هذا الموضوع يتسم بالطابع النقلي، وذلك من قبيل ما ورد من حديث عن النبي الأكرم في أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، أو ما صدر عن رسول الله أو أمير المؤمنين حول الأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وما قالاه عنهم، كما سنمر على الأحاديث التي يتحدث فيها كل إمام عن الذي يليه. هذه الموارد في البحث، تكتسب جميعا طابعا يميل بها إلى الاتجاه النقلي والتعييني والتنصيصي. وسأعتمد - في عرض هذه العناصر الحيّة التي ترتبط بروح الإمامة - على أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، من خلال قراءة بعض ما ورد عن هذه العناصر في كتاب الحجّة من (الكافي). إن الإمامة في المعنى الذي يطرحه الشيعة، أو على الأقل في معناها الذي تحويه أحاديث أئمة الشيعة، هي غير الإمامة التي يحكيها المعنى السائد عند أهل السنة، وهي أيضا غير مسألة الحكم التي كثيرا ما تثار في عصرنا الحاضر. الإمامة في معناها المقصود هي تالي تلو النبوة، ولكن لا بالنحو الذي تعني فيه أنها أدنى مرتبة من أي نبوّة كانت. كلا، بل المقصود أنها أمر شبيه بنبوة الأنبياء العظام، وهم حازوا على الإمامة أيضا، وجمعوا بين النبوة والإمامة. إن الإمامة حالة معنوية. وعند العودة إلى أحاديث الأئمة في هذا المجال نجد أنها ترتكز على مسألة الإنسان بشكل عام. ومن هنا ينبغي أن نجدد رؤيتنا حول الإنسان، لكي تتضح هذه الفكرة. الإنسان.. أيّ موجود هو؟ تعرفون أن النظرة إلى الإنسان في منطلق الإجابة عن هذا السؤال: الإنسان.. أي موجود هو؟ تفترق إلى رؤيتين، تصدر الأولى عن تصور ينظر إلى الإنسان - كسواه من بقية الحيوانات الأخرى- موجودا أرضيا بالكامل. إن ما يرمي إليه هذا التصور هو اعتبار الإنسان كائنا ماديا - ليس إلا - مع فارق أن هذا الموجود المادي بلغ في مسار التحولات المادية أعلى صيغة من التكامل يمكن أن تبلغها المادة. فالحياة وفق هذا التصور، سواء في النباتات، أو في الحيوانات التي تعبر عن رتبة أعلى من التي سبقتها، أو في الإنسان حيث تبلغ أرفع مراتبها، ما هي سوى تجل للتكامل الذي صارت إليه المادة تدريجيا عبر مسار تحولاتها. النتيجة التي يفضي إليها هذا التصور، أنه ليس هناك عنصر آخر غير العناصر المادية يدخل في النسيج الوجودي لهذا الكائن. والحقيقة أننا نعبر عن الجزء الآخر بالعنصر، لأننا لا نملك غير هذه الصيغة في التعبير عنه. كما أن أي مظهر خلاق وعجيب ينطوي عليه هذا الموجود (كالنشاط الروحي والفعاليات المعنوية والقوى المبدعة مثلا) إنما يصدر عن هذا النسيج المادي وحده. جريا وراء هذا المنطق ينبغي أن يكون الإنسان الأول في خط الخليقة، هو أدنى أنواع هذا الكائن، ثم غدا أكثر تكاملا كلما امتد به الشوط وتقدم إلى الأمام. ولا فرق في هذا المعنى بين أن نأخذ بنظر الاعتبار تصور القدماء للإنسان الأول، الذي يقول بخلق الإنسان من الأرض مباشرة وبين التصور المعاصر الذي يذهب إليه بعض السادة، ويصاغ فرضية تستحق التأمل في حد ذاتها، فحواها أن الإنسان الأول كائن منتخب من موجودات أدني منه رتبة، ومتحول عن طبقة (سلالة) أوطأ، بحيث ينتهي أصله إلى الأرض، لا أنه منبثق من الأرض مباشرة، كما يذهب لذلك أنصار الاتجاه الأول. الإنسان الأوّل في القرآن عندما نعود إلى المعتقدات الإسلامية والقرآنية، نجد أن نظرتنا للإنسان الأول تصدر من رؤية تضعه في مكان يكون فيه أكثر تكاملا من كثير ممن بعده، بل هو أكثر تكاملا حتى من الإنسان المعاصر. ففي اللحظة التي وطئ فيها ذاك الإنسان عالم الوجود، كان يحمل معه عنوان خلافة الله. وبتعبير آخر: جاء ذلك الإنسان في مرتبة النبوة. وفي ضوء المنطق الديني، تستحق هذه النقطة التأمل، لماذا جاء الإنسان الأول على الأرض نبيا وحجة لله، في حين أن هذا المسار يخضع لقناعة ترى أن النبوة تنبثق كثمرة للخط العادي في مسير التكامل، لذا يجب أن يوجد الكيان الإنساني بادئ الأمر، ثم يقطع شوطه نحو الرقي والكمال بعد مراحل يطويها، وبعدئذ يُصار إلى انتخاب أحد أفراده للنبوة والرسالة. وموضع التأمل هو هذا التفارق بين التصور الآنف لانبثاق النبوة والنبي، وما عليه المعتقد الإسلامي - القرآني من أن الإنسان الأول جاء إلى الوجود وهو حجّة ونبيّ. القرآن الكريم يضع الإنسان الأول ذاك في مقام شامخ جداً، وهو يقول فيه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة البقرة: الآية 31). لقد ورد بشأن الإنسان الأول تعبير: (ونفختُ فيه من روحي)، وهو يشعر بدخالة عنصر علوي في التركيب الوجودي لهذا الكائن، غير العناصر المادية. أي أن بنية هذا الموجود تختص بشيء من عند الله، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من موقع الخلافة المشار إليه في قوله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة). وبهذا تنطوي الرؤية القرآنية على معطىً عظيم إزاء الإنسان، بحيث حمل الإنسان الأول، وطئت قدماه هذا العالم، عنوان حجّة الله، ونبي الله، والموجود الذي له صلة بعالم الغيب وارتباط مع السماء. والكلام الصادر عن أئمتنا - حول الإمامة- يرتكز إلى هذا المبدأ في أصالة الإنسان، وذلك في المعنى الذي يدل على أن الإنسان الأول في خط الخليقة حمل المواصفات المشار إليها آنفا، وسيأتي الإنسان الأخير على الخط، متحليا بالخصائص ذاتها. وبين الإنسان الأخير لن يخلو العالم الإنساني أبدا من كائن بشري من هذا الطراز، يحمل روح (إني جاعل في الأرض خليفة). هذا في الأساس، هو المحور في قضية الإمامة. يتفرّع على الأصل الآنف أن يكون سائر أفراد النوع الإنساني وكأنهم في وجودهم فرع لوجود ذلك الإنسان، بحيث إن لم يوجد مثل ذلك الإنسان، فلن يكون متاحا - أبدا - وجود بقيّة أفراد النوع البشري. مثل هذا الإنسان يعبر عنه حجّة