الخطبة ١٩٢: ومن الناس من يسمّي هذه الخطبة القاصعة
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ١٩٢: ومن الناس من يسمّي هذه الخطبة القاصعة

 البحث  الرقم: 193  المشاهدات: 18017
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام تسمّي القاصعة (1).
وهي تتضمن ذم إبليس لعنة اللّه، عَلى استكباره، وتركه السجود لآدم عليه السلام، وأنه أول من أظهر العصبية الباطل
والفساد، فهي هنا عصبية الجهل.">(2) وتبع الحمية، وتحذير الناس من سلوك طريقته.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً (3) وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا (4) لِجَلاَلِهِ.

رأس العصيان


وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لِيَمِيزَ المُتَوَاضِعيِنَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بَخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ.
فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ، وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ. أَلاَ تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ، وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ، فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَأَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً؟!

ابتلاء الله لخلقه


وَلَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُور يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ، وَيَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ (5)، وَطِيب يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ (6)، لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً، وَلَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى المَلائِكَةِ. وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالْإِخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلْإِسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُم.

طلب العبرة


فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ (7) عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ، لاَ يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً. إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ (8) فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمينَ.

التحذير من الشيطان


فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ (9)، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ (10) بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ (11). فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ (12) لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ، وَأَغْرَقَ (13) لَكُم بِالنَّزْعِ (14) الشَّدِيدِ، وَرَمَاكُمْ مِنْ مَكَان قَرِيب، فَقَالَ: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ، وَرَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ، صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ، وَإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ، وَفُرْسَانُ الْكِبْرِ وَالْجَاهِلِيَّةِ. حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ (15) مِنْكُمْ، وَاسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ (16) مِنْهُ فِيكُمْ، فَنَجَمَتِ (17) الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِىِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ، اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ، وَدَلَفَ الحرب: تقدمت.">(18) بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ، فَأَقْحَمُوكُمْ (19) وَلَجَاتِ (20) الذُّلِّ، وَأَحَلُّوكم وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وَأَوْطَأُوكُمْ (21) إِثْخَانَ يتقاتلوا.">(22) الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِي عُيُونِكُم، وَحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِمَناخِرِكُمْ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ، وَسوقاً بِخَزَائمِ (23) الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ المُعَدَّةِ لَكُمْ، فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ جَرْحاً، وَأَوْرَى (24) فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً، مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ (25)، وَعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ (26). فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ (27)، وَلَهُ جَدَّكُمْ (28)، فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ، وَوَقَعَ في حَسَبِكُمْ، وَدَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ، وَأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ، يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَيَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ (29)، لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ، وَلاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ، فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ القتال والبحر والرمل.">(30)، وَحَلْقَةِ ضِيقٍ، وَعَرْصَةِ مَوْتٍ، وَجَوْلَةِ بَلاَءٍ.
فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، وإنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَواتِهِ (31)، وَنَزَغَاتِهِ (32) وَنَفَثَاتِهِ (33). وَاعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُؤُوسِكُمْ، وَإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحَتْ أَقْدَامِكُمْ، وَخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ. وَاتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً (34) بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّة جُنُوداً وأَعْوَاناً، وَرَجِلاً وَفُرْسَاناً، وَلاَ تَكُونُوا كالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

التحذير من الكبر


أَلاَ وَقدْ أَمْعَنْتُمْ (35) فِي الْبَغْيِ، وَأَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ، مُصَارَحَةً (36) لِلَّهِ بِالمُنَاصَبَةِ، وَمُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالُمحَارَبَةِ. فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ (37) الشَّنَآنِ (38)، وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اَلَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، حَتَّى أَعْنَقُوا (39) فِي حَنَادِسِ (40) جَهَالَتِهِ، وَمهَاوِي الصيد.">(41) ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً (42) عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُساً (43) فِي قِيَادِهِ، أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ.

التحذير من طاعة الكبراء


ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ! الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ (44) عَلَى رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لِآلائِهِ (45)، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ إعْتِزَاءِ الجاهلية: تفاخر هم بأنسابهم، كل منهم يعتزي أي ينتسب إلى أبيه وما فوقه من أجداده.">(46) الْجَاهِلِيَّةِ. فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَليْكُمْ أَضْدَاداً، وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً، وَلاَ تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ (47) الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ (48)، وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ، وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ، وَهُمْ أَسَاسُ (49) الْفُسُوقِ، وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ (50)، اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلاَلٍ، وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ (51)، وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ.

العبرة بالماضين


فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الْأُمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ (52)، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ الموت.">(53)، وَمَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ (54)، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ (55)، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ، فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ وَأَولِيائِهِ، وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ. وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللهُ بالْمَخْمَصَةِ (56)، وَابْتَلاَهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ (57)، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ، وَمَخَضَهُمْ (58) بِالْمَكَارِهِ، فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالْإِخْتِبَارِ فِي مَوَاضِعِ الْغِنَى وَالْإِقْتِدَارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ تَعَالَي: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾، فَإِنَّ اللهَ سْبْحَانَهْ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ.

تواضع الانبياء


وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ ـ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ ـ إِنْ أَسْلَمَ ـ بَقَاءَ مُلْكِهِ، وَدَوامَ عِزِّهِ، فَقَالَ: أَلاَ تَعْجبُونَ مِنْ هذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ، وَبَقَاءَ الْمُلْكِ، وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ، فَهَلاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ؟ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ، وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ!
وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الْذِّهْبَانِ (59)، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ (60)، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّماءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلاَءُ (61)، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلاَ اسْتَحَقَّ الْمُؤمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَلاَ لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيَما تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالاَتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَالْعُيُونَ غِنىً، وَخَصَاصَة (62) تَمْلَاُ الْأَبْصَارَ وَالْأَسْمَاعَ أَذىً.
وَلَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لاَ تُرَامُ، وَعِزَّةٍ لاَ تُضَامُ، وَمُلْكٍ تُمَدُّ نُحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الْإِعَتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْتَكْبَارِ، وَلَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهْمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، وَالْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً. وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْإِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالْتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالْإِسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ، وَالْإِسْتِسْلاَمُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لاَ تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْبلْوَى وَالْإِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَالْجَ زَاءُ أَجْزَلَ.

الكعبة المقدسة


ألاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ، اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ، إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، بَأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ، فَعَجَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ ﴿الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً﴾. ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط عنها من البلدان.">(63) الدُّنْيَا مَدَراً (64)، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ، وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ (65)، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ (66)، وَقُرىً مُنْقَطِعَةٍ، لا يَزْكُوبِهَا خُفٌّ وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ (67). ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ (68) نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ (69) أَسْفَارِهمْ، وَغَايَةً لِمُلْقَى (70) رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ (71) ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ (72) قِفَارٍ سَحِيقَةٍ (73)، وَمَهَاوِي (74) فِجَاجٍ الواسعة بين الجبال.">(75) عَمِيقَةٍ، وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ (76) ذُلُلاً يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ، وَيَرْمُلُونَ ضرب من السير فوق المشي ودون الجرْي.">(77) عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً (78) غُبْراً (79) لَهُ.
قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ (80) وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ (81) مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ، ابْتِلاَءً عَظِيماً، وَامْتِحاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً، وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ، وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ (82)، جَمَّ الْأَشْجَارِ (83)، دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى (84)، مُتَّصِلَ الْقُرَى، بَيْنَ بُرَّةٍ (85) سَمْرَاءَ، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءٍَ، وَأَرْيَافٍ (86) مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاصٍ (87) مُغْدِقَةٍ (88)، وَريَاضٍ نَاضِرَةٍ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. وَلَوْ كَانَ الْإِسَاسُ (89) الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ، لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ (90) الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ. وَلكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً واسعة.">(91) إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ.

عود إلى التحذير


فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ وتُقاتلها.">(92) قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي (93) أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي المَقْتَل.">(94) أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ، وَلاَ مُقِلاًّ في طِمْرِهِ (95). وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ (96)، وَتَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ (97) بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ (98) مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ.

فضائل الفرائض


انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ (99) نَوَاجِمِ (100) الْفَخْرِ، وَقَدْعِ (101) طَوَالِعِ الْكِبْرِ! وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّة تَلِيطُ (102) بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْر مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ. أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ.

عصبية المال


وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ المُوَسَّع له في النعم يتمتع بما شاء من اللّذات.">(103) الْأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ (104)، فَقَالُوا: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) فَإنْ كَانَ لاَبُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُهُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الْأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ (105) الْقَبَائِلِ، بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ (106)، وَ الْأَحْلاَمِ (107) الْعَظِيمَةِ، وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَ الْآثَارِ الَمحْمُودَةِ.
فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ الظلم.">(108)، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ (109)، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلاَتِ (110) بِسُوءِ الْأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ.
فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ (111) حَالَيْهِمْ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ، وَمُدَّتِ (112) الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الْإِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ، وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا.
وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ (113)، وَأَوْهَنَ (114) مُنَّتَهُمْ (115) مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الْأَيْدِي.
وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ (116) وَالْبَلاَءِ. أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً.
اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ (117)، فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ، لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ، وَلاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ، حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ، وَ الْإِحْتِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً، فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلاَءُ (118) مُجْتَمِعَةً، وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً، وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، وَالسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً (119) فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ! فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ (120)، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ.

الاعتبار بالامم


فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ
(121) الْأَحْوَالِ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ (122) الْأَمْثَالِ! تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ، وَتَفَرُّقِهِمْ، لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ، يَحْتَازُونَهُمْ (123) عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ، وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا، إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ، وَمَهَافِي (124) الرِّيحِ، وَنَكَدِ (125) الْمَعَاشِ، فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ (126) وَوَبَرٍ (127)، أَذَلَّ الْأُمَمِ داراً، وَأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً، لاَ يَأْوُونَ (128) إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا، وَلاَ إِلَى ظِلِّ أُلْفَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا، فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ، وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ، وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ، فِي بَلاَءِ أَزْلٍ (129)، وأَطْبَاقِ جَهْلٍ! مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ (130)، وَأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ، وَأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ، وَغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ (131).

النعمة برسول الله


فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ، كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا، وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا، وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جمعتهم بعد تفرقهم.">(132) فِي عَوَائِدِ (133) بَرَكَتِهَا، فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ، وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ (134)، قَدْ تَرَبَّعَتِ أقامت.">(135) الْأُمُورُ بِهِمْ، فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ، وَتَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ، فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ، يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ، وَيُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ (136)، وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ (137)!

لوم العصاة


أَلاَ وَإنَّكُمْ قَد نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطاعَةِ، وَثَلَمْتُمْ (138) حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ، بَأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هذِهِ الْأُمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا، وَيَأْوُونَ إَلَى كَنَفِهَا، بِنِعْمَةِ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً، لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ، وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ (139) أحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلاَمِ إِلاَّ بِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ!
كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ، انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ. وإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، ثُمَّ لاَ جَبْرَائِيلُ وَلاَ مِيكَائِيلُ وَلاَ مُهَاجِرُونَ وَلاَ أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ.
وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ تَعَالَى وَقَوَارِعِهِ، وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ، فَلاَ تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلاً بَأَخْذِهِ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ، وَيأْساً مِنْ بَأْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ المُنكَرِ، فَلَعَنَ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي، وَالْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ الْتَّنَاهِيْ!
أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلاَمِ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ، وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ. أَلاَ وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ (140) وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
(141) فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ (142) فَقَدْ دَوَّخْتُ (143)، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ الخوارج
وُجد مقتولاً في ردهة.">(144) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ (145) سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ (146) وَرَجَّةَ صَدْرِهِ (147)، وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَلَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ (148) إِلاَّ مَا يَتَشَذَّرُ (149) فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ تَشَذُّراً!

