البحث الرقم: 916 التاريخ: 1 صفر المظفّر 1430 هـ المشاهدات: 13032
قال ابن أبي الحديد في شجاعته (عليه السلام): أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحد إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية. ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرببقتل أحدهما، قال له عمرو بن العاص: لقد أنصفك، فقال معاوية ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق؟! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي. وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، وأما قتلاه فافتخار أهلهم أظهر وأكثر بأنه (عليه السلام) هو الذي قتلهم، حيث قالت أخت عمرو بن عبد ودٍّ وهي ترثيه: لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبداً ما دمت في الأبد لكن قاتـله من لا نظير لـه * وكان يدعى ابوه بيضة البلد فكانت ملوك الروم والإفرنج تضع صوره (عليه السلام) حاملاً لسيفه في بيوت عبادتها، وكذلك ملوك الترك والديلم، فكانوا يضعون صوره (عليه السلام) على سيوفهم، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر في الحرب. فلا يمكن أن توصف الشجاعة بأكثر من أنه ما نكل عن مبارز، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا فرَّ قطّ، ولا ضرب ضربة فاحتاج إلى ثانية، وكان يقول (عليه السلام): ما بارزت أحدا إلا وكنت أنا ونفسه عليه. وقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تعد فرساً للفر والكر؟ فقال (عليه السلام): أما أنا فلا أفر، ومن فر مني فلا أطلبه. وكفى في ذلك مبيته على الفراش ليلة الغار معرّضاً نفسه للأخطار، فلم يخف ولم يحزن، فوقى النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه، وفداه بمهجته. وخروجه بالفواطم جهاراً من مكة، ولحوق الفوارس الثمانية به لما علموا بخروجه حنقين عليه عازمين على قتله إن لم يرجع راغماً، ولا بد أن يكونوا من شجعان مكة وأبطالها، لأن من ينتدب لمثل ذلك لا يكون من جبناء الناس، وهم فرسان وهو راجل، وهم ثمانية وهو واحد، وليس معه إلا أيمن بن أم أيمن وأبو واقد الليثي، وهما لا يغنيان عنه شيئاً. وقد أخذ الهلع أبا واقد حين رأى الفرسان، فسكن جأشه، ولم يُنقل أنهما ـ أيمن وأبا واقد ـ عاوناه بشيء، بل كان حظهما حظ الواقف المتفرج. ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) بحاجة إلى مساعد، على أن الثمانية فوارس ولو لم يكونوا في الدرجة العالية من الشجاعة، ألا إنه لا يفلت منهم رجل واحد في العشرين من عمره أو تجاوزها بقليل مهما كان شجاعاً، فيمكنهم أن يحيطوا به من كل جانب فيقتلوه ولو رضخاً بالحجارة، فإذا كر على الذين أمامه حمل عليه الذين وراءه، أو كرَّ على الذين وراءه حمل عليه الذين أمامه، فلا يمكنه الخلاص ويسهل عليهم قتله أو أسره. وما كان منه في وقعة بدر التي بها تمهدت قواعد الدين وأذل الله جبابرة المشركين وقتلت فيها رؤساؤهم ووقعت الهيبة من المسلمين في قلوب العرب واليهود وغيرهم، فقد كان في هذه الوقعة قطب رحاها وليث وغاها، بارز الوليد بن عتبة أول نشوب الحرب، فلم يلبثه حتى قتله. وشارك عمه حمزة في قتل عتبة، واشترك هو وحمزة وعبيدة في قتل شيبة فأجهزا عليه. فكان قَتلُ هؤلاء الثلاثة أولُ وهنٍ لَحقَ المشركين ودخل عليهم، وظهرت بذلك أمارات نصر المسلمين. وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، وبرز إليه من بعده طعيمة بن عدي فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، ولم يزل يقتل واحداً منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين قتيلاً، وذلك بمعونة الله تعالى له وتأييده وتوفيقه ونصره، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه. قال المفيد (رحمه الله): وفي الأحزاب (يوم الخندق) أنزل الله تعالى: (إِذ جَاؤُوكُم مِن فَوقِكُم وَمِن أَسفَل مِنكُم وإِذ زَاغَت الأَبصَارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظنُونَا هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زلزَالاً شَدِيداً وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَا وَعَدنَا الله وَرَسُولهُ إِلا غرُوراً). إلى قوله تعالى: (وَكَفَى اللهُ المُؤمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) [الأحزاب: 9 ـ 25]. قال: فتوجه العتب إليهم والتوبيخ والتقريع، ولم ينجُ من ذلك أحد بالاتفاق، إلا أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ كان الفتح له وعلى يديه، وكان قتله عمرو بن عبد ودٍّ ونوفل بن عبد الله سبب هزيمة المشركين. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد قتله هؤلاء النفر: الآن نغزوهم ولا يغزوننا. وقد روى يوسف بن كليب عن سفيان بن زيد عن قرة وغيره عن عبد الله بن مسعود، أنه كان يقرأ: (وكفى الله المؤمنين القتال بعلي). ومبارزته لـ (مرحب) يوم خيبروقتله، وفتح الحصن، ودحو الباب. إلى غير ذلك من غزواته ووقائعه في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده.