يحتاج الطفل ـ أي طفل ـ إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه. ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقاها، والحضارة التي يتطبع عليها، والتربية التي ينشأ عليها. إنه عالم قائم بنفسه، يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغّرة، في صخبها وأمنها، في سعادتها وشقائها، في ذكائها وبلادتها، في صفائها وحقدها، في تفوّقها وتأخّرها، في إيمانها وجحودها، في حربها وسلمها، إلخ. وهذا ما أشغل العلماء والباحثين، فراحوا يعدون البحوث، ويلقون المحاضرات، ويؤلفون الكتب، ويوردون النظريات في مسألة ـ تربية الطفل ـ. ونشأ من بينهم عِدَّة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه، ورأى عكس ذلك آخرون. فأرجعوا كل أنماط السلوك الفردي والإجتماعي إلى البيئة والمحيط، والتربية والتنشئة، وأنكروا كل أثر إلى الوراثة ينسب. وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلا وجدته إلى إحدى المدرستين يميل، وعن أحد الرأيين يدافع، مفنداً الرأي الآخر. ولعلك تسأل: أي الرأيين أصح؟، وأي العاملين في سلوك الطفل أهم: الوراثة أم التربية؟!. فبدلاً من أن نجيبك على سؤالك هذا، نسأل بدورنا أيضاً: أيهما أهم للسيارة: المحرك، أم الوقود؟!، هذه هي مشكلة التربية. وسنلقي الضوء في السطور القادمة على الآثار المترتبة لسيرة الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال هذين الجانبين المهمين.الأول: الوراثة: ليس هناك من شك بأن للوراثة أثرها الكبير في صياغة الفرد صياغة مكيَّفة بالبيئة التي انبعث منها وخلق فيها. وبيتُ أبناء أبي طالب، كان خير البيوت لإنشاء الإنسان الكامل، فكيف وقد وُلد الحسن (عليه السلام) من عبد المطلب مرّتين، مرة من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأخرى من فاطمة (عليها السلام) بنت النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بن عبد الله بن عبد المطلب؟. كما كان علي (عليه السلام) مولوداً عن هاشم مرّتين، ولا نريد أن نشرح مآثر بيت هاشم، وبالخصوص أسرة عبد المطلب فيهم، فإنها ملأت السهل والجبل، بل نقول: ناهيك عن بيت بزغ منه الرسول الأكرممحمد (صلى الله عليه وآله)، والوصي العظيم الإمام علي (عليه السلام). وحسب علمِ حساب الوراثة أن التأثير قد يكون من جهة الأب، فيستصحب كلَّ سماته وصفاته، وقد يكون من جانب الأم، وقد تحقق في الحسن (عليه السلام) هذا الأخير. فقد برزت فيه سمات أمّه الطاهرة لتعكس صفات والدها العظيم محمد (ص)، فكان أشبه ما يكون بالنبي منه بالإمام، وطالما كان يطلق النبي قوله الكريم: الحسن منّي والحسين من علي. وقد يمكن أن نجد تفسيراً لهذه الكلمة في الأحداث التي جرت بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وطبيعة الظروف التي قضت عند الحسن (عليه السلام) أن يتخذ منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) أُسوةً له، دقيقة التطبيق شاملة التوفيق. فيعطي (عليه السلام) الناس من عفوه وصفحه، ويعطي أعداءه من صُلحه ورِفقه، مثلما كان يعطي الرسول (صلى الله عليه وآله) تماماً. كما اقتضت عند الحسين (عليه السلام) أن يبالغ في شِدَّته في الدين، وغيرته عليه، ويبدي من منعته ورفعته في أموره، ما جعـل تشابهاً كبيراً بينه وبين عهد علي (عليه السلام) مع المشركين والكافرين والضالين. الثاني: التربية: لقد أولى النبي (صلى الله عليه وآله)، والوصي (عليه السلام)، والزهراء (عليها السلام)، من التربية الإسلامية الصالحة ما أهَّل الإمام الحسن (عليه السلام) للقيادة الكبرى. فإن بيت الرسالة كان يربّي