فضل الوحي


أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرَ بَكَلاَكِلِ (150) الْعَرَبِ، وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ (151) قُرُونِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ عَرْفُهُ ـ بالفتح ـ: رائحته الذكيّة.">(152). وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خَطْلَةً (153) فِي فِعْلٍ. وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ (154) أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَماً (155) مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ.
وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ مكة.">(156) فَأَرَاهُ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه ِـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِـ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ». وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِـ لَمَّا أَتاهُ المَلَاُ مِنْ قُريْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحُمَّدُ، إِنَّكُ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلاَ أحَدٌ مِن بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسَأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ، عَلِمْنَا أَنَّكَ نِبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ لهم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ: «وَمَا تَسْأَلُونَ؟». قَالُوا: تَدْعُولَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ: «إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لَكُمْ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيئُونَ (157) إِلَى خَيْرٍ، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ (158)، وَمَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ».
ثُمَّ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ: «يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤمِنِينَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الْآخِرِ، وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ».
فَوَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَاَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ (159) كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ مُرَفْرِفَةً، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ، وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً ـ: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا.
فَأَمَرَهَا بِذلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ـ، فَقَالُوا ـ كُفْراً وَعُتُوّاً ـ: فَمُرْ هذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ.
فَأَمَرَهُ فَرَجَعَ، فَقُلْتُ أَنَا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، إِنِّي أَوَّلُ مْؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بَأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَصْدِيقاً لِنُبُوَّتِكَ، وإِجْلاَلاً لِكَلِمَتِكَ.
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ مِثْلُ هذَا! (يَعْنُونَنِي). وَإِنِّي لَمِنْ قَوْم لاَ تَأخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِم، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ، وَكَلاَمُهُمْ كَلاَمُ الْأَبْرَارِ، عُمَّارُ (160) اللَّيْلِ، وَمَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَيَعْلُونَ، وَلاَيَغُلُّونَ (161) وَلاَ يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ، وَ أَجْسَادُهُمْ في الْعَمَلِ!

