البحث الرقم: 76 التاريخ: 27 شعبان المعظم 1430 هـ المشاهدات: 4653
قال تعالى في محكم تنزيله المجيد: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) [البقرة: 183]. حقيقةٌ لابد من التعرف عليها قبل الحديث حول آيات الأحكام، وهي: أن الله رحيم بعباده، أراد لهم الخير والسعادة، وهو عليم حكيم، يعرف ما يسعدهم وما يشقيهم، لذلك شرّع لهم شرائع كلها تنطوي على صلاح شؤونهم، في حياتهم وفي آخرتهم. ومن هذه الشرائع الشريفة الصوم، وهو أحد العبادات المهمة التي يرجى بها أن يكتسب العبد قيماً سامية ومُثلاً عُليا وآداباً شريفة. وهنا حقيقةٌ أخرى يحسن بنا التعرف عليها، وهي: أن العبادات تنطوي على معنويات أخلاقية تربوية وروحية قلبية، فعلى سبيل المثال الصوم، إذ هو امتناع عن الأكل والشرب وغيرهما من المفطرات، يربّي في المؤمن الصبر على إساءة الأخوان، وعلى الشدائد والمصائب، وعلى تحمّل المشقات كسفر الحج والجهاد في سبيل الله. فمن خلال الصوم يستعدّ العبد للطاعات بأنواعها، حيث يتزود بالروحية العالية والقوة البدنية، اذ الصوم صحة للروح والقلب بتركها للذنوب والمعاصي، وصحة للبدن بتنظيم طعامه وشرابه. والملفت حقاً في آية الصوم أنها خُتمت بـ (لعلكم تتقون)، وكأن التقوى هو محصل الصوم، هكذا ينبغي، ولا تتحقق التقوى إلا بالآداب المعنوية والباطنية للصيام بعد الآداب الظاهرية له، حيث يمتنع الصائمُ عن الكذب والحسد والغيبة وكل ذنب وإثم كما يمتنع عن الطعام والشراب، ويطهر قلبه من الوسواس والأحقاد كما يطهر جسمه عن الأوساخ والمفطرات، ويتنزه عن المعاصي والموبقات كما يتنزه عن النجاسات والقذارات، ويترفع عن البطنة والشره كما يترفع عن الطمع والتعلق بالدنيا. وهكذا يكتسب الصائم حالات التقوى ويرتقي بروحه، منشغلاً معظم وقته بذكر الله، مغتنماً أيام الله الشريفة في أحلى ساعات العبادة والطاعة، معوّداً نفسه على الفضائل، متجنباً كلّ ما يبعده عن الله (تبارك وتعالى)، مقيداً بالآداب المعنوية التي أجملها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) بقوله: إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضّوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تجادلوا ولا تبادروا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تزاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشرور، واجتنبوا القول من الزور والكذب والفراء والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله، وعليكم بالسكينة والوقار والخشوع والخضوع، قد طهرتم القلوب من العيوب، وتقدست سرائركم من الخبّ، ونظفتم الجسم من القاذورات. إذن.. فلا يظن أحد أن الصوم مجرد امتناع عن الأكل والشرب، إنما هو صوم الجوارح والجوانح عن كل حرام، وهو سعيٌ في اكتساب الفضائل، ومنها الرحمة بالجياع والعطف على المحرومين وإزاحة الآلام عن المستضعفين، ويجدر أن يكون من ثمار الصوم التواضع للناس والإحسان إليهم والشعور بالوحدة مع المسلمين والتآخي والتقارب بين المؤمنين، وما أعظم كلمة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): فطرُك لأخيك وإدخال السرور عليه أعظم من أجر صيامك.