النياحة على الإمام الحسين (عليه السلام)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » النياحة على الإمام الحسين (عليه السلام)

 البحث  الرقم: 176  التاريخ: 1 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 10473
قائمة المحتويات

النياحة بعد الدولة العباسية

النياحة على الإمام الحسين (ع)
أما النياحة وإقامة شعائر العزاء على الامام الحسين (عليه السلام) بعد انقراض الدولة العباسية وزوال ملكها، فكانت تقع أيضاً تحت عوامل سياسة الحكومات المختلفة التي تتولى السلطة على مقدارات العراق، من حكام عرب، أو فرس، أو أتراك، أو غيرهم. فمنهم من كان شيعياً، ومنهم من كان سنياً، ومنهم من كان علمانياً لا دين ولا مذهب له. وقد استطاع الشيعة في كثير من الأزمان على هذا العهد أن يتنفسوا الصعداء وأن ينالوا قسطاً وفيراً من حريتهم في إقامة شعائرهم، من النوح وإقامة المأتم على الحسين (عليه السلام)، اما لكون السلطة القائمة شيعية الحكام، أو لكونها مؤلفة من حكام ضعفاء من غير الشيعة لا تستطيع الضغط على هذه الفرقة المسلمة. فمثلاً عندما تولى السلطة على العراق الملوك الصفويون أو غيرهم من الحكام الايرانيين كان الإقبال على إقامة هذه المآتم والنياحات عظيماً، وكانت حرية الشيعة في إحياء هذه الذكرى الأليمة مضمونة، وقد غالى الشيعة في إقامتها، والعكس بالعكس، كلما قويت السلطة السنية في العراق كالحكومة العثمانية وقع الضغط على الشيعة، ومنعوا عن إقامة المناحات ومزاولة شعائرهم التقليدية فيها؛ الأمر الذي كان يضطرهم الى إقامتها وإحياء ذكرياتها سراً وداخل البيوت، وفي سراديب الدور، وتحت طائلة الخوف والجزع والتقية.
وعلى سبيل المثال أقول: إن الشيعة كانوا على زمن الأسرة الايلخانية، وخاصة على عهد ملكها محمد خدا بنده، المتوفى سنة «715 هـ»، الذي كان أول من جاهر من ملوك هذه الاسرة بالتشيع لآل البيت، وأول من أمر بتخليد اسماء الائمة الاثني عشر، فنقشت اسماؤهم على مسكوكاته.
وكذا على عهد ابنه أبي سعيد. وأيضاً على عهد الأسرة الجلائرية، ثم عهد الملوك الصفويين، ومنهم الشاه إسماعيل الذي ناصر الشيعة وأعلن المذهب الشيعي في إيران والعراق رسمياً. وكذا على عهد بعض السلاطين العثمانيين كالسلطان سليمان القانوني المتوفى سنة «941 هـ»، الذي زار كربلاء والنجف. وكذا علىعهد عدد من الأمراء الشيعة الآخرين، الذين حكموا بعض أنحاء العراق، على عهد عدد من الأمراء الشيعة الآخرين، الذين حكموا بعض أنحاء العراق، كدولة بني مزيد في الحلة وبني شاهين في البطيحة، وبني حمدان وآل المسيب في الموصل ونصيبين.
أجل على عهد هؤلاء الملوك والأمراء صار الشيعة يتمتعون بحريتهم في إقامة المأتم الحسيني، غير أنه على زمن سائر الخلفاء العثمانيين بعد استعادة العراق من الصفويين، وخاصة السلطان مراد الرابع العثماني، الذي أسرف في قتل الشيعة وسفك دمائهم، وإحراق كتبهم وتعذيبهم، فقد منعت إقامة هذه المآتم، وطورد القائمون بها، بيد أن من خلفه من السلاطين أطلقوا بعض الحرية للشيعة في إحياء ذكريات الحزن على الحسين، وإقامة شعائره، بمختلف المظاهر ومتنوع التقاليد التي درجوا عليها وتعودوا على إقامتها سراً ثم علناً منذ العهدين الأموي والعباسي. وإنما كانوا يقيمونها على ذينك العهدين تحت الستار والتقية، عدا على زمن بعض الخلفاء العباسيين الذين سمحوا لهم بإقامتها علناً كما مر في الفصل السابق. وفي هذه العهود صار الشيعة يقيمونها بصورة علنية وفي الأماكن العامة وغيرها، فيبكي المجتمعون فيها على مصاب الامام الحسين واستشهاده بتلك الحالة المفجعة وينوحون عليه بقريض من الشعر، ينشأه وينشئه الناشد منهم، الذي كان يطلق عليه اسم «النائح» أو «خطيب المنبر الحسيني».