الهوامش

1- القاصعة: من قصع فلان فلاناً: أي حقّره، لانه عليه السلام حقر فيها حال المتكبرين.
2- العصبية: الاعتزاز بالعصبة وهي قوم الرجل الذين يدافعون عنه، واستعمال قوتهم في الباطل والفساد، فهي هنا عصبية الجهل.
3- الحِمَى: ما حَمَيْتَه عن وصول الغير اليه والتصرف فيه.
4- اصطفاهما: اختارهما.
5- الرُوَاء ـ بضم ففتح ـ: حُسْن المنظر.
6- العَرْف ـ بالفتح ـ: الرائحة.
7- أحبَطَ عَمَلَهُ: أضاع عمله.
8- الهَوَادة ـ بالفتح ـ: اللين والرخصة.
9- يُعْديكم بدائه: أي يصيبكم بشيء من دائه بالمخالطة كما يعدي الأجرب السليم، والضمير لإبليس.
10- يستفزّكم: يستنهضكم لما يريد.
11- أجلَبَ عليكم بخيله: أي رُكْبَانه، ورَجِلِه: أي مُشاته، والمراد أعوان السوء.
12- فَوّقَ السهمَ: جعل له فُوقاً، والفُوق موضع الوتر من السهم.
13- أغرقَ النازعُ: إذا استوفى مدّ قوسه.
14- النزع في القوس: مدّها.
15- الجامحة: من «جَمَحَ الفرسُ»، وأراد بها هنا الطائفة التي لم تطعه.
16- الطَماعيَة: الطمع.
17- «نجمَت من السرّ الخفيّ»: أي بعد أن كانت وسوسة في الصدور، وهمساً في القول، ظهرت إلى المجاهرة بالنداء ورفع الأيدي بالسلاح.
18- دَلَفَت الكتبيبة في الحرب: تقدمت.
19- أقْحَمُوكم: أدخلوكم بغتة.
20- الوَلَجَات ـ جمع وَلجة بالتحريك ـ: كهف يستتر فيه المارة من مطر ونحوه.
21- أوْطَأه: أركبه.
22- إثخان الجِرَاحة: المبالغة فيها، أي أركبوكم الجراحات البالغة، كناية عن إشعال الفتنة بينهم حتى يتقاتلوا.
23- الخزائم ـ جمع خِزامة ككتابة ـ: وهي حَلْقة توضوع في وترة أنف البعير فيشد فيها الزمام.
24- أوْرَى: أي أشدّ قدحاً للنار.
25- مُنَاصِبِين: مجاهرين لهم بالعداوة.
26- مُتَألِّبين: مجتمعين.
27- حَدّكم: غضبكم وحدّتكم.
28- جَدّكم ـ بفتح الجيم ـ: أي قطعكم، يريد قطع الوصلة بينكم وبينه.
29- البَنَان: الأصابع.
30- حَوْمَة الشيء: معظمه وأشدّ موضع فيه، وأكثر ما يستعمل في حومة القتال والبحر والرمل.
31- النَخْوة: التكبر والتعاظم.
32- النَزْعة: المرة من النَزْع بمعنى الإفساد.
33- النَفْثة: النفخة.
34- المَسْلَحة: الثغر يدافع العدوعنده والقوم ذووالسلاح.
35- أمْعَنْتم: بالغتم.
36- المصارحة: التظاهر.
37- المَلاقِح ـ جمع مُلْقَح كمُكْرَم ـ: الفحول التي تلقح الإناث وتستولد الأولاد.
38- الشَنَآن: البغض.
39- أعْنَقُوا: من أعْنَقَت الثريا: غابت، أي غابوا واختفوا.
40- الحَنَادِس ـ جمع حِنْدِس بكسر الحاء ـ: الظلام الشديد.
41- المَهَاوِي ـ جع مَهْواة ـ: الهوة التي يتردى فيها الصيد.
42- الذُلُل ـ جمع ذَلُول ـ من الذُلّ ـ بالضم ـ ضد الصعوبة، والسِياق هنا: السَوْق.
43- سُلُس ـ بضمتين جمع سَلِس، ككتف: وهو الشيء السهل.
44- الهجِينة: الفعلة القبيحة المستهجنة.
45- 45 الآلاء: النعم.
46- اعتزاء الجاهلية: تفاخر هم بأنسابهم، كل منهم يعتزي أي ينتسب إلى أبيه وما فوقه من أجداده.
47- الأدْعِياء ـ جمع دَعِيّ ـ: وهو من ينتسب إلى غير أبيه، والمراد منهم الأخِسّاء المنتسبون إلى الأشرف، والأشرار المنتسبون إلى الأخيار.
48- «شربتم بصفْوِكم كَدَرَهم»: أي خلطوا صافيَ إخلاصكم بكَدَرِ نفاقهم، وبسلامة أخلاقكم مرضَ أخلاقهم.
49- آساس ـ بالمد ـ: جمع أساس ـ دِعامة الشيء.
50- الأحْلاس ـ جمع حِلْس بالكسر ـ: كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازماً له، فقيل لكل ملازم لشيء: هو حِلْسُهُ. والعقوق: العصيان.
51- النَبْلَ ـ بالفتح ـ: السهام.
52- المَثُلات ـ بفتح فضم ـ: العقوبات.
53- مَثَاوِي ـ جمع مَثْوَى ـ: بمعنى المنزل، ومنازل الخُدود: مواضعها من الأرض بعد الموت.
54- مصارع الجُنُوب: مطارحها على التراب.
55- لواقِح الكبر: محدثاته في النفوس.
56- المَخْمَصَة: الجوع.
57- المَجْهَدة: المشقة
58- مَخض اللبن: تحريكه ليخرج زُبْدُه. والمكاره تستخلص إيمان الصادقين وتظهر مزاياهم العقلية والنفسيه.
59- الذِهْبَانُ ـ بكسر الذال ـ: جمع ذهب.
60- العِقْيَان: نوع من الذهب ينمو في معدنه.
61- سَقْط البَلاء أي: الامتحان الذي به يتميز الخبيث من الطيب.
62- خَصَاصَة: فقر وحاجة.
63- النَتَائِق ـ جمع نَتِيقة ـ: البقاع المرتفعة، ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط عنها من البلدان.
64- المَدَر: قطع الطين اليابس، وأقل الأرض مَدَراً لا ينبت إلا قليلاً.
65- دَمِثَة: لَيّنَة يصعب السير فيها والاستنبات منها.
66- وَشِلَة ـ كفرحة ـ: قليلة الماء.
67- لا يزْكو: لا ينمو. والخُفّ عبارة عن الجمال. والحافر عبارة عن الخيل وما شاكلها. والظِلْف عبارة عن البقر والغنم، تعبير عن الحيوان بما رُكّبت عليه قوائمه.
68- ثَنى عِطْفَه إليه: مال وتوجه إليه.
69- مُنْتَجَع الأسفار: محل الفائدة منها.
70- مُلْقى: مصدر ميمي من ألقى أي نهاية حصر حالهم عن ظهور إبلهم.
71- تَهْوِي: تسرع سيراً اليه. والمراد بالثمار هنا الأرواح.
72- المَفَاوِز ـ جمع مَفازة ـ: الفلاة لا ماء بها.
73- السَّحيقة: البعيدة.
74- المَهَاوِي ـ كالهُوّات ـ: مُنْخفضات الأراضي.
75- الفِجاج: الطرق الواسعة بين الجبال.
76- مَنَاكِبهم: رؤوس أكتافهم.
77- الرَمَل: ضرب من السير فوق المشي ودون الجرْي.
78- الأشْعَث: المنتشر الشعر مع تلبّد فيه.
79- 79. الأغْبر: من عَلا بَدَنَهُ الغُبارُ.
80- السَرَابِيل: الثياب.
81- إعْفاء الشعور: تركها بلا حلق ولا قص.
82- القَرار: المطمئن من الأرض.
83- جمّ الأشجار: كثيرها.
84- البُنى ـ جمع بُنْيَة بضم الباء وكسرها ـ: ما ابتنيته، وملتفّ البُنى: كثير العمران.
85- البُرّة: الحِنْطة، والسمراء أجْوَدُها.
86- الأرياف: الأراضي الخِصْبة.
87- العِراص ـ جع عَرْصة ـ: الساحة ليس بها بناء.
88- المُغْدِقة: من «أغْدَقَ المطرُ»: كثر مَاؤه.
89- الإساس ـ بكسر الهمزة ـ: جمع أُسّ مثلثها، أو أساس.
90- مُعْتَلَج ـ مصدر ميمي من الاعتلاج ـ الالتطام، اعتلجت الأمواج: التطمت، أي: زال تلاطم الريب والشك من صدور الناس.
91- فُتُحاً ـ بضمتين ـ: أي مفتوحة واسعة.
92- تُساوِرُ القلوبَ: تُوَاثِبُها وتُقاتلها.
93- أكْدَى الحافرُ: إذا عجزَ عن التأثير في الأرض.
94- أشوَتِ الضربة: أخطأت المَقْتَل.
95- الطِمْر ـ بالكسر ـ: الثوب الخَلَقُ أو الكساء البالي من غيرالصوف.
96- الأطراف: الأيدي والأرجل.
97- عِتاق الوجوه: كرامها، وهو جمع عَتِيق من «عَتُق»: إذا رَقّت بَشَرته.
98- المُتون: الظهور.
99- القَمْع: القهر.
100- النَوَاجم: من «نَجَمَ»: إذا طَلَعَ وظهر.
101- القَدْع: الكفّ والمنع.
102- تَلِيطُ وتلُوط: أي تلصق.
103- المَتْرَف ـ على صيغة اسم المفعول ـ: المُوَسَّع له في النعم يتمتع بما شاء من اللّذات.
104- «آثار مواقع النعم»: ما ينشأ عن النِّعَم من التعالي والتكبر.