الحسن (عليه السلام) وهو يعلم ما سوف يكون له من المنزلة في المجتمع الإسلامي، كما يوضح للمؤمنين منزلته وكرامته. فكان النبيُّ (صلى الله عليه وآله) يرفعه على صدره، ثم يقيمه لكي يكون منتصباً، ويأخذ بيديه يجره إلى طرف وجهه الكريم جرَّاً خفيفاً وهو ينشد قائلاً: حزقَّةً حزقَّة تَرَقَّ عينَ بَقَّة. ومعنى الحزقَّة: القصير الذي يقارب الخطو. فكان (صلى الله عليه وآله) يلاطفه ويداعبه، ثم يروح يدعو: اللَّهُمَّ إني أُحبه فأَحبَّ من يُحبه. ويقصد (صلى الله عليه وآله) أن يسمع الناس من أتباعه لكي تمضي سيرتُه فيه أسوة للمؤمنين، بكرامة الحسن (عليه السلام) واحترامه. وذات مرة كان النبي (صلى الله عليه وآله) يصلي بالمسلمين في المسجد، فيسجد ويسجدون، يرددون في خضوع: سبحان ربي الأعلى وبحمده، مرة بعد مرة، ثم ينتظرون الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يرفع رأسه ولكن النبيَّ يطيل سجوده، وهم يتعجبون: ماذا حدث؟. ولولا أنهم يسمعون صوت النبي لايزال يَبعث الهيبة والضراعة في المسجد لظنوا شيئاً. ولا يزالون كذلك حتى يرفع النبي (صلى الله عليه وآله) رأسه، وتتم الصلاة، وهم في أحَرِّ الشوق إلى معرفة سبب إبطائه في السجود فيقول لهم: جاءَ الحسنُ فركبَ عُنقي، فأشفقت عليه من أن أُنزله قسراً، فصبرت حتى نزل اختياراً. وحيناً: يصعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر ويعظ الناس ويرشدهم، فيأتي الحسنان (عليهما السلام) من جانب المسجد فيتعثَّران بـثَوْبَيهما، فإذا به (صلى الله عليه وآله) يهبط من المنبر مسرعاً إليهما حتى يأخذهما إلى المنبر، يجعل أحدهما على وركه اليمنى، والآخر على اليسرى، ويستمر قائلاً: صدق الله ورسوله: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 28]. نظرت إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما. وكان (صلى الله عليه وآله) يصطحبهما في بعض أسفاره القريبة، ويُردفهما على بغلته من قُدَّامه ومن خَلْفه، لئلا يشتاق إليهما فلا يجدهما، أو لئلا يشتاقا إليه فلا يجدانه. وكان (صلى الله عليه وآله) يشيد بذكرهما (عليهما السلام) في كلِّ مناسبة، ويظهر كرامتهما إعلاناً أو تنويهاً. فقد أخذهما (صلى الله عليه وآله) معه يوم المباهلة، وأخذ أباهما (عليه السلام)، وأمّهما (عليها السلام)، فظهر من ساطع برهانهم جميعاً ما أذهل الأساقفة. ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) دار فاطمة (عليها السلام)، وسَلَّم ثلاثاً على عادته في كلِّ دار، فلم يجبه أحد. فانصرف إلى فناء، فقعد في جماعة من أصحابه، ثم جاء الحسن (عليه السلام) ووثب في حبوة جَدِّه، فالتزمه جدُّه. ثم قبَّله في فيه، ثم راح يقول: الحَسَن مِنِّي والحسينُ مِن عَلي. وكثيراً ما كان الناس يتعجبون من صنع الرسول هذا، كيف يعلنها لإبْنَيهِ إعلاناً. فذات مرَّة شاهده أحد أصحابه وهو (صلى الله عليه وآله) يقبل الحسن ويشمُّه، فقال ـ وقد كره الصحابي هذا العمل ـ: إن لي عشرة ما قبَّلت واحداً منهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن لا يَرحَم لا يُرحَم. وفي رواية حفص قال: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى التمع لونه، وقال للرجل: إن كان الله نزع الرحمة من قَلبِك ما أصنع بك؟. ثم لما رأى مناسبة سانحة أردف قائلاً: الحسن والحسين ابناي، مَن أَحبَّهما أحبَّنِي ومن أحبَّني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة، ومن أبغضهماأبغضني، ومن أبغضنيأبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار. ثم أخذهما هذا عن اليمين، وذاك عن الشمال، مبالغة