مما ذكره المؤرخون عن إقامة شعائر العزاء على الحسين بعد العباسيين

وفيما يلي فقرات مما ذكره المؤرخون عن إقامة شعائر العزاء على الحسين بعد العباسيين الى أوائل الحرب العالمية الأولى:
1 ـ ذكر كتاب «الحوادث الجامعة» لمؤلفه ابن الفوطي ضمن حوادث سنة «698 هـ»، عن إطلاق الحرية للشيعة في إحياء ذكرى استشهاد الحسين (عليه السلام) وإقامة المناحات عليه على عهد السلطان غازان، قوله: «ثم توجه ـ أي السلطان غازان ـ الى الحلة، وقصد زيارة المشاهد الشريفة في النجف وكربلاء، وأمر للعلويين والمقيمين بها بمال كثير. ثم أمر بحفر نهر بأعلى الحلة فحفر وسمي بالنهر الغازاني...» الخ.
ويستطرد الكتاب فيقول: «ثم توجه غازان للحلة، وقصد مشهد علي في النجف فزار ضريحه الشريف، وأمر للعلويين بشيء كثير ثم مضى الى مشهد الحسين بكربلا وفعل مثل ذلك، وعاد الى أعمال الحلة وقوسان متصدياً وزار قبر سلمان الفارسي، وأمر للفقراء المقيمين هناك بمال».
2 ـ وجاء في الكتاب «ومضات من تاريخ كربلاء» للسيد سلمان هادي آل طعمة صفحة «32» عند ذكر هجوم جيش تيمور لنك على بغداد، ومناجزة سلطانها أحمد الجلايري ودخولهم سنة «795 هـ» الجانب الشرقي من بغداد «الرصافة» قوله: «أما أمراء تيمور بعد استيلائهم على خزائن السلطان توجهوا قاصدين زيارة مرقد أبي عبد الله الحسين بكربلاء، يتبركون به، ويستجمعون قواهم. وبعد فراغهم من مراسم الزيارة أجزلوا بالنعم والهدايا علىالسادة العلويين الملازمين لقبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) ثم رحلوا بعد أن مكثوا فيها بعض اليوم، واشتركوا في بعض المناحات المقامة على الامام الغريب...» الخ.
3 ـ جاء في الصفحة «39» من كتاب «ثورة الحسين» لمؤلفه الشيخ محمد
مهدي شمس الدين عن موقف العثمانيين من مجزرة كربلاء واستشهاد الحسين، قوله: «وفي العصور التالية لاحق العثمانيون هذه المآتم ومنعوا من إقامتها في أحيان كثيرة فكانت تقام سراً. وفيما بعد العثمانيين لوحقت هذه المآتم ثم منعتها السلطة في بعض الأحيان، وقيدتها بقيود كثيرة ثقيلة في أحيان أخرى لأجل إفراغها من محتواها النقدي للسلطة القائمة...» الخ.
4 ـ جاء في الصفحة «60» من كتاب «تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني» تأليف عبد الرزاق الهلالي، ما نصه: «ولا بد من الاشارة في هذا الباب الى أن كتاتيب البنات كانت تكثر في العتبات المقدسة، والمدن التي أكثريتها من الشيعة، بسبب ما تحتمه الضرورة من وجود ملايات يقرأن مقتل الحسين في شهر محرم أو في الأشهر الأخرى، أو قراءة المواليد في المناسبات النسوية المختلفة...» الخ.
