بيان
قيل: كثر الجدال و الخصام بين الناس بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة و طالت المشاجرة فنزلت الآية.
قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب، البر بالكسر التوسع من الخير و الإحسان، و البر بالفتح صفة مشبهة منه، و القبل بالكسر فالفتح الجهة و منه القبلة و هي النوع من الجهة، و ذوو القربى الأقرباء، و اليتامى جمع يتيم و هو الذي لا والد له، و المساكين جمع مسكين و هو أسوأ حالا من الفقير، و ابن السبيل المنقطع عن أهله، و الرقاب جمع رقبة و هي رقبة العبد، و البأساء مصدر كالبؤس و هو الشدة و الفقر، و الضراء مصدر كالضر و هو أن يتضرر الإنسان بمرض أو جرح أو ذهاب مال أو موت ولد، و البأس شدة الحرب.
قوله تعالى: و لكن البر من آمن بالله، عدل عن تعريف البر بالكسر إلى تعريف البر بالفتح ليكون بيانا و تعريفا للرجال مع تضمنه لشرح وصفهم و إيماء إلى أنه لا أثر للمفهوم الخالي عن المصداق و لا فضل فيه، و هذا دأب القرآن في جميع بياناته فإنه يبين المقامات و يشرح الأحوال بتعريف رجالها من غير أن يقنع ببيان المفهوم فحسب.
و بالجملة قوله و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر، تعريف للأبرار و بيان لحقيقة حالهم، و قد عرفهم أولا في جميع المراتب الثلاث من الاعتقاد و الأعمال و الأخلاق بقوله: من آمن بالله و ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا و ثالثا بقوله: و أولئك هم المتقون.
فأما ما عرفهم به أولا فابتدأ فيه بقوله تعالى: من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين، و هذا جامع لجميع المعارف الحقة التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها، و المراد بهذا الإيمان الإيمان التام الذي لا يتخلف عنه أثره، لا في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شيء مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، و لا في خلق و لا في عمل، و الدليل على أن المراد به ذلك قوله في ذيل الآية أولئك الذين صدقوا فقد أطلق الصدق و لم يقيده بشيء من أعمال القلب و الجوارح فهم مؤمنون حقا صادقون في إيمانهم كما قال تعالى: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما: النساء 68 و حينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان التي مر بيانها في ذيل قوله تعالى إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت: البقرة 131. ثم ذكر تعالى نبذا من أعمالهم بقوله: و آتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلوة و آتى الزكوة، فذكر الصلاة - و هي حكم عبادي - و قد قال تعالى: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر»: العنكبوت - 45، و قال: «و أقم الصلوة لذكري»: طه - 14، و ذكر الزكاة - و هي حكم مالي فيه صلاح المعاش - و ذكر قبلهما إيتاء المال و هو بث الخير و نشر الإحسان غير الواجب لرفع حوائج المحتاجين و إقامة صلبهم.
ثم ذكر سبحانه نبذا من جمل أخلاقهم بقوله: و الموفون بعدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس، فالعهد هو الالتزام بشيء و العقد له - و قد أطلقه تعالى - و هو مع ذلك لا يشمل الإيمان و الالتزام بأحكامه كما توهمه بعضهم - لمكان قوله إذا عاهدوا، فإن الالتزام بالإيمان و لوازمه لا يقبل التقيد بوقت دون وقت - كما هو ظاهر - و لكنه يشتمل بإطلاقه كل وعد وعده الإنسان و كل قول قاله التزاما كقولنا: لأفعلن كذا و لأتركن، و كل عقد عقد به في المعاملات و المعاشرات و نحوها، و الصبر هو الثبات على الشدائد حين تهاجم المصائب أو مقارعة الأقران، و هذان الخلقان و إن لم يستوفيا جميع الأخلاق الفاضلة غير أنهما إذا تحققا تحقق ما دونهما، و الوفاء بالعهد و الصبر عند الشدائد خلقان يتعلق أحدهما بالسكون و الآخر بالحركة و هو الوفاء فالإتيان بهذين الوصفين من أوصافهم بمنزلة أن يقال: إنهم إذا قالوا قولا أقدموا عليه و لم يتجافوا عنه بالزوال.
و أما ما عرفهم به ثانيا بقوله: أولئك الذين صدقوا، فهو وصف جامع لجمل فضائل العلم و العمل فإن الصدق خلق يصاحب جميع الأخلاق من العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة و فروعها فإن الإنسان ليس له إلا الاعتقاد و القول و العمل، و إذا صدق تطابقت الثلاثة فلا يفعل إلا ما يقول و لا يقول إلا ما يعتقد، و الإنسان مفطور على قبول الحق و الخضوع له باطنا و إن أظهر خلافه ظاهرا فإذا أذعن بالحق و صدق فيه قال ما يعتقده و فعل ما يقوله و عند ذلك تم له الإيمان الخالص و الخلق الفاضل و العمل الصالح، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين»: التوبة - 120، و الحصر في قوله أولئك الذين صدقوا، يؤكد التعريف و بيان الحد، و المعنى - و الله أعلم - إذا أردت الذين صدقوا فأولئك هم الأبرار.
و أما ما عرفهم به ثالثا بقوله و أولئك هم المتقون، الحصر لبيان الكمال فإن البر و الصدق لو لم يتما لم يتم التقوى.
و الذي بينه تعالى في هذه الآية من الأوصاف الأبرار هي التي ذكرها في غيرها.
قال تعالى: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا - عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا - و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا - إنما نطعمكم لوجه الله - إلى أن قال - و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا:» الدهر - 12، فقد ذكر فيها الإيمان بالله و اليوم الآخر و الإنفاق لوجه الله و الوفاء بالعهد و الصبر، و قال تعالى أيضا: «كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدريك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون»: المطففين - 28، بالتطبيق بين هذه الآيات و الآيات السابقة عليها يظهر حقيقة وصفهم و مآل أمرهم إذا تدبرت فيها، و قد وصفتهم الآيات بأنهم عباد الله و أنهم المقربون، و قد وصف الله سبحانه عباده فيما وصف بقوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان: الحجر - 42، و وصف المقربين بقوله: «و السابقون السابقون. أولئك المقربون في جنات النعيم»: الواقعة - 12، فهؤلاء هم السابقون في الدنيا إلى ربهم السابقون في الآخرة إلى نعيمه، و لو أدمت البحث عن حالهم فيما تعطيه الآيات لوجدت عجبا.
و قد بان مما مر أن الأبرار أهل المرتبة العالية من الإيمان، و هي المرتبة الرابعة على ما مر بيانه سابقا، قال تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82.
قوله تعالى: و الصابرين في البأساء، منصوب على المدح إعظاما لأمر الصبر، و قد قيل إن الكلام إذا طال بذكر الوصف بعد الوصف فمذهبهم أن يعترضوا بين الأوصاف بالمدح و الذم، و اختلاف الإعراب بالرفع و النصب.
بحث روائي
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان.
أقول: و وجهه واضح بما بيناه، و قد نقل عن الزجاج و الفراء أنهما قالا: إن الآية مخصوصة بالأنبياء المعصومين لأن هذه الأشياء لا يأتيها بكليتها على حق الواجب فيها إلا الأنبياء انتهى، و هو ناش من عدم التدبر فيما تفيده الآيات و الخلط بين المقامات المعنوية، و قد أنزلت آيات سورة الدهر في أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و سماهم الله فيها أبرارا و ليسوا بأنبياء.
نعم خطرهم عظيم، و قد وصف الله حال أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض، ثم ذكر مسألتهم أن يلحقهم الله بالأبرار، قال: «و توفنا مع الأبرار»: آل عمران - 193.
و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الأشعري قال: قلت: يا رسول الله ما تمام البر، قال أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية.
و في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): ذوي القربى قرابة النبي.
أقول: و كأنه من قبيل عد المصداق بالنظر إلى آية القربى.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الفقير الذي لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجدهم.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): ابن السبيل، المنقطع به.
و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام): سئل عن مكاتب عجز عن مكاتبته و قد أدى بعضها، قال: (عليه السلام) يؤدي عنه من مال الصدقة فإن الله عز و جل يقول: و في الرقاب.
و في تفسير القمي،: في قوله: و الصابرين في البأساء و الضراء قال: (عليه السلام) في الجوع و العطش و الخوف، و في قوله و حين البأس قال: قال (عليه السلام)، عند القتال
|