بيان
الآية خاتمة السورة و تلخص غرض البيان فيها و قد جمعت أصول الدين الثلاثة و هي التوحيد و النبوة و المعاد فالتوحيد ما في قوله: «إنما إلهكم إله واحد» و النبوة ما في قوله «إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي» و قوله: «فليعمل عملا صالحا» إلخ و المعاد ما في قوله «فمن كان يرجوا لقاء ربه».
قوله تعالى: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد» القصر الأول قصره (صلى الله عليه وآله وسلم) في البشرية المماثلة لبشرية الناس لا يزيد عليهم بشيء و لا يدعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنه إذا ادعى النبوة فقد ادعى كينونة إلهية و قدرة غيبية و لذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلا الله و لا يقدر عليه إلا الله لكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نفى ذلك كله بأمر الله عن نفسه و لم يثبت لنفسه إلا أنه يوحى إليه.
و القصر الثاني قصر الإله الذي هو إلههم في إله واحد و هو التوحيد الناطق بأن إله الكل إله واحد.
و قوله: «فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل» إلخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينية و هو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له و قد فرعه على رجاء لقاء الرب تعالى و هو الرجوع إليه إذ لو لا الحساب و الجزاء لم يكن للأخذ بالدين و التلبس بالاعتقاد و العمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى: «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص: 26.
و قد رتب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح و عدم الإشراك بعبادة الرب لأن الاعتقاد بالوحدانية مع الإشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالإله تعالى لو كان واحدا فهو واحد في جميع صفاته و منها المعبودية لا شريك له فيها.
و قد رتب الأخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لأن احتماله كاف في وجوب التحذر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، و ربما قيل: إن المراد باللقاء لقاء الكرامة و هو مرجو لا مقطوع به.
و قد فرع رجاء لقاء الله على قوله: «إنما إلهكم إله واحد» لأن رجوع العباد إلى الله سبحانه من تمام معنى الألوهية فله تعالى كل كمال مطلوب و كل وصف جميل و منها فعل الحق و الحكم بالعدل و هما يقتضيان رجوع عباده إليه و القضاء بينهم قال تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مندة و أبو نعيم في الصحابة، و ابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله فنزل في ذلك «فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا - و لا يشرك بعبادة ربه أحدا».
أقول: و ورد نحو منه في عدة روايات أخر من غير ذكر الاسم و ينبغي أن يحمل على انطباق الآية على المورد فمن المستبعد أن ينزل خاتمة سورة من السور لسبب خاص بنفسها.
و فيه، عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ربكم يقول: أنا خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحدا من خلقي تركت العمل كله له، و لم أقبل إلا ما كان لي خالصا ثم قرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا - و لا يشرك بعبادة ربه أحدا».
و في تفسير العياشي، عن علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الله تبارك و تعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلا ما كان لي خالصا.
قال العياشي: و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) قال: إن الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له دوني.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي الدنيا و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من صلى يرائي فقد أشرك، و من صام يرائي فقد أشرك و من تصدق يرائي فقد أشرك ثم قرأ «فمن كان يرجوا لقاء ربه» الآية.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: لو أن عبدا عمل عملا يطلب به رحمة الله و الدار الآخرة ثم أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا.
أقول: و الروايات في هذا الباب من طرق الشيعة و أهل السنة فوق حد الإحصاء و المراد بالشرك فيها الشرك الخفي غير المنافي لأصل الإيمان بل لكماله قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف: 106 فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم.
أقول: تقدم وجهه في البيان السابق.
تم و الحمد لله.
|