105- اليَعَاسِيب ـ جمع يَعْسوب ـ: وهو أمير النحل، ويستعمل مجازاً في رئيس القوم كما هنا.
106- الأخلاق الرغيبة: المَرْضِيّة المرغوبة.
107- الأحلام: العقول.
108- الجِوار ـ بالكسر ـ: المجاورة بمعنى الاحتماء بالغير من الظلم.
109- الذِمام: العهد.
110- المَثُلات: العقوبات.
111- تفاوُت: اختلاف وتباين.
112- مُدّت: انبسطت.
113- الفِقْرَة ـ بالكسر والفتح ـ كالفقارة بالفتح: ما انتظم من عَظْم الصُلْب من الكاهل إلى عَجْب الذَنَب.
114- أوْهَنَ: أي أضعف.
115- المُنّة ـ بضم الميم ـ: القوة.
116- التمحيص: الإبتلاء والإختبار.
117- المُرَار ـ بضم ففتح ـ: شجر شديد المَرَارة تتقلص منه شفاه الإبل إذا أكلته، والمراد هنا عُصارته.
118- الأملاء ـ جمع مَلاـ: بمعنى الجماعة والقوم. الأيدي المترادفة: المتعاونة.
119- أرباباً: سادات.
120- غَضارة النعمة: سعتها. قَصَص الأخبار: حكايتها وروايتها.
121- الإعتدال ـ هنا ـ: التناسب.
122- الاشتباه ـ هنا ـ: التشابه.
123- يَحْتَازُونهم: يقبضو نهم عن الأراضي الخِصْبة.
124- المَهَافي: المواضع التي تهفو فيها الرياح أي تهب.
125- النَكَد ـ بالتحريك ـ: أي الشدة والعسر.
126- الدَبَر ـ بالتحريك ـ: القرْحة في ظهر الدابة.
127- الوَبَر: شعر الجمال، والمراد أنهم رعاة.
128- لا يأوون: لم يكن فيهم داع إلى الحق فيأووا اليه ويعتصموا بمناصرة دعوته.
129- بلاء أزل، على الاضافة، والأزل: الشدة.
130- مؤودة: من «وأدبنته» ـ كوعد ـ: أي دفنها وهي حية.
131- «شنّ الغارة»: صبّها من كل وجه.
132- «التَفّتِ المِلّة بهم»: يقال التفّ الحبل بالحطب إذا جمعه، فملّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) جمعتهم بعد تفرقهم.
133- العوائِد: ما يعود على الناس من الخيرات والنعم.
134- فَكِهِين: راضين، طيبة نفوسهم.
135- تربعت: أقامت.
136- القَناة: الرمح. وغمزها: جَسّها باليد لينظر هل هي محتاجة للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك.
137- الصَفاة: الحجر الصلد. وقَرْعها: صَدْمها لتكسر.
138- ثَلَمْتم: خرقتم.
139- المُوَالاة: المحبة.
140- النَكْث: نقض العهد.
141- القاسطون: الجائرون عن الحق.
142- المَارقة: الذين مرقوا من الدين أي خرجوا منه.
143- دَوّخهُم: أضعفهم وأذلهم.
144- الرَدْهة ـ بالفتح ـ: النُقْرَة في الجبل قد يجتمع فيها الماء، وشيطان الرَدْهة: ذوالثَدِيّة، من رؤساء الخوارج وُجد مقتولاً في ردهة.
145- الصَعْقَة: الغَشِيّة تصيب الإنسانَ من الهول.
146- وَجْبَة القلب: اضطرابه وخفقانه.
147- رَجّة الصدر: اهتزازه وارتعاده.
148- لأدِيلَنّ منهم: لامحقنّهم، ثم أجعل الدولة لغيرهم.
149- يَتَشَذّر: يتفَرّق.
150- الكَلاكِل: الصدور، عبّر بها عن الأكابر.
151- النَوَاجِمُ من القرون: الظاهرة الرفيعة، يريد بها أشراف القبائل.
152- عَرْفُهُ ـ بالفتح ـ: رائحته الذكيّة.
153- الخَطْلَة: واحدة الخَطَل ـ كالفرحة واحدة الفرح ـ والخطل: الخطأ ينشأ عن عدم الروية.
154- الفَصِيل: ولد الناقة.
155- عَلَماً: أي فضلاً ظاهراً.
156- حِراء ـ بكسر الحاء ـ: جبل على القرب من مكة.
157- تَفِيئُون: ترجعون.
158- القَلِيب ـ كأمير ـ: البئر، والمراد منه قَلِيب بَدْر.
159- القَصْف: الصوت الشديد.
160- عُمَّارـ جمع عامرـ: أي يَعْمٌرُنَه بالسهر للفكر والعبادة.
161- يَغُلّونَ: يخونون.



الفهرسة