بيان
الآية بيان مستقل لسعة كلمات الله تعالى و عدم قبولها النفاد، و ليس من البعيد أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنها لو كانت نازلة في ضمن آياتها كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة.
و ذلك أن السورة أشارت في أولها إلى أن هناك حقائق إلهية و ذكرت أولا في تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أن عامتهم في رقدة عن التنبه لها و سيستيقظون عن نومتهم، و أورد في ذلك قصة أصحاب الكهف ثم ذكر بأمور أورد في ذيلها قصة موسى و الخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالا ذات تأويل لم يتنبه لتأويلها و أغفله ظاهرها عن باطنها حتى بينها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثم أورد قصة ذي القرنين و السد الذي ضربه بأمر من الله في وجه المفسدين من يأجوج و مأجوج فحجزهم عن ورود ما وراءه و الإفساد فيه.
فهذه - كما ترى - أمور تحتها حقائق و أسرار و بالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهية و بيانات تنبىء عن خبايا يدعو الذكر الحكيم الناس إليها، و الآية - و الله أعلم - تنبىء أن هذه الأمور و هي كلماته تعالى المنبئة عن مقاصده لا تنفد و الآية في وقوعها بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل و قد طال حديثه: ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه.
قوله تعالى: «قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي» إلى آخر الآية، الكلمة تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد و منه قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله»: الآية آل عمران: 64 و قد استعملت كثيرا في القرآن الكريم فيما قاله الله و حكم به كقوله: «و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا»: الأعراف: 137، و قوله: «كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون»: يونس: 33، و قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم»: يونس: 19 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا.
و من المعلوم أنه تعالى لا يتكلم بشق الفم و إنما قوله فعله و ما يفيضه من وجود كما قال: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»: النحل: 40 و إنما تسمى كلمة لكونها آية دالة عليه تعالى و من هنا سمي المسيح كلمة في قوله: «إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله و كلمته»: النساء: 171.
و من هنا يظهر أنه ما من عين يوجد أو واقعة تقع إلا و هي من حيث كونها آية دالة عليه كلمة منه إلا أنها خصت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لا خفاء فيها و لا بطلان و لا تغير كما قال: «و الحق أقول»: ص: 84 و قال: «ما يبدل القول لدي»: ق: 29 و ذلك كالمسيح (عليه السلام) و موارد القضاء المحتوم.
و من هنا يظهر أن حمل الكلمات في الآية على معلوماته أو مقدوراته تعالى أو مواعده لأهل الثواب و العقاب إلى غير ذلك مما ذكره المفسرون غير سديد.
فقوله: «قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي» أي فرقمت الكلمات و أثبتت من حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي.
و قوله: «و لو جئنا بمثله مددا» أي و لو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضا قبل أن تنفد كلمات ربي.
و ذكر بعضهم: أن المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، و ذلك لأن المثل كلما أضيف إلى الأصل لم يخرج عن التناهي، و كلماته يعني معلوماته غير متناهية و المتناهي لا يضبط غير المتناهي انتهى ملخصا.
و ما ذكره حق لكن لا لحديث التناهي و اللاتناهي و إن كانت الكلمات غير متناهية بل لأن الحقائق المدلول عليها و الكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير كيف؟ و كل ذرة من ذرات البحر و إن فرض ما فرض لا تفي بثبت دلالة نفسها في مدى وجودها على ما تدل عليه من جماله و جلاله تعالى فكيف إذا أضيف إليها غيرها؟.
و في تكرار «البحر» في الآية بلفظه و كذا «ربي» وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه التثبيت و التأكيد و كذا في تخصيص الرب بالذكر و إضافته إلى ضمير المتكلم مع ما فيه من تشريف المضاف إليه.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: أخبرك أن كلام الله ليس له آخر و لا غاية و لا ينقطع أبدا.
أقول: في تفسيره الكلمات بالكلام تأييد لما قدمناه.
|