في الحب. ولطالما كان يسمع الصحابة قولته الكريمة: هذان ابناي وابنا بنتي، اللَّهُمَّ إني أُحبهما، وأُحب من يُحبُّهما. أو كلمته العظيمة يقولها وهو يشير إلى الحسن (عليه السلام): وأُحبُّ مَن يُحبُّه. ويرى أبو هريرةالإمام الحسن (عليه السلام) بعد وفاة جدّه الرسول (صلى الله عليه وآله) فيقول له: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، ثمّ قبّل سرّته. ومن ذلك يظهر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يعلن ذلك إعلاناً، حتى يراه الناس جميعاً. وقد بالغ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) في مدح الحسنين، حتى لكان يُظن أنهما أفضل من والدهما علي (عليه السلام)، ممّا حدا به إلى أن يستدرك ذلك فيقول: هُمَا فاضلان في الدنيا والآخرة، وأبوهُمَا خَيرٌ مِنهُما. وطالما كان يرفعهما على كتفيه، يذرع معهما طرقات المدينة، والناس يشهدون، ويقول لهما: نِعْمَ الْجَمل جَمَلُكما، ونِعْمَ الراكبان أنتما. وطالما كان ينادي الناس فيقول (صلى الله عليه وآله): الحَسَنُ والحُسَين سيدا شباب أهل الجنة. أو يقول (صلى الله عليه وآله): الحَسن والحسين رَيحَانَتَاي مِن الدنيا. أو يقول (صلى الله عليه وآله): الحَسنُ والحُسين إِمامان إنْ قَاما وإِن قَعَدا. ولقد قال (صلى الله عليه وآله) مَرَّة: إذا كان يوم القيامة، زُيِّن عرشُ رَبِّ العالمين بكلِّ زينة، ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مِائة ميل، فيوضع أحدهما عن يمين العرش، والآخر عن يسار العرش، ثم يؤتى بالحسن والحسين، فيقوم الحسن على أحدهما، والحسين على الآخر، يزيِّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه، كما يُزَيِّنُ المرأةَ قرطاها. وعن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الوَلَدُ رَيحانة، وَرَيحانَتَاي الحسن والحسين. وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحبَّ الحَسَن والحسين فقد أحَبَّني، ومن أبغضهُمَا فقد أبغَضَني. وعنه (صلى الله عليه وآله): الحَسَنُ والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة. وروى عمران بن حصين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال له: يا عمران بن حصين، إن لكلِّ شيء موقعاً من القلب، وما وقع موقع هذين من قلبي شيء قط. فقلت: كل هذا يا رسول الله؟!!. قال (صلى الله عليه وآله): يا عمران، وما خفي عليك أكثر، إن الله أمَرَني بِحُبّهما. وروى أبو ذر الغفاري قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبِّل الحسن بن علي (عليهما السلام) وهو يقول: من أحب الحسن والحسين وذُرِّيتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه، ولو كانت ذُنُوبه بعدد رمل عالج، إلاَّ أن يكون ذنباً يخرجه من الإيمان. وروى سلمان فقال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في الحسن والحسين (عليهما السلام): اللَّهُمَّ إنِّي أُحبُّهما، فأَحبَّهما، وأَحبِبْ من أحبَّهما. وما إلى ذلك من أقوال مضيئة نعلم ـ علم اليقين ـ أنها لم تكن صادرة عن نفسه، بل عن الوحي الذي لم يكن ينطق إلاَّ به. ولا زالت عناية الرسول (صلى الله عليه وآله) تشمل الوليد حتى شبَّ، وقد أخذ من منبع الخير ومآثره، فكان أهلاً لقيادة المسلمين. وهكذا رآه الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن قبله إله الرسول، إذ أوحى إليه أن يستخلف عليّاً، ثم حسناً وحسيناً. فطفق يأمر الناس بمودَّتهم واتِّباعهم واتخاذ سبيلهم، ولئِنْ شككنا في شيء فلن نشكَّ في أن من رَبَّاه الرسول (صلى الله عليه وآله)، كان أولى الناس بخلافته.