وهو ضد الكذب، وهو اشرف الصفات المرضية، ورئيس الفضائل النفسية، وما ورد في مدحه وعظم فائدته من الآيات والأخبار مما لا يمكن احصاؤه، قال الله تعالى: «إتقّوا اللهَ وكُونوا مع الصادقين» [سورة التوبة / 119]، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «تقبلوا اليَّ بستٍ اتقبل لكم بالجنّة: إذا حدّث احدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا ائتمن فلا يُخن، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم» [جامع السعادات: 2 / 104].
أنواع الصدق
وللصدقِ انواع ستة: الاول: الصدق في القول، وهو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه، وكمال هذا النوع بترك المعاريض من دون ضرورة، حذراً من تفهيم الخلاف وكسب القلب صورة كاذبة، ورعاية معناه في الفاظه التي يناجي بها الله تعالى، فمن قال: «وجهتُ وجهيَ للذي فطر السماوات والأرض» وكان في قلبه سواه، أو قال: «إيّاكَ نَعبُدُ» وهو يعبد الدنيا بتقيد قلبه بها، إذْ كل من تقيّد قلبه بشيء فهو عبد له ـ كما دلّت عليه الأخبار ـ، فهو كاذب. الثاني: الصدق في النيّة والإرادة، ويرجع ذلك إلى الاخلاص، وهو تمحيص النية وتخليصها لله تعالى، بألاّ يكون له باعث في طاعاته، بل في جميع حركاته وسكناته إلاّ الله تعالى، فالشوب يبطله ويكذّب صاحبه. الثالث: الصدق في العزم، أي الجزم على الخير، فإن الإنسان قد يقدّم العزم على العمل، ويقول في نفسه: إن رزقني الله كذا تصدقتُ منه كذا، فإن كان في باطنه جازماً على هذا العزم مصمماً على العمل بمقتضاه، فعزمه صادق، وإن كان في عزمه نوعٌ من الميل والضعف والتردّد، كان عزمه كاذباً، إذ التردد في العزيمة يضاد الصدق فيها. الرابع: الصدق في الوفاء بالعزم، فإن النفس قد تسحق بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد، فإذا حان حين العمل بمقتضاه، هاجت الشهوات وتعارضت مع باعث الدين، وربّما غلبته بحيث انحلّت العزيمة ولم يتفق الوفاء بمتعلق الوعد، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله تعالى: «رِجَالٌ صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليهِ» [سورة الاحزاب / 23). الخامس: الصدق في الأعمال، وهو تطابق الباطن والظاهر، واستواء السريرة والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، بألاّ تدل اعماله الظاهرة على أمرٍ في باطنه لا يتصف هوية، لا بأن يترك الأعمال بل بأن يستجر الباطن في تصديق الظاهر، وهذا اعلى مراتب الأخلاص. السادس: الصدق في مقامات الدين، من الصبروالشكر والتوكل والحبّ والرجاء والخوف والزهد والتعظيم والرضا والتسليم، وغير ذلك، وهو اعلى درجات الصدق وأعزها، فمن اتصف بحقائق هذه المقامات ولوازمها وآثارها وغاياتها فهو الصدّيق الحقّ، ومن كان له فيها مجرد ما يطلق عليه الاسم دون اتصافه بحقائقها وآثارها وغاياتها فهو كاذبٌ فيها. أما ترى من خاف سلطاناً أو غيره كيف يصفرُ لونه، ويتعذر عليه أكله ونومه، ويتنقص عليه عيشه، ويتفرق عليه فكره، وترتعد فرائصه، وتتزلزل اركانه وجوانبه؟ وقد ينزح عن وطنه ويفترق عن أهله وولده، فيستبدل بالأنس الوحشة، وبالراحة التعب والمشقة، فيتعرض لأخطار هذا الخوف هو الخوفالصادق المحقق، ثمَّ من يدّعي الخوف من الله أو من النار، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند ارادة المعصية وصدورها عنه، فخوفه خوفٌ كاذب. قال النبي (صلى الله عليه وآله): «لم أرَ مثل النار نام هاربها، ولم أرَ مثل الجنة نام طالبها» [جامع السعادات: 2 / 107].
علامات الصدق
ثم لا غاية لهذه المقدمات حتى يمكن لأحد ان ينال غايتها، بل لكل عبد منها حظّ بحسب حاله ومرتبته، فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه غير متناهية، فانظر إلى اعاظم الملائكة والنبيين، كيف تصير حالهم من شدة الخشية والتعظيم، وهذا إنّما هو لقوة معرفتهم بعظمة الله وجلاله، وفوق ما لم يدركوه من عظمته وقدرته مراتب غير متناهية، فاختلاف الناس في مراتب الخوف والتعظيم والحبّ والأنُس إنّما هي بحسب اختلافهم في معرفة الله، وليس يمكن ان يوجد من بلغ غايتها، فاختلاف الناس إنّما هو في القدر الذي يمكن ان يبلغ إليه، والبلوغ إليه في الجميع ايضاً نادر، فالصادق في جميع المقامات عزيز جداً. ومن علامات هذا الصدق: كتمان المصائب والطاعات جميعاً، وكراهة اطلاع الخلق عليها، وقد روي أن الله تعالى اوحى إلى موسى (عليه السّلام): «إني إذا أحببتُ عبداً ابتليته ببلايا لا تقوى لها الجبال، لأنظر كيف صدقه، فإن وجدتُه صابراً اتخذتُه وليّاً وحبيباً، وان وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولم ابالِ» [جامع السعادات: 2 / 108].