5 ـ وجاء في الصفحة «126» من الكتاب نفسه، المطبوع في بغداد، سنة 1959 م، قوله:
«أما الشعر في المناطق الشيعية فقد تأثر نتيجة للتعصب الذي كانت تبديه السلطة الحاكمة ضدهم، واتجه وجهة لم يتجه لها الشعراء من أبناء السنة. لذا كان الشعر في مدح الامام الحسين يمثل التيارات الصاخبة، التي كانت تعتلج في نفوس الناس ويحاولون أن يأتوا بالجيد من النظم، الرصين من العبارة...» الخ.

تأثير النياحة على الحسين (عليه السلام) في الاقطار العالمية

الآن وقد انتهيت من سرد حوادث تاريخ العزاء الحسيني والنياحة عليه، وإحياء ذكرى مجزرته في كربلاء منذ بدئها حتى العصور الأخيرة، وكذا الأدوار التي مرت عليها في مختلف القرون والعصور والمراحل التي اجتازتها من مد وجزر على أيدي الحكام وأصحاب السلطة، وتمسك الموالين لآل بيت النبوة بهذا التقليد، الذي أصبح لديهم من مستحبات شؤونهم التي يتقيدون بها في شهري محرم وصفر من كل سنة، وفي العشرة الأولى من محرم بالأخص، وكذا في بعض أيام الاسبوع على طول السنة، مما عودوا أنفسهم عليها، وتوارثها الخلف عن السلف.
وحيث إن إحياء هذه الذكرى الحزينة وإقامة شعائرها التقليدية، قد تعدت المركز الرئيسي للحادث المحزن ـ أي العراق ـ الى سائر البلدان الاسلامية، وحتى كثير من الأصقاع غير الاسلامية، فإني أفضل أن أختم رسالتي هذه بسرد بعض ما يجري في هذه الأقطار خلال شهري محرم وصفر من كل سنة، أو العشرة الأولى من محرم، أو يوم عاشوراء فقط، من إحياء ذكرى هذا الحادث المحزن.
إن كل من جاب عواصم وحواضر ومدن الأقطار الاسلامية في أرجاء المعمورة، سيما المجتمعات الشيعية في هذه الأقطار وبالأخص منها العراق، والبلاد العربية الأخرى، والهند، وإيران، وأفغانستان، وغيرها من الأقاليم الآسيوية، وبعض بلدان افريقية وجد المباني، الفخمة، والعمارات الكبيرة مقامة، وتدعى عند العرب «الحسينية» وعند الهنود «إمام بهره» وعند الفرس «مأتم سراً أو حسينية أو تكية» وسائر الأقطار تسميها باسمها العربي «الحسينية» وفي هذه المباني التي يوقفها أصحابها على إقامة النياحات فيها على الإمام الحسين (عليه السلام) ويوقفون عليها أوقافاً كثيرة وصدقات جارية، تنفق إراداتها وأرباحها على إدارة هذه الحسينية. وفي هذه المباني تقام مجالس العزاء والنياحة لذكرى الامام الشهيد (عليه السلام). وفي هذه المجالس التي تغص بالمجتمعين والمستمعين من شتات المسلمين يرقى الخطيب المنبر، فيفتتح كلامه بسرد آي من الذكر الحكيم، وتفسير علومها من أحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) ثم يتلو تاريخ مجزرة كربلاء، منذ البداية حتى النهاية، موجزاً أو تفصيلاً، حسب مقتضيات المجلس وظروفه.
وهذا الخطيب الذي يطلق عليه في أكثر البلدان العربية والاسلامية اسم «خطيب المنبر الحسيني» أو «روضة خوان» هو خطيب جرد نفسه لخدمة النياحة على الحسين (عليه السلام) وآله، وأحياناً النوح على مصائب سائر الأئمة (عليهم السلام) أيضاً وقد جعل مهنته في الحياة هذه الخدمة الشريفة.
أما كلمة «رضوان خوان» فمشتقة من لفظتين عربية وفارسية، فالروضة مأخوذة من اسم كتاب «روضة الشهداء» تأليف المولى الحسين بن علي الكاشفي، المعروف بالواعظ البيهقي، المتوفى سنة «910هـ» و «خوان» فارسية بمعنى «القراءة» وتأتي جملة «روضة خوان» بمعنى «قارئ الروضة».
وقد جرت العادة أن توزع في هذه المجالس النياحية في أولها أو في آخرها المبردات، أو الشاي أو القهوة، أو بعض المأكولات التي تتناسب وتلك المشروبات حسب فصول السنة من برد أو حر، ونفقات هذه المجالس تبذل من موقوفات الواقفين أو من خيرات أصحاب البر.
وقد ثبت مما أوردته في الفصول السابقة أن إقامة العزاءالحسيني والنياحة على الامام الحسين (عليه السلام) وآله وصحبه ترقى بتأريخها الى عهد قديم، أي القرن الأول الهجري، والى زمن وقوع هذه الفجيعة العظمى، أي منذ استشهاد الامام (عليه السلام) وما يقرب من عهد الصحابة والتابعين لهم. وكما قلت في تلك الفصول: إن هذا العزاء كان في أول أمره محدوداً جداً وصغير الحجم، وكان يقام تحت التستر والخفاء والتقية، كما أن إقامة هذه النياحة على الامام الشهيد لم تكن كما يتصوره البعض من مستحدثات القرون الوسطى والأخيرة، مدعين أنها تولدت على عهد الملوك الصفويين، وإنما هي قديمة ولكنها على زمن الصفويين اتسع نطاقها، واشتد إقبال الناس عليها.
وكما مر في تلك الفصول أيضاً: انه كلما توسع المذهب الشيعي في العراق أو سائر البلدان العربية والاسلامية، وخفت وطأة السلطات المعادية له، كلّما اشتد الموالون لآل الرسول (صلى الله عليه وآله) بإقامة ذلك العزاء وتلك النياحة، تحت اسم الرثاء أو النياحة خاصة في مشاهد الأئمة الاطهار (عليهم السلام). وكما أثبت التاريخ أن جذور هذه النياحات والمآتم كانت في العراق ثم اتسع نطاقها وامتدت الى الشعوب والأمم الأخرى، كمصر على عهد الفاطميين، وإيران على عهد الصفويين، وسوريا والموصل ولبنان على عهد الحمدانيين، والمغرب الأفريقي على عهد العلويين والادريسيين، والهند على عهد كثير من راجات الشيعة وملوكهم.

النياحة في البلدان الإسلامية والعالمية

ولذلك أبدأ بوصف موجز جداً لما كان ولم يزل يجري في البلاد العربية، ثم البلدان الاسلامية والاقطار العالمية، من مراسم وشعارات مجالس الحزن ومجتمعات النياحة على الحسين (عليه السلام) وبعض ما تناقلته المؤلفات وأقلام الكتاب من مغزى هذه الفاجعة العظيمة:
1 ـ جاء في الصفحة «135» من كتاب «نهضة الحسين» لمؤلفه السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما عبارته: «وامتدت جاذبية الحسين (عليه السلام) وصحبه من حضرة الحائر الى تخوم الهند وأعماق العجم، وما وراء الترك والديلم والى أقصى من مصر والجزيرة والمغرب الأقصى يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والايام، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه، ويجدون في إحياء قضيته في عامة الانام، ويمثلون واقعته في ممر الأعوام...» الخ.
2 ـ قال جرجي زيدان في ختام روايته «غادة كربلاء» ما نصه: «لا شك أن ابن زياد ارتكب بقتل الحسين جريمة كبرى لم يحدث أفظع منها في تاريخ العالم، ولا غرو إذا تظلم الشيعة لقتل الحسين وبكوه في كل عام، ومزقوا جيوبهم وقرعوا صدورهم أسفاً عليه، لأنه قتل مظلوماً».
3 ـ جاء في الصفحة «162» من كتاب «نهضة الحسين» في طبعته الخامسة، بقلم نجل المؤلف السيد جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني، ما نصه: «اهتمام الأقطار الاسلامية بعزاء الحسين: وهكذا أصبح المسلمون في اليوم العاشر من محرم كل عام يحتفلون بذكرى عاشوراء، إحياء لذكرى شهيد الطف الامام الحسين (عليه السلام) في جميع الأقطار الاسلامية.. ويعتبر هذا اليوم عطلة رسمية لدى معظم هذه الدول، ويشترك كثير من رؤوساء الدول الاسلامية في مراسيمه.
وحين تمر هذه الذكرى بالمسلمين في العشرة الأولى من محرم أو في اليوم العاشر منه، فإنه تغمر غالبية العالم الاسلامي موجة من الأسى، ويخيم عليه سحاب من الحزن كأن الامام الحسين قد قتل حديثاً، وكأن أشلاء آله وأنصاره لا تزال على منظرها المؤلم فوق تلك الترب، وكأن دم أولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور على تلك الأرض.. فيثير في نفوس المسلمين كل تلك المشاعر والأحزان، مما جعلت معظم الحكومات العربية والاسلامية تحافظ على حرمة هذه المناسبة، وتلاحظ شعور المسلمين نحوها... ومن أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللهو واللعب، وحانات الخمور والشرب والمسارح، وأمثالها مما تحمل طابع اللهو والطرب، كما تقلص على غرارها ما في برامج الأذاعة والتلفزيون خلال العشرة الأولى من المحرم ببرامج تتسم بالطابع الديني والروحي والعلمي، مجرداً من كل أسباب اللهو والطرب... كل ذلك رعاية لشعور المسلمين، واحتراماً لمكانة هذه الذكرى. كما هو الحال في العراق وإيران وفي الهند والباكستان وعديد من الدول الاسلامية الأخرى...
والمسلمون إذ يحتفلون بهذه الذكرى الدامية ببالغ الاسى وعظيم الألم، إنما يشيدون فيها بموقف الامام الحسين في ساحة الطف، ويمجدون مواقف آله وأصحابه وما قدموه في ذلك الموقف، من جسيم التضحية، وعظيم البسالة التي أدهشت الأجيال، وأذهلت التاريخ.
ثم هم إذ يعبرون في إيحائهم لهذه الذكرى الدامية عن شعورهم نحو الامام الشهيد، فانهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته، واستشهاده؛ وباختلاف مداركهم وعاداتهم.
فمنهم من يعتبره عيداً مجيداً؛ لأن الفضيلة فيه قد انتصرت على الرذيلة، وأن الامام بموقفه ذاك من يزيد قد أسند تعاليم جده سيد الرسل... وجدد مجد شريعته السمحاء... كما هو الحال لدى المسلمين في بعض أنحاء المغرب العربي بشمال افريقية، الذين يعتزون بهذه الذكرى.
ومنهم من يندفع مع العاطفة الى إيلام نفسه وإيذائها بمختلف الوسائل والأساليب، كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير، ظناً منه أن هذا النحو من الأيذاء من دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء... كما هو الحال في بعض أنحاء العراق، وإيران، والهند، والباكستان».
ويستطرد الكاتب كلامه في الصفحة «164» من كتاب فيقول: «والى جانب ما تقدم تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران، والمساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصب أهلها في الحب والولاء لآل البيت النبوي حلة من السواد، كشعار الحزن والحداد... وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرجة، ومباعث الأنس والانشراح.
هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى إن لم يكن الشهر كله من كل عام. وفي الأقطار الاسلامية كالعراق، وإيران، والهند، والباكستان الى ما بعد العشرين من صفر، حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين. ولها زيارتها الخاصة، ومراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق... حيث يؤمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين (عليه السلام) والطواف حول ضريحه في ذكرى اربعينه.. وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليمن والبركة».
4 ـ جاء في الصفحة «280» من «موسوعة العتبات المقدسة» قسم كربلاء، ما نصه: «أن الكاتبة الانجليزية القديرة (فرايا ستارك) كانت قد كتبت فصلاً صغيراً عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم «صور بغدادية» وتبدأ هذا الفصل بقولها: إن الشيعة في جميع أنحاء العالم الاسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها، حتى يصل بهم مد الأحزان البطيء الذي يستولي على أنفسهم الى أوجه بمواكب العزاء التي تخرج في اليوم الأخير، حاملة النعش بجثته المذبوحة».
ثم تشير الكاتبة الى مواكب العزاء والسبايا التي تمثل فيها وقائع معركة كربلاء كلها، وهي تقول:
«إن هذه المواكب التي تقام في بغداد والمدن المقدسة يعرف مجيئها من بعيد، بصوت اللطم على الصدور العارية».
5 ـ جاء في الصفحة «297» من الموسوعة سالفة الذكر قسم كربلاء، نقلاً عن رحلة «جون أشر» الانجليزي منقولاً عن المؤرخ «غيبون» بعد سرد مجزرة كربلاء، فيقول: «إن الشيعة من المسلمين في العالم يقيمون في كل سنة مراسيم العزاء الأليمة تخليداً لبطولة الحسين واستشهاده فينسون أرواحهم فيها من شدة ما ينتابهم من الحزن والأسى».
6 ـ نقلت مجلة «العلم» النجفية عن جريدة «حبل المتين» الفارسية التي كانت تصدر في الهند مقالاً كتبه الدكتور جوزف الفرنسي، عن المسلمين في أنحاء العالم وتقسيمهم الى فرقتين: شيعية وسنية، وما اتصف به الشيعة من التقية، قال فيه: «ويقيم الشيعة المآتم تحت الستار، يبكون فيها على الحسين، فأثرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة الى حد أنه لم يمر عليها زمن طويل حتى بلغت الأوج في الشرق، ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء، فبعضهم أخفى ذلك تقية، وبعضهم أظهره جهاراً».
ويستطرد الكاتب الفرنسي فيقول: «ويمكن القول بأنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يزيد عدد الشيعة على عدد سائر فرق المسلمين. والعلة في ذلك هي إقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية الى مذهبه، اليوم لا توجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة إلا ويقيمان فيها المأتم، ويبذلان المال والطعام، رأيت في ميناء «مارسال» في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين، يقيم المأتم منفرداً، جالساً على الكرسي، بيده الكتاب يقرأ ويبكي، وكان قد أعد مائدة من الطعام فرقها على الفقراء.
هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين: فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل بقدر استطاعتم ما يقدر بالملايين من الفرنكات، والبعض الآخر من أوقاف خصصت لإقامة هذه المآتم، وهذا المبلغ طائل جداً».
ثم يواصل الكاتب الفرنسي كلامه ويقول: «فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم واشتغلوا بهذا العمل، فهم يتحملون المشاق ليتمكنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم، والمصائب التي أصابت أهل هذا البيت، بأحسن وجه وأقوى تقرير على رؤوس المنابر وفي المجالس العامة. وبسبب هذه المشاق التي أختارتها هذه الجماعة في هذا الفن يفوق خطباء هذه الفرقة على جميع الطوائف الاسلامية».
ويستطرد الكاتب فيقول: «إن العدد الكثير الذي يرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم. فرقة الشيعة حتى في زمن السلاطين الصفوية لم تسع في ترقي مذهبها بقوة السيف بل ترقت هذا الترقي المحير للعقول بقوة الكلام الذي هو أشد تأثيراً من السيف، ترقت اليوم هذه الفرقة في أداء مراسيمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتبعونها في حركاتها، جم غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضاً شاركوهم في أعمالهم».
ويواصل الكاتب قوله بهذه العبارة: «ومن جملة الأمور السياسية التي ألبسها روساء فرقة الشيعة لباس المذهب منذ عدة قرون، وصارت مؤثرة جدً لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم، هي أصول التمثيل باسم المأتم والتعزية في مأتم الحسين».
ويقول الكاتب بعد ذلك: «فرقة الشيعة حصلت من هذه النكبة على فائدة تامة، فألبست ذلك لباس المذهب. وعلى كل حال التأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامة والخاصة في إقامة العزاء والمأتم قد حصل: فمن جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة وعلى المنابر المصائب التي وردت على رؤساء دينهم، والمظالم التي نزلت على الحسين مع تلك الأحاديث المشوقة الى البكاء على مصائب آل الرسول، فبيان تلك المصائب للأنظار أيضاً له تأثير عظيم، ويجعل العام والخاص من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصور. وهذه النكات الدقيقة أصبحت سبباً في أنه لم يسمع بأحد من هذه الفرقة من ابتداء ترقي مذهب الشيعة أنه ترك دين الاسلام، أو دخل في فرقة إسلامية أخرى. هذه الفرقة تقيم المآتم بأقسام مختلفة، فتارة في مجالس مخصوصة ومقامات معينة، وحيث إنه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الأخرى معهم أقل، أوجدوا المآتم بوضع خاص، فعملوا في الأزقة والأسواق، وداروا به بين جميع الفرق. وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم بذلك الأمر الذي يجب أن يحصل من البكاء. ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجه العام والخاص اليه حتى أن بعض الفرق الاسلامية الأخرى وبعض الهنود قلدوا الشيعة فيه، واشتركوا معهم في ذلك. وهذا العمل في الهند أكثر رواجاً منه في جميع الممالك الاسلامية، كما أن سائر فرق الاسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد.
ويظن أن هذا العمل بين الشيعة قد جاء من ناحية سياسة السلاطين الصفوية، الذين كانوا أول سلسلة استولت على السلطة بقوة المذهب، ورؤساء الشيعة الروحانيون أيدوا هذا العمل، وأجازوه شيئاً فشيئاً.
ومن جملة الأمور التي صارت سبباً في ترقي هذه الفرقة وشهرتها في كل مكان، هو إزادة أنفسهم بالرأي الحسن، بمعنى أن هذه الطائفة بواسطة مجلس المآتم واللطم والدوران وحمل الأعلام في مأتم الحسين جلبت اليها قلوب باقي الفرق، بالجاه والاعتبار، والقوة والشكوكة».
ويختم الكاتب كلامه بقوله:
«لهذا نرى أنه في كل مكان ولو كانت جماعة من الشيعة قليلة، يظهر عددها في الأنظار بقدر ما هي عليه مرتين، وشوكتها وقدرتها بقدر ما هي عليها عشرات المرات وأكثر أسباب معروفية هؤلاء القوم وترقيهم هي هذه النكبة.
ومصنفو أوربا الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتلهم، مع أنه ليس لهم عقيدة بهم قط، أذعنوا بظلم قاتليهم وتعديهم، وعدم رحمتهم، ويذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز، وهذه الأمور طبيعية لا يقف أمامها شيء، وهذه النكبة من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة».
7 ـ جاء في الصفحة «200» من كتاب «المجالس السنية» المار ذكره، نقلاً عن رسال الحكيم والفيلسوف الالماني في رسالته عن النهضة الحسينية وتأثيرها على العالم الاسلامي، قول هذا الفيلسوف عن تأثير إقامة المآتم الحسينية على حياة المسلمين وتقدمهم، قوله:
«وليس لواحدة من الروابط الروحانية التي بين المسلمين اليوم تأثير في نفوسهم كتأثير إقامة مآتم الحسين، فإذا دام انتشار وتعميم هذه المآتم بين المسلمين مدة قرنين آخرين لا بد أن تظهر فيهم حياة سياسية جديدة، وان الاستقلال الباقي للمسلمين اليوم نصف أسبابها هو اتباع هذه النكبة وسنرى اليوم الذي يتقوى فيه سلاطين المسلمين تحت ظل هذه الرابطة، وبهذه الوسيلة سيتحد المسلمون في جميع أنحاء العالم تحت لواء واحد؛ لأنه لا يرى في جميع طبقات الفرق الاسلامية من ينكر ذكر مصائب الحسين وينفر منها بسبب ديني، بل للجميع رغبة طبيعية بشكل خاص في أداء هذه المراسيم المذهبية، ولا يرى في المسلمين المختلفين في العقائد سوى هذه النكبة الاتحادية.
الحسين أشبه الروحانيين بحضرة المسيح، ولكن مصائبه كانت أشد وأصعب. كما أن أتباع الحسين كانوا أكثر تقدماً من أتباع المسيح في القرون الأولى، فلو أن المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين، أو أن أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقياتهم عقبات من نفس المسلمين، لسادت إحدى الديانتين في قرون عديدة جميع المعمورة، كما أن من حين زوال العقبات عن طريق أتباع الحسين أصبحوا كالسيل المنحدر يحيطون بجميع الملل وسائر الطبقات».
8 ـ جاء في الصفحة «381» من «موسوعة العتبات المقدسة» قسم كربلاء، ما نصه:
«في سنة 1943 م» كتب المستر ستيون لويد ـ خبير الآثار القديمة في بغداد لعدة سنوات ـ كتابه الموجز عن تاريخ العراق، باسم «الرافدان» وقد حلل في عدة من صفحاته تحليلاً بارعاً موقف الامام علي من معاوية، وخرج منه الى مقتل الحسين في كربلاء، وهو يقول:
«إن الفظاعة التي اقترفت في المعركة، والفزع الذي أصاب المسلمين بقتله؛ يكونان أسس المسرحية الأليمة التي تثير الطوائف الشيعية في العالم الاسلامي كله الى حد الحنق الديني في عشرة عاشوراء من كل سنة».
وبعد أن يستطرد الكاتب في سرد حادث استشهاد الامام الحسين وآله وصحبه يقول:
«وتعد قبورهم ـ أي قبور الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ـ في الفرات الأوسط وخراسان نماذج بديعة للفن الاسلامي الرفيع، كما يعد كل واحد منها حججاً للزوار الشيعة».

أينما وجدت الأسر الشيعية وجدت معها مراسيم العزاء الحسيني

والخلاصة: فانه أينما وجدت الأسر الشيعية على اختلاف قومياتها ومللها، ولغاتها، وجدت معها مراسيم العزاء الحسيني، ومآتمه، وشعائره، ومواكبه، ومجالسه، ونياحاته بصورها المختلفة، وأنواعها المتعددة، وبمظاهرها الموسعة أو تشكيلاتها المحدودة، وبصورة خفية أو علنية، حسب ظروف تلك الأسر الاجتماعية.
وتقام هذه المناحات على الحسين (عليه السلام) من قبل الشيعة على الغالب في العشرة الأولى من المحرم، وبالأخص يوم العاشر منه في كل سنة.
وحين يهل هلال شهر محرم يستعد المسلمون الشيعة في مختلف أنحاء المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذه الذكرى الدامية، حيث يحتفلون بهذه المناسبة الأليمة، متذكرين مصارع آل النبي (صلى الله عليه وآله) في مجزرة الطف، في حزن عميق، وشجن عظيم، ومستعرضين مواقف الحسين ومن استشهد معه بما يناسبها من الإشادة والتكريم.
أكرر في هذا المقام وأقول: إن من يتصور أن هذه الشعائر والمظاهر في العزاء الحسيني إنما هي من محدثات العصور الأخيرة فإنه على خطاء لأن هذا التعبير عن شعور التأثير والتألم تجاه مصرع الحسين (عليه السلام) ـ كما مر في الفصول السابقة ـ إنما يرتقي في تاريخه الى القرن الأول الهجري، غير أنه كان في أول أمره محدوداً جداً وصغير الحجم، يقام بمحضر أخص الناس بالحسين والأئمة الأطهار، للتخفيف عن عظم المصاب.

الروابط
المقالات: مدينة وتاريخ: كربلاء قديماً،
الشعائر الحسينية في الدول الإسلامية،
مدينة كربلاء والمرقد الحسيني إطلالة تاريخية مدعمة بالرسوم والصور،
الشعائر الحسينية: نشأتها.. المراحل التي مرت بها
مواقع الإنترنيت: الموقع العالمي للدراسات الشيعية
مفاتيح البحث: عاشوراء،
العهد الصفوي،
الثورة الحسينية،
الشيعة،
فريا ستارك الباحثه البريطانيه ومأساة الحسين،
المجالس الحسينية،
...
الواحات: الواحة الحسينية

الفهرسة