّ حتى أسمع، ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار، ثمّ قلت: أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً) (52).
8 ـ عن الريان بن شبيب، قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرّم، فقال لي: (يا بن شبيب إن المحرّم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأُمّة حرمة شهرها ولا حرمة نبيّها (صلى الله عليه وآله)، إذ قتلوا في هذا الشهر ذريّته، وسبوا نساءه، وأنتهبوا ثقله، يا بن شبيب! إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين (عليه السلام) فإنّه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض من شبيه، ولقد بكت السماوات السبع لقتله، ـ إلى أن قال ـ يا بن شبيب! إن سَرّك أن تكون معنا في الدرجات العُلى فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا) (53).
9 ـ عن الحسن بن يزيد، قال: ماتت ابنة لأبي عبد الله (عليه السلام) فناح عليها سنة، ثم مات له ولد آخر فناح عليه سنة، ثم مات له إسماعيل فجزع عليه جزعاً شديداً، فقطع النوح، قال: فقيل لأبي عبد الله (عليه السلام) أيناح في دارك؟ فقال: (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لما مات حمزة: لكن حمزة لا بواكي له) (54).
10 ـ عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أنّه قال: (من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه) (55).
11 ـ وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، قال: (ما من قطرة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله وقطرة دمعة في سواد الليل، لا يريد بها عبد إلاّ الله عزّ وجلّ) (56).
12 ـ عن محمد بن الحسن الواسطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن إبراهيم خليل الرحمن سأل ربّه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته) (57).

المبحث الخامس: حكم البكاء وتوابعه عند علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)

إنّ البكاء جائز قبل خروج الروح وبعده (58)، بل يستحب (59) إذا كان الميت مؤمناً وفي حالة إذا كان الحزن شديداً (60).
ولو مع الصوت، بل قد يكون راجحاً، كما إذا كان مسكناً للحزن وحرقة القلب، بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره (61).
ومدرك ذلك الإجماع والنصوص المستفيضة وفي بعضها الأمر به عند شدة الوجد (62).
وأما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز، ما لم يكن مقروناً بعدم الرضا بقضاء الله، نعم يوجب حبط الأجر ولا يُبعد كراهته (63).
كما يجوز النوح على الميت بالنظم والنثر ما لم يتضمن الكذب، ولم يكن مشتملاً على الويل والثبور.
ولا يجوز اللطلم والخدش وجز الشعر، بل والصراخ الخارج عن حد الاعتدال كما لا يجوز شق الثوب على غير الأب والأخ.
أما جزّ المرأة شعرها في المصيبة فكفّارته كفّارة شهر رمضان، وفي نتفه كفّارة يمين، وكذا في خدشها وجهها.
وفي شق الرجل ثوبه في موت زوجته أو ولده كفّارة يمين: وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام (64).

الخلاصة

إنّ البكاء من الشعائر الإسلامية المحبوبة عند الله سبحانه، لذا ورد الحث عليه في الكتاب والسنّة والشريعة.
ومن هنا قد بكى الأنبياء (عليهم السلام) في مناسبات عديدة، كبكاء النبيّ يعقوب على ولده النبي يوسف.
وإن سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله) كانت مستمرة في البكاء على من رآه مشرفاً على الموت وعلى من توفي شهيداً أو غير شهيد وعلى قبر المتوفى.
وأما سيرة المسلمين فهي الأُخرى مستمرة في البكاء على موتى المؤمنين أثناء حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته، وكتب الحديث والسير مملوءة بقصص البكاء والرثاء على موتاهم.
وأتّضح أن فرض صحة روايات التحريم يتعارض مع روايات جوازه هذا من جهة، وتعارضها من جهة ثانية مع منطق القرآن الذي لا يحمّل أحد المذنبين ذنب غيره، ومعارضة عائشة وابن عباس لرواية التحريم التي يرويها عمر بن الخطاب وابنه عبد الله حيث نعتوها بالخطأ والنسيان من جهة ثالثة.
أما مذهب أهل البيت (عليهم السلام) فهو جواز البكاء على موتى المؤمنين بشرط أن لا يكون مقروناً بعدم الرضا بقضاء الله، أو أن يكون الرثاء والنوح مشتملاً على الكذب، أو خمش الوجوه، وشق الجيوب.

الهوامش

1- البقرة: 74.
2- الحديد: 16.
3- الإسراء: 107 ـ 109.
4- مريم: 58.
5- الترغيب والترهيب: 4/228.
6- الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا: 52.
7- الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا: 241 / ح 315.
8- حلية الأولياء: 3/51.
9- الرقة والبكاء: 268، كما أورده الإمام أحمد في كتاب الزهد: 1/85 ـ 86 وتفسير الطبري: 23/96.
10- أورده الثعلبي في عرائس المجالس: 377.
11- الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: 6/228 كتاب الجنائز، وجامع الأُصول: 11/97.
12- جامع الأُصول لابن الأثير: 11/92.
13- النجم: 38.
14- صحيح البخاري: 3/127 وصحيح مسلم رقم 928 في الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، والنسائي: 4/18 و19 في الجنائز.
15- جامع الأُصول لابن الأثير: 11/94. قال الشافعي: وعمر احفظ عن عائشة من أبي مليكة: معرفة السنن للشافعي 3/202.
16- تاريخ الطبري: 2 / 349، حوادث سنة 13.
17- جامع الأُصول لابن الأثير: 11/92.
18- سنن النسائي: 4/19، سنن ابن ماجة: 1/505، باب ما جاء في البكاء، ح 1587، السنن الكبرى للبيهقي: 4/117، باب مَن رخص في البكاء، ح 7159.
19- النجم: 38.
20- جامع الأُصول لابن الأثير: 11/93.
21- النجم: 39.
22- الزلزلة: 7 ـ 8.
23- طه: 15.
24- الموطأ: 1/233 وأبو داود رقم 3111 وراجع الأحاديث بهذا المعنى، جامع الأُصول لابن الأثير: 11/100 ـ 101 والنسائي: 4/13 و14.
25- الجامع الصحيح: 3/328 ح 1055.
26- طبقات ابن سعد: 3/11 ومغازي الواقدي: 1/315 ـ 317 وإمتاع الأسماع: 1/163 ومسند أحمد: 2/ 129، ح 4964 وتاريخ الطبري: 2 / 211 وسيرة ابن هشام: 3/99.
27- الاستيعاب: 1/313، اُسد الغابة: 1/241، الإصابة: 2/238. ترجمة جعفر بن أبي طالب، الكامل في التاريخ: 2/420.
28- صحيح البخاري 2/204 والبداية والنهاية لابن كثير: 4/280، والسنن الكبرى للبيهقي: 4/70 وأنساب الأشراف: 2/43، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 15/73.
29- صحيح مسلم: 4/1808 كتاب الفضائل باب رحمته بالصبيان والعيال، سنن أبي داود: 3/193 كتاب الجنائز باب البكاء على الميت، وسنن ابن ماجة: 1/507 كتاب الجنائز باب 53 ح 1589 والبخاري: شرح وتحقيق قاسم الشماعي الرفاعي: 2/556، ح 1216 كتاب الجنائز، باب 828 قول النبي وإنا بك لمحزونون.
30- صحيح مسلم: 2/671 كتاب الجنائز باب زيارة القبور ح 3234، سنن النسائي: 4/90 كتاب الجنائز ما جاء في قبر المشرك، وسنن ابن ماجة: 1/501 كتاب الجنائز، باب ما جاء في زيارة قبور المشركين ح 1572.
31- صحيح مسلم: 2/636 كتاب الجنائز باب 6.
32- مستدرك الصحيحين: 3/176، وتاريخ ابن عساكر ح 631، وفي مجمع الزوائد: 9/179، ومقتل الخوارزمي: 1/159، وأمالي الشجري: 188، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 145، والصواعق المحرقة: 115، وكنز العمال: 6/223، والخصائص الكبرى: 2/125.
33- كرواية زينب بنت جحش، راجع تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين ح 629 ومجمع الزوائد: 9/188، وكنز العمال: 13/112، وابن كثير في تاريخه: 8/199 وكرواية عائشة: في طبقات ابن سعد رقم 269، وتاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين: ح 697، ومقتل الخوارزمي: 1/159، ومجمع الزوائد: 9/187، وكنز العمال: 13/108، والصواعق المحرقة لابن حجر: 115.
34- يوسف: 84.
35- يوسف: 85.
36- الكشاف للزمخشري: 2/496.
37- ولا يختلف هنا الرثاء عن البكاء من حيث الممارسة التعبيرية عن الحزن الشديد فالرثاء يتضمن البكاء أحياناً والعكس صحيح أيضاً، ومادة بكى ورثى تعني: بُكاءً وبُكى: سال دمعه حزناً فهو باك بكى عليه ورثاه بَكى الميت ورثاه. ورثا: رثوا الميت: بكاه وعدّد محاسنه نظم فيه شعراً. المنجد في اللغة والأعلام: 46 و249 ط 35.
38- أنساب الأشراف للبلاذري: 2/276.
39- العقد الفريد: 3/164.
40- إرشاد الساري، للقسطلاني: 3/415.
41- الاستيعاب في معرفة الأصحاب لمحمد بن عبد البر: 4/149.
42- الاستيعاب لابن عبد البر: 4/214، رقم 2972.
43- الاستيعاب لابن عبد البر: 4/238، رقم 3032.
44- المصدر السابق، الهم والحزن، ابن أبي الدنيا، رقم 144.
45- وفيات الأعيان: 6/15 و16 رقم 295.
46- أمالي الطوسي: 1/191، والبحار: 28/41.
47- بحار الأنوار: 11/230.
48- وسائل الشيعة: 2 / 922، باب 87 باب جواز البكاء ح 7.
49- بحار الأنوار: 46/256.
50- أمالي الصدوق: 392، والبحار: 46/172.
51- ثواب الأعمال للصدوق: 47، وكامل الزيارات: 111.
52- بحار الأنوار: 49/52.
53- المجالس الفاخرة للسيد عبد الحسين شرف الدين: 21 نقلاً عن العيون للصدوق.
54- الوسائل: 2/892، كتاب الطهارة أبواب الدفن، باب جواز النوح والبكاء على الميت.
55- بحار الأنوار: 74/264.
56- المصدر السابق.
57- وسائل الشيعة: 43/892.
58- ذكرى الشيعة: 2/47 للشهيد الأول.
59- النص والاجتهاد لشرف الدين: 247.
60- تحرير الوسيلة للإمام الخميني: 1/164.
61- مستمسك العروة الوثقى للحكيم: 4/266.
62- مستند الشيعة للنراقي: 3/318. وراجع الوسائل: 3/341، أبواب الدفن، ب 70. وجاء في المعجم الوسيط مادة وجد: (وَجَد) فلان وجْداً: حزِن وعليه مَوْجِدَةً غَضِبَ. وبه وجداً أحبه. وفي مجمع البحرين للطريحي: توجدتُ لفلان: حزنت له وَجُدَ بفلانة وجداً: أحبّها حباً شديداً. مادة وجد: 3/155.
63- مستمسك العروة الوثقى: 4/267.
64- المصدر السابق: 4/267.

الروابط
مواقع الإنترنيت: موقع 14 معصوم عليهم السلام
مفاتيح البحث: البكاء،
زيارة القبور،
البكاء على الميت

الفهرسة