الله، وهو المعنيُّ بالقول: اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة الوارد في نهج البلاغة (نهج البلاغة، الحكمة رقم (139)، طبعة فيض الإسلام)، وفي كتب كثيرة أخرى. وقد ورد للإمام علي (عليه السلام) في سياق حديثه المعروف إلى كميل. يقول كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخرجني إلى الجبان، فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال: يا كميل بن زياد، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فأحفظ عني ما أقول لك. ثم قسّم له الناس أوّلاً وفق التصنيف الذي عرف عنه، فقال الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع.. ما ينبغي الالتفات إليه في هذا الكلام، هو أن من يصفه الإمام بالعالم الرباني، هو غير الوصف الذي نطلقه نحن على أي عالم بدواعي المجاملة. فمراد الإمام (عليه السلام) هو العالم الذي يكون ربّانياً حقّاً وخالصاً في انتسابه لله، وهذا الوصف قد لا يصدق سوى على الأنبياء والأئمة. ثم إن صيغة التعبير في الصنف الثاني - حيث أضحى المتعلّم في مقابل ذلك العالم الرباني - تُشعر أن المقصود من العالم في الصنف الأول، هو الذي لم يتعلم من بشر. وعليه يكون المتعلمون في الصنف الثاني، هم تلامذة علماء الصنف الأول، والمستفيدين منهم. أما الصنف الثالث فهم همج رعاع، جاء في وصف الإمام لهم أنهم لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق . بدأ الإمام أمير المؤمنين بعد ذلك يشكو أهل الزمان، وأنه يحمل علما كثيرا لا يصيب له حملة: ها إن هاهنا لعلماً جما (وأشار بيده إلى صدره) لو أصبتُ له حمَلة . بيدَ أنه سرعان ما يشير مستدركاً إلى أنه أصاب من الرجال من كان لقناً يفهم بسرعة، ولكن لا يُؤمَنُ عليه، لاستعماله آلة الدين للدّنيا. وإلى جوار هذه الفئة، يشير الإمام (عليه السلام) إلى أُخرى، وإن بدت حسنة في انقيادها لحمَلة الحق، إلا أنها لا بصيرة لها، تنساق وراء التقليد، فلا تستوعب ما يُلقى إليها، أو أنها تخطأ في التلقي فيسارع إليها الشك (يقول الإمام (عليه السلام) في الإشارة إلى هاتين الفئتين: بلى أصبت لقناً غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهراً بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقادا لحَمَلة الحقّ، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض شبهة. ألا لاذا ولا ذاك! . (ينظر: نهج البلاغة، الحكمة رقم (147)، صبحي الصالح، ص496). يبدو كلام الإمام حتى الآن أنه يبعث على اليأس - تقريبا- من العثور على حمَلة للعلم. ولكنه يعود في نهاية حديثه مع كميل بن زياد للاستدراك بالقول اللهم بلى! لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً، وإما خائفا مغمورا لئلا تبطل حُجَج الله وبيناته. وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك - والله - الأقلُّون عددا، والأعظمون عند الله قدراّ. يحفظ الله بهم حُججه وبيناته، حتى يُودِعوها نُظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى (نهج البلاغة طبعة فيض الإسلام، الحكمة رقم (139)). أما في طبعة صبحي الصالح، فعلاوة على اختلاف الترقيم حيث تأخذ هذه الحكمة الرقم (147) فهناك أيضا اختلاف آخر في كلمة استو عره حيث جاءت في طبعة فيض بهذه الصياغة، أما في طبعة صبحي الصالح فقد وردت بصيغة استعوره ومعناها: عدّه وعراً خشناً. ومراد الإمام (عليه السلام) أنه لا يمضي عن هذه الدّنيا من دون أن يقول ما عنده ـ بل هو يحمله إلى قلوب أشباهه ومن ذكرهم ببقية الصفات -. وفي وصف هؤلاء الذين يتلقون من مبدأ ملكوتي أعلى، يقول (عليه السلام): هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة. فالعلم هو الذي هجم عليهم وليس العكس، وهذا المعنى يشعر أن علمهم إفاضي، يهبهم البصيرة بمعناها الحقيقي، فلا يداخل هذا العلم شيء من الخطأ والاشتباه، كما لا يلامسه شيء من النقص. وقوله: وباشروا ورح اليقين يفيد أن لهم اتصالا - بنحو ما - بالعالم الآخر. وما بدا خشنا وعرا على المترفين الذي أنِسوا الترف والملذّات والنعيم، كان سهلا ليّنا عليهم. على سبيل المثال، إذا كان من الصعب على الإنسان المأنوس بالدنيا وملذاتها أن يخلو إلى الله ساعة، بل هذه الخلوة أصعب من كل شيء عليه، فإن أولئك يألفون هذه الخلوة ويأنسون بها، حتى كان من صفتهم أنهم: أنسوا بما استوحش منه الجاهلون . هم مع الناس بأبدانهم وفي الوقت نفسه تهفوا أرواحهم إلى أُفق أرفع، وهي معلّقة بالمحلّ الأعلى. فالناس تتصورهم، وهم معهم، أنهم بشر مثلهم لا فرق لهم معهم، بحيث لم يخبروا باطنهم المتصل بمكان آخر. هذا هو المنطق - الذي يعكس روح الإمامة ولبّها - وفي كتاب الحجّة من (الكافي)، باب بعنوان: أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهُما الحجّه ، (في هذا الباب خمسة أحاديث تتوحّد في المضمون وتتشابه في النصّ تقريبا، منها لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجّة ، لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما وفيه أيضا: لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام. وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل، أنه تركه بغير حجة عليه . يُنظر: الأُصول من الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجّة ، ص 179-180. أي أن يكون أحدهما إنسان في مثل هذه الصفات، تمام كما كان أول إنسان وطئت قدماه الأرض، هكذا لتتعرفوا أكثر على روح هذا المنطق، جئت معي بكتاب الحجة من (الكافي)، لكي أتلو عليكم مقاطع مما يتصل بالموضوع، ثم أشير إلى ما تنطوي عليها من معانٍ. والنقطة الأساسية في هذا المجال، أن بقية مسائل هذا الباب - من قبيل أنه يجب على الإمام أن يحكم بالعدل بين الناس، أو أن يكون مرجعا لاختلافاتهم في أمور الدين- إنما هي فرع لذلك الأصل وعيال عليه، وليس العكس. أي لا يُصار إلى جواب الإمام وضرورة الإمامة، من واقع حاجة الناس إلى حكم الإمام. ومن هنا فإن ضرورة الحكم لا تولّد ضرورة الإمام، بل إن الإمامة أرفع شأنا وأجل مقاما من هذا الكلام. وفق هذا المنطق، تعود هذه المسائل - الحكم وما شابهها - لتكون فوائد استتباعية تجرها مثل تلك الإمامة. سأنتخب لكم من كل حديث جملا تكشف طبيعة هذا المنطق في مرتكزاته ومكوناته. رواية عن الإمام الصادق ثمَّ رواية تتّصل بالأنبياء والرسل، صدرت عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جوابه للزنديق (لم تكن كلمة الزنديق آنذاك مظلَّلة بإيحاءات سلبية تنمّ عن الفحش والبذاءة، كما هي في استخدامها اليوم. بل كانت في ذلك العصر عنوانا لمجموعة تعرف بهذا الوصف، ولم يكن أولئك يستشعرون الفحش أو البذاءة منها، وهي أشبه ما تكون في عصرنا الراهن المادية . طبيعي أن الإنسان الموحد لا يرضى لنفسه هذا الوصف ولا يرتاح إليه، على عكس الإنسان المادي الذي يفخر بانتسابه للمادية. أما بشأن كلمة الزنديق فقد قيل فيها الكثير، وعمدة ما ذكروه أن الزنادقة كانوا مانويين، ظهروا أوائل القرن الهجري الثاني الذي يعدّ قرن الإمام الصادق. لقد بحث كثير من الدراسيين الأوربيين وغيرهم في جذور الزندقة في الإسلام، وكان أهم ما انتهوا إليه أنها تعبير عن الاتجاه المانوي، على أن دين (ماني) لم يكن من ضروب الأديان المضادة لله، بل ذهب ماني نفسه إلى حد ادعاء النبوة، بيدَ أنه لم يكن توحيديا بل كان ثنويا. أما ماني فقد كان ثنويا جزما، وكان يعتبر نفسه نبيا عن إله الخير، ولكن الذي حصل أن المانويين الذين ظهروا بعده مالوا نحو الاتجاه الطبيعي والمادي، حتى غدوا لا يعتقدون بشيء من الأساس، والذي سأله: من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ فأجابه الإمام مرتكزا إلى معنى التوحيد ومنطلقا منه: إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه (ينظر النص في: الكافي، ج1، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، ص 168). في ضوء هذا النص، يجب أن يوجد إنسان له - من جهة- خاصية الاتصال بالله اتصالا يمكنه من تلقي الوحي، ويكون بمقدورنا - من جهة ثانية - أن نتصل به ونباشره. ووجود إنسان مثل هذا، واجب كما أسلفنا. ثم يقول الإمام في صفتهم حكماء مؤدَّيين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق فهم وإن اشتركوا مع بقية الناس في الخلق والتركيب، إلا أنهم يجب أن يفترقوا عنهم في قسم من الجهات، إذ هم ينطوون على جنبة علوية، بحيث يجب أن يتخلل وجودهم روح علوية. وفي شطرٍ آخر من كلامه يقول الإمام في صفتهم: مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة. ثم يشير (عليه السلام) إلى لزوم وجود هذه الوسائط في كل الأزمنة، بقوله: ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان لماذا؟ لكي لا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته (المصدر السابق، ص168). حديثان عن الإمام الصادق جاء في الحديث عن الإمام الصادق، قوله (عليه السلام): إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام. كما جاء عنه قوله (عليه السلام): لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجّة على صاحبه (ينظر في مصدر الحديث الأول: الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب أن الأرض لا تخلو من حجّة الحديث الثاني، ص 178. كما ينظر في نصّ الحديث الثاني المصدر نفسه، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجّة، الحديث الثاني، ص 179. ورواية عن الإمام الرضا ثمَّ في هذا المجال أحاديث كثيرة، منها رواية مفصَّلة عن الإمام الرضا (عليه السلام) حيث يحدث عبد العزيز بن مسلم، بقوله: كنا مع الرضا (عليه السلام) بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيّدي (عليه السلام) فأعلمته خوض الناس، فتبسم (عليه السلام) . يواصل عبد العزيز بن مسلم نقل الخبر، فيقول: ثم قال (الإمام): يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم. إن الله عز وجل لم يقبض نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وأنزل في حجّة الوداع وهي أخر عمره (صلى الله عليه وآله): (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وأمْر الإمامة من تمام الدين، ولم يمضِ (صلى الله عليه وآله) حتى بين لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم عليا (عليه السلام) علَماً وإماماً. خلاصة ما ينتهي إليه منطق القرآن، أنه يذكر بمنتهى الصراحة بيانه لكل شيء. والسؤال: هل توفر كتاب الله على بيان الجزئيات والتفاصيل أيضا، أم أنه اقتصر على الكلّيات والأصول العامة مما يحتاج الناس إليه؟ إن واحدة مما توفر القرآن على بيانها، أنه نصَّب للناس مرجعا بعد النبي، يعودون إليه في تفسير القرآن وتوضيح معانيه، وبيان أصوله العامة وتفصيلها. وهذا المرجع لا يفعل ذلك من تلقاء رأيه أو باجتهاده حتى يصيب في شيء مما يبينه، ويخطئ في بعض، بل هو يمارس وظيفته من خلال العلم الإلهي، وأن لديه حقيقة الإسلام. في ضوء ذلك، يتبين ما أراده القرآن من بيانه لكل شيء، فهو قد بينه بالنحو الذي توفر فيه على ذكر الأصول والكليات من جهة، وبين التفاصيل والجزئيات من جهة ثانية، وأوكل علمها للمرجع المنصوب الذي يكون بين الناس دائما وهو يحمل الإسلام بتمامه. وبذلك لم يبق شيء وراء ذلك، بعد أن احتوى القرآن الكليات وأوكل التفاصيل إلى المرجع- الإمام، وبهذا المعنى يكون قد بين كل شيء. نعود إلى الرواية، حيث يقول فيها الإمام: فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله والذي يرد كتاب الله كافر. يقول الإمام الرضا (عليه السلام) بعد ذلك: هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارُهم؟ هؤلاء يقولون بانتخاب الإمام، لأنهم يظنون أن انتخاب الإمام كانتخاب قائد للجيش مثلاً، مع أننا نجد القرآن يصرّح أن الدين أكمل بنصب الإمام، العارف بحقيقة الإسلام، والحفي بجزئيات المسائل مما لم يرد ذكرها في القرآن. فهل بمقدور الناس أن تعرف مثل هذا الشخص حتى تنتخبه؟ إن القول بانتخاب الإمام يشبه قيامنا بانتخاب النبي! يضيف الإمام: إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم. الإمامة في هذا النص تعلو على فكر الناس وترتفع عليه، ثم تنأى أن تكون انتخابية باختيارهم. إن المسألة التي يجب أن تكون انتخابية من اختيار الناس، هي تلك التي يكون تشخيصها فعلا في نطاق المجتمع حقا. والدين لا يتدخل مباشرة في القضايا التي يكون بمقدور الناس تشخيصها، بل من الخطأ أن يتدخل الدين فيها بشكل مباشر، وإلا ما شأن عقل الإنسان وفكرة إن لم يملأ هذه المنطقة؟ هذه المنطقة هي مساحة مفتوحة لعقل الإنسان وفكره، على البشر أن يمارس من خلالها حقه في الاختيار. أما حين تكون القضية خارج منطقة العقل البشري، وارفع منه، فلا يبقى عندئذ مجال للاختيار. وقضية الإمامة هي من هذا القبيل، فالإمام أجل قدرا وأعظم شأنا، وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يُدرَك بعقول الناس، وأن يُصاب برأيهم، فيكون من اختيارهم. إذا أردتم أن تفهموا الإمامة بمعناها الواقعي، فاعلموا أنها غير ما يردده الناس في هذا العصر من أنها تتمثل بانتخابنا خليفة للنبي تقتصر مهامه على إدارة شؤون الأمة فقط. وبنص حديث الإمام الرضا (عليه السلام): إن الإمامة خصّ الله (عز وجل) بها إبراهيم الخليل (عليه السلام) بعد النبوة والخلّة...، فقال الخليل (عليه السلام) سرورا بها: (من ذريتي؟) وهو يعرف أن هذا المقام لا يمكن أن يشمل جميع ذريته، فأتاه الجواب: (لا ينال عهدي الظالمين). والسؤال: من المقصود بالظالم؟ هل هو الظالم في حال وقوع الظلم منه، سواء كان في السابق ظالما أم لم يكن؟ ذكروا أن من المحال على إبراهيم (عليه السلام) أن يطلب هذا المقام للظالمين من ذريته، فلابدّ أن يكون المراد من سؤاله الصالحين منها. وقد جاء الجواب أنها (الإمامة) ستكون للصالحين دون الظالمين. وهنا يقول الإمام الرضا (عليه السلام): فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة وصفوة الشيء زبدته. ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)، (سورة الأنبياء: الآيات 72-73). والمراد بالطهارة العصمة. لقد أولى القرآن عناية في الإشارة إلى حمل ذرية إبراهيم للإمامة، بحيث تحوّل هذا المعنى إلى دعامة كبيرة لقضية الإمامة. والسؤال الذي يُطرح بهذا الشأن هو لماذا اعتنى القرآن بهذا البعد، مع رفضه المطلق لمنطق التمييز السلالي والعنصري القائم على تفضيل عنصر على عنصر آخر؟ لقد أجاد حقا الشيخ محمد تقي شريعتي ببحث هذه المسألة في كتابه الخلافة والولاية عندما ميز بين قضيتين، بين ما تمثله ذرية ما من كيان سلالي وطبيعي، وبين ما تحمله من مؤهلات، فهذه - الأخيرة- قضية أخرى، وهي معنى حمل الذرية للإمامة. يقول الإمام بعد ذلك: فمن أين يختار هؤلاء الجهّال أي أنى يكون لهؤلاء انتخاب الإمام وهو المقام الذي ناله إبراهيم (عليه السلام) بعد أن بلغ النبوة؟ وحين تكون الإمامة وراثة يتوارثها الأوصياء، بمعنى كونها استعدادا ينتقل من جيل إلى الذي يليه، وليس وراثة قانونية، وهي خلافة الله التي تمثلت في الإنسان الأول، وخلافة الرسول، فهل يمكن لها - وهي في هذا الواقع - أن تخضع لاختيار الناس وانتخابهم؟ يقول الإمام (عليه السلام) مدللا على هذه المعاني: إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى أن يقول: إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أُسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد إلى آخر حديثه عليه السلام (يلاحظ النص كاملا في: الكافي، ج1، كتاب الحجة، ص 198-203). وبين ما تحمله من مؤهلات، فهذه – الأخيرة - قضية أخرى، وهي معنى حمل الذرية للإمامة. استخلاص نصل من مجموع ما مر معنا إلى منطق إذا قبلناه فهو يقوم على أساس ومبانٍ، وإذا افترضنا أن أحداً رفضه ولم يرض به، فذلك كلام آخر يحتاج إلى بحث مسـتأنف. مكونات هذا المنطق - في الإمامة - هي غير تلك المسائل السطحية التي لا أهمية لها، من قبيل ما يردده أغلب المتكلمين من قولهم إن أبا بكر أضحى الخليفة الأول بعد أن قُبض النبي (صلى الله عليه وآله) وعليٌّ الرابع، فهل كان يجب أن يكون عليٌّ الأول، أم الرابع، وهل توفرت شروط الإمامة في أبي بكر وتجمعت فيه أم لا؟ إن هذا المنحنى من البحث (الكلامي) يفسر شرائط الإمامة ومواصفاتها، على أساس أن تكون شرائط الحكم والحاكم الذي يتولى أمور المسلمين. طبيعي أن قضية شروط الحكم ومواصفات الحاكم، هي قضية أساسية، وللشيعة مؤاخذات في محلّها - لما يقوله الفريق الآخر في هذا المجال - ونقدٌ في مكانه. ولكن من غير الصحيح أساسا - منهجيا ومبنائيا - أن تدرج قضية الإمامة وتختزل تحت عنوان: هل توفرت شرائط الإمامة في أبي بكر وجمعت له أم لا؟ إن أهل السنة أساسا لا يعتقدون بمثل هذا المقام، وخلاصة رأيهم في هذا المجال أن ما أراده الله من بعد الأبعاد الغيبية التي تتخطى وراء طبيعة الإنسان قد أنزله (سبحانه) على آدم وإبراهيم وبقية الرسل، حتى أغلقت الدائرة برسول الله (صلى الله عليه وآله). أما العهد الذي تلا قبض رسول الله، فالبشر فيه عاديون، ليس فيهم - شخصية استثنائية من طراز الإمام - بل هناك فقط العلماء، وهؤلاء حصلوا على معارفهم من خلال التعلّم والكسب، وهم يخطئون تارة ويصيبون تارة أخرى، وإلى جوار العلماء هناك الحكّام، وهؤلاء فيهم العادل وفيهم الفاسق. وفي ضوء ذلك، لا يعتقد التصور السني لمرحلة ما بعد الرسول، بوجود حجج لله، لهم اتصال بعالم ما وراء الطبيعة، كما نعتقد نحن، بل يعتقدون أن هذا الباب قد أُغلق تماما بقبض النبي. جوابنا نحن الشيعة، أن ما انتهى بعد الرسول هو الرسالة والنبوة، فلن يأتي - بعد النبي الخاتم - إنسان يحمل للبشرية شريعة جديدة ودينا آخر. فليس هناك غير دين واحد هو الإسلام. وبنبي الإسلام خُتمت الرسالة والنبوة. أما الحجّة والإنسان الكامل - حيث كان الكائن البشري الأول إنساناً كاملا، وكذا ينبغي أن يكون الإنسان الأخير في خط الخليقة على الأرض - فهذا خطٌّ لم يغلق أبدا بين أفراد النوع البشري. أجل، هناك فئة واحدة بين أهل السنة، هم المتصوفة، تقبل هذه المسألة، وإن كانت تعبر عنها بأسماء أخرى، وهذا ما يفسر لنا قبول متصوفة أهل السنة للإمامة في بعض كلماتهم بمثل ما تقول به الشيعة في هذا المضمار، رغم تصوفهم. خذوا الأندلس على سبيل المثال، وهي بلاد لم يكن أهلها سنّة وحسب، بل كانوا معاندين للشيعة تُشم منهم رائحة النصب. وسبب هذه الحال أن الأمويين هم أول من فتح تلك البلاد، وقد خضعت لحكمهم سنين متمادية، وقد كان الأمويون في موقع العداء لأهل البيت. ولهذا السبب يوجد أندلسيون من بين النواصب من علماء أهل السنّة، وربما لم يكن هناك شيعة في الأندلس، وإذا كانوا فهم قلة قليلة جدا. ومع ذاك، نجد أن محيي الدين بن عربي يعتقد رغم كونه أندلسيا بأن الأرض لا يمكن أن تخلو من الوليّ والحجّة، وهو يؤمن بالمعتقد الشيعي في هذا المضمار، ويذكر أسماء الأئمة (عليهم السلام) حتى يذكر بشأن الإمام الثاني عشر، أنه رأى محمد بن الحسن العسكري في مكان من الأمكنة، بعد سنة ستمائة للهجرة بعدة سنوات. ومرد هذا المعتقد لديه، مشربه العرفاني. طبيعي أن لابن عربي كلمات تضاد هذا الكلام وتشي بكونه سنيا متعصبا، بيدَ أن ذوقه العرفاني يوجب عليه في الوقت نفسه، الاعتقاد بعدم خلوّ الأرض من ولي بحسب تعبيرهم، وحجة بحسب نص أئمتنا، بل هو يتجاوز الإيمان بذلك للقول بالمشاهدة، حيث يذكر أنه التقى محمد بن الحسن العسكري (الإمام المهدي (عليه السلام) وزارة في مخفاه، وقد كان عمر الإمام ثلاثمائة وعدة سنين. الأسئلة والأجوبة سؤال: إن مورد الخلاف بين الشيعة والسنة، هو موضوع الولاية والخلافة الذي ذكرتموه. وقد وقع في هذا الالتباس - مع الأسف - أكثر الشيعة ممن لا معرفة له بمقام الإمامة، وراح يتساءل بشك: كيف يذكر القرآن كلمة الولاية ولم يذكر كلمة الخلافة، والخلافة هي غير الولاية؟ إن هذا الالتباس هو الذي دعاني كي أنطلق في البحث حتى أرى، هل يدل معنى المولى على الخليفة أم لا. وفي سياق التقصي رأيت في المنجد أن أحد معاني المولى هو الخليف وبهذا أتصور أن الالتباس قد رُفع، وذلك بذكر الخليف كمعنى من معاني المولى، والذي أريده: أيهما صحيح، تعبير الخليفة أم الخليف؟ طبيعي أن القرآن ذكر كلمة الخليفة. الجواب: ليست المسألة كما ذهب إليه السائل. وفي القرآن ليس لدينا تعبير خليفة بهذا المعنى (معنى القيادة السياسية- الاجتماعية للدولة كما تبلور في سلطة الخلفاء بعد النبي) ولكن المصطلح ورد كثيرا في ما رواه الشيعة وكلمة خليفة.. السائل: خليفة الله تتمة الجواب: خليفة الله قضية، وخليقة النبي قضية أخرى، فمعنى الخليفة، من ينوب عن أحد ويتعهد القيام بأعماله. وعلينا أن لا نصر كثيرا على مسألة فيما إذا ورد هذا اللفظ في القرآن والسنة أم لم يرد. فالكلام عن المعنى، والمهم أن يذكر المعنى، بغض النظر عن اللفظ، ذكر أم لم يذكر. أما بشأن ما ذكرتموه من أن معنى المولى الخليف فهذا صحيح، وأظن أنك اشتبهت، وأن ما ذُكر في المنجد هو حليف وليس خليف . والحليف: هو الذي يتلاقى بالحلف مع آخرين، يؤيده أن من معاني المولى: الناصر. وقد كان العرب يتحالفون فيما بينهم أحيانا، وكانت العشائر تتحالف مع بعضها (أي تتحالف على النصرة) فيقال لهم حلفاء، كما تُطلق (حليف) على كل من طرفي الحلف وإن كانا شخصين، فيكون أحدهما حليفا للآخر وناصرا له. وإذا جاءت كلمة مولى بمعنى الحليف، فهي تعنى الناصر أيضا. التعليقات الإمامة - حفظ الدين للمتكلمين كلام كثير بشأن كون الإمام حافظا للدين. وغالبا ما عبروا عن هذه المهمة بمثال فحواه: لو افترضنا أن هناك بناية قد شيدت فإن الواجب يقضي بالحفاظ عليها من عاديات الزمان كأضرار الرياح والأمطار وسائر الأشياء الأخرى. وقد قالوا في نقضه: إن بناء يشيده بناة عظام لا نظير لهم، لا يحتاج إلى حفظةٍ بمستواهم. ولكن الحقيقة أن وقوع الخلل في الدين لا يتم بمثل هذه الصورة البسيطة، وإنما له مسار آخر، فبمقتضى أصل نفسي واجتماعي، يلاحظ أن النهضة والثورة - أي نهضة وثورة كانت - ما تلبث أن توقف تقدمها صوب جبهة العدو في اللحظة التي تحقق فيها التوفيق [النصر والاستقرار] وتطمئن إلى أن العدو يئس من النيل منها. ثم يبدأ العدو بالالتحاق بالنهضة والانخراط في صفوفها، من دون أن يكون ذلك بباعث من وقوعه فعلا تحت تأثيرها الواقعي أو إيمانه بروحها ومعناها وهدفها، بل هو يندرج تحت إطارها بدافع الفائدة ولما انتهى إليه تشخيصه من أن مصالحة تتحقق من خلال هذا الانتماء. بهذا الأسلوب يصار إلى حرف النهضة عن مسارها، وقلب ماهيتها مع الإبقاء على الصورة. والناس - لكون أكثريتها الغالبة تقنع بالظاهر وترضى بالشكل - في رضى وسرور، بل في شكر ودعاء، لأن الشعارات محفوظة في أعلى مستوى، وإن كانت الأصول قد اندثرت وزالت! والشيء الضروري في مثل هذه الحالات هو النضج، والبصيرة التي تنفذ إلى العمق. وفي هذا السياق يمكن أن يكون الخبر: وإن لنا في كل خَلفَ عدولاً ينفون عنّا تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ناظرا إلى الأئمة الأطهار أنفسهم، أو إلى العلماء العدول الذين ينهضون بدور النظارة على عقائد الناس بعد الأئمة. إن مناهضة البدعة لا تقتصر على المعنى المألوف المتحقق في إدخال ما ليس من الدين في الدين، إذ يقوم أحدهم مثلا بابتداع سنّة وقانون ونسبتهما علنا إلى الدين، حتى تبلغ الحال أن يستنكر المجتمعُ الفكرَ الديني الأصيل. ما نريده تأكيده، أننا يجب ألا نخشى على الإسلام مما يأتي إليه من خارج العالم الإسلامي، بل مما يحيط به من الداخل، وذلك تماما كما صرح القرآن في قوله تعالى (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني) والخطر الذي يتهدد الإسلام من الداخل، لا يقتصر على مفاسد المجتمع وفجوره التي يندفع إليها بباعث الشهوة وغيرها، بل يمتد ليشمل حركة النفاق الداخلي، والقوى التي تهاب مواجهة الإسلام علنا، فتلبس قناع الإسلام نفسه، وتحقق أهدافها المشبوهة، وتمارس مسخ الإسلام وتفريع محتواه من الداخل عبر سياسة التركيز الشديد على الشعارات الإسلامية، فتقضي على المضمون وتُبقي القشور، فيتحقق لها تغيير المسار والهدف بممارسة نوع من التحريف المعنوي. والتحريف المعنوي هو التصرف في تفسير المقصود من اللفظ وتوجيهه مع الحفاظ على اللفظ. نظير التفسير الذي ساقه معاوية في النص المعروف: تقتلك الفئة الباغية الوارد بشأن عمار بن ياسر. فهذا تحريف معنوي. وكذا يضم إليه قول الخوارج: إن الحكم إلا لله ورفعهم شعار: لا حكم إلا لله حيث رد عليهم الإمام عليّ (عليه السلام) بقوله: كلمة حق يراد بها الباطل فهذا أيضا مثال لتحريف الآية وتفسيرها على نحوٍ خاطئ، تم بدافع العمد أو الجهل، وساق للعالم الإسلامي جميع تلك المصائب. كما يلحق مثالا بالتحريف المعنوي قصة الحديث: إذا عرفت فاعمل ما شئت). ينبغي الخوف من هؤلاء، ومن انخداع المسلمين البسطاء من هذه الجماعة المنافقة التي تتمترس بالإسلام زوراً. الإمامة - القيادة الإمامة تعني الإرشاد (بمعنى إراءة الطريق والإشارة إليه) والقيادة (بمعنى الأخذ باليد والإيصال إلى المطلوب)، وكما أن الإرشاد والهداية الدينية هو ضرب من الهداية التي يجب أن تصل من أفق الغيب، بمعنى أن المرشد يجب أن يكون غيبيا (معيّنا من قبل الغيب) كذلك يجب في القيادة. كما ذُكر أيضا أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبعض الأنبياء الآخرين كانوا مرشدين وقادة معا (أنبياء وأئمة معا) وإن ما انتهى مع النبوة الخاتمة هو ختم الإرشاد الإلهي (أي الهداية الإلهية بمعنى إراءة الطريق) وليس ختم القيادة الإلهية (أي الهداية الإلهية بمعنى الإيصال إلى المطلوب). أما الإمامة والنبوة فهما منصبان وشأنان قابلان للفصل أحيانا. فقد كان كثير من الرُسل أنبياء بلّغوا الوحي، بيدَ أنهم لم يكونوا أئمة، كما أن الأئمة، أئمة وحسب وليسوا أنبياء، وهناك حالة ثالثة كان فيها إبراهيم ومحمد (صلى الله عليه وآله) نبيين وإمامين معا. يقول تعالى (في خطاب إبراهيم) (إني جاعلك للناس إماما). وهكذا نقول إن النبوة إرشاد، والإمامة قيادة، ووظيفة النبي هي التبليغ (وما على الرسول إلا البلاغ). أما وظيفة الإمام فهي أن يمارس الإمامة والقيمومة والقيادة، لمن يقبل قيادته ويرضى بإمامته. والشيعة يعتقدون، كما أن النبوة ـ يعنى الإرشاد الديني - هي من عند الله، فكذلك يعتقدون أن القيادة (الإمامة) هي من جانب الله أيضا، وهم لا يميزون في هذه الجهة ولا يفصلون بين الإرشاد والقيادة، فكلاهما يكونان من جانب الله. وكبار الأنبياء (أولو العزم) كانوا مرشدين وقادة معا (أنبياء وأئمة) والذي انتهى بالنبوة الخاتمة هو الإرشاد الإلهي وأراءة الطريق والمنهاج، ولكن ختم هذا الإرشاد (النبوة) لا يعني ختم خط القيادة الإلهية (الإمامة). وفيما جاء في الفرق بين الإرشاد والقيادة في كتاب (مدخل إلى القيادة) صفحة (76): (إن القائد في تحديد معين، هو الشخص الذي يقود الجماعة إلى الأسباب التي تسهل عليها نيل الهدف وبلوغه. وبعبارة أخرى: القائد (الإمام) هو الذي يسهل نيل المقصود وبلوغه، وهو المرشد الذي يأخذ باليد، وهو أحيانا لا يقتصر في مهمته على أراءة الطريق، بل ويوفر وسائل طيّه وبلوغ الخاتمة فيه). الحقيقة أن بين الإرشاد والقيادة - بحسب المورد - عموما من وجه. فكما أشرنا أن النبوة هي ضرب من الهداية والإرشاد، والإمامة ضرب من القيادة، وهذان الاثنان بينهما - موردا - عموم من وجه. إذ يمكن أن يكون الإنسان مرشدا فقط ولا يكون مبلغا، كما هو شأن جميع مبلغينا الذين يمارسون التبليغ على نحو سليم (أما الذين يكون تبليغهم خاطئا فهم خارج دائرة البحث)، فالمبلغ يقف جانبا ويُري الآخرين الطريق وما يكتنفه من مزالق، ثم تترك للإنسان حرية إتّباعه أو الإدبار عنه. ثمة حالة معاكسة، قد يكون فيها الإنسان قائدا ولا يكون مرشدا. أي أن الطريق واضح جليّ والهدف مشخص، وكل ما يحتاج إليه هو قوى تمركز الإمكانات، وتُعيد تشكيلها وتنظيمها، وتوقظ الطاقات الراكدة وتعبئها نحو البناء والابتكار. كما يمكن أخيرا، أن تجتمع المهمتان في الشخص الواحد، فيكون قائدا ومرشدا معا. إمامة الأئمة الأطهار حديث الثقلين (1) هذا الحديث متواتر بين الفريقين: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وبهذا الشأن، يمكن مراجعة رسالة الشيخ قوام شنوئي التي صدرت ملحقا لمجلة رسالة الإسلام، كما يمكن العودة إلى مجلد [مجلدات في الطبعة الجديدة] سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصاياه من موسوعة (بحار الأنوار). أن الواقع الإسلامي لم يستفد من العترة كما كان ينبغي، إلا أن وجودها كان مؤثرا بنحو استثنائي في الحفاظ على ميراث الإسلام. بديهي أن الخلافة والحكومة، والسياسة الإسلامية عامة، انحرفت عن مسارها الأصيل، حيث لم تستطع عترة النبي أن تؤدى دورها في هذا المضمار. بيدَ أنها نهضت لحفظ الجوانب المعنوية في الإسلام، والمواريث المعنوية للرسول الأكرم، وأبقت عليها حية، حتى آل الأمر إلى أن تضمحل الخلافة الإسلامية تدريجيا وتتلاشى، في حين بقيت المواريث المعنوية للإسلام محفوظة. الإسلام دين جامع يستوعب جميع شؤون الحياة البشرية الظاهرية والمعنوية، وأخيرا، فهو ليس من قبيل مدرسة كتلك التي تنتسب إلى مُعَلّم أخلاقي معين، أو فيلسوف ما، يقتصر على عدّة كتب وبضعة تلاميذ يدفع بهم إلى الساحة الاجتماعية. لقد أوجد الإسلام - عمليا - نظاما جديدا وطريقة في التفكير مبتكرة، وأرسى هياكل وأُطراً من نوع آخر. ففي عين كونه اتجاها أخلاقيا ونهجا في التربية والتهذيب فهو أيضا نظام اجتماعي وسياسي. لقد حافظ الإسلام - في نهجه وطريقته - على المعنى من خلال المادة، والباطن من خلال الظاهر، والآخرة من خلال الدنيا، وأخيرا حافظ على اللباب من خلال القشور، وعلى البذرة من خلال ما يحيط بها. لقد أفضى انحراف الخلافة عن مسارها الأصيل وتنكّب الحكومة عن النهج المحدد لها، إلى أن يتحول نظام الخلافة إلى قشور لا لُباب فيها. لقد بقيت - في حياة المسلمين - عناوين من قبيل أمير المؤمنين وخليفة رسول الله والجهاد في سبيل الله وبقي الحكم عنوانا ينتسب إلى الله وإلى النبي، ولكن - الحياة الإسلامية - افتقدت المعنى، بحيث لم يبق أثر للتقوى والصدق والعدالة والإحسان والمحبة والمساواة، والدفاع عن العلوم والمعارف، خصوصا في العهد الأموي الذي شنّ حربا شعواء على العلوم والمعارف الإسلامية، وجهد في الترويج بدلها للشعر والعادات والتقاليد الجاهلية، وبثّ روح التفاخر بالآباء والأنساب. عند هذه اللحظة بالذات انفصلت السياسة عمليا عن الدين. فمن كان يحمل المواريث المعنوية للإسلام ويحافظ عليها ابتعد عن السياسة في نهجها القائم آنئذ ولم يستطع أن يتدخل بمجريات الأمور. أما من كان يقبض على مقاليد الزعامة وأزمّة السياسة الإسلامية، فقد كان غريبا عن الروح المعنوية للإسلام، بعيدا عنها، ليس له سوى تنفيذ بعض الممارسات الظاهرية الشكلية من قبيل الجمعة والجماعة واستحواذ الألقاب. وفي آخر المطاف تم الانقلاب حتى على هذه المظاهر الشكلية، حيث تحوّل الحكم رسميا إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه سلطنة وملكا عضوضا، فانفصل العلماء وانقطعت الديانة عن السياسة بنحو تامّ. من هذا المنطلق، نستطيع أن ندرك أن أكبر ضربة وُجّهت إلى الإسلام، بدأت من اليوم الذي فصلت فيه السياسة عن الديانة. ففي عهد أبي بكر وعمر ، وإن كانت السياسة ما تزال توأما للدين، إلا أن عصرهما هو الذي شهد غرس البذور الأولى للفصل بين هذين الاثنين. لقد بلغ الأمر مبلغا في ذلك العهد أن عمر كان يخطأ باستمرار والإمام عليّ (عليه السلام) يصحّح له، وكانت الأخطاء من الكثرة بحيث أضحى الإمام عليّ (عليه السلام) الجهة التي يُرجَع إليها في المشورة دائما. كان هذا هو الخطر الكبير الذي تهدّد العالم الإسلامي. ولذا يجب أن يكون أكبر ما يطمح إليه الذين يريدون علوّ الإسلام وارتقاء كعبه، أن تعود السياسة توأما للديانة (للدين). إن العلاقة بين الاثنين هي كنسبة الروح إلى البدن، فهذه هي الروح والبدن، واللّب والقشر اللّذان يجب أن يرتبطا ببعضهما، وفلسفة وجود القشور هو أن تحافظ على اللّب، والقشر يستمدّ الطاقة لوجوده من اللّب، كي يحافظ عليه ويقيه. وما عناية الإسلام بالسياسة والحكومة والجهاد والنظم السياسية، إلا لحفظ المواريث المعنوية ووقايتها، أي حفظ التوحيد والمعارف الروحية والأخلاقية، والعدالة الاجتماعية والمساواة، والعواطف الإنسانية. فلو انفصل هذا القشر (الجلد) عن اللب، سيكون اللّبّ عرضه للإصابة بالأذى، ولن تكون عندئذ ثمة أهمية تذكر للقشور وسيكون مآلها إلى الإحراق والإهمال. لقد نهضت بالأئمة الأطهار همّتهم التي استهدفت أن تحفظ للإسلام مواريثه المعنوية، لذلك تراهم ميَّزوا بين مؤسسة الخلافة والإسلام. وقد كان أول من قام بهذا الفصل والتميز هو الإمام الحسين، فقد أثبت معطيات نهضته أن الإسلام هو تعبير عن قيم التقوى والتوحيد والتضحية والفداء في طريق الله، لا تلك الأمور التي قام عليها جهاز الخلافة الأموية. والآن لنا أن نعرف ما هي المواريث المعنوية وكيف حفظها الأئمة الأطهار يقول تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (سورة آل عمران: الآية: 77) ويقول {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (سورة الحديد: الآية: 25) كما يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (سورة الاحزاب: الآيات 45 - 46). لقد نهض الأئمة أولا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كانت النهضة الحسينية هي أشد تجليات الاضطلاع بهذه الفريضة. ونهض الأئمة ثانيا بنشر العلم، وكان مثال ذلك مدرسة الإمام الصادق. فقد أمدَّ - الحياة الإسلامية - بتلاميذ من قبيل هشام وزراره وجابر بن حيان. كما كان من مظاهر بث الأئمة للعلوم والمعارف ما احتواه نهج البلاغةوالصحيفة السجادية، وما تضمنته مباحثات الأئمة واحتجاجاتهم باجمعهم، خصوصا احتجاجات الإمام الرضا (عليه السلام). وكان الذي جاء فوق ذلك كله، هو ما تحلّى به الأئمة من تقوى عملية وزهد وإيثار وإحسان لخَلْق الله وإحياء الليالي بالعبادة، ومواصلة الضعفاء والفقراء، وما كان لهم من أخلاق فاضلة وعفو وجود وتواضع. لقد كانت رؤيتهم (عليهم السلام) تذكر الأمة بمعنويات الإسلام وأخلاق النبي (صلى الله عليه وآله). لقد كان موسى بن جعفر يمضي الليالي يحييها بالعبادة إلى جوار قصر الرشيد. وكان الإمام الرضا، وهو في مركز ولاية العهد، يهتف الربُّ واحد والأب واحد والأُمّ واحدة ولا فضيلة إلا بالتقوى حيث مضى على هذا النهج يؤاكل البوّاب ويأنس بالحجّاب ويحادثهم. إن الفلسفة التي يقوم عليها وجود الكيان العلمائي، هي حفظ المواريث المعنوية للإسلام، ووقاية اللّبّ في مقابل القشور. وما - أُحدوثة - فصل العلماء عن السياسة إلا من قبيل فصل اللّبّ عن القشور. وبشأن حديث الثقلين أمامنا عدة نقاط بحاجة إلى البحث الأولى: لماذا أطلق على أهل البيت وصف (الثقل)؟ ثم لماذا يوصف القرآن بأن الثقل الأكبر، ويقال لأهل البيت أنهم الثقل الأصغر؟ وفي بعض الأخبار: أحدهما أعظم من الآخر (رواه بهذه الصيغة الترمذي بسنده عن زيد بن أرقم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، (سنن الترمذي، ج5، ص328، الحديث 3876). وفي أخبار أخرى، يسأل النبي: وما الثقلان؟ قال (صلى الله عليه وآله): كتاب الله طرفُهُ بيد الله، وطرفه بأيديكم، والثقل الأصغر عترتي. وفي بعضها: فإنهما حبلان لا يتقطعان إلى يوم القيامة. النقطة الثانية: تتمثل بفكرة أساسية يعبر عنها قول النبي الأكرم: لن يفترقا فليس المقصود أن طريقهما لن يفترق من تلقاء أنفسهما، ولا يحل بينهما الخصام والاختلاف والحرب والجدال، بل المراد أن التمسك بهما لن يقبل التفكيك والفصل. فمن يريد أن يمارس الفصل ويفكك بين الاثنين بدعوى (حسبنا كتاب الله) كما صدر عن عمر في صدر الإسلام، عليه أن يعرف أن ذلك غير متيسر. المسألة الثالثة التي يطويها الحديث هو الضمان الصادر عن النبي الأكرم، في أن التمسك الدقيق بالثقلين لن يفضي إلى الضلال أبدا. وقد نشأت عوامل انحطاط المسلمين وانحرافهم من عند هذه النقطة بالذات، حين أرادوا أن يفصلوا بين هذين الاثنين. والآن يحسن بنا أن نبحث في سبب استحالة التفكيك بين الكتاب والعترة وعدم إمكان الفصل بينهما، وذلك انطلاقا من هذا السؤال: ما هي حاجة الشريعة والكتاب السماوي إلى ضميمة وقرين آخر معه؟ ترتبط هذه المسألة بعمق القرآن وحاجة الشريعة إلى مفسر. ولتقريب المفهوم من خلال مثال، نجد أننا نستورد تارة أشياء بسيطة من قبيل القماش والأحذية والأواني. ففي مثل هذه الحال لا نحتاج إلى أن يأتينا خبير مع هذه الواردات، إذ بمقدورنا أن نستفيد من القماش بعد أن نخيطه، وأن نستخدم الأحذية وننتفع بالأواني بصورة مباشرة دونما حاجة إلى خبير. ولقد يحصل في المستوى الثاني أن نستورد مصنعا. عندئذ نحتاج إلى متخصص، وإلى خبير يرافقه، يقوم بنصب المصنع وتركيب أجهزته، والإشراف على إدارته مدة من الزمن حتى تألف الخبرة المحلية العمل عليه وتتعلم إدارته. الشيء نفسه يحصل مع استيراد السلاح المتطوّر، إذ يجب أن يُرافقه تقنيون يمكثون سنوات طويلة في تعليم الخبرات المحلية وتدريبها، حيث تنكبّ الخبرات على دروس الخبراء التقنيين بدقة حتى تتعلم. سمعنا - على سبيل المثال - أن فرنسا باعت ليبيا طائرات ميراج ولكن قيل أنه ليس بمقدور الطيارين الليبيين استخدام هذه الطائرات قبل سنتين من الآن على الأقل. تعني الإمامة: المرجعية الدينية في الإسلام. وهذا ما أشار إليه النبي الأكرم في هذا الحديث المتواتر. والمرجعية الدينية (الإمامة) هي التي تنهض بتفسير القرآن وبيان أهدافه وتفصيل أحكامه، وشرح المراد من معارفه وأخلاقه. وفي هذا السياق، لا يكفي الفهم العرفي البسيط، حتى يقال إن كل من يعرف اللغة العربية يتوفر على معرفة القرآن. من هذا المنطلق، رأينا ما قاد إليه [تغييب المرجعية الدينية ـ الإمامة] من انحرافات، من قبيل القول بالتجسيم، أي إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر! إن دعوى حسبنا كتاب الله لا تنتج - في واقع المسلمين - أكثر من ظهور الاتجاه الأشعري أو الاتجاه المعتزلي، وكلاهما اتجاهان منحرفان. فالأئمة إذن - في منطق المثال الذي أوردناه قبل قليل - هم الخبراء المتخصصون بالقرآن يصدرون من علم إفاضي، أو على الأقل من تعليم خاص. يقول الإمام علي (عليه السلام) مخاطبا كميل بن زياد: هجمَ بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون. وفي الخطبة الثانية من نهج البلاغة، يقول في أهل البيت: هم موضع سره ولجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه.. لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين، وعماد اليقين إليهم يفيءُ الغالي، وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة. وفي الخطبة الرابعة يقول (عليه السلام): بنا اهتديتم في الظلماء وتسنّهتم العلياء، وبنا أفْجَرْتم عن السّرار. وُقِرَ سمعٌ لم يفقه الواعية. وفي الخطبة (147) قوله (عليه السلام): ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه. فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم، وموت الجهل. هم الذين يخبركم حُكْمُهم عن علمهم، وصمتهم عن منطقهم (عن حكم منطقهم - الخطبة 237) وظاهرهم عن باطنهم، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق. قوله لا يخالفون الدين إشارة إلى مقام عصمتهم. وقوله: لا يختلفون فيه إشارة إلى مقامهم العلمي، وهذان شرطان واجبان في المتخصص الإلهي. ومن قوله له (عليه السلام) في الخطبة (239): هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمُهم (في الخطبة 147: حُكمهم) عن علمهم، وصمتهم عن حِكَمِ منطقهم، لا يخالفون الحق (أي: العصمة) ولا يختلفون فيه (إشارة إلى العلم الصافي المصيب) هم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام بهم عاد الحق في نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته. عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل. وفي الخطبة (147) أيضا، قوله (عليه السلام): وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل.. فالكتاب يومئذٍ وأهله طريدان منفيّان، وصاحبان مصطحبان في طريقٍ واحد لا يؤويهما مؤوٍ، فالكتاب